39 مسير العرب

يتميز عام 1912 بحادث هام جدا في تاريخ الجماعة الإسلامية الأحمدية، ألا وهو سفر سيدنا ميرزا بشير الدين محمود أحمد (نجل سيدنا المسيح الموعود وخليفته الثاني) إلى البلاد العربية. ولعل أحدا يسأل عن دواعي اعتبار هذا السفر تاريخيا؟ السبب هو أحد كشوف المسيح الموعود ، حيث رأى في 7 سبتمبر/أيلول 1905 قرطاسًا مكتوبا عليه: “مصالح العرب. مسير العرب.” وقال في تفسيره:

“يمكن أن يكون معناها: السير في العرب، فقد يكون في قدر الله تعالى أن نزور بلاد العرب. وقبل خمسة وعشرين عاما أو ستة وعشرين عامًا رأيت في المنام أن أحدا يكتب اسمي، فكتب النصف الأول منه بالعربية والآخر بالإنجليزية. والهجرة ملازمة للأنبياء، ولكن بعض الرؤى تتحقق في حياة النبي وبعضها من خلال أولاده أو أحد أتباعه؛ مثلا رأى النبي أنه قد أُعطيَ مفاتيح خزائن كسرى وقيصر، غير أن تلك البلاد لم تفتح إلا في عهد عمر .” (التذكرة ص 477، جريدة بدر مجلد 1 عدد 23 بتاريخ 7 سبتمبر 1905، جريدة “الحَكَم” مجلد 9 عدد 32 بتاريخ 10 سبتمبر 1905 ص3)

وهذه الرحلة التي قام بها حضرة ميرزا بشير الدين محمود أحمد ابن المسيح الموعود كان نصفها إلى بلاد العرب والنصف الآخر إلى بلاد أوروبا. وبهذا يكون قد تحقق جانب من الكشف وتفسيره.

نقدم فيما يلي بعض تفاصيل هذه الرحلة المباركة.

خلفية الرحلة المباركة

لقد خرج حضرة ميرزا بشير الدين محمود أحمد في جولة في أرجاء الهند مع وفد مرافق له في 3 إبريل/ نيسان 1912 بُغْيةَ الاطلاع على أساليب التعليم والمقررات الدراسية وأمور الإدارة في مختلف المدارس الدينية المنتشرة في أرجاء الهند. كان هذا الوفد قد أخذ معه عديدا من الكتب العربية للمسيح الموعود لتوزيعها على المدارس. (تاريخ الأحمدية ج 3 ص 392-393)

بعد هذه الجولة استأذن حضرتُه الخليفةَ الأول للسفر إلى مصر من أجل إتقان اللغة العربية والتعمق في دراساتها وللاطلاع على النظام التعليمي هناك. ثم ارتأى حضرته أنه من غير اللائق أن يمرّ بالقرب من الحرمين الشريفين بدون أن يزورهما. ثم فكّر أن الأيام التي سيسافر فيها هي أيام الحجّ، فلا بد أن يغتنم هذه الفرصة فيحجّ أيضًا. فتغيرَ القصد من مصر إلى زيارة الحرمين، ثم إلى الحج. وقد ظهر من الأحداث أن كل ذلك كان تدبيرًا خاصًا من عند الله تعالى.

فأذن له الخليفةُ الأول وأرسل معه السيدَ عبد المحيي العرب (أحد صحابة المسيح الموعود الذي كان من العراق). كما أن جدّ حضرته “مير ناصر نواب” هو الآخر سبق أن قرر أن يحج بيت الله، فسافر مباشرة إلى جدة. أما حضرته فالتحق به في جدة عائدًا من مصر، ثم قاما بالحج سويًّا.

بدأ حضرته سفره من بومباي بحرًا في 16 أكتوبر/تشرين الأول 1912، ووصل إلى ميناء بور سعيد بمصر في 26 أكتوبر/تشرين الأول، حيث اطلع حضرته على الأوضاع الدينية والاجتماعية هناك والتقى بأحد الشيوخ في أحد المقاهي. (تاريخ الأحمدية ج3 ص411)

كان حضرته ينوي زيارة المدارس والمكتبات في القاهرة واللقاء برجالات مصر البارزين، ولكنه اضطر لتغيير برنامجه كليةً وذلك بناء على رؤيا، حيث قال:

حينما ذهبت إلى مصر للدراسة كنت نويت الحج أيضًا، ولكن لم يكن بنيتي أن أحجّ في تلك السنة نفسها، بل كنت أنوي الحج عند العودة من مصر. ولما وصلت إلى بومباي لحِق بي جدي المرحوم الذي كان يريد الذهاب إلى الحج مباشرة، فقررت أنا الآخر أداء فريضة الحج مع جدي في تلك السنة نفسها. ولما بلغنا ميناء بورسعيد رأيت في الرؤيا أن المسيح الموعود جاء وقال لي: إذا كنت تنوي الحج فاركب السفينة غدًا لأنها هي السفينة الأخيرة. وكانت لا تزال أمامنا قبل الحج عشرة أو خمسة عشر يومًا، ولم تكن المسافة بعيدة، فكان الظن الغالب أن سفنًا عديدة أخرى ستخرج بالحجاج من مصر إلى جدة. وكان برفقتي السيد عبد المحيي العرب، وكان يصر على أن نذهب بسفينة أخرى لا بالتي تُبحِر غدًا. ولما كان المسيح الموعود قد قال لي في الرؤيا إن كنت تريد الحج فاخرجْ على السفينة التي تذهب غدًا لأن السفن لن تذهب بعد ذلك، فصممت على الخروج على تلك السفينة، برغم أن بعض معارفنا المحليين أيضًا أشاروا علي قائلين: لا تزال هناك سفن عديدة ستذهب بالحجاج، فعليك أن تؤجل الخروج إلى الحج لتزور القاهرة والإسكندرية؛ إذ ليس من المناسب أن تعود بدون زيارة هذه الأماكن خاصة وقد جئت من مسافة بعيدة جدًّا. فقلت لهم إن المسيح الموعود قد أخبرني أنني إذا لم أخرج غدًا فهناك خطر فوات الحج، لذلك فلا بد أن أخرج غدًا. وبالفعل قد حصل خصام حاد بين شركة السفن وبين الحكومة المصرية، وكانت النتيجة أن السفينة التي خرجتُ عليها كانت هي السفينة الأخيرة، إذ لم ترسل الشركة بعدها أي سفينة أخرى بالحجاج في تلك السنة. (التفسير الكبير ج 6 تفسير سورة الحج آية 28)

سافر مع حضرته في الباخرة المتوجهة من “بور سعيد” إلى “السويس” خمسةُ أشخاص آخرين أحدهم أوروبي وأربعةٌ مسلمون:اثنان منهم من البدو والثالث مسؤول في قسم التلغراف والرابع مفتش في قسم السكة الحديدية. لقد استعرض حضرته أمام المسلمين الأربعة حالة الإسلام التعيسة في هذا الزمن، ثم سلط الضوء على وفاة المسيح الناصري وبيّن لهم دعاوى سيدنا المسيح الموعود . كان المسؤول في قسم التلغراف يعرف اللغة الإنجليزية والفرنسية والإيطالية إلى جانب اللغة العربية، فأبدى إعجابه بكلام حضرته، ثم أخذ منه عنوانه ووعده بالمراسلة، كما ظل يسعى جاهدا لتأمين الراحة لحضرته أثناء الرحلة. (تاريخ الأحمدية ج3 ص 416)

رسائل حضرته   من جدة ومكة المكرمة

نورد فيما يلي ترجمة مقتبسات من رسائل بعثها حضرته إلى الخليفة الأول من جدة ومكة المكرمة، وسجل فيها بعض الأحداث الحاصلة هناك.

الرسالة الأولى

“لقد وصلْنا مُحْرِمين بفضل الله تعالى إلى جدة مرورا من مصر. الله الله، ما أطهرَه مِن بلد! إن أي منظر ههنا يبعث على الدعاء. يخيّل للزائر أن رحمة الله تعالى تنـزل على هذه الأرض بغزارة. لقد دعونا بتوفيق من الله تعالى لإخوتنا في قاديان وللجماعة الأحمدية وللإسلام مرات كثيرة تفوق العد والحصر. لقد دعوت في هذا السفر للأحمدية بكثرة لو كان بإمكانكم تصورها لذابت قلوبكم محبةً، ولكن لا يعلم أسرار القلوب إلا الله. أتوقع أن الإخوة في قاديان والأحمديين الآخرين أيضا يدعون لي. أتلقى نجاحا في التبليغ أيضا إذ إن الناس يسمعون حديثنا بكل إعجاب. أُخبرهم عما يحتاج إليه الإسلام اليوم بشكل عام، كما أخبرهم عن جماعتنا، وقد وعد عدد من الناس أنهم سوف يفكّرون في هذه الأمور وسيراسلونني. إن الناس عموما منـزّهون عن الحسد والعصبية، لذلك لو جاء أحد وأقام في بلادهم لأحرز نجاحا باهـرا.” (تاريخ الأحمدية ج 3 ص 417)

زيارة بيت الله الشريف والدعاء

“كان الخليفة الأول يقول: لما ذهبتُ للحج، واكتحلتْ عيني برؤية الكعبة المشرفة لأول مرة، تذكرتُ أنه قد ورد في الحديث أن الدعاء الذي يدعو به المرء ربه عند أول نظرة إلى بيت الله الحرام مجابٌ ومقبول. فقلت في نفسي بماذا أدعو؟ ففكرت طويلا وقلت في نفسي لو دعوتُ اليوم دعاء واستُجيب، فإني لا بد أن أحتاج غدًا أيضًا لشيء آخر، فماذا أفعل عندئذ؛ فعليّ أن أقوم بدعاء جامع لكل حاجاتي طوال حياتي. فدعوت ربي قائلاً: ربِّ استجبْ بفضلك كل دعاء أدعوك به في حياتي. وتأسيًا بحضرة الخليفة الأول قد دعوتُ أنا الآخر هذا الدعاء نفسه عندما وقع نظري لأول مرة على الكعبة المشرفة.” (التفسير الكبير ج 5 تفسير سورة مريم آية رقم 51)

ملخص الرسالة الثانية

“لقد دخلنا إلى مكة المكرمة برفقة “مير صاحب” ( يعني جَدَّه) في 7 نوفمبر/تشرين الثاني، وقمنا بأداء العمرة. عند زيارة بيت الله الشريف وعند دخولنا مكة، وعند بلوغنا الصفا والمروة دعونا كثيرا جدا بتوفيق من الله لإخوتنا في قاديان وللجماعة الأحمدية وللإسلام.” (جريدة بدر عدد 12 ديسمبر 1912 ص3 نقلا عن حياة نور ص 647)

الرسالة الثالثة

“سيدي وإمامي وأستاذي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نشكر الله تعالى آلاف الشكر على هذا الفضل والمنة، إذ وفقنا لزيارة الأماكن المقدسة. عندما كانت الجِمال تتوجه نحو مكة بالأمس كانت حالتي القلبية يصعب وصفها بالكلمات. كان قلبي يفور بالمحبة العارمة، وكان الشوق والحنين يزداد ويكثر كلما اقتربنا منها أكثر. أستغرب كيف أن الله تعالى بمحض إرادته وحكمته أوصلني إلى هنا؛ إذ قصدت مصرَ في البداية، ثم ارتأيت أن أغتنم فرصة زيارة مكة إذ كانت تقع في الطريق، ثم خطر بالبال أن أحجّ ما دامت الأيام أيام الحج. فتغيرَ القصد من مصر إلى مكة ثم إلى الحج. وفي نهاية المطاف قد أوصلني الله تعالى إلى هذه البلاد. كنت أجد في نفسي رغبة عارمة للحج، ودعوت لتحقيقها كثيرا، ولكنه لم يكن إلى ذلك من سبيل في الظاهر، لأن طبعي كان يخاف جدا من وعثاء السفر الطويل إلى هذه البلاد، كما كان ثمة خطر كيد المعارضين أيضا. ولكن لما عزمت على السفر إلى مصر خطر ببالي أنه ليس من الأدب ترك زيارة مكة لأنها تقع في طريقنا إلى مصر. لا شك أن السفر من جدة إلى مكة كان شاقًّا جدا، مما أدى إلى اعتلال صحة “مير صاحب”، كما تعرضتُ أيضا لآلام شديدة في كل مفصل من مفاصل جسدي، ولكن النِّعَم العظيمة تقتضي تضحيات عظيمة، ولم يكن تعبي وآلامي شيئا أمام النعمة الجليلة التي حظيت بها. إن الطريق إلى المدينة طويل وأكثر صعوبة، ولكن مشقةَ بضعةِ أيام لا شيء إزاء زيارة الأماكن المقدسة التي قضى فيها رسولنا الكريم – فداه أبي وأمي- فترة مشرقة من نبوته. إن قلبي فداء لفضله تعالى الذي منّه عليّ؛ إذ جاء بي إلى هنا بإرادته وحكمته الخاصة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

مشيئة الله تعمل عملها

وتظهر حكمة الله الكامنة من الحادثة التالية أيضا حين تخلفنا عن موعد الباخرة المتّجهة إلى مصر، ولكن لما ركبنا الباخرة التالية ووصلنا إلى مصر رأيت في الرؤيا أن حضرة المسيح الموعود قال لي (أو أنتم قلتم لي): اذهب إلى مكة فورا؛ فقد لا تجد فرصة الذهاب إليها ثانية. فانطلقتْ باخرتان (إلى القاهرة) ولم نستطع الركوب فيهما مما أكد صحة ما ورد في الرؤيا، فلم نستطع زيارة مصر. ولما وصلنا إلى مكة عرفنا أنه لا يمكن لنا العودة إلى مصر بحسب قوانين الحكومة المصرية حيث لا يسمح لغير المصريين أن يدخلوا مصر من الحجاز والشام خلال أربعة أشهر بعد الحج. فلو أردتُ الذهاب إلى مصر لما كان يسمح لي بذلك إلا في أواخر شهر إبريل/نيسان…. وكانت الرحلة إلى مصر بلا جدوى في هذه الظروف. من خلال جميع هذه الأحداث توصلت إلى نتيجة أن مشيئة الله تعالى هيأتْ لي هذه المناسبة لأحظى ببركة الحج بينما كان السفر إلى مصر مجرد تدبير لذلك. (تاريخ الأحمدية ج 3 ص 417- 418)

الرسالة الرابعة

“إن إلقاءَ الله تعالى في روعي الرغبةَ في الدعاء، وآثارَ رحمته التي رأيتها في هذا السفر -ولا سيما في مكة المكرمة وأيام الحج- كانت بمنـزلة تجربة جديدة لي؛ مما ملأ قلبي شوقا وحماسا بحيث أقول إن كل من يقدر فليحج مرارا، لأنه مجلبة لبركات عظيمة. وجدت فرصا كثيرة للتبليغ ومررت بتجارب جديدة، وأتيحت لي فرصة اللقاء مع شريف مكة أيضا.” (جريدة “بدر” عدد 9 يناير 1913 ص1 نقلا عن حياة نور ص 649)

 

الرسالة الخامسة

“لا نعرف كيف انتشر خبر مجيئنا في مكة، حيث كان الهنود كلهم على علم بذلك، وكان دليلنا أيضا يعرف ذلك من قبل، كما لقيَنا أشخاص آخرون يعرفوننا. لقد انتشر هذا الخبر هنا انتشار النار في الهشيم، ولا يُعرف مصدره؛ وأصبحتُ معروفا في مكة بحيث كان الناس في بعض الأحيان يشيرون إليّ بالبنان قائلين: ها هو ابن القادياني.

الله الله! كيف ذاع صيت قاديان في العالم بسبب حضرته في حين أن كثيرا من الناس لا يعرفون شيئا عن مدينة لاهور وأمرتسر. (جريدة “بدر” عدد 9 يناير 1913 ص 1-2 نقلا عن حياة نور ص 649)

الرسالة السادسة

رؤيا عظيمة

بعث حضرته من مكة المعظمة رسالة إلى الخليفة الأول ذكر فيها رؤياه التي يتضح منها أن الله تعالى سوف يكتب للإسلام والأحمدية على يده ازدهارا ورقيا، حيث قال:

رأيت في المنام أنني في مكان برفقة “مير صاحب” ووالدتي المحترمة، وأسمع من السماء صوتَ رعود شديدة ودويًّا كدويّ المدفعية الثقيلة المستمرة والظلامُ يَعُمّ كل مكان، بيد أن السماء كانت تُضاء من حين لآخر. وبينما نحن كذلك إذ ظهر في السماء نور بعد مشهد مهول ومدهش، فظهرت على أديم السماء بخط عريض جدا وبكلمات نيّرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فسألت “مير صاحب” إذا كان هو الآخر رأى هذه الكلمات فأجاب بالنفي، فقلت له: لقد رأيت الآن هذه الكلمات مكتوبة في السماء. ثم سمعت أحدا يقول بصوت عال لا أذكر إلا معناه وهو أن هناك تغيرات عظيمة تحدث في السماء وتكون خيرًا لك. ثم استيقظت من شدة هول هذا المشهد والظلام والدوي. والله أعلم بالصواب. (تاريخ الأحمدية ج 3 ص 419)

مؤامرة اغتيال حضرته في مكة

كتب حضرته عن مؤامرة دُبرت لاغتياله أثناء الأيام التي قضاها في مكة للحج فقال:

“حينما ذهبت للحج فإن أحد أخوالي -الذي كان ابن أخت جدي لأمي وكان من سكان مدينة “بهوبال”- أحدثَ ضجة ضدنا، وقد تآمر معه شخص آخر من “بهوبال” اسمه “خالد” ….. لقد أثاروا الناس ضدّنا في مكة قائلين: إن هؤلاء ينشرون الكفر، وطلبوا من “المولوي إبراهيم السيالكوتي”.. شيخ أهل الحديث.. أن يناظرنا، حيث كان هو الآخر قد ذهب للحج. وكان غرضهم من هذه المناظرة أن يشيع خبرنا على نطاق واسع، ولو تمت المناظرة فسوف يقتل الناس هذه الحفنة من الأحمديين. كما حذروا الحكومة لتتخذ ضدنا إجراءات فورية حتى لا تتفاقم هذه الفتنة. ولكننا لم نكن نعرف عن مؤامرتهم شيئا. وذات يوم ذهبتُ لتبليغ أحد العلماء العرب وهو الشيخ عبد الستار الكبتي – وكان أستاذا لأبناء شريف مكة، وكان نبيلا، ورغم أنه كان وهابي العقيدة، لكنه كان يتظاهر أنه حنبليّ، وقد أخبرني بنفسه أن الناس يكرهون أهل الحديث الوهابيين هنا بشدة، فلا أظهر لهم مذهبي. وكان يعلّم أولاد شريف مكة مجّانا لكي يحظى بنصرته. ولم يكن يجرؤ أحد على إيذائه بسبب مكانته- وقمتُ بدعوته إلى الأحمدية وقتا طويلا، وكان الخليفة الأول قد طلب مني قبل خروجي للحج أن أبحث عن كتاب في البلاد العربية، وكان هذا الشيخ مولعا بالكتب، فذكرت له اسم هذا الكتاب، فقال: إنه ليس عندي، ولكنه موجود في مكتبة بحلب. ولما فرغت من تبليغه قال: لقد قمتَ بتبليغي وكلامك معقول، ولكن حذار أن تُبلِّغ غيري، وإلا فهناك خطر على حياتك؛ لأن الناس في هياج شديد، فلو قمت بدعوة أحد فأخاف أن يهاجموك وتلقيك الحكومة في السجن. فتعجبت لقوله، فقال: ألا تعلم أن بعض الناس نشروا إعلانا ضدكم مما أدى إلى هياج الناس؟ قلت: من نشر هذا الإعلان؟ قال فلان من المشايخ. قلتُ: هذا خالي، ومَن غيره؟ قال: أحد الرؤساء من “بهوبال” اسمه خالد؛ فإنهما قد نشرا إعلانا قالا فيه إن هؤلاء لو كانوا موقنين بصدق ما يدّعون فليناظروا “المولوي إبراهيم السيالكوتي” المتواجد هنا.وكان خالي هذا يظن أنه ليس في مكة حكومة رسمية، فلو تمّت المناظرة فإن الناس سوف يقتلوننا، وهكذا يتخلص هؤلاء من هذه المعضلة!

ثم أخبرني “الشيخ عبد الستار الكبتي” أنه قال للمولوي إبراهيم السيالكوتي أن لا يرتكب خطأ الخوض في المناظرة حماسا منه، لأن الناس لا يعارضون الأحمديين هنا كما يعارضون الوهابيين، فلا يدري أحد أيثور الناس ضد الأحمديين أم لا، لكنهم سيثورون ضدك حتمًا لأنك من أهل الحديث. فأرى أن الشيخ السيالكوتي لن يخوض المناظرة خوفا من ثورة الناس ضده، ولكن لا تقمْ أنت بتبليغ أحد، لأني أخاف أن يلحقك ضرر من أحد. فقلتُ: ممن تخاف عليّ أكثر؟ فذكر اسم أحد المشايخ، وقال لا تبلّغه أبدًا. فقلتُ: لقد جئت من عنده للتو بعد أن بلّغته حوالي ساعة. فقال في حيرة: فماذا حصل؟ قلتُ: كان يقول لي بعد كل فترة في حالة من الغضب: لو كان عندي سيف لقطعتُ عنقك.

باختصار، ظلّ خالي وذلك الرئيس البهوبالي يثيران الناس ضدنا. وما أن انتهى الحج حتى تفشّى مرض الهيضة الشديدة في مكة، حتى كان الناس يلقون موتاهم في الشوارع، إذ لم يجدوا فرصة لدفنهم، فخاف جدي الذي كان يصاحبني وقال: يجب أن نرجع بسرعة. فبدأنا نعدّ عدّتنا للعودة. وذهب جدي للقاء أخته وابنها في بيتهم (في مكة)، وكنتُ معه، فلما وصلنا هناك رأينا جنازة وأُناسا يستعدّون لدفن الميت، فسأل جدي: من هذا؟ فذكروا اسم خالي الذي كان يثير الناس ضدنا، وقالوا: لقد توفي، وقد كان راجعا مِن مِنى حين هاجمته الهيضة فمات بعد قليل.” (التفسير الكبير ج 8 تفسير سورة الغاشية آية رقم 6)

عودة حضرته إلى الهند

بسبب تفشّي الهيضة الشديدة في مكة لم يستطع حضرته زيارة روضة الرسول ومدينته المنورة، بل اضطر للعودة إلى الوطن. ووصل إلى بومباي في 6 فبراير 1913 حيث كان في استقباله ميرزا شريف أحمد والسيد عبد الرحمن القادياني. فوصل إلى لاهور ظهيرة يوم الأحد 12 فبراير/شباط 1913، ومن هناك توجهوا إلى قاديان.

لقد نشر الشيخ محمود أحمد العرفاني ابن الشيخ يعقوب علي العرفاني إعلانا بهذه المناسبة هنّأ فيه حضرتَه على عودته الميمونة، كما كتب فيه أنه قد تحقق بسفر حضرته للحج إلهامُ: “مسير العرب.” (تاريخ الأحمدية ج 3 ص 423)

الزيارة الثانية لبلاد العرب

اقترح بعض المسؤولين في الدولة البريطانية عام 1924 إقامة مؤتمر للأديان في لندن يُدعى إليه ممثلو الأديان المختلفة من أرجاء الدولة البريطانية العظمى، ليسلطوا الضوء على أصول أديانهم ويوضحوا مبادئها وأُسسها ومُثلها العليا. وُجهت هذه الدعوة إلى سيدنا الخليفة الثاني أيضا، كما اتصل به بعض المشرفين على عقد المؤتمر بصورة شخصية يلتمسون منه أن يشرفهم بحضوره في المؤتمر. فشاورَ الجماعةَ وقرر أخيرا أن يسافر في 12 يوليو 1924، ووصل إلى لندن في 22 أغسطس حيث أعدّ محاضرته العظيمة بعنوان: “الأحمدية.. أي الإسلام الحقيقي”، التي ألقاها في المؤتمر حضرة محمد ظفر الله خان، كما وضع حجر أساس لمسجد “الفضل” في 19 أكتوبر 1924.

وقبل خروجه في هذه الرحلة قرر أن يزور خلالها مصر والشام وفلسطين أيضًا ليلتقي الأحمديين هناك ويقابل بعض المشايخ والقادة العرب أيضا.

إنها رحلة تاريخية وحدث عظيم في تاريخ الأحمدية في العرب، نذكر فيما يلي بعض الأحداث الهامة التي حصلت خلال إقامة الخليفة الثاني في البلاد العربية.

لقد سافر مع الخليفة وفدٌ يضم 12 من كبار الجماعة التالية أسماؤهم:

حضرة ميرزا شريف أحمد، شودري فتح محمد سيال، المولوي عبد الرحيم درد، خان ذوالفقار على خان، الحافظ روشن علي، الشيخ يعقوب علي العرفاني، الدكتور حشمت الله خان، السيد عبد الرحمن القادياني، الشيخ عبد الرحمن المصري، شودري علي محمد، ميان رحم دين، والمحامي شودري محمد شريف.

في 24 يوليو 1924، وبينما كانوا على متن باخرة متجهة إلى بور سعيد بمصر شاور الخليفة أصحابَه عدةَ ساعات حول التبليغ في بلاد الشام ومصر، ثم وضع خطة لذلك. ونظرًا لأهمية هذه الرحلة وعظمة مقاصدها والمشاكل والعقبات الحائلة دون تحقيق هذه الخطة أوصى أصحابَه أن يستعدّوا ويدعوا الله تعالى لتحقيقها على خير ما يرام.

كان من المتوقع أن تمرّ الباخرة بمحاذاة جدة ومكة المكرمة في الساعة الثانية عشرة ظهرًا من 25 يوليو 1924، فأراد الخليفة أن يقوم بالدعاء في ذلك الوقت فصلى ركعتين جماعة، تضرع فيهما إلى الله تعالى بخشوع وحرارة وابتهال.

وصول حضرته مصر ونبوءة عن مصر

أرست الباخرة في بور سعيد، فتوجه الخليفة مع خدامه إلى مدينة القاهرة ونزل في بيت الشيخ محمود أحمد العرفاني (الداعية الإسلامي الأحمدي في الديار المصرية آنئذ).

وفور وصوله إلى مصر قسم حضرته أصحابه في ثلاث مجموعات؛ مجموعة اهتمت باللقاءات مع محرري الجرائد والمجلات، وأخرى اهتمت بالأعمال المتعلقة بجوازات السفر والبريد، والمجموعة الثالثة عنيت بتأمين الحاجات الضرورية للسفر.

ولقد ذكر حضرته تفاصيل مكوثه في مصر فقال:

“مكثنا في القاهرة يومين فحسب…. أرى أن مصر ابنة المسلمين ربّتْها أوروبا في بيتها لتخرب مِن خلالها أخلاق المسلمين في البلاد الإسلامية. ولكن قلبي يقول – ومنذ أن بدأتُ أفهم القرآن الكريم أبني رأيي هذا على استدلال أقوم به من بعض سور القرآن الكريم، ولا أزال أخبر بذلك تلاميذي أيضا – أن دمار حضارة أوروبا منوط بمصر، وبناء على ذلك أقول الآن…. إن موسى كما نجح في تدمير فرعون كذلك ستتمكن مصر – حين تعود إلى حضن الله تعالى للتربية- من تدمير ما في حضارة أوروبا من أمور مخرِّبة للأخلاق. لا شك أن هذا الأمر يبدو غريبا الآن، ولكن الذين يبقون على قيد الحياة سوف يرونه يتحقق.” (تاريخ الأحمدية ج 4 ص440)

قال حضرته في 30 يوليو/تموز:

تقتضي حالة مصر أن نقيم هنا شهرين على الأقل، لأنني أرى أن سموم تلك الحضارة الفاسدة التي أريد إنقاذ الإسلام منها قد تسربت إلى دماء المسلمين المصريين، إذ بدأوا يخضعون أمام الحضارة الأوروبية.

وفي 30 يوليو/تموز 1924 حضر أحد الأحمديين المصريين للقاء الخليفة ، فألقى كلمته الوجيزة مع قصيدة له، وذكر فيها الحالة المتردية للإسلام والمسلمين وأبدى يأسا وقنوطا تجاه حالة الإسلام، فرد عليه الخليفة الثاني باللغة العربية: إن الله تعالى نهانا عن اليأس والقنوط. لا شك أن حالة الإسلام كانت كما تفضلت، ولكن الله تعالى قد مَنّ على الإسلام الآن وتفقّدَه وأعانه في وقت الضرورة. فمباركٌ لكم يا أهل مصر، لأن فضل الله تعالى يشملكم قريبا بإذن الله تعالى. لقد جئت هنا لأستطلع أوضاع مصر، وسأضع قريبا خطة مناسبة للتبليغ، وأرجو من الله تعالى أن يكتب لنا نجاحا ملموسا. (“سفر يورب” – مذكرات الأستاذ عبد الرحمن القادياني ، الملحق ص 10- 11)

صوفي شهير يتشرف بلقاء الخليفة

جاء الشيخ ” أبو العزايم” -الصوفي الشهير في مصر- للقاء الخليفة مع تسعة من مريديه؛ فأبدى إعجابا كبيرا بشخصية الخليفة ، وظل يخاطبه بألقاب يا سيدي ويا إمامنا. ولم يتكلم حضرته في هذا اللقاء بشيء إلا وردّ عليه هذا الصوفي الجليل بقوله: صدقتَ وآمنتُ.

ثم قال: لو كنتُ أعلم قدوم حضرتك لذهبتُ لاستقبالك إلى بور سعيد وقمت بنفسي بجميع الترتيبات، وقمت بخدمتكم لأنال الثواب. فشكر له الخليفة.

أهدى له الخليفة نسختين من كتاب المسيح الموعود “فلسفة تعاليم الإسلام”، فاستلمهما وقبّلهما ولامسَ بهما العينين إكراما وتشريفا بهما، ثم شكر الخليفةَ على هذه الهدية الغالية، ثم قال: إني أصدق حضرة الإمام المهدي وأؤمن بكل ما جاء به. وقال لتلاميذه اشهدوا أني صدّقت حضرتَه، فإن كنتم تخافون ولا تؤمنون فهذا شأنكم، أما أنا فآمنت به لأنه حق. كما صدّق بوفاة المسيح الناصري أيضا.

أسمعَه “الحافظ روشن علي” قصيدة عربية للمسيح الموعود ، فاستمع إليها وهو في نشوة روحانية عجيبة، وظل يقول بين حين لآخر: “إنه حق”. (“سفر يورب” -أي رحلة إلى أوروبا-  ص 41 والملحق ص 10)

السيد العطار ومشاعره

كان السيد العطار المحامي الشرعي خريجَ جامعة الأزهر وكان يتمتع بمركز اجتماعي بارز في مصر، فذهب الشيخ يعقوب علي العرفاني مع الشيخ محمود أحمد العرفاني والحافظ روشن علي للقاء السيد العطار برسالة من الخليفة الثاني، فاستمع السيد العطار إلى رسالته بكل أدب وحب وإكرام، ثم قبِلها وتحمسَ لدرجة أنه قال: لو كان الخليفة عندي الآن لبايعته حالا وسأبايعه عند عودته (أي عودته من لندن) بإذن الله تعالى، وسأعمل معكم. (“سفر يورب” – مذكرات عبد الرحمن القادياني ص 40)

الأحمديون المصريون

يقول حضرته : أكثر ما سرّني هو لقائي مع الأحمديين المصريين. قابلت ثلاثة من الأحمديين المصريين، وكانوا كلهم مخلصين جدا؛ كان اثنان منهم مِن خريجي الأزهر والثالث قد درس العلوم المعاصرة. كانوا مخلصين ومتحمسين بحيث كان قلبي يفيض بمشاعر رقيقة تجاه إخلاصهم وحماسهم. وقد أبدوا رغبتهم وأملهم أن تتقوى جماعتنا في مصر. (أنوارالعلوم ج8، دوره يورب –أي جولة أوروبا)

في بيت المقدس

قضى الخليفة يومين في القاهرة، ثم توجه إلى بيت المقدس بالقطار. وما أن وصل القطار بيت المقدس ونزل المسافرون حتى جاءه أحد “السَدَنة” (وهم المشايخ الذين يعرّفون الزوار على الأماكن المقدسة ويعيشون على ما يعطيهم الناس لقاء خدمتهم)، وكان يحمل في يده ورقة مكتوبا عليها: “حضرة ميرزا بشير الدين محمود أحمد”. لقد عرف هذا الرجل من مصدر ما عن قدوم الخليفة إلى القدس وعرف اسمه أيضا، فأخذ يبحث عنه حتى وجده، وتحدث إليه ورجا أن يقيم عنده لأنه يريد أن يخدمه. فشكره الخليفة على عرضه هذا. (“سفر يورب”  ص 42)

أقام حضرته في فندق “نيو غراند” New Grand Hotel، ومكث هنالك يومين زار خلالها بعض مقابر الأنبياء في الخليل منها مقبرة أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم، وإسحاق ويعقوب وغيرهم عليهم السلام. كما زار مسجد سيدنا عمر، وسجد في محرابه طويلا، ودعا بأدعية حارة. كما زار ذلك المقام الذي حُوكمَ فيه المسيح الناصري ، وصدر الحكم ضده، وحيث غسل بيلاطس يديه تعبيرًا عن براءته من دم المسيح. كما زار الخليفة الطريق التي حمل فيها المسيح صليبه، والمقام الذي جاءته أمه للقائه، حيث عُلِّق على الصليب وأُنزلَ جسده، ثم زار القبرَ الذي وُضع فيه جسده بعد إنزاله من الصليب. (تلخيصا من “سفر يورب” ص 42- 46)

دعوة مفتي القدس

وجّه مفتي القدس إلى الخليفة دعوة لشرب الشاي حضرها قاضي المحافظة وبعض وجهاء المدينة أيضا، ودار الحديث خلالها باللغة العربية الفصحى. فسأل المفتي: مِن أين تعلّمت اللغة العربية؟ فقال الخليفة في الجواب: إن إمامنا مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية قد أوصانا أن نحيي لغة القرآن ونجعلها لغة ثانية لنا، فإن في هذا سرّ وحدة الأمة المسلمة، ولذلك أنشأنا في قاديان مدرسة لنشر العلوم العربية. ثم ذكر حضرته أنه قدِم إلى مصر لتعلّم اللغة العربية. كما تطرق الحديث إلى ذكر بعض الأمور المتعلقة بسفره لحج بيت الله الذي قام به قبل أكثر من عشر سنين.

خوف الخليفة على فلسطين

التقى خلال مكوثه في القدس بعض كبار قادة المسلمين وزعمائهم، فقال عن هذه اللقاءات: “لقد قابلت كبار المسلمين هناك، ولاحظت أنهم مطمئنون من قبل اليهود ويرون أنهم ينجحون في إخراجهم من تلك البلاد. غير أنني أرى أنهم على خطأ. إن اليهود مصممون على استعادة بلاد آبائهم (حسب اعتقادهم)، ويبدو من النبوءات القرآنية وبعض إلهامات المسيح الموعود أن اليهود سوف ينجحون في استيطان هذه البلاد. وأرى أن شعور زعماء المسلمين بالاطمئنان سيؤدي إلى دمارهم.”

للأسف لم يأخذ العرب حذرهم من اليهود وتحققت مخاوف الخليفة، فأنشأوا الدولة الإسرائيلية بعدها بعشرين سنة تقريبا، مما أقضّ مضاجع المسلمين ليس في فلسطين فقط، بل في العالم كله، ولا يزال المسلمون في تلك البقاع يرزحون تحت نير الاضطهاد والظلم.

حضرته في حيفا

نزل الخليفة الثاني في حيفا في فندق “غراند أوتيل نصّار” GRAND HOTEL NASSAR. وفي اليوم التالي ركبوا بعض العربات التي تجرّها الأحصنة، وذهبوا للتجول في المدينة. كان سائق العربة رجلا مثقفا ومتدينا، فبلّغه الخليفة دعوة الأحمدية، فظلّ السائق يطرح على حضرته أسئلته طوال الرحلة.

نزوله في دمشق

غادر الخليفة مع الوفد المرافق له من حيفا بالقطار في الساعة العاشرة والنصف صباحا يوم 4 أغسطس 1924 ووصلوا دمشق مساء، وأقاموا فيها حتى 9 أغسطس.

فلما نزل حضرته في دمشق بمحطة القطار جمع أعضاء الوفد على المصطبة الخارجية للمحطة ودعا معهم بالأدعية المسنونة للدخول في المدينة. ثم ذهبوا بالعربات إلى فندق الخديوية، فعلموا أنه لا يوجد فيه غرف فارغة تكفيهم، فتقرر أن يقيم حضرته مع ثلاثة من أصحابه في فندق فيكتوريا أما الآخرون فيقيمون في فندق الخديوية.

لقد رجع حضرته من فندق فيكتوريا صباح 5 أغسطس 1924، لأنه لم يبق فيه أيضا مكان للإقامة لأن المكان الذي أقام فيه حضرته الليلة الفائتة كان محجوزا من هذا اليوم لزوار آخرين. فوصل حضرته إلى فندق الخديوية وجمع أصحابه وأرسلهم للبحث عن فندق مناسب للإقامة، فلم يجدوا سوى غرفة واحدة لثلاثة أشخاص في فندق سنترال، ثم بعد محاولة أخرى وجدوا غرفة صغيرة أخرى لحضرته في نفس الفندق، ثم حصلوا على غرفة أخرى لميرزا شريف أحمد، وكانت بعيدة قليلا عن الغرفتين المذكورتين. أما الآخرون فلم يجدوا فندقا جيدا آخر مما اضطرهم أن يقيموا في فندق “دار السرور” الذي كان على مقربة من فندق الخديوية وفندق سنترال.

أراد حضرته زيارة المدينة، فركب “الترام” مع الوفد المرافق له وتجولوا في بعض أجزائها، ثم استأجروا سيارتين لزيارة مركز المدينة، فدخلوا من الجانب الشرقي من طرف حارة اليهود ومروا من حارة النصارى أيضا، ثم رجعوا إلى الفندق. (بتصرف من “سفر يورب” ص 52 -56)

في 6 أغسطس بعد الغداء أُخبرَ حضرته أن أحد الشيوخ من عائلة الشيخ عبد القادر الجيلاني ينتظر لمقابلته، وحضر معه جابي الضرائب بدمشق ومسؤولان آخران أيضا. فسألوا بعض الأسئلة بكل أدب ولباقة، وكانوا يبدون القناعة بالردود التي كان يتفضل بها سيدنا الخليفة الثاني . دار الحديث بينهم قرابة نصف ساعة حتى جاء شخص آخر لم يكن يعرف ما دار بينهم، فبدأ يطرح على حضرته أسئلة ذات نبرة شديدة مثل: ما الغرض مِن أن يأتي نبي أو رسول جديد؟ هل بدأ الفساد يظهر في أعمالنا وتجاراتنا وملابسنا؟ فقال حضرته : إن الفساد ليس باديا ظاهرا، بل فسدت قلوب المسلمين، وفسدت معتقداتهم. لم يبق فيهم احترام لشعائر الله تعالى، لا يداومون على الصلاة، ولا يؤدون الزكاة، ولم يبق فيهم من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه. فقال الرجل: في مدينة دمشق وحدها نجمع 75 ألف روبية من الزكاة (لعل الراوي حوّل المبلغ المذكور من العملة المحلية إلى الروبية أو ذكر خطأ روبية بدلاً من اسم العملة المحلية). فقال حضرته: لا تؤدونها بطيب الخاطر، بل تُسلب منكم. وبغض النظر عن كل ذلك فلا يسعني أن أصدّق بأن هذا القدر الكبير من المال يجمع زكاةً في مدينة واحدة، لأنه إذا كان ذلك صحيحا فلا يمكن أن تعاني المدينة من فقر، ولا من ضعف مادي. فأين تذهب تلك الأموال إذن؟

لقد بالغ الرجل كثيرا واعتبر المحاصيل والضرائب من الزكاة، ولذلك قال له الخليفة : “لا تؤدونها بطيب الخاطر، بل تُسلب منكم.” فشرح له جابي الضرائب وقال: هو بالضبط كما يقوله حضرته. ثم قال له مشيرا إلى حضرته : إن هؤلاء يبذلون أموالهم ونفوسهم في سبيل الإسلام، ويتحملون عناء الابتعاد عن أوطانهم ويكابدون المصائب ويواجهون المشاكل، فحريّ بنا أن نتكاتف معهم ونساعدهم في أعمالهم. وينبغي علينا الانضمام إلى هذه الجماعة مهما كانت الظروف. فتأثر الرجل كثيرا، وبدأ يتحدث بأدب واحترام.

ثم سأل الشيخُ الذي كان من عائلة الشيخ عبد القادر الجيلاني، وفي رواية كان السؤال من الحاضرين الأربعة أو الخمسة: لماذا لم ترسلوا بعد دُعاتَكم إلى هذه البلاد؟ ولماذا لم تُصدروا جرائدكم ومجلاتكم هنا؟ فقال حضرته: أريد أن أرسل هنا داعيتنا بأسرع ما يمكن، وبعد ذلك سوف نصدر من هنا الجرائد والمجلات أيضا. وإننا على يقين وعندي أمل قوي بفضل الله تعالى أن جماعاتٍ ستنضم إلينا قريبا في هذه البلاد، لأن الحق معنا وخرجنا لنشر الحق. فقالوا: أَسرِعوا في إرسال داعيتكم إلى هنا، فهناك جماعة كبيرة منا مستعدة للانضمام إليكم. (“سفر يورب” ص58 وجريدة الفضل عدد 4 سبتمبر 1924 ص7)

عزم قوي لفتح دمشق

بينما كان هؤلاء يتجاذبون أطراف الأحاديث إذ حضر الشيخ عبد القادر المغربي، وكان شخصية دينية ومثقفة ومعروفة في أوساط أدبية في دمشق، وكان الحماس المفرط والمناقشة الحادة سمة غالبة في كلامه. وبقدومه غادر مَن كان عند حضرته إلا الشيخ من عائلة الشيخ عبد القادر الجيلاني.

فطرح الشيخ المغربي على حضرته عدة أسئلة وتلقى منه ردودا مفحمة عليها، ومع ذلك قال: نحن العرب، ونحن أصحاب اللغة، ونفهم القرآن جيدا، من ذا الذي يفهم القرآن أكثر منا؟ فرد عليه حضرته بنوع من الشدة وقال: من أنتم حتى تقولوا ذلك؟ أنتم لا تتكلمون بلغة القرآن، وتحتاجون إلى المعاجم كما نحتاجها نحن. أما نحن فقد علَّمَنا الله تعالى القرآن الكريم وكشف علينا أسراره وغوامضه. ورغم أننا نتكلم فيما بيننا بالأردو ولا تتاح لنا فرصة التحدث بالعربية، إلا أن لغتنا أفصح وأبلغ من لغتكم.

لقد تكلم حضرته بكل حماس حتى اضطر الشيخ من عائلة الشيخ عبد القادر الجيلاني لأن يقول: بالفعل إن لغة حضرته فصيحة بل هو أفصح منا لغة. فهدأ الشيخ المغربي قليلا والتزم الأدب والاحترام بعد ذلك في كلامه. فأخبره حضرته أننا في قاديان نعلّم العربية حتى نساءَنا وأولادنا، ونريد أن تصبح العربية لغتنا الثانية.

وبعد العودة قرر حضرته نشر تعليم اللغة العربية في قاديان على نطاق واسع، وقال: ينبغي على أفراد جماعتنا أن يتزوجوا من العربيات ويساهموا في نشر اللغة العربية.

لقد جرى الحديث مع الشيخ عبد القادر المغربي حول “ختم النبوة” ونبوة سيدنا المسيح الموعود أيضا. فلما أخرج حضرة الخليفة المصحف وقدم بعض آياته دليلا على صدق موقفه، قال الشيخ: ليس كافيا لحل قضية من القضايا أن يمسك أحد القرآن ثم يقول ما شاء، بل ينبغي أن يقدم ما ورد في التفاسير -ولعله ذكر تفسير معالم التنـزيل كمثال- فرد عليه حضرته بحماس: لقد كنت تتفاخر بالعلوم القرآنية وتدعي أنكم العرب وأصحاب اللغة، وتعرفون القرآن جيدا، فما قيمة تلك التفاسير إذا كانت دعواكم صحيحة؟ فنسي الشيخ فصاحته، وبدأ الكلام بالعامية، وأخذ يستعطف مَن حوله بقوله: “شُوف شو بيقول؟”

يقول الأستاذ عبد الرحمن القادياني الذي كان حاضرا في هذا المجلس: لقد أزاح الشيخ المغربي عمامته عن رأسه ثلاث مرات ليجفف عرقه، ثم قال: هناك أخطاء لغوية في كتب مؤسس الأحمدية. فرد عليه حضرته بجواب مفحم وقال: أعلنْ عن هذه الأخطاء الآن، واكتبْ ردًّا على هذه الكتب، وانشرْه إذا كنت تقدر على ذلك، ولكنك لن تستطيع ذلك أبدًا، وإذا أمسكتَ القلم للكتابة، فستُسلَب منك القدرة على الكتابة. جرّبْ ذلك إذا أردتَ.

فغيّر الشيخ المغربي نبرته ورجا حضرته ألا ينشر دعاوي حضرة المسيح الموعود في مصر والشام والبلاد العربية الأخرى، فإن ذلك سيؤدي إلى توسيع فجوة الاختلاف بين المسلمين، بل يكتفي بتبليغ الدعوة بين الكفار ونصارى أوروبا وأمريكا وأفريقيا، ويرسل الدعاة إليهم فقط، بدون ذكر هذه المعتقدات، وكان المغربي يقبِّل يدي حضرته ويكرر مرة بعد أخرى الجملة التالية: “أنا أرجوك يا سيدي”. وكان يقول: نحن نعلم أن سيدنا أحمد كان رجلا صالحا وغيورا على الإسلام، غير أننا لا نؤمن بنبوته أو رسالته، فأرجوكم أن تجمعوا الناس على “لا إله إلا الله” فقط.

فرد عليه حضرته بصوت جهوري: لو كان هذا من تدبيرنا لتركناه بقولك، لكنه أمر إلهي، ولا دخل لنا فيه ولا لسيدنا أحمد ، ولا بد أن نبلغه وسوف نبلّغه حتما، ولن نبرح الأرض حتى نحقق ما نؤمر به. إنكم تخوّفوننا من المصاعب والمصائب والمعارضة، ولكننا لا نبالي بذلك ولو قام العالم كله لمعارضتنا. سوف نبلغ الحق ولو عارضتنا آسيا وأوروبا وأمريكا وأفريقيا كلها، ولو قُتلنا في هذا السبيل. لقد قَتَلَتْ “كابول” أصحابنا، ولكننا لم نتخلّ عن التبليغ ولن نتخلى عنه أبدا. أأنتم أعلم أم الله؟ إن الله أعلم بما هو في صالح المسلمين. ولا شك أن ما اختاره الله تعالى للمسلمين وإصلاح أحوالهم هو الطريق القويم والسليم. فإذا قبلتم فبها ونعمت، أما إذا رفضتم فاشهدوا أننا قد أدَّينا واجبنا. ولئن رفضتم ذلك فسوف ترون بأم أعينكم أن الله تعالى سيعطينا في هذه البلاد جماعة تبلغ الآلاف. ولا تساوي مخالفتكم ومعارضتكم شيئا أمام إرادة الله تعالى.

بعد هذه الكلمة التي ألقاها حضرته بكل حماس هدأ الشيخ عبد القادر المغربي كثيرا وقال: إني أعترف بثباتكم وعزمكم الصميم، بارك الله لكم، ولكنني مع ذلك أقول ألا تنشروا هذه الأفكار هنا ولا تذكروها عند أحد، ثم قام وانصرف.

وجاء الشيخ المغربي مرة أخرى، فأخبره حضرته أنه قرر إرسال حضرة زين العابدين ولي الله شاه داعيتنا في دمشق، ففرح الشيخ بذلك وقال إني أعرفه جيدا، لأنه كان زميله في كلية صلاح الدين الأيوبي في القدس.

وقال حضرته : لا شك أننا سنواجه معارضة شديدة في دمشق، ولكننا سنحرز هنا نجاحا بارزا وكبيرا بإذن الله تعالى.

لقد تحدث الخليفة الثاني فيما بعد عن لقائه مع الشيخ عبد القادر المغربي فقال:

“خلال زيارتي لدمشق جاء للقائي السيد عبد القادر المغربي الذي كان رئيسا لمجلس الحركات الإسلامية هناك، فقال لي خلال حديثه إن المسلمين الهنود جهلةٌ عموما، ولا يعرفون الإسلام ولا القرآن، وقد نشرتم دعوتكم في مثل هؤلاء الناس مستغلّين جهلهم، أما العرب فإنهم يعرفون لغة القرآن الكريم ويعلمون ما يأمر به القرآن وما يقوله الإسلام، لذلك أنصحكم ألا تذكروا هنا اسم جماعتكم، واعلموا أنه لا يمكن لعربي أن يقبل دعوتكم. فقلت له: سأرسل إلى هنا داعيتنا فور عودتي إلى بلادي، ولن أبرح هذه البقعة حتى يدخل في جماعتنا عدد لا بأس به من سكانها. وفور عودتي إلى الهند أوفدتُ بعض دُعاتنا إلى هذه البلاد. ولقد دخل حتى الآن في جماعتنا بعض الأطباء الكبار والمحاميين والمثقفين الآخرين الذين ينفقون آلاف الروبيات في سبيل نشر الإسلام والأحمدية.” (أنوار العلوم ج7 ص 175)

رجل من حماة

زار حضرتَه مسلم من حماة مع بعض المسيحيين، فألحّوا في طلب كتب الجماعة، فأعطى حضرته أحد المسيحيين منهم ترجمة كتاب “فلسفة تعاليم الإسلام”، فقام المسلم وقال: لقد أعطيتم النصارى كتابا، ولم تعطونا نحن المسلمين شيئا ونحن أحق به. فاعتذر حضرته وقال لدينا عدد ضئيل من الكتب وسيصلك الكتاب من مصر لاحقا، ولكنه أصر وبدأ يسأل إلحافا، فأعطاه حضرته كتابا، ففرح كثيرا وراح يُريه الناس. ثم قام وقال بكل أدب: سيدي، وجدتك خادما للدين. لمستُ فيك غيرة على الإسلام لم أر مثيلها في أحد قط. فمبارك لك، وأدعو لك أن يكون الله معك ويبارك في عملك. إنني آمنت، وأرى أن جميع الدعاوي التي ذكرتها حق، وسوف أسعى جاهدا لأنشر هذه التعاليم فيمن حولي.

محرر جريدة من حلب

كان محرر إحدى الجرائد العربية مِن حلب يقيم في فندق سنترال، وكانت غرفته قرب غرفة الخليفة الثاني ، فظل يراقب الأوضاع ويستمع إلى كلام حضرته من بعيد مدةَ يومين، ثم تقدم بنفسه في 7 أغسطس/آب وقت العصر، ووجه إلى حضرته عدة أسئلة وناقشه في مواضيع تهمّه، ثم وصل إلى النتيجة التالية حسب قوله: لا تقدر السياسة أن تجمع المسلمين على يد واحدة، لأن سياسة مسلمي الهند مختلفة جدا ولا علاقة لهم بسياسة الشام مطلقا، وسياسة الحجاز أيضا ذات صبغة مختلفة عن سياسة مسلمي الصين، فبما أن المسلمين يقطنون بلادا مختلفة ويعيشون تحت أنظمة حكم مختلفة، لذلك من الصعب جمعهم على يد واحدة باسم السياسة. غير أنه من الممكن أن يجتمع المسلمون في العالم أجمع باسم الدين. ثم بدأ يسأل عن الجماعة، فأمر حضرته الحافظَ “روشن علي” ليردّ على أسئلته، ويزوده بما يريده من معلومات عن الجماعة.

زيارة زاوية الهنود

دعا بعض الصوفية حضرته لزيارة زاوية في دمشق تسمى زاوية الهنود. فذهب للاطلاع على طريقتهم. فلما وصل حضرته إليهم كانوا قد أنهوا مراسم ذكرهم، ولكنهم استعدوا للقيام بها مرة أخرى. استقبل شيخهم الكبير حضرتَه على باب الزاوية، ثم جلسوا قليلا في الباحة حتى دخلوا المسجد الذي كان يتوسطه قبر. جلس شيخهم في المحراب وأحاط به الدراويش بشكل دائري وبدأوا ذكرهم بترديد: الله الله. وبعد الانتهاء من الذكر جلس الجميع في الباحة، حيث أخبرهم الخليفة الثاني عن دعوى سيدنا المسيح الموعود وأتم الحجة عليهم.

زيارته للجامع الأموي

قام حضرته بزيارة الجامع الأموي يوم الجمعة مرورا من السوق المجاورة المكتظة بالناس، وخلال سيره إلى الجامع كان بعضُهم يتقدم للتعرف على حضرته. ولما دخل حضرته الجامع وعاينَ سعته قال: لا شك أن الصحابة قد صلّوا في هذا المسجد، ويمكن للإنسان أن يفهم -نظرًا إلى سعة بناية المسجد- أن عددا كبيرا من المسلمين في تلك العصور كانوا ملتزمين بالصلوات. ثم سأل حضرته عن عدد الذين يمكنهم الصلاة في المسجد في وقت واحد، فقيل له قرابة خمسة عشر ألفا.

كان للجامع منارتان: إحداهما في ناحية الشمال والأخرى في الشرق. كان الأذان يرفع من المنارة الشمالية، أما الشرقية فكانت مغلقة لا يسمح بالصعود عليها، لأن المسيح سوف ينـزل عليها حسب المعتقد السائد لدى البعض، ولذلك يُمنَع الناس من الصعود عليها. لم تكن أيٌّ من منارتَي الجامع الأموي بيضاء.

تحقق نبأ نزول المسيح

عند المنارة البيضاء

لقد ورد في حديث الدجال قولُ النبي :

“فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ.”(مسلم، ذكر الدجال وصفته وما معه)،

وقد قال المسيح الموعود في شرح هذا النبأ وكيفية تحققه:

“ثم يُسافر المسيح الموعود أو خليفة من خلفائه إلى أرض دمشق، فهذا معنى القول الذي جاء في حديث مسلم أن عيسى ينـزل عند منارة دمشق، فإن النـزيل هو المسافر الوارد من مُلك آخر. وفي الحديث.. يعني لفظ “المشرق”.. إشارة إلى أنه يسير إلى مدينة دمشق من بعض البلاد المشرقية وهو مُلك الهند… واختار ذكر لفظ المنارة إشارةً إلى أن أرض دمشق تنير وتشرق بدعوات المسيح الموعود بعدما أظلمت بأنواع البدعات، وأنت تعلم أن أرض دمشق كانت منبع فتن المتنصّرين.” (حمامة البشرى، الخزائن الروحانية ج7 ص 225)

لقد سأل الخليفة الثاني المشايخ والزوار عن المنارة البيضاء التي سوف ينـزل عليها المسيح، فكانوا يردون بأجوبة مختلفة، ولكن الحقيقة التي اعترف بها الجميع هي أنه لم تكن في ذلك الوقت في دمشق وما حولها منارة بيضاء مشهورة بين الناس بأن المسيح سوف ينـزل عليها، كما أن المنارات التي يشير إليها الناس أن المسيح سوف ينـزل عليها لم تكن بيضاء.

ثم حدث أمر عجيب يذكر حضرته بنفسه تفاصيله فيقول:

“ثم صار أمر المنارة البيضاء أيضا عجيبا. كان هناك شيخ يدعى عبد القادر المغربي وكان من أصدقاء السيد ولي الله شاه، سألته أين هي تلك المنارة التي سوف ينـزل عليها عيسى برأيكم؟ فقال إنها إحدى منارات الجامع الأموي، بينما قال شيخ آخر إنها في حي المسيحيين، وقال غيره: سوف ينشئها عيسى بنفسه بعد نزوله. فاحترنا في الأمر وتساءلنا أين تكون هذه المنارة ولا بد أن نراها قبل عودتنا. وصليت الفجر جماعةً مع السيد ذو الفقار علي خان والدكتور حشمت الله، أي كان وارئي مصليان اثنان فحسب، فلما سلمتُ رأيت أمامي منارة ولم يكن بيننا وبينها سوى الشارع العام. فقلت ها هي تلك المنارة وها نحن في الجهة الشرقية منها. فلم تكن هناك منارة بيضاء إلا هي، لأن منارات الجامع الأموي كانت بلون يميل إلى الأزرق. فلما رأيت هذه المنارة ثم رأيت أنه ليس معي سوى مصليين اثنين قلت: لقد تحقق ذلك الحديث النبوي الشريف. (تلخيصا من تاريخ الأحمدية ج4 ص 438 إلى 443، وأنوار العلوم ج 8 “دوره يورب” أي جولة أوروبا)

هذه المنارة البيضاء التي رآها حضرته بعد الصلاة كانت لجامع “سنجقدار” الواقع قرب فندق “سنترال”، ولا يزال الجامع موجودا في مكانه والمنارة موجودة أيضا.

لقاء مع حاكم الشام

ذهب حضرته للقاء حاكم الشام “صبحي بيك” الذي كان مسلما عربيا ورجلا ذكيا ومتفاهما. تكلّمَ حضرته معه عن الأحمدية وقال له: “أريد إرسال الدعاة إلى الشام، فهل هناك مانع قانوني أو اعتراض عند الحكومة على هذا الأمر؟ وإن لم يكن ثمة مانع فهل بإمكانكم مساعدتنا في هذا الأمر؟ ولا نريد منكم سوى المساعدة الأخلاقية”. كان بعض المشايخ وبعض الرجال الكبار أيضا جالسين وقتئذ لدى الحاكم، فلما سمعوا كلام حضرته أثاروا ضجة قائلين: لا تدَعوا هؤلاء يدخلون بلادنا. فقام رجل منهم وكان على ما يبدو يشغل منصبا مرموقا فقال للمشايخ بكل حماس: تسمحون للمسيحيين والبابيين أن يدخلوا إلى هنا وتدَعون سمومهم تنتشر في بلادنا، ولكن لا تسمحون لجماعة خرجوا من ديارهم لخدمة دين الإسلام بأموالهم ونفوسهم، ولا يسألونكم شيئا بل يقومون بخدمة الإسلام بلا أدنى مقابل؟

كانت كلمته تفيض بالحماس، فسكت الجميع. فأيده الحاكم وقال: هل تستطيعون أن تمنعوا هؤلاء إذا أرادوا إنشاء مدرسة هنا ونشْر أفكارهم من خلالها؟ إن المسيحيين ينشرون أفكارهم من خلال مدارسهم وجرائدهم، ولكنكم لا تبالون بهم، ولكن إذا أرادت جماعة من خدام الإسلام أن ينـزلوا في بلادكم تسعون لعرقلة سبيلهم. ثم قال الحاكم لحضرته : ابعثوا المبلغين والدعاة إلى هذه البلاد فسوف نقدم لهم كل ما في وسعنا، وإن تعرض أحدهم لهجوم من قبل بعض الناس فسوف نقوم بحمايتهم ومساعدتهم، ولكن إذا تفاقم الأمر وخرج عن سيطرتنا فسنقول لكم بكل صراحة: دَبِّروا الوضع بأنفسكم.

كان اللقاء مع الحاكم طويلا، وجرى الحديث في جوّ ودّي، وطلب الحاكم كتب الجماعة، فأعطاه حضرته الترجمة العربية لكتاب “فلسفة تعاليم الإسلام”.

توافُد الناس

جاء السيد عبد الرحيم أفندي مدير دائرة البريد بعد الظهر لزيارة الخليفة ، وقال بعد اللقاء إنه مقتنع بهذه الأفكار ومستعد للانضمام إلى هذه الجماعة.

وجاء أصحاب الجرائد والصحف وغيرهم من المثقفين وقابلوا حضرته وناقشوا معه أمورا كثيرة. بدأت الصحف والمجلات تنشر مقالات عن الجماعة، وانتشر الخبر في المدينة كلها، مما أدى إلى كثرة الزوار، وبات الفندق مكتظا بالناس. فانزعج صاحب الفندق من هذا الوضع، وقال إن زبائنه الآخرين ينـزعجون من كثرة الزوار. وفي 19 أغسطس/ آب زاد عدد الزوار لدرجة أن أغلق صاحب الفندق بابه ووضع عليه حراسا، ولكن الناس توافدوا بالعشرات، وكان منهم بعض المشايخ الذين قالوا يجب أن يُمنحوا فرصة للتحدث مع حضرته ولو لعشر دقائق. كان المشهد رائعا حقًا، فقبْلَ يومين أو ثلاثة لم يرض هؤلاء المشايخ أن يخرجوا من بيوتهم للقاء حضرته ، أما الآن فقد تغيرت الأمور كثيرا وتوافد هؤلاء الناس إلى باب حضرته ينتظرونه ليخرج إليهم فينظروا إلى وجهه، أو يعطيهم فرصة التحدث إليه. وكان من بينهم الشيخ توفيق أفندي الأيوبي، الذي التمس لقاء الخليفة لبضع دقائق بينما كان حضرته في لقاء مع بعض المشايخ الآخرين في الطابق العلوي من الفندق. ازدحم الناس كثيرا أمام باب الفندق، فجاءت الشرطة ومنعتهم من الدخول إليه. دخلت الشرطة الفندق، وخلال ذلك بدأ الشيخ توفيق الأيوبي يخطب في الناس المحتشدين، فطلب منه أحدهم أن يسكت لأن الناس أتوا ليسمعوا كلام الضيوف الأجانب، أما كلام الشيخ توفيق فسوف يسمعونه في أي وقت آخر. غير أن الشيخ توفيق واصلَ الكلام وأراد أن يشوه سمعة الجماعة وإمامِهم وتحولَ الأمر إلى نقاش وجدال، فتدخلت الشرطة وفرّقت الناس بحجة أن هذا المكان ليس مناسبا للنقاشات الدينية.

وقد ذكر حضرته نفسه بعض تفاصيل هذه الأحداث فقال:

“في بداية وصولنا دمشق لم نجد مكانا للإقامة، ثم توفّر ذلك بصعوبة بالغة، غير أن الناس لم ينتبهوا إلينا حتى بعد مضي يومين كاملين. فقلقتُ بطبيعة الحال ودعوت الله تعالى وقلت: يا رب كيف سيتحقق النبأ عن دمشق في مثل هذه الظروف، إذ ليس المراد من النبأ أن ندخل دمشق ونرجع منها كما أتينا، فاكتب لنا الفوز والنجاح بفضلك. ولما نمتُ بعد هذا الدعاء جرت الكلمات التالية على لساني ليلا: “عبد مكرم”…. وفي صباح اليوم التالي صار الناس يقصدوننا بكثرة حتى كان عدد المنتظرين من الصباح حتى منتصف الليل أمام باب الفندق الذي أقمنا فيه يبلغ 200 شخصًا وحتى 1200 شخص في بعض الأحيان. فخاف صاحب الفندق من أن يؤدي هذا الوضع إلى فتنة، كما حضرت الشرطة أيضا وقال الضابط: هناك خطر كبير لحدوث فتنة. فخرجتُ ووقفت أمام جمع من الناس لأُثبِتَ له أن الناس لا يأتون بنية الفساد والفتنة، فتفوهَ بعضهم بالشتائم، غير أن معظمهم قد أبدوا حبًا واحتراما كبيرين، وكانوا يسلّمون ويقولون: هذا ابن المهدي. ومع كل ذلك قالت لنا الشرطة أن ندخل الفندق ونجلس هناك، لأن السيطرة على الوضع هي مسؤوليتهم. وهكذا أغلقوا علينا أبواب الفندق. فاتصلنا بالقنصلية البريطانية*، وفي النهاية تقررَ أن يدخل الناس في الفندق للقائنا بعد أخذ الإذن من المسؤولين، وهكذا حُلّت المشكلة….”

لقد أقام حضرته في غرفة رقم 25 في فندق سنترال بدمشق، غير أن الغرفة التي كان يجلس فيها كثيرا ويتناول طعامه ويلتقي فيها مع الناس كانت هي الغرفة رقم 23، وهي الغرفة نفسها التي كانت شرقي المنارة البيضاء المذكورة.

يسوع المسيح وحواريوه

يقول حضرته :

“كان لقاء الزوار عجيبًا، إذ كان من بينهم طلاب جامعات وأساتذة، وكانوا يحملون دفاترهم، وما تلفظتُ بكلمة إلا وكانوا يكتبونها، وإذا فاتتهم كلمة كانوا يقولون: على مهلك يا أستاذ، فقد فاتتْنا كلمة. فكأن الوضع يصوّر لنا مشهدا مذكورا في الأناجيل حيث ورد أن الناس خاطبوا المسيح بقولهم يا معلّم، يا معلّم.”

أقول: لم يكن حضرته وحده الذي شعر بأن الوضع المذكور يشبه وضع المسيح بين حوارييه، بل في بداية هذه الرحلة وتحديدا في 20 يوليو/تموز 1924 وعندما كان حضرته على متن الباخرة وقد صلّى مع رفقائه صلاة العصر جماعة.. وكانوا لا يزالون على المصلى بعد أداء الصلاة إذ أشار إليهم طبيب الباخرة وقال:

Jesus Christ and twelve Disciples

أي يسوع المسيح وحواريوه الاثنا عشر.

كان هذا الطبيب من إيطاليا واسمه “مينغلي”.

وحدثَ أمر مماثل في لندن التي كانت المحطة الأخيرة من هذه الرحلة التاريخية، حيث ذكر رجل إنجليزي أنه قد رأى في المنام أن المسيح قد أتى إلى هنا مع حوارييه الاثني عشر، ثم قال: وأرى بعد اللقاء بكم أن رؤياي قد تحققت اليوم. (تلخيصا من تاريخ الأحمدية ج4 ص 437 إلى 448، وأنوار العلوم ج 8 دوره يورب أي جولة إلى أوروبا)

مغادرة دمشق

غادر حضرته دمشق يوم 10 أغسطس/آب ووصل إلى بيروت حيث أقام في فندق “سنترال” في غرفة رقمها 39. ثم توجه من هناك إلى بور سعيد مرورا من حيفا وعكا، حيث سافر بالباخرة من بور سعيد إلى لندن.

الزيارة الثالثة

لقد شرف الخليفة الثاني للمسيح الموعود والإمام المهدي بلاد العرب مرة ثالثة حين سافر إلى أوروبا بُغية العلاج في عام 1955.

قال حضرته قبيل هذه الرحلة التاريخية في خطبة الجمعة يوم 23 إبريل 1955:

تعرضت البارحةَ لمعاناة شديدة…. فلما أفقتُ قليلا شعرت برغبة في قراءة التذكرة – مجموعة لإلهامات المسيح الموعود – ففتحته وبدأت أقرأ فيه من أحد المواضع دون أي تحديد، فإذا بإلهامات تحتوي على أنباء عن مرضي وسفري إلى الشام، كما احتوى بعضها على نبأ دخول اليهود إلى أراضي فلسطين في الزمن الأخير بمساعدة  الإنجليز. كما علمت من هذه الإلهامات أن دخول اليهود في هذه البلاد سيكون ضارا بالمسلمين عموما والعرب خصوصا. ولكني علمت منها أيضا أن الله تعالى بعد مدة سوف يزيل هذه المخاطر، ثم يأتي النصر من عند الله تعالى إلى تلك البقاع. ثم فهمت منها أن الله تعالى سوف يرسخ أقدام الجماعة في البلاد العربية…. ولكن بما أن إلهامات حضرته تحتوي على أخبار منذرة أيضا لذلك على الأحبّة أن يواظبوا على الدعاء. (تاريخ الأحمدية ج 4 ص497)

لقد بدأ حضرته رحلته هذه في ليلة 30 إبريل/نيسان 1955 من كراتشي، وكان يرافقه فيها زوجتاه السيدة أم متين والسيدة مهر آبا وبنتاه أمة الجميل وأمة المتين، ونجل حضرته الدكتور ميرزا منور أحمد، والسير شودري محمد ظفر الله خان.

في دمشق مرة ثانية

هبطت الطائرة في مطار دمشق يوم السبت في 30 إبريل/نيسان 1955، حيث استقبله أفراد جماعة الشام بحفاوة بالغة وأبرزهم الأخوانِ السيد منير الحصني والحاج بدر الدين الحصني، كما استقبلتْ سيداتٌ من عائلة الحصني في المطار السيداتِ من عائلة حضرة الخليفة الثاني . ثم توجه الجميع إلى دار الأستاذ بدر الدين الحصني التي كانت قد جُهّزت خصيصا لإقامة حضرته والوفد المرافق له، كانت إقامة حضرته في الطابق العلوي من هذه الدار.

ورغم الإرهاق الشديد الذي أصاب حضرته خلال السفر، إلا أنه لما جاء لصلاة الظهر جلس ساعتين تقريبا مع الأحمديين المحليين، وتكلم معهم في مختلف الأمور.

في الأول من مايو/أيار 1955ذهب حضرته مع أهله إلى حديقة المنشية الواقعة على بُعد ثلاثة أو أربعة أميال من مدينة دمشق. ثم عاد وصلى بالناس صلاة الظهر والعصر جمعًا، بعدها شرف الحضورَ بالمصافحة.

حضر الدكتور يوسف الموصلي لفحص حضرته في حوالي الخامسة والنصف مساء، وقال بعد الفحص إن علاجه الحقيقي هو الراحة التامة.

في اليوم نفسه التقاه الداعيةُ الشيخ نور أحمد منير مع بعض الإخوة من لبنان يلتمس من حضرته زيارة بيروت أيضا ليشرف الإخوة الأحمديين هناك بلقائه. فوافق حضرته على الطلب.

كتب حضرته رسالة إلى أخيه ميرزا بشير أحمد ذكر فيها بعض انطباعاته عن رحلته هذه، نقتبس منها قوله:

“لقد أخلى لنا الأخ بدر الدين الحصني بيته بكل إخلاص ومحبة، ونحن جميعا الآن نقيم فيه. إن هذه العائلة تخدمنا بمحبة يندر لها نظير في باكستان. إن أخي السيد بدر الدين الحصني تاجر كبير في الشام وهو مفعم بمشاعر الخدمة بحيث يبدو من شدة إخلاصه أنه خادم أكثر منه رئيس…. دُعي طبيب خبير هنا ليفحصني، ونظرًا إلى الفحص الذي قام به علمت أنه خبير حقا…. وأخبرني (الدكتور) منور أحمد أنه لما أراد دفع أجرة الفحص منعه السيد منير الحصني قائلا إنه طبيبنا العائلي وندفع له سنويا…. هو الله الذي خلَق مثل هذا الحب في القلوب إذ إنه ليس بوسع الإنسان مطلقا.”

في 3 مايو/أيار 1955 أعلن حضرته بعد صلاة الظهر عقد قران السيد سعيد القباني على نجمية (بنت حسن الجابي المرحوم) على مهر مقدَّم قدره ألف ليرة سورية ومؤجل خمسمئة ليرة سورية، ثم دعا لأن يبارك الله تعالى هذا القران.

بعد ذلك جلس حضرته مع الإخوة الأحمديين وتكلم معهم باللغة العربية. قال أحد الإخوة: سيدي، كنا نتمنى أن نتمتع بزيارة حضرتكم، ولكن الظروف لم تكن تسمح لنا بذلك، ولكن الله تعالى أكرمنا إذ جاء بحضرتكم إلينا.

تطرق الحديث عن العطور العربية، فقال حضرته: لقد ذُكرتْ العطور الدمشقية كثيرا في كتاب “ألف ليلة وليلة”، فقال الإخوة: بل العطور الفرنسية تُعتبر أفضل جودة هنا الآن؛ إلا أن عطر الورد والياسمين يوجد هنا بأفضل أنواعه.

وبينما كان حضرته في الحديث حول العطور المختلفة إذ أرسل الحاج بدر الدين الحصني أحدا، فجاء بعطور مختلفة خلال دقائق، فشمّها حضرته وقال إنها ليست نقية، بل أضيفت إليها مواد كيماوية.

كان العَشاء في بيت المرحوم السيد عبد الرؤوف الحصني حيث كان ابنه السيد نادر الحصني نموذجا حسنا للإخلاص والوفاء. وبعد أن فرغ حضرتُه من تناول العَشاء قام بالدعاء. ثم قرأ عليه السيد نور الدين الحصني الأخ الأصغر للسيد نادر الحصني سورة الضحى قراءة جميلة.

في 5 مايو/أيار 1955 بعد الظهر والعصر سأل حضرتُه السيدَ رشدي البسطي عن بعض الأمور المتعلقة بالبهائيين. وكان العَشاء في ذلك اليوم عند السيد منير المالكي، واشترك فيه عدد من الإخوة الأحمديين أيضا.

صادف السادس من مايو/أيار 1955 يوم الجمعة، وكان حضرتُه قد قرر السفر إلى بيروت يوم السبت، لذلك توافد الأحمديون إلى مقر حضرته يوم الجمعة. وهنا أيضًا نال الحاج بدر الدين الحصني شرفًا عظيمًا حيث ألقى حضرته خطبة الجمعة وصلّى في بيته. لقد ألقى حضرته الخطبة باللغة العربية الفصحى وقال فيها: قبل أكثر من نصف قرن من الزمان حين لم يكن قد وُلد أكثر الموجودين منكم قد أوحى الله تعالى إلى المسيح الموعود : “يدعون لك أبدال الشام وعباد الله من العرب.” ولقد تحقق هذا الوحي اليوم بوجودكم هنا.

جلس حضرته بعد الصلاة قليلا حيث تلا السيد محمد زكي بعض الآيات من القرآن الكريم، ثم أنشد السيد محمود الرباني قصيدة عربية للمسيح الموعود ، ثم أنشد السيد إبراهيم الجبّان قصيدته التي نظمها في مدح الخليفة الثاني المصلحِ الموعود .

أقامت جماعة الشام مأدبة عشاء على شرف حضرته في زاوية الحصني في الشاغور، غير أن حضرته لم يستطع الحضور لاعتلال صحته. كان الإخوة متشوقين جدا للقاء إمامهم، فتوجهوا إلى مكان إقامته بعد العشاء، فجلسوا عنده، فشرّفهم بالمصافحة والمعانقة.

دعاء لأفراد جماعة الشام

لقد كتب حضرة المصلح الموعود قبل مغادرته دمشق في سجل الزوار لجماعة الشام الكلمات التالية بخط يده المباركة:

“يرحمكم الله ويبارك فيكم وفي كل أعمالكم وأشغالكم.”

في بيروت

بعد إقامته في دمشق مدة أسبوع تقريبا سافر بالسيارة في 7 مايو 1955 إلى بيروت، فرافقه عدد من الأحمديين من دمشق وإليكم أسماؤهم:

السيد منير الحصني، المحامي محمد الشوّا، سعيد القباني، علاء الدين نويلاتي، زكريا الشوّا، سليم حسن الجابي، نادر الحصني، إبراهيم الجبّان، ومحمد زكي.

قررتْ جماعة لبنان أن تستقبل إمامهم خارج المدينة، فتقدموا إلى منطقة “عاليه” التي كانت تبعد عن بيروت حوالي اثني عشر ميلا. وإليكم أسماء هؤلاء المحظوظين الذين خرجوا لاستقبال حضرته: الشيخ نور أحمد منير الداعية الإسلامي الأحمدي في لبنان، محمد توفيق الصفدي السكرتير العام للجماعة، الشيخ عبد الرحمن البرجاوي، عدنان الحصني، ميرزا جمال أحمد، أبو الوليد شهاب الدين.

في الواحدة والنصف ظهرا وصل حضرته إلى دار الأخ محمد درجناني التي قد جُهّزت لإقامة حضرته. وكان الإخوة الأحمديون من طرابلس وبرجا قد جاءوا مع أهلهم وأولادهم لاستقبال حضرته واللقاء به، فما أن وصلت سيارته حتى هتفوا بصوت عال: جاء مولانا الخليفة، أهلا وسهلا ومرحبا.

بعد صلاة الظهر والعصر جمعًا عرّف الشيخُ نور أحمد منير أفرادَ جماعة لبنان على حضرته، ثم ألقى السكرتير العام محمد توفيق الصفدي كلمة رحب بها بالخليفة ، ثم أنشد السيد نجم الدين قصيدة، وبعد ذلك طلب الشيخ عبد الرحمن البرجاوي من حضرته الدعاء على حجر أساس للبناية المركزية للجماعة الإسلامية الأحمدية في برجا، فقام حضرته بالدعاء.

بعد صلاة المغرب والعشاء جمعًا شرف حضرته بعض الإخوة باللقاء، وكان من بينهم أحد المسيحيين وهو كميل شلهوب، فلما صافح حضرته قال لصديقه الذي أتى به إلى حضرته:

“والله لقد انشرح قلبي من زيارة هذا الرجل.”

والجدير بالذكر هنا أن السكرتير العام محمد توفيق الصفدي والسيد محمد درجناني قاما بحراسة مقر حضرته طوال الليل بكل إخلاص ومحبة.

وفي 8 مايو/ أيار1955 غادر حضرته بيروت بالطائرة متّجهًا إلى زيورخ، حيث ودعه أفراد الجماعة من لبنان ودمشق. (بتصرف من تاريخ الأحمدية ج 16 ص 499 إلى 511)

الفرق بين الأمس واليوم

لما زار حضرته دمشق في 1924 لم يكن فيها أي أحمدي، بل سبق أن ذكرنا أن الشيخ عبد القادر المغربي قال لحضرته : “نحن العرب، ونحن أصحاب اللغة، ونفهم القرآن جيدا، من ذا الذي يفهم القرآن أكثر منا، لذلك أنصحكم ألا تذْكروا هنا اسم جماعتكم، وتذكّروا أنه لا يمكن لعربي أن يقبل دعوتكم.” ولكن في الزيارة الثانية عام 1955 كانت هناك جماعة من المخلصين في استقبال حضرته، وكان الأحمديون يندفعون إلى رؤية وجه إمامهم. ذلك فضل الله تعالى. وصدق الله العظيم إذ قال:

لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ .

زيارة حضرة ميرزا ناصر أحمد للقاهرة

إضافة إلى زيارة الخليـفة الثاني لبلاد العرب فقد زار مصرَ نجـلاه ميرزا ناصر أحمد (الخليفة الثالث فيما بعد) وميرزا مبارك أحمد، وأيضًا ميرزا سعيد أحمد حفـيد ميرزا سلطان أحمـد بن سيدنا المسيح الموعود . نقدم فيما يلي بعض التفاصيل لزيارة هـؤلاء الكرام.

الزيارة الأولى

لقد بعث الخليفة الثاني نجله ميرزا ناصر أحمد وميرزا سعيد أحمد للدراسة في إنجلترا، ولما كانت مصر في طريقهما فنـزلا في القاهرة في 16سبتمبر 1934، حيث استقبلهما الداعية الكبير في فلسطين ومصر أبو العطاء الجالندهـري والسيد أحمد محمود ذهني.

قام الضيفان الكـريمان بزيارة المتحف والآثار القديمة والأهـرامات في القاهـرة. ثم أقام السيد محيـي الدين الحصـني على شرفهما مأدبةً دعا فيها جميع الأحمـديين في مصر وبعض الإخـوة من الشيعة وأهل الحديث والأحناف والمسيحيين والبهائيين. فرحب الإخوة الأحمديون في مصر بالضيـفين الكريمين ثم تصـوروا جميعا في نهاية هذه المأدبة.

نشرت جريدة “المقطم” القاهرية خبر ورود الضيفين الكريمين في القاهرة مع الصورة المذكورة. وبعد أخذ الصورة قرر الشيخ علي الأزهري والشاب التاجر السيد إبراهيم الانضمام إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية. واختتم هذا الاجتماع المبارك بكلمة قصيرة ألقاها ميرزا ناصر أحمد، ثم صافح الجميعُ الضيفين وودّعوهما ليتابعا سفرهما إلى إنجلترا.

(بتصرف من تاريخ الأحمدية ج 6 ص 191- 192)

زيارة أخرى

في عام 1938 أرسل الخليفة الثاني نجله ميرزا مبارك أحمد إلى مصر لدراسة اللغة العربية والبحث في مجال الدراسات الزراعية، ولمقابلة المثقفين والأدباء وزيارة المكتبات، وذلك حين أراد ميرزا ناصر أحمد العودة من إنجلترا. فسافر ميرزا مبارك أحمد من الهند في 29 يونيو 1938، بينما غادر ميرزا ناصر أحمد لندن في 21 يوليو 1938، فالتقيا في بور سعيد في 28 يوليو 1938 حيث استقبلهما السيد أحمد حلمي والسيد محيي الدين الحصني. ثم جاءا بالقطار إلى القاهرة، ولما وصلا إلى محطة القطار بالقاهرة استقبلهما الأحمديون في مصر بحفاوة بالغة.

لقد أقام الضيفان المحترمان في مصر ثلاثة أشهر تقريبا مما أتاح للأحمديين فرصة اللقاء بهما، فازدادوا إيمانا وإخلاصا وروحانية وتمسكا بالجماعة.

كان الأحمديون في فلسطين يريدون أيضا أن يأتوا لزيارة النجلين المحترمين ولكنهم لم يستطيعوا ذلك لأسباب قاهرة.

قابل حضرة ميرزا ناصر أحمد شيخَ الأزهر آنذاك الشيخ مصطفى المراغي، وذكر له عن بعثة سيدنا المسيح الموعود وقدم له أدلة من القرآن الكريم على صدقه، ولكن الشيخ لم يرد عليها برد علمي وإنما أراد الهروب بقوله: نحن أصحاب لغة القرآن، والقرآن نزل بلغتنا، لذلك فإننا أدرى بمعانيه.

ثم سلط حضرته الضوء على الجهود النبيلة التي بذلتها الجماعة الإسلامية الأحمدية لنشر الإسلام وتطرق إلى ذكر نتائجها الطيبة، فقال: إن رقي الإسلام منوط اليوم بنشره في العالم كله، وبأن ينهض كل مسلم باندفاع قوي لجمع الناس تحت لواء النبي .

 

ما هي خطتكم لنشر الإسلام في غير المسلمين؟

هذا هو السؤال الهام الذي وجهه حضرة ميرزا ناصر أحمد إلى فضيلة الشيخ مصطفى المراغي وجها لوجه. فقال الشيخ في الجواب ما يلي:

سُئل السيد جمال الدين الأفغاني: لماذا لا تذهب وتبشر في أهل الصين واليابان الذين يتجاوز عددهم عددَ جميع الشعوب أو الأقوام في أية بقعة من بقاع العالم؟ فردّ قائلا: ماذا عسى أن أقول لهم؟ وما الذي لا يملكونه حتى أطمّعهم فيه؟ أو ماذا أعرض عليهم وأقول لهم إنهم سيحظون به بعد اعتناقهم الإسلام؟ فإذا قلت لهم: إن أسلمتم فسوف تزدادون عددا ومالا، وتزدهرون سياسيا، أو ستُعدّون بعد إسلامكم أمةً تتمتع بالحرية والاستقلال، أو يزداد علمكم ويشحذ عقلكم، فسيردون عليّ لكونهم حائزين على كل هذه الأمور: لا نحتاج ما تدعونا لأجله إلى الإسلام إذ نتمتع به مسبقا. لذلك فلو سافرتُ إلى اليابان والصين وبشرتُ قاطنيهما لكان تبشيري بلا جدوى، بل على عكس ذلك يقولون لي: لو كان الإسلام حقيقة يحرر الأمم ويمنح الرقي العلمي لما كان المسلمون اليوم يعانون حالة يرثى لها.

بعد سرد هذه القصة قال الشيخ المراغي: هذا هو ردّنا اليوم أيضا، فلو قصدنا أوروبا وبشّرناهم لقالوا لنا: لا نحتاج إلى كل ما تقولونه بل نتمتع به دون أن نقبل الإسلام.

فقال حضرة ميرزا ناصر أحمد الذي كان – وقتئذ – لا يزال شابا في مقتبل العمر:

لا يهـدف الإسلام إلى هذا الرقي المؤقت فحسب بل يقدم الحياة الأبدية التي ليست أبدية في الدنيا فقط بل في الآخرة أيضا. وإن الرقي الروحاني الذي يقدمه الإسلام لا يساويه الرقي الدنيوي شيئا.

ثم ذكر حضرته بعض الإنعامات الربانية الخاصة بالإسلام وقال: لو سلّمنا جدلا بموقفك فإن التاريخ الإسلامي لا يتفق معك، وذلك لأن دولة الروم والفرس كانتا تتمتعان بالسيادة الكاملة والتقـدم والحرية في عصر بعثة النبي ، فلماذا إذن بلّغهم الصحابةُ رسالةَ الإسـلام؟

لقد نُشر خبر هذا اللقاء في الجرائد المحلية. (بتصرف من تاريخ الأحمدية ج 7 ص491 إلى 495)

Share via
تابعونا على الفايس بوك