8 الخلفاء الراشدون الأوائل

8 الخلفاء الراشدون الأوائل

هاني طاهر


لقد وعد الله المؤمنين أنهم إذا آمنوا وعملوا الصالحات

لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا .

وقد أشار الله تعالى في قوله

كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

إلى أن خطة الاستخلاف مستمرة فيكم، كما كانت سابقا، ولكن بصورة جديدة؛ فالأمم السابقة كانت كلما هلك نبيّ سرعان ما تسرب إليهم الفساد، فكان الله تعالى يرسل لهم نبيا جديدا لأنهم غير قادرين على اختيار خليفتهم، أما أنتم، فإنكم بسبب تميُّزكم بالإيمان والعمل الصالح فسيتحقق فيكم وعد الاستخلاف وتتحقق كل أماراته وبركاته، وتكون الخلافة علامة على رضا الله تعالى عنكم وتقديرا منه لإيمانكم وعملكم الصالح. كما ستكون الخلافة سببا لتزكيتكم وتعليمكم والارتقاء بكم إلى أعلى الدرجات في كل مجالات الدنيا والآخرة.

وقد وجّه الله تعالى المؤمنين إلى هذه الحقيقة، ثم عاينوها وتلمسوها مباشرة بعد وفاة النبي . فسرعان ما تبدد الخوف وبُدّل بالأمن، وسرعان ما تعرف المؤمنون على خليفتهم الذي سيسير على خطى النبي ويكون امتدادا لعصره. أما بعض الجهلاء وضعاف الإيمان فقد وقعوا في ابتلاء شديد أدى إلى تشويش أبصارهم وأذهانهم، فكثير منهم في البداية لم يعوا هذه الحقيقة، إلا أن السعداء منهم انقادوا للخلافة وأطاعوها بعد أن رأوا آيات نصرة الخلفاء الراشدين بأيد سماوية، وأدركوا أن هذه الإنجازات العظيمة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كان الله تعالى مع الخليفة ناصرا ومعينا.

هذه الآية وعد.. فهي تتضمن شروطا ونتائج، فإذا وجدنا النتائج اتضح لنا أن الشروط قد تحققت، وأما إذا فُقدت النتائج فيُستنتج أن الشروط غير متحققة.

أما الشروط فهي الإيمان والعمل الصالح. وأما النتائج فهي الاستخلاف وتمكين الدين في الأرض والأمن بعد الخوف.

وقد اعتبر المسيح الموعود هذه الآية من أهم الأدلة على إيمان الخلفاء الراشدين وعموم الصحابة، وبها فنّد قول من لم يفهموا الخلافة فهما صحيحا. فقال حضرتُه:

“وإني والله لطالما فكرت في القرآن وأمعنتُ في آيات الفرقان، وتلقيتُ أمر الخلافة بوسائل التحقيق، وأعددت له الأُهَبَ كلها للتدقيق، وصرفتُ ملامح عيني إلى كل الأنحاء، ورميتُ مرامي لحظي إلى جميع الأرجاء، فما وجدتُ سيفًا قاطعًا في هذا المصافّ كآية الاستخلاف، واستبنتُ أنها من أعظم الآيات، والدلائل الناطقة للإثبات، والنصوص الصريحة من رب الكائنات، لكل من يريد أن يحكم بالحق كالقضاة، وأتيقن أنه من طاب خِيمُه، وأُشرِبَ ماءَ الإمعان أديمُه، يقبلها شاكرا، ويحمد الله ذاكرا، على ما هداه وأخرجه من الضالّين”. (سر الخلافة).

ويتابع حضرته مبينا أنه لا يصحّ أن تقوم مجادلة الشيعة على الروايات الضعيفة، بل على القرآن الكريم، فيقول:

“وإن آيات الفرقان يقينية وأحكامها قطعية، وأما الأخبار والآثار فظنية وأحكامها شكية، ولو كانت مروية من الثقات ونحارير الرواة. ولا تنظروا إلى نضرة حليتها وخضرة دوحتها، فإن أكثرها ساقطة في الظلمات، وليست بمعصومة من مس أيدي ذوي الظلامات، وقد عسر اشتيارها من مشار النحل، وإنما أُخذت من النهل. هذا حال أكثر الأحاديث كما لا يخفى على الطيب والخبيث، فبأي حديث بعد كتاب الله تؤمنون؟ وإذا حصحص الحق فأين تذهبون؟ وماذا بعد الحق إلا الضلال، فاتقوا الضلال يا معشر المسلمين.” (سِرُّ الخلافة)

وقد دافع حضرته عن خلافة الخلفاء الراشدين جميعا، وبيّن أن الله تعالى قد أخبره بصلاحهم وكشف عليه مكانتهم العظيمة، فدافع عنهم نثرا وشعرا وأعاد لهم مكانتهم السامية التي يستحقونها.

سـيدنا أبو بكر الصديق   

بعد بيعته خليفةً حمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم ألقى الخطبة الموجزة التالية: أما بعد أيها الناس؛ فإني قد وُليتُ عليكم ولست بخيركم؛ فإن أحسنتُ فأعينوني؛ وإن أسأتُ فقوِّموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويٌّ عندي حتى آخذ له حقه إن شاء الله، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله؛ فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمَّهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله؛ فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قُوموا إلى صلاتكم، رحمكم الله. (تاريخ الرسل والملوك)

لقد اتخذ سيدنا أبو بكر قرارات حاسمة بتأييد من الله تعالى وإن بدت للكثيرين غير ملائمة، إلا أن الله تعالى كان معه وجعل نتائج قراراته كلها في مصلحة الإسلام والمسلمين بشكل مذهل، وهذه هي سنة الله تعالى مع الخلفاء التي أراد أن يُظهر أمثلة جلية منها في زمن أبي بكر . فقد قرر حضرتُه مقاتلة المتمردين على الخلافة، فنصره الله تعالى عليهم رغم كثرة عددهم وقوتهم، وأعاد الجزيرة العربية من جديد لكي تخضع لسلطان الخلافة كما كانت في زمن النبي . كذلك، وفي غمرة هذا الأمر، كان قد اتخذ قرارا بدا عاطفيا للبعض، عندما قرر إرسال بعث أسامة إلى الشام مع أن المدينة كانت مهددة بهجوم المرتدين المتمردين، فكانت حجته أنه لن يبدأ خلافته بمخالفة آخرِ وصية أوصى بها النبي مهما كانت العواقب. فجعل الله تعالى من هذه الخطوة سببًا في بثّ الرعب في قلوب الأعداء الذين تصوروا أن هناك جيشا قويا يحرس المدينة ما دام الخليفة قادرا على إرسال هذا الجيش.

ورغم أن خلافته لم تدمْ طويلا، لكنه قد وطّد الأمن وبدَّد الخوف الناجم عن وفاة الرسول والفتنة الناجمة عن تمرُّدِ القبائل، وجمَع القرآن الكريم في نسخة واحدة.

وكان قد أشار على المسلمين بمبايعة عمر خليفةً ثانيا، واعتُبر ذلك ترشيحا منه لعمر وتزكية، فما كان من المسلمين إلا أن قبلوا بتزكية الخليفة وترشيحه، فبايعوا عمر خليفة بعد وفاة الصديق .

وقد دُفن بجوار النبي في حجرة عائشة. ودامت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام.

سيـدنا عمر الفاروق 

لقد انتشر الإسلام في عصره بصورة عظيمة، فبينما لم يكن الإسلام قد خرج من حدود الجزيرة في عهد الرسول وفي عهد الخليفة الأول ، فإن جيوش المسلمين قد انتصرت على الفرس المعتدين في معركة القادسية، فهيّأ ذلك للفرس أن يتعرفوا على الإسلام عن قرب، مما دعاهم إلى ترك عبادة النار إلى عبادة الواحد الأحد. كما انتصر جيش المسلمين في عهد حضرته على الروم في معركة اليرموك التي أدت إلى دخول بلاد الشام في الإسلام تدريجيا عبر التعامل مع المسلمين والاحتكاك بهم والتأثر بأخلاقهم. ولم تكن الشام والعراق وفارس وحدها التي فتحت في عهده، بل فتحت مصر وليبيا وأذربيجان وجرجان أيضا.

ومن الإنجازات الحضارية في عهده أنه اتخذ الهجرة النبوية بداية للتقويم الإسلامي. وهو أول من دوّن الدواوين، وأول من اتخذ بيتا للمال، وأول من اهتم بإنشاء المدن الجديدة مثل البصرة والكوفة.

لقد اشتهر الخليفة عمر بالعدل بين رعيته من المسلمين وغيرهم، حتى صار مضرب المثل في ذلك، وقد أدى ذلك إلى شيوع الاستقرار ورسوخه. وقد أُثر عنه قوله: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”؟ وقد صار هذا النص عالميا.

ومن مآثره الخالدة العهدةُ العمرية التي تعهد فيها لمسيحيي القدس بما طلبوه منه، حيث جاء فيها:

“بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبدُ الله عمرُ أميرُ المؤمنين أهلَ إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها؛ أنه لا تُسكَن كنائسهم ولا تُهدَم، ولا ينتقص منها ولا مِن حيزها، ولا مِن صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود…..” (تاريخ الرسل والملوك)

وقد وُقّعت هذه الوثيقة إثر فتح بيت المقدس وتسليم المفاتيح لحضرته، إذ كان نصارى القدس قد طالبوا بحضوره حتى يسلّموه مفاتيح المدينة.

وعندما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي سأل عمَّن طعنه، فلما أُخبر قال: “الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجل سجد لله سجدة واحدة” (الكامل في التاريخ)

وطلب عمر من ابنه عبد الله أن يفي ما عليه من الديون. ثم قال له:

اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا فَقُلْ: يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلامَ، ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ. قَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، فَلأُوثِرَنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي. فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ؛ فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي ثُمَّ سَلِّمُوا، ثُمَّ قُلْ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَادْفِنُونِي، وَإِلا فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ (البخاري). فدُفن مع الرسول .

وقبيل وفاته رشّح ستة من الصحابة؛ ليتم اختيار أحدهم خليفة ثالثا للمسلمين. وقد دامت خلافته عـشر سنين ونصـف السنة.

سيـدنا عثمان  

أما سيدنا عثمان فقد امتدت الدولة الإسلامية في عهده إلى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب وقبرص وبلاد القيروان، ووصلت الفتوحات شرقًا إلى أقصى بلاد الصين، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز.. وقُضيَ على الدولة الفارسية في عهده. وقد أنشأ أول أسطول بحري إسلامي لحماية الشواطئ الإسلامية من هجمات البيزنطيين، وقد انتصر هذا الأسطول على الأسطول البيزنطي في معركة ذات الصواري الشهيرة سنة 34هـ.

وأكبر إنجازات سيدنا عثمان أنه أعدّ نسخًا للقرآن الكريم ووزّعها على الأمصار. وكان رسول الله قد سمح للمسلمين الأوائل أن يقرءوا القرآن الكريم بلهجاتهم الخاصة، ولكن لم يكن هذا الإذن أبديا، بل كان مؤقتا.. حتى تختلط القبائل ببعضها، فيسهل عليهم التلفظ بلهجة مكة التي بها نزل القرآن الكريم.

ومن مواقفه الشهيرة أنه قد تمسّكَ بالخلافة ولم ينصَع لمن يطالبونه بالتخلي عنها، مؤكدًا أن الله تعالى هو من يختار الخلفاء، وإن كان ذلك بصورة غير مباشرة، وأنه ليس للبشر أن يخلعوا الخليفة، فقد قال كلمته الشهيرة: والله لأن أُقدَّمَ فتضرب عنقي أحبُّ إليّ مِن أن أخلع قميصاًَ قَمَّصَنيه الله (تاريخ الرسل والملوك). فالخلفاء كانوا يفهمون سرّ الخلافة بشكل دقيق، وكان ما حدث معهم من الأحداث سببا لكشف هذه المفاهيم وترسيخها وتوضيحها. وقد دافع حضرته عن مقام الخلافة حتى استُشهد على يد الأشقياء وهو يقرأ القرآن.

وعثمان هو المعروف بالحياء الشديد، وبالإنفاق في سبيل الله بسخاء، وكان قد تصدق بمئات الإبل المجهزة في غزوة تبوك. وهو الذي كان له شرفُ الزواج باثنتين من بنات الرسول ، بل قد ورد أنه

“لَمَّا مَاتَتْ بنتُ رَسُولِ الله الَّتِي تَحْتَ عُثْمَانَ، قَالَ رَسُولُ الله :“زَوِّجُوا عُثْمَانَ؛ لَوْ كَانَ لِي ثَالِثَةٌ لَزَوَّجْتُهُ، وَمَا زَوَّجْتُهُ إِلا بِالْوَحْيِ مِنَ الله .” (المعجم الكبير للطبراني).

 ولا خلاف في أن عثمان كان من أوائل من دخل في الإسلام.

سيدنا علي

أما سيدنا عليّ فقد واجه أوضاعا صعبة جدا، فكثير من المسلمين -وقد صُعقوا بقتل خليفتهم الثالث- لم يتنبهوا إلى ضرورة بيعة الخليفة الرابع وطاعته، بل راحوا يطالبون بقتال مَن قتل الخليفة.. وهكذا وقعت معارك بين المسلمين بتحريض من المنافقين. وبعد أن بايع القومُ عليًّا قام بما يجب القيام به غيرَ آبهٍ للعواقب، وبهذا ضرب للأمة مثلاً أن الخليفة لا بُدّ أن يُطاع، وليس عليه أن يتنازل عن الخلافة لمجرد تمرُّد أحد الولاة مهما كان هذا الوالي قويًّا.

لقد فوجئ بخروج المسلمين من مكة لقتال قتلة عثمان ، فما كان له أن يجلس وقد خرج جيش ليس تحت إمرة الخليفة، فحدث الاقتتال في حرب الجمل الذي انتهى بانتصاره وإعادة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مكرَّمةً إلى المدينة..

وقد اشتهر حضرة عليّ بالشجاعة والعلم، فلم تخلُ معركة من مآثره، فهو الذي بدأ المبارزة في بدر، وهو الذي بارز الفارس الشهير عمرو بن عبد وُدٍّ العامري وقَتَلَه في الخندق، وهو الذي فتح حصن خيبر بحسب بشارة النبي . وقد أهداه النبي سيفًا اسمه ذو الفقار. وقد شارك في كل غزوات النبي إلا غزوة تبوك، حيث أبقاه أميرا على المدينة. وحين عيّره بعض المنافقين بالبقاء مع النساء والأطفال، لحق يتوسل بالنبي أن يصطحبه في الغزوة، فقال له النبي :

“أَلا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلا أَنَّهُ لا  نَبِيَّ بَعْدِي”.

فأراد أن يبين النبي له أن المهمة التي يقوم بها مهمة أُوكلتْ لنبي، وهي ليست مهمة تجلب الخزي والعار، بل على العكس.

أما علمه فيكيفه قول النبي “أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها”. وكان عمر يقول: “قضية ولا أبو الحسن لها”، فقد كان قاضيا على المدينة في خلافة الفاروق عمر الذي كان يستشيره في صعاب المسائل. وقد صار هذا القول مثلا سائرا. تميّزَ بطاعته الكاملة للخلفاء والخضوع للخلافة بشكل مطلق، وكان خير عون للخلفاء الثلاثة قبله، رغم محاولة بعض المنافقين التشكيك في هذه المسألة.

وقد دامت خلافته خمس سنوات وثلاثة أشهر.

وقد تزوجَ فلذة كبد الرسول فاطمةَ الزهراء رضي الله عنها التي أنجبت له الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم y. وبعد وفاتها تزوج بعدد من النساء.

لقد اتضح أن سيرة الخلفاء الأربعة ناصعة، وأنهم من أوائل المؤمنين ومن كبار المضحّين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وأنهم الأتقى والأنقى بين الصحابة، وأن الله تعالى قد فتح على أيديهم البلاد وقلوب أهلها. ولكن، وحيث إن كثيرا من المسلمين لم يقدّروا أهمية الخلافة والخليفة، وظنوا أنهم هم مَن ينصِّب الخليفة، وأنهم هم مَن يحق لهم خلعه، وحيث إنهم عملوا على قتل الخليفة الثالث والخليفة الرابع، فقد نزع الله منهم الخلافة الراشدة، مع أنه أبقى بركات الخلافة في الصالحين من العلماء والمجددين، وعاشت الأمة إلى أمد طويل على القوة الدافعة العظيمة التي كانت في زمن الخلفاء الراشدين رغم قصر مدتها التي لم تتجاوز 33 عاما، وبدأت أنوار الخلافة وبركاتها بالتضاؤل شيئا فشيئا حتى جاء زمن بعثة المسيح الموعود والإمام المهدي الذي أعاد الله بعده الخلافة الراشدة من جديد بكل عزة وجلال. وقد كان انقطاع الخلافة الراشدة ثم استئنافها مصداقًا لنبوءة سيدنا محمد الذي قال:

“تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ الله أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ الله أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ الله أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ الله أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ الله أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَت”َ. (مسند أحمد)

  أما العبارة الأخيرة في الحديث، وهي: ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ، فهي نبوءةٌ بتجدُّد الخلافة بعد بعثة الإمام المهدي .

لا شك أن لله تعالى حِكمًا عظيمة في مشيئته وتقديره. ولعل من أهم الحِكم التي أراد الله تعالى أن يظهرها من انقطاع الخلافة الراشدة الأولى هو أن يعلِّم المسلمين أن يتمسكوا بالخلافة ويدافعوا عنها دفاعا مستميتا كي يحظوا ببركاتها. ولكن الخلفاء الراشدين الأوائل لم يفشلوا ولم تنقطع بركاتهم وبركات عصرهم. والله تعالى بنفسه قد تكفلَ بإنجاح مقاصدهم وأعمالهم، كما نصرهم بعد قرون طويلة، وأظهر صدقهم ومكانتهم، ودحض كل الاعتراضات والمطاعن ضدهم. ومع أن الخلافة الراشدة الثانية باقية إلى يوم القيامة بإذن الله تعالى، إلا أن الذي لا يستفيد من هذه الدروس والعبر قد يجد نفسه خارج مظلتها ومحروما من بركاتها، لذلك فلا بد لكل مؤمن أن يتذكر أنه بإيمانه وعمله الصالح سيجد له على الدوام مكانا تحت مظلة الخلافة، وعليه أن يتذكر أن العمل الصالح إنما هو ما يشير إليه الخليفة، فهو نائب النبي الذي قال الله فيه:

فَإِنَّ الله هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِير .
Share via
تابعونا على الفايس بوك