46 خدمات الأحمدية للعالم العربي

46 خدمات الأحمدية للعالم العربي

محمد طاهر نديم


إن إخلاص الأحمدية وولاءها للعالم الإسلامي والعربي منذ تأسيسها إلى يومنا هذا غنيّ عن البيان. ولقد كانت قضايا العرب والمسلمين في صلب اهتماماتها دوما.

لقد أحب المسيح الموعود العرب حبا جما لحبه الصادق لسيده وسيدنا المصطفى ، وكتب كثيرا من رقيق العبارات التي تفيض بالمحبة والشوق إلى العرب وإلى اللقاء بهم وزيارة ديارهم وسككهم، منها قوله :

“السلام عليكم، أيها الأتقياء الأصفياء من العرب العَرْباء. أنتم خيرُ أُمم الإسلام وخيرُ حزب الله الأعلى… يا سكانَ أرض أوطأته قدمُ المصطفى، رحمكم الله ورضي عنكم وأرضَى، إن ظني فيكم جليل، وفي روحي للقائكم غليل. يا عبادَ اللهِ، وإني أَحِنُّ إلى عِيانِ بلادكم، وبركاتِ سوادِكم، لأزورَ مَوطِئَ أقدامِ خيرِ الورى، وأجعلَ كُحْلَ عيني تلك الثرى، ولأَزورَ صلاحَها وصُلحاءَها، ومَعالِمَها وعُلماءَها، وتَقَرَّ عيني برؤيةِ أوليائِها، ومَشاهدِها الكبرى. فأَسْأَل اللهَ تعالى أن يرزُقَني رؤيةَ ثراكم، ويَسُرَّني بمَرآكم، بعنايتِه العظمى.يا إخوان.. إني أُحِبُّكم، وأُحِبُّ بلادَكم، وأُحبُّ رَمْلَ طُرُقِكم وأَحجارَ سِكَكِكم، وأُوثِرُكم على كلِّ ما في الدنيا.” (مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الرواحانية، ج 5 ص 419 إلى 422)

موقف خليفته الثاني

نتيجة لهذا الحب الذي غرسه المسيح الموعود للعرب في نفوس أتباعه.. أحبّهم خلفاؤه بما لا مثيل له، واهتموا بالقضايا العربية اهتماما كبيرًا، وساعدوا العرب مساعدة أقضّتْ مضاجع الاستعمار، وقدّموا لهم عند كل حدث هام نُصْحَ الناصح الأمين. نقدم فيما يلي بعض هذه الأحداث بشيء من التفصيل.

القضية الفلسطينية

لما كان الاستعمار يخطط لتمزيق فلسطين أحس العرب بالخطر المحدق بهم، واجتمعت الوفود العربية لمناقشة هذه القضية الحساسة مع المستعمر في لندن سنة 1939.. وقد أيد حضرة إمام الجماعة الخليفة الثاني الوفودَ العربية كل تأييد، ودعا لهم من الأعماق بالتوفيق. وقد بعث حضرته برقية إلى الداعية الإسلامي الأحمدي في لندن مولانا جلال الدين شمس.. ليقرأها على مسامع الوفود العربية في مأدبة كبيرة أقامتها الجماعة في مسجد “الفضل” ترحيبا بهم وتكريما لهم.. وقد حضرها ما ينوف على مائتي شخصية عربية وغربية كبيرة، منهم مندوب المملكة السعودية إبراهيم سليمان، وسعادة الشيخ الحاج حافظ وهبة وزير المملكة العربية السعودية المفوض في لندن، وفؤاد بك حمزة نائب السكرتير للأمور الخارجية السعودية، والسيد رؤوف شادر يحيى سفير العراق، ومعالي السيد توفيق بك السويدي وزير خارجية العراق سابقا، وعبد الله بك سكرتير وزير خارجية العراق، والمندوبون من فلسطين عون بك الهادي، والقاضي علي عمري والقاضي محمد أشمعي وغيرهم.

وهذا نصُّها:

“رَحِّبْ بصاحب السمو الملكي الأمير فيصل نيابة عني، وكذلك ببقية المندوبين للمؤتمر الفلسطيني، وأخبرْهم أن الجماعة الإسلامية الأحمدية معهم بكل معنى الكلمة، وهي تدعو الله أن يكلل مساعيهم بالنجاح والفلاح، ويوفقهم لقيادة العالم الإسلامي كما في القرون الإسلامية الأولى”.

“الكفر ملة واحدة”

ثم عندما مزق الاستعمار فلسطين وأقرّ تقسيمها في الأمم المتحدة عام 1947 كتب الخليفة الثاني نشرتين: “هيئة الأمم المتحدة وقرار تقسيم فلسطين” و”الكفر ملة واحدة”.. بيّن فيهما موقف الجماعة من هذه القضية الحساسة، ودعا فيهما العالم الإسلامي لنبذ الخلافات وتوحيد الصفوف لمحاربة إسرائيل. وقام بتوزيع النشرتين في العالم العربي على نطاق واسع جدا. نقتبس من كتيب: “الكفر ملة واحدة” ما يلي:

“لا تظنوا أن الغرب اليوم عدو لكم والشرق صديقكم، ولا تحسبوا العكس أيضا صحيحا. إنني أنبهكم أن أمريكا ليست صديقة لكم، كما أن روسيا أيضا ليست صديقة لكم. إنهما قوتان متفقتان على التآمر ضد الإسلام. ألم يبق فيكم شيء من الغيرة وحُبِّ الإسلام حتى تنبذوا أنتم أيضا عداواتكم الداخلية وتتحدوا من أجل الإسلام؟….. إن قضية فلسطين تهمّ العالم الإسلامي كله. إن فلسطين على مقربةٍ من الأرض المقدسة التي فيها مرقد سيدنا ومولانا محمد المصطفى ، الذي كانت اليهود تخالفه في حياته أيضا، وتعارضه في أعماله بكل وقاحة، مع أنهم لم يروا منه إلا البر والخير والكرم. إن الحروب التي نشبت بينه وبين العرب أكثرها كانت بإغراء اليهود وتحريضهم، وهم الذين استثاروا كسرى إيران على قتله . هذا العدو اللدود يريد الآن أن يرفع رأسه بصورة دولة قوية على مقربة من المدينة المنورة بنية التقدم نحوها ومهاجمتها بعد أن يرسخ أقدامه في فلسطين. إن كان هناك مسلم يرى غير هذا ويظن أنه ليس هناك أية أسباب قوية لمثل هذا الخطر، فلا شك أنه مخطئ. أما العرب فهم يفهمون هذه الحقيقة جيدا، ويعلمون أن الصهيونية مزمعة على إجلائهم من وطنهم، ولذلك فقد قاموا ضد الصهاينة كرجل واحد…. إن القضيّة ليست قضيّة فلسطين، وإنما هي قضية المدينة المنورة. المسألة ليست مسألة بيت المقدس، وإنما هي مسألة مكة المكرمة ذاتها. القضيّة ليست قضيّة زيد أو عمرو، بل هي قضيّة عِرض محمد رسول الله . لقد اتّحد العدو ضد الإسلام متناسيًا أوجه الخلاف الكثيرة بينه، أَوَلاَ يتّحد المسلمون بهذه المناسبة رغم وجود آلاف من أوجُه الاتحاد بينهم؟ ألا ترون أن الأعداء مع شدة العداوة وكثرة الخلافات فيما بينهم قد وحدوا صفوفهم ضد الإسلام، فهلا يتّحد المسلمون في هذه الآونة العصيبة، ودواعي الاتحادِ بينهم كثيرة؟ حان أن نفكر ونقرر هل يليق بنا أن نموت متفرقين جماعة بعد جماعة، أو نكون يدا واحدة، ونبذل كل جهدنا للانتصار مجتمعين.

أرى أن الوقت ينادي المسلمين بصوت عال أن يبتّوا رأيهم ويعقدوا عزمهم على أن يموتوا مناضلين في سبيل الحصول على حقوقهم، أو يستأصلوا الدسائس ضد الإسلام كلية….

ها، إني أذكّر المسلمين وأنبّههم كي يعرفوا خطورة الموقف وشدة الخطب، ويعلموا أنه قد تحقق صدق قول النبي :

“الكفر ملة واحدة”. لقد قام الصهاينة قومةَ رجل واحد لمحو عظمة الإسلام…. ألم يأن للمسلمين، سواء أكانوا من باكستان، أو أفغانستان، أو إيران، أو ماليزيا، أو إندونيسيا، أو أفريقيا، أو تركيا، أو غيرها من البلاد الإسلامية.. أن يوحّدوا كلمتهم؟ ألم  يأن لهم أن يتحدوا وهم يرون أن الفأس قد وُضعت على جذور الإسلام، وتعرضت الأماكن المقدسة للأخطار؟ ألم يأن لهم أن يقوموا كلهم مع العرب ويدفعوا هذه الهجمات النكراء التي يريد بها العدو كسر شوكة المسلمين وجعلهم أذلاء مُهانين.” (“الكفر ملة واحدة” نقلاً عن جريدة “الفضل” 21/5/ 1948)

 وقد علقت الصحف العربية على نشرة “الكفر ملة واحدة”، فمثلا كتبت صحيفة “النهضة” الحلبية:

“أهدانا السيد مرزا محمود كراسة صغيرة تحتوي على الخطاب الذي ألقاه في لاهور، باكستان.. يدعو فيها المسلمين إلى الاتحاد والعمل الحاسم لإنقاذ فلسطين من الصهاينة المجرمين. كما أنه يهيب بأبناء الباكستان البررة أن يبادروا إلى مساعدة عرب فلسطين بالمال، ويذكّرهم بالرسول الكريم ، مستشهدا بآيات شريفة يحضّ فيها المسلمين على أن يقفوا صفا واحدا أمام سيل الصهيونية المجرمة…. وهي خطبة جيدة ودعاية حسنة لفلسطين والمسلمين. ندعو الله أن يحقق آمالنا وأمانيه العذبة في سبيل ديننا القويم، والله من وراء القصد”. (جريدة “النهضة” الحلبية، عدد 12 يوليو 1948)

وكتبت جريدة “صوت الأحرار”:

“الكفر ملة واحدة”، بهذا العنوان ألقى السيد مرزا محمود أحمد إمام الجماعة الأحمدية… خطبة مطولة حمل فيها بشدة وعنف على الصهيونية الآثمة المجرمة. ولم يُخفِ استغرابه العميق من اجتماع المتناقضات واتحاد الأعداء في سبيل إنكار عروبة فلسطين والاعتراف بكيان اليهود الموهوم. ويتابع حملته الشديدة ضد السياسة الاستعمارية التي تنشد دوما وأبدا الاستغلالَ والظلم، ثم يقارن موقف هؤلاء المعتدين من قضية فلسطين بموقفهم من قضية كشمير، ويخلُص إلى القول أنْ لا سبيل إلى الاستقلال والخلاص مِن كل نير أجنبي بغير الاتحاد والتآلف.”

مواقف مجيدة لمحمد ظفر الله خان

علاوة على المساعي النبيلة التي بذلها سيدنا المصلح الموعود لدعم قضايا العرب قام ابن الأحمدية البار سيادة محمد ظفر الله خان بتوجيه من إمام الجماعة بخدمات مشهودة لقضايا العرب عامة وللقضية الفلسطينية خاصة.. لا تزال مسجلة في الجرائد العربية والعالمية.

ففي اجتماع مجلس اللوردات برئاسة اللورد لمنجتون في لندن أثار محمد ظفر الله خان في خطابه قضية فلسطين الحساسة. وقد سجل خطابه هذا في جريدة الأهرام بقلم مراسلها بتاريخ 27-10-1937، ونقتبس منه ما يلي:

“ارتأى ظفر الله خان أن مسألة فلسطين إذا لم تسوَّ تسوية مُرضية فلا بد أن تصير مسألة إسلامية. ونوّه بأن الإسلام والأماكن الإسلامية المقدسة لا يجوز أن تخضع إلى سلطان غير سلطان المسلمين”.

ولما زار سيادة محمد ظفر الله خان فلسطين في 1945 تفقد ظروف المنطقة عن كثب، ورأى بعينه خطورة الموقف.. قال للشخصيات السياسية العربية الكبيرة:

“إن مسلمي الهند لا يعرفون تفاصيل المشكلة الفلسطينية في وضعها الراهن، فإذا رغب عرب فلسطين في أن يساعدهم إخوانهم مسلمو الهند فعليهم أن يتبعوا الطرق الواجبة لجلاء هذه المشكلة وإيقافهم على حقيقة الموقف.. لم يبق سوى أن يتبرع أثرياء مسلمي الهند ماديا لإنقاذ أراضي فلسطين”. (جريدة “فلسطين” عدد 7-10-1945)

ونشرت جريدة (الأيام)، الدمشقية في عددها الصادر في 30-1-1946 هذا الخبر:

“لاهور، ألقى الزعيم القاضي السيد ظفر الله خان خطابا حول قضية فلسطين قال فيه: إن بريطانيا وأمريكا لن تستطيعا التخلص من النفوذ الصهيوني المسيطر على هذه القضية المهمة ما دام هنالك 25 نائبا صهيونيا في مجلس العموم البريطاني ووزيران صهيونيان وسكرتير صهيوني للدولة. كما أن الصهيونيين في أمريكا يسيطرون على الأمور المالية في تلك البلاد وعلى شؤونها السياسية، ولذلك لم تستطع بريطانيا بعد مرور 31 عاما على وجودها في فلسطين أن تجد حلا لهذه القضية العويصة”.

وقال محمد ظفر الله خان في خطاب طويل ألقاه في لاهور مشيرًا إلى خطر اليهود المهاجرين إلى الأراضي المقدسة:

“إن 650 ألفا من المهاجرين اليهود قد دخلوا فلسطين فعلا. وهذا الرقم لا يشمل المهاجرين الذين دخلوا فلسطين خفية بطرق غير شرعية. فأصبحت حالة العرب السياسية والاقتصادية مهددة بخطر جسيم”. (جريدة دي سن رايز، 2-2-46)

وكتبت وكالة (اسوسييتِد بريس) الأمريكية تصريحا له قال فيه:

“إن مسلك الولايات المتحدة في هذه المسألة “يستعصي على الفهم إلى حد ما.”

وأضاف:

“إذا كانت المسألة مسألة عاطفة إنسانية ففي وسع الولايات المتحدة نفسها أن تحلّها بفتح أبواب بلادها للمهاجرين اليهود، أما فلسطين فإنها لا تزيد كلها على مساحة مقاطعتين من الولايات المتحدة. وإذا كانت المسألة مسألة دين فإن قضية العرب في فلسطين أقوى بكثير من دعوى اليهود. يضاف إلى ذلك أن العرب يملكون البلاد فعلا”.

في الأمم المتحدة

لما انقسمت الهند، عُيِّن حضرة محمد ظفر الله خان وزير خارجية لباكستان وممثلا لها في هيئة الأمم المتحدة، فاشترك مع إخوانه ممثلي جامعة الدول العربية في الدفاع عن القضية الفلسطينية في دوراتها، وعارض مشروع تقسيم فلسطين بكل ما أُعطيَ من شجاعة وقوة بيانٍ، مدافعًا عن موقف العرب دفاعًا مجيدًا مشهودًا. وإليكم نص الخبر المنشور في جريدة “فلسطين” في عددها الصادر في 8 أكتوبر/تشرين الأول 1947:

“الباكستان تنتصر لعرب فلسطين”

ليك ساكس في 7، رويتر ويونيتد بريس: لما اجتمعت اللجنة الخاصة بقضية فلسطين اليوم دعا المستر إيفات رئيسها الأسترالي، السيدَ ظفر الله خان ممثل الباكستان إلى الكلام، فوقف السير ظفر الله خان وقال:

“إن مشروع تقسيم فلسطين هو من الناحية الطبيعية والجغرافية شر وبلاء، وينطوي على إجحاف شائن حقًّا. وقد تصبح فلسطين شرارة تُشعل حربا أعظم من الحروب العالمية التي شاهدها العالم حتى الآن…”

وقال في خطابه التاريخي هذا الذي استغرق 115 دقيقة، ويُعَدّ أطولَ خطاب في سبيل الدفاع عن القضية الفلسطينية، وهو يناقش مسألة المشردين اليهود الراغبين في الهجرة إلى فلسطين:

“لماذا لا تبيح كل دولة أراضيها لهجرة كل من يرغب في الهجرة إليها، إذا كانت المسألة مجرد الرغبة في الهجرة؟ ويوجد في البنجاب الآن 5 ملايين مشرد، ولو فرضنا أن هؤلاء رغبوا في الهجرة إلى أمريكا فهل مجرد رغبتهم هذه تبرر أن تفرض هيئة الأمم على أمريكا وجوبَ قبولهم في أراضيها؟ فإذا كان هذا المبدأ يُعتبر مبدأ مغلوطا في أمريكا وفي غيرها، فلماذا تعتبرونه صحيحا في فلسطين فقط؟إن مشروع التقسيم يعني أن يصبح العرب في أكثر من نصف أراضي البلاد أقلية، ويصبح في إمكان اليهود أن يقيموا لهم هنالك مملكة سياسية تملك السيطرة التامة. وهذا حل فاسد، تماما كما لو جُعل العرب أقلية في كل فلسطين”.

وأضاف قائلا: “هذا الذي ذكرتُه عن الدولة المستقلة في فلسطين حيث يعيش اليهود فيها أقلية مضمونة الحقوق قد لا يُرضي الصهيونيين، إلا أن عدم رضا هؤلاء الناس لا يعني بالضرورة أن ترمي هيئةُ الأمم العربَ في فلسطين بالظلم، وترتكب ضدهم ما ينافي تماما ميثاق الأمم المتحدة. (المرجع السابق)

وسجّل مندوب جريدة (الدفاع) موقف السير ظفر الله خان في قاعة الأمم المتحدة قبل التصويت على قرار تقسيم فلسطين كالآتي:

“ونهض السير محمد ظفر الله خان مرة أخرى يحمل على التقسيم حملةً شعواء.. وكان بيانه محاولة بارعة.. فقد نادى القوم إلى تحكيم العقل قائلا: إن الجمعية استُهدفت لأعنفِ ضغطٍ شُوهدَ في يوم من الأيام، وتناولَ مشروعا منافيا للعدالة والمنطق والقانون. ولم تسلَم نقطة واحدة فيه عن منطقه الأخّاذ ولسانه الذرب ونقداته اللاذعة، حتى سمعتُ أحدَ المندوبين العرب يقول: إذا أخفق مشروع التقسيم وجب على العرب أن يقيموا تمثالا للسير ظفر الله، تقديرًا لهمته وقوة منطقه وحكمته قائلا: إنه إذا فُرض (أي التقسيمُ) على العرب فرضا سيكون أهل الأراضي المقدسة منهم ضحاياه، وسوف يترك إقراره جرحا في هذا المجلس الدولي لا يندمل، وسوف يثير الريب والشكوك في نيات الدول الغربية في نفوس أهل البلاد المترامية من شمال أفريقيا إلى سهول آسيا. فإن الحق أقول لكم: إن هذا التقسيم سيقضي على السلام قضاء مبرما.” (جريدة “الدفاع” عدد 17-10-1947)

لا بد من الأخذ بعين الاعتبار الأوضاع السائدة آنذاك، حيث لم تكن قد مضت إلا فترة يسيرة جدا على انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكانت معظم بلدان العالم قد وقعت تحت نفوذ مباشر لأمريكا أو روسيا؛ بمعنى أنه كان بوسعهما ممارسة الضغوط على هذه البلدان لتغيير رأيها. لم تكن تلك هي حالة الدول الفقيرة فقط بل معظم الدول الأوربية أيضا كانت تحت هذا النوع من الضغوط.

ولما قُدّمت قضية تقسيم فلسطين للمناقشة في الأمم المتحدة عارضت الدول العربية مشروع التقسيم بشدة وقدمت أدلة مقنعة لعدم التقسيم، إلا أن محمد ظفر الله خان كان ذلك البطل الذي غيّر تماما مجرى المناقشة عندما قال في خطابه إن هذه القضية مبنية على الظلم منافية للعدل والإنصاف، وأنه ليس من صلاحيات الأمم المتحدة أن تقرر تقسيم بلد من بلاد العالم خلافا لإرادة أهله، لذلك يجب على الأمم المتحدة أولاً أن تعرض القضية في محكمة العدل الدولية لتبتّ فيها حتى نعرف هل يحقّ للأمم المتحدة مناقشة مثل هذه الأمور أم لا.

وكان تأثير خطابه قويا في نفوس مندوبي بعض الدول إذ ناشد بعضهم في كلماتهم الأمم المتحدة أن ترجع أولاً إلى محكمة العدل الدولية.

وبعد المناقشات في اللجان الخاصة، لما حان موعد الاقتراع على تقسيم فلسطين، سعى محمد ظفر الله خان سعيا مشكورا جدا لجمع الأصوات اللازمة ضد قرار التقسيم، فتكلم مع مندوبي عدة دول منها دولة “هايتي” ودولة “ليبيريا”، حتى إنه ذهب للقاء المندوب الليبيري “مستر دينس” في الفندق الذي كان يقيم فيه، فأكد المندوب الليبيري أنه لن يصوت لصالح قرار التقسيم، وقال أيضا: إن حكومتنا تواجه ضغوطا شديدة، فقد أتلقى توجيها من بلدي أن أصوت لصالح التقسيم لذلك يجب أن تحاولوا أن يكون التصويت اليوم. وقال لسكرتيرته: إذا بلغك اليوم من بلدي أي شيء فلا ترفعيه إليّ في جلسة اليوم. ثم قال لمحمد ظفر الله خان: لقد فعلت ذلك حتى لا يصلني أي توجيه بخصوص التصويت وأعطي رأيي الذي قلته لك.

ولكن عندما رأت أمريكا والدول المتحالفة معها في هذه القضية أنها لم تتمكن بعد من جمع الأصوات المطلوبة لجأت بطريق أو بآخر إلى تأجيل التصويت عليها حتى تضغط على بعض الدول الأخرى لكسب أصواتها. وكانت النتيجة أن تأخر التصويت، فمورست الضغوط الشديدة على بعض الدول التي كانت تخالف قرار التقسيم من قبل، فصارت مؤيدة له. وقبل صدور القرار جاء مندوب “هايتي” إلى محمد ظفر الله خان وقال له وقد اغرورقت عيناه: لقد عرفتَ رأيي المعارض للتقسيم، ولكنني الآن استلمت أوامر من بلادي أن أصوت في حق التقسيم. كما أن ليبيريا أيضا غيّرتْ رأيها نتيجة للضغوط الأمريكية، فصوتت لصالح تقسيم فلسطين بعد أن كان مندوبها قد أكد أنه سيصوّت ضده. (بتصرف من “تحديث نعمت” ص 535-536، وسلسلة أحمدية ص 312-313)

وعندما صدر هذا القرار الغاشم بتمزيق فلسطين في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947 ندد به سيادة ظفر الله خان مخاطبًا الغرب في بيانه التالي الذي قرأه عنه نائبه:

“لقد اتخذ القرار النهائي، ولقد جاهدْنا وعملْنا في جانب الحق لتبصيركم، وحاولنا أن نريكم طريق الحق كما رأيناه. ولكن ضميرنا في هذه الساعة متألم لمصيركم ومصير مبادئكم. اذكروا الدول الكبرى التي سبقتكم.. اذكروا صولتها واذكروا مصيرها”. (جريدة الدفاع، عدد 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1947)

مؤامرة الاستعمار

بينما كان العالم العربي يكنّ للجماعة الإسلامية الأحمدية كل التقدير والاحترام، وأبناؤها يخدمون العرب وقضاياهم بكل إخلاص ومحبة، سمعت الأذنُ أكبر كذبة في تلك الفترة، وقرأت العيون أكبر خيانة ارتكبت في حق الأبرياء، إذ أصدر الشيخ حسنين مخلوف مفتي مصر فتوى، بإشارة من الملك فاروق، بتكفير السيد ظفر الله خان، وطالب بعزله من رئاسة وزارة الخارجية الباكستانية..

وعندما نُشرت هذه الفتوى كانت ذكريات الخدمات التي قام بها السيد ظفر الله خانْ حديثةً في أذهان العرب، وإن الزعماء العرب من مصر وغيرها من الدول العربية الذين شاهدوا مواقف محمد ظفر الله خان.. كانوا أكثر وفاء من المفتي المذكور، وأكثر تقديرا منه لمن دافع عن بلدهم وخدمهم في المحافل الدولية؛ فعارضوه بشدة، ونددت بفتواه الصحفُ المصرية، واعترفت بإسلام السيد ظفر الله خان وخدماته الجليلة للدول العربية. نقدم فيما يلي بضعة من هذه الأقوال الكثيرة.

أولاً: كتب الأمين العام للجامعة العربيّة سعادة عبد الرحمن عزام باشا إلى جريدة نشرت الفتوى المذكورة فقال:

“ظفر الله خان رجلٌ مسلمٌ لم نشهد عليه إلا قولا حسنًا وعملاً حسنًا. وقد أُوتيَ حظًا كبيرًا في الدفاع عن الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. وله مواقف دولية مشهورة دفاعًا عن الإسلام قدَّرها الناسُ وشكره عليها المسلمون.” (جريدة “الأخبار”، القاهرة، عدد 23/6/1952)

ونشرت جريدة “المصري” مقالاً شاملاً للأستاذ أحمد أبو الفتح بعنوان: “أَنْعِمْ به مِن كافر”، تحدث فيه عن مواقف ظفر الله خانْ الإسلامية المجيدة حيث جاء فيه:

“….وإذا كان فضيلة المفتي قد اتهمه بالكفر، فأَنْعِمْ بظفر الله خانْ كافرا، وما أحوَجَنا إلى عشرات من أمثاله من الكفار الكبار.” (جريدة “المصري” 25/6/1952م نقلا عن مجلة “البشرى” سبتمبر 1952 مجلد 18 ص119)

كذلك أدلى سعادة أحمد خشبة باشا بتصريحه إلى جريدة “الزمان” المصرية في عددها 25 يونيو 1952 حيث قال إنه يشعر بألم شديد مما نُسب إلى سعادة ظفر الله خانْ. وأضاف قائلا: “إن الخدمات التي أداها السيد ظفر الله خانْ للإسلام والعالم العربي عامة ومصر خاصة خدماتٌ جليلة يدين له بها العالَمُ الإسلامي ومصرُ.”

ثم قال:

“إنني أشعر بأن في عنقي دَينًا نحو هذا الرجل العظيم الذي أدى خدمات جليلة لبلادي، وإنني في شدة الامتعاض لهذه الفتوى التي أُُفتيت بصدد هذا الرجل الكبير.” (نقلا عن مجلة “البشرى” سبتمبر 1952 مجلد 18 ص125)

وصرّح فضيلة الأستاذ خالد محمد خالد في جريدة “أخبار اليوم” 26/6/1952 بعنوان: “أصبح الأبرار كافرين”:

“وظفر الله خان بالنسبة إلينا رجل مسلم كامل الإسلام. وإذا كان الرجل الذي يواجه الاستعمارَ في جبروت شامخ من بلاغته وصدقه.. والرجل الذي جعل اللهُ الحقَ على لسانه وقلبه.. إذا كان هذا الرجل كافرًا فإن كثيرًا من الأبرار يودّون أن يصبحوا كافرين على هذا النحو..” (نقلاً عن مجلة البشرى مجلد 18 عدد سبتمبر 1952 ص132)

وكتبت جريدة “بيروت المساء”:

“هناك فرق عظيم بين الشيخ مخلوف وظفر الله خانْ: فالأول مسلم ولكنه لا يعمل، وإذا عمل فإنه يعمل للتفرقة.. وظفر الله خانْ مسلم عاملٌ للخير، والله تعالى جمع في كتابه الكريم دائما وفي كل آية بين الإيمان والعمل الصالح.. ما أبعدَ تكفيرَ المسلمين عن الإيمان وعن العمل الصالح؟” (بيروت المساء، عدد 224 بتاريخ 29/6/1952)

كتبت مجلة “آخر ساعة” المصرية في فبراير/شباط 1952 تحت عنوان بارز: الرجل الذي يصلي في هيئة الأمم المتحدة:

“وهذا الرجل مِن أقدر المسلمين الذين يوثق بهم في خدمة البلاد الإسلامية. هو رجل متدين يؤدي الصلاة في أوقاتها، حتى لو كان في الطائرة.. وقد أصبح أداؤه للصلاة في أبهاء الأمم المتحدة أمرًا مألوفًا لدى سائر الوفود. وهو لا يذوق الخمر مطلقًا، ولهذا غالبية أعضاء الوفود الغربية والشرقية تمتنع عن شربها في حضرته”.

وقالت أيضا: “إن السيد ظفر الله خان دافع عن قضية مصر مرات كثيرة”.

قال صاحب الفضيلة الشيخ محمد إبراهيم سالم بك:

“نرى أن الأمر المؤلم أن يُتهم سعادة السيد ظفر الله خانْ بالذات بالكفر، وهو مَن تَعرِف.. الرجل المتخلق بخُلق الإسلام، الحريص على تقاليده وسننه في كل ما يصدر عنه. ولقد زار السيد ظفر الله خانْ مصر أكثر من مرة، ورأيناه يدافع عن الإسلام والمسلمين ويؤازر قضاياهم متحمسا لكل ما من شأنه إعلاء كلمة الإسلامِ وأهلِه.” (البلاغ 24 يونيو 1952)

وكتبت جريدة “الأهرام” القاهرية بتاريخ 27/6/1952 تحت عنوان: “مواقف يفخر بها الشرق”:

“تحدّث أحد ممثلي مصر في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة عن موقف يفخر به الشرق كله وقَفه السيد محمد ظفر الله خان وزير خارجية الباكستان. ففي الجمعية العمومية للأمم المتحدة ألقى عن فلسطين الشهيدة خطبة استغرقت ثلاث ساعات كاملة لم يتناول خلالها جرعة ماء واحدة.. وأثبت قوة إيمانه بالدين الإسلامي وبالوطن العربي. ولقد بكى واستبكى.. وشهد لـه الجميع بأنه رجل عظيم، مسلم كريم، وطني صميم، سياسي حكيم، ومتمكن من اللغة الإنجليزية كأحد أبنائها من العلماء الأفذاذ”.

وأضافت الجريدة قولها استنادا إلى المعلومات التي تلقتها من مصادر موثوقة بها:

 “ولعل صاحبنا السيد محمد ظفر الله خان هو الشخص الوحيد من الشخصيات السياسية البارزة في العالم بالوقت الحاضر الذي لا يفارقه القرآن المجيد أبدا‍، ويصلي خمس صلوات مستقبلا القبلة الشريفة تحت كل سماء وفوق كل أرض وفي جو السماء حيث تحمله الطائرات من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، ولا يتأخر عن بيان فضائل الإسلام ومحاسنه بالقلم واللسان، والعمل بأحكامه حتى في قاعات الأمم المتحدة”.

كذلك قال السيد عبد الحميد الكاتب في مقال له نُشر في مجلة “العربي” بعنوان: “ظفر الله خان بطل قضية فلسطين”:

“….. كان صوت ظفر الله خان، وزير خارجية باكستان حينذاك، والذي كان عَلَمًا بارزًا في الأمم المتحدة على مدى عشرين سنة، بمواقفه العظيمة في كل قضية عربية وإسلامية.. قضية فلسطين، وقضية كشمير، وقضية إريتيريا، وقضية الجزائر.. وكل ما قام وثار من قضايا الشعوب المقهورة.

وقد توافرت في ظفر الله خان ثلاث صفات جعلته من أبرز الشخصيات في الأمم المتحدة.. فكان وراءه تاريخ حافل في سياسة بلاده، كما كان خطيبا قديرا ومحاميا فذا، وكان حجة في القانون من جانبيه الدولي والإسلامي. فأما دوره في سياسة بلاده فلعله كان ثالث الثلاثة الذين تزعموا حركة إنشاء دولة باكستان، مع زعيمها ورئيسها الأول محمد علي جناح، ومع لياقت علي خان أول رئيس وزراء لها. وأما مقدرته القانونية فقد أهّلتْه فيما بعد ليكون قاضيا في محكمة العدل الدولية، ثم رئيسا لها لسنوات عديدة ختم بعدها حياته السياسية، ثم أوى إلى بيته في باكستان بعيدا عما جرى فيها من أحداث حزينة في السنوات الأخيرة.. أو لعله أمضى وقته في كتابة تفسير للقرآن الكريم. فقد كان مسلما متدينا وكان يؤدي الصلاة في وقتها في قاعة صغيرة عند مدخل مبنى الأمم المتحدة..

وهو قدياني المذهب ولكنني أعتقد أنه كان يدين بالإسلام على وجه صحيح سليم.. أما قدرته في الخطابة فكانت تشدّ إليه الأسماع والعقول وهو يرتجل على مدى ست ساعات، استغرقت جلستين كاملتين في مجلس الأمن، خطابا عن قضية كشمير وحقِّ أهلها في تقرير مصيرهم!…..أما بطل الدفاع عن مشروع فلسطين الموحدة فكان محمد ظفر الله خانْ، الذي حشد في دفاعه عن الحق العربي في فلسطين كلَّ مواهبه ومقدرته الخطابية والقانونية والسياسية. كما كانت خطبـه تنبض بروح إسلامية صادقة، وبإيمان قوي بأن الشعب الفلسطيني جدير جدارة الشعب الباكستاني وغيره من شعوب العالم بأن يتحرر من الحكم البريطاني، ومن الزحف الصهيوني على السواء…

وكانت من الحجج القانونية التي ساقها ظفر الله خان أن الأمم المتحدة لا تملك بتاتا الحق في تقسيم أراضي أية دولة من الدول…. حتى لو كانت هذه الدولة مستعمرة أو محمية. وإنما هذا متروك لشعبها وسكانها وحدهم…. وليس في ميثاق الأمم المتحدة ولا في قواعد القانون الدولي ما يبيح للأمم المتحدة أن تفرض على شعب من الشعوب أن يقسم نفسه ويوزع أرضه قطعة هنا وقطعة هناك.. وطلب أن تُستَفْتَى محكمةُ العدل الدولية في هذا الأمر، وأن يوجه إليها هذا السؤال:

“هل تملك الأمم المتحدة – أو يملك أي عضو من أعضائها- أن تفرض قرارًا أو أن تصدر توصية تتعلق بأي خطة لتقسيم فلسطين، أو تقسيم أي وطن في العالم، ضد رغبـة سكانه وبدون موافقتهم عليه؟”

“وفي خلال يوم أو يومين نشطت الأجهزة الصهيونية في كل مـكان، داخل البيت الأبيض وداخل الكـونجرس، وداخل وزارة الخارجية الأمريكية، وداخل وزارة الخارجية في بلاد عارضت التقسيم مثل الفيلبين أو امتنعت عن التصويت مثل ليبيريا.. وحتى داخِلَ مكتب الأمين العام للأمم المتحدة الذي كان أكثر الناس حماسًا لتقسيم فلسطين وإقامة الدولة اليهودية.. فلما صوتت الجمعية العامة انقلبت أصوات عدد من الدول، وصدر القرار النهائي بأغلبية ثلاثة وثلاثين صوتا مع التقسيم وثلاثة عشر صوتا ضد التقسيم، وعشرة أصوات ممتنعة عن التصويت.. أي أن قرار تقسيم فلسطين ظفر بالأغلبية اللازمة وعليها سبعة أصوات أخرى!

“…… وقف ظفر الله خان على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة يلقي خطابا يفيض بالمرارة.. ولكنه أيضا ينظر فيه إلى بعيد.. ويتنبأ بما سوف يترتب على هذا القرار من نتائج وعواقب، لن تنجو منها تلك الدول التي تحمست واندفعت لتقيم الدولة اليهودية فوق أنقاض الوطن الفلسطيني.. قال ظفر الله خان في خطابه المدوّي في ذلك اليوم الحزين:

“تقولون إننا لم نفعل أكثر من أن نأخذ جزءا من فلسطين ليقيم فيه اليهود لأن هذا أمر تقتضيه “الإنسانية” تجاه هؤلاء “المضطهدين”. لو كان ما تقولونه صدقا لقبلتم مقترحاتنا بأن تفتح كل دولة أبوابها لتأوي عددا من اليهود الذين لا وطن لهم ولا مأوى.. ولكنكم جميعا رفضتم.

“أستراليا.. قارة بأكملها.. تقول لا، فأنا بلد “صغير المساحة” ومزدحم السكان! وكندا تقول لا، فأنا أيضا مساحتي صغيرة وأراضي مكتظة بالسكان.

“والولايات المتحدة، بمُثلها الإنسانية العظيمة، وبمساحاتها الشاسعة ومواردها الهائلة، تقول: لا، ليس هذا هو الحل….

“ولكنكم جميعا تقولون: دعوا اليهود يذهبون إلى فلسطين.. فهناك الأراضي الفسيحة، وهناك الاقتصاد المزدهر.. فليذهبوا إليها بعيدا عنا.. ولن تكون هناك متاعب ولا مشاكل..!!

وينقلب صوته الساحر وهو يتحدث عن المواقف “الإنسانية” التي تدّعيها هذه الدول إلى صوت من التحذير والنذير وهو يوجه كلامه إلى أمريكا وأشياعها قائلا:

“أنصحكم أن تتذكروا الآن أنكم سوف تحتاجون غدا إلى أصدقاء. أنصحكم أن تعرفوا أنكم في حاجة إلى أصدقاء في الشرق الأوسط.. فلماذا تجعلون من شعوب تلك البلاد أعداء لكم؟ لا تحطّموا بأيديكم مصالحكم في تلك البلاد.” (مجلة “العربي” العدد 295، حزيران عام 1983)

أصابع الاستعمار تلعب وراء هذه المؤامرات

قد يتساءل القارئ، ما السبب لتكفير من يمدحه القاصي والداني، والذي لم يدّخر جهدا في الدفاع عن المواقف العربية؟ الجواب ببساطة أن الاستعمار خاف من دعوة الجماعةِ الإسلامية الأحمدية المسلمين لتوحيد صفوفهم، كما أوجس خيفة من مواقف الأحمدية لصالح العرب مِن قِبل إمامها وأبنائها الأفذاذ كأمثال السير محمد ظفر الله خان، وخاف من صمود الدول الإسلامية في وجهه صفا واحدا، لذلك عمد إلى تزوير الحقائق وإثارة الفرق الإسلامية ضد الجماعة الإسلامية الأحمدية عن طريق بعض المأجورين.

وتدليلا وتمثيلا على ذلك نورد فيما يلي ما ورد في مقال منشور في جريدة (الأنباء) العراقية بقلم أحد كبار كتابها الأستاذ علي الخياط الأفندي، وهاك نصه:

“أصابع الاستعمار التي تلعب وراء القاديانية في كل مكان…..

ليس هناك سوى سبب واحد وهو إصبع الاستعمار الذي يلعب دورا هاما في هذه القضية لبثّ الشقاق والتفرقة بين المسلمين الذين لا زالوا بانتظار اليوم الموعود الذي يقومون فيه بجولتهم الثانية لتطهير البلاد المقدسة من أرجاس الصهيونية وإعادة فلسطين إلى أصحابها الشرعيين. إن الاستعمار يخشى أن يتحقق حلم العرب هذا، وتزول دولة إسرائيل التي تحمل الكثير من المشاق في سبيل تكوينها.. فيعمد إلى إثارة الشقاق بين طوائف المسلمين بإثارة النعرات، لتقوم بعض العناصر بتكفير فئة الأحمدية والتشهير بهم، حتى يؤدي ذلك إلى الشقاق بين باكستان وبين بعض الدول العربية التي تقوم صحفها بتكفير “ظفر الله خان” وزير خارجية باكستان الذي يتبع الطريقة الأحمدية.

ولعل كثيرا من القراء يذكرون محاولة بعض العناصر في باكستان قبل تأسيس (الإسلامستان) أي جامعة الدول الإسلامية، وذلك بجمع كافة الدول الإسلامية في منظمة واحدة لتسيير سياستها الخارجية والمحافظةِ على كيانها واستقلالها، إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل بعد أن وقف بعض العناصر منها موقفا معارضا. وكان من جملة الأسباب التي أدت إلى فشل هذا المشروع هو سلاح التكفير الذى ناوله الاستعمار ليد بعض المتطرفين ليشهروه في وجوه الذين تبنّوا المشروع المذكور، لأنهم “قاديانيون ومارقون عن الإسلام”.

وقد يظن بعض القراء أن ما أذكره من تدخُّل الاستعمار في هذه القضية ليس إلا وليد الحدس والظن، إلا أني أؤكد للقراء بأني مطّلع كل الاطلاع على تدخُّل الاستعمار في هذه القضية، إذ أنه حاول أن يستغلّني فيها بالذات عام 1948 أثناء حرب فلسطين.

كنت حينئذ أحرر إحدى الصحف الفكاهية وكانت من الصحف الانتقادية المعروفة في عهدها. وقد أرسل إليَّ موظف مسؤول في إحدى الهيئات الدبلوماسية الأجنبية في بغداد، يدعوني لمقابلته. وبعد تقديم المجاملة وكيْل المديح على الأسلوب الذي اتّبعه في النقد رجاني أن أنتقد الجماعة القاديانية على صفحات الجريدة المذكورة بألذع طريقة ممكنة، لأنها جماعة مارقة عن الدين. فأجبته في بادئ الأمر بأني لا أعلم شيئا عن هذه الجماعة وعن معتقداتها ولذلك لا يمكنني أن أنتقدها. فزوَّدني ببعض الكتب التي تبحث في معتقدات القاديانية، كما أنه زودني ببعض المقالات عسى أن تنفعني بعض عباراتها في كتابة مقالاتي الموعودة. واستطعت أن أطّلع على بعض عقائد الجماعة من مطالعة الكتب التي زودني بها المسئول المذكور، والتي لم أجد فيها شيئا يدل على تكفيرهم حسب اعتقادي. وبعد عدة مقابلات طلبتُ منه أن يعذرني عن تلك المهمة نظرًا لاعتقادي بأن ذلك يسبّب الشقاق بين الطوائف الإسلامية في مثل ذلك الوقت بالذات. فأجاب قائلا: ألا إن هؤلاء ليسوا بمسلمين، وقد كفّرهم علماء جميع الطوائف الإسلامية في الهند. فقلت له: إن أقوال علماء الهند ليست أقوى حجة من الآية القرآنية التي تصرح بأن لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمنا. فما كان منه إلا أن قال غاضبا: هل أثّرتْ فيك دعاية القوم، فخرجتَ عن الإسلام، وأصبحت قاديانيا، وأخذت تدافع عنهم. فقلتُ متهكمًا: كنْ على يقين يا هذا، بأني لا أستطيع أن ادّعى بأني مسلم بكل ما في هذه الكلمة من معنى، بالرغم من قضائي عشرات السنين بين المسلمين، فهل تكفى مطالعة بضعة كتب للقاديانية أن تجعلني قاديانيا؟

وقد اطلعتُ خلال ترددي على هذه الهيئة بأني لستُ الوحيدَ المكلَّف بهذه المهمة، بل هناك أناس آخرون يشاركونني التكليف. كما أني لم أكن الشخص الوحيد الذي رفض، بل رفضه غيري أيضا.

كان ذلك عام 1948 في الوقت الذى اقتُطع فيه جزء من الأراضي المقدسة وقُدّم لقمةً سائغة للصهيونيين. وإني أظن أن إقدام الهيئة المذكورة على مثل هذا العمل كان رَدَّ فعل للكراستين اللتين نشرتهما الجماعة الأحمدية في ذلك العام بمناسبة تقسيم فلسطين، وكانت إحداهما بعنوان “هيئة الأمم المتحدة وقرار تقسيم فلسطين”، التي كانت تبحث في المؤامرات التي دُبرت في الخفاء بين المستعمرين والصهيونيين، وكانت الثانية بعنوان “الكفر ملة واحدة”، وكانت تحث المسلمين على توحيد الصفوف وجمع المال لمحاربة الصهيونيين وتطهير البلاد المقدسة من أرجاسهم.

هذا ما اطلعت عليه بنفسي في ذلك الحين، وإني واثق كل الوثوق بأن الأحمديين ما داموا يبذلون الجهود لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، ويبحثون عن أسباب تتيح للمسلمين القضاء على دولة إسرائيل اللقيطة صنيعة المستعمرين، فإن الاستعمار لن يتوانى عن تحريك بعض الجهات للتشهير بهم بقصد تشتيت الكلمة.” (جريدة (الأنباء) العراقية بتاريخ 21-9-1954)

وبغض النظر عن فتاوى التكفير والتصريحات المسيئة لها ظلّت الجماعة تخدم العرب معتبرة هذه الخدمة واجبا دينيا وأخلاقيا، وظلت صامدة في الصف الأول للدفاع عن حقوقهم، وما ادخرت وسعا في تقديم خدماتها كلما احتاجت إليها الدول العربية. نذكر فيما يلي بعض الخدمات الأخرى التي أسدتها الجماعة إلى البلاد العربية والشعب العربي.

جهود محمد ظفر الله خان في تسوية النـزاع بين مصر وبريطانيا

سيطرت بريطانيا على قناة السويس، فنشب نزاع بينها وبين مصر، فبذل وزير خارجية باكستان محمد ظفر الله خان كل ما في وسعه لحل هذه القضية. فالتقى برئيس الوزراء البريطاني مستر إيدن في لندن في يناير 1952 وناقش معه هذه الأزمة، فنجح في محاولاته، حيث حددت بريطانيا فترة قصيرة للانسحاب من السويس، وأخبرت مصرَ بسحب قواتها من هناك بعد تلك الفترة.

وقد اعترفت جريدة الأهرام بجهود السيد محمد ظفر الله خان، وكتبت في عددها الصادر في 21 فبراير 1952 أن لوزير خارجية باكستان محمد ظفر الله خان دورا كبيرا في استصدار هذا القرار.

ونشرت جريدة “المصري” الصادرة في القاهرة بتاريخ 25 فبراير 1952 في افتتاحيتها مقالا أشادت فيه بالخدمات الإسلامية التي قام بها محمد ظفر الله خان، واعترفت أن البلاد الإسلامية قد انتفعت كثيرا من قدراته الفذة ومساعيه المشكورة. كما أشاد ممثل الجريدة نفسها بجهود حضرته وقال: إن التغير الحاصل في وجهة نظر القوى الأوروبية تجاه الإسلام وتعاليمه وأهدافه يعود فضله إلى جدارة محمد ظفر الله خان وفهمه العميق وفكره النير. (نقلا عن جريدة الفضل 27 فبراير 1952 ص 8)

جهود ظفر الله خان في استقلال

تونس والمغرب

كان المسلمون في تونس والمغرب يكافحون منذ فترة طويلة الاحتلال الفرنسي ساعين من أجل حريتهم واستقلالهم. كانت أمريكا وبعض البلاد الغربية تعارض بشدةٍ طرح قضية المغرب وتونس على طاولة الأمم المتحدة للنقاش والبت فيها. فألقى محمد ظفر الله خان حول هذا الموضوع كلمة مؤثرة جدا ندد فيها بموقف أمريكا والبلاد الأخرى المعارِضة لحل هذه القضية وقال: إذا رفضتم مناقشة هذه القضايا في الأمم المتحدة فإنها ستتفاقم وستؤدي إلى قتل ودمار، وسيكون الممثل الأمريكي مسؤولا عنها.

فلما قال حضرته جملته الأخيرة امتقع لون ممثل أمريكا في تلك الجلسة. (جريدة “ملت” الباكستانية عدد 22 يناير 1954 ص 7)

قد اعترف زعماء تونس بهذه الأيادي لمحمد ظفر الله خان، فقال السيد الباهي الأدغم رئيس الوزراء التونسي الأسبق في ذكرياته المنشورة في إحدى الجرائد المحلية:

“لقد نصَحنا ظفر الله خان بعرض القضية في شهر أفريل 1952 عندما تكون الباكستان في رئاسة الدورة، وهو الذي أشعرنا بخطأ عرض القضية في شهر جانفي (يناير) 1952 عندما كانت فرنسا في الرئاسة. وقدم لنا نصائحه هذه في اجتماع جمَعني به صحبة السيد الحبيب بورقيبة الابن. في هذا الاجتماع قدم لنا إعانة مالية تمثلت في تمويل حالة عرض القضية التونسية في الأمم المتحدة، وعرض علينا خدماتِ الأستاذ أحمد البخاري الذي ساعدنا مساعدة مثالية من حيث إجراء الاتصالات والدفاع عن القضية خلال اللقاءات الجماعية والثنائية… ولم يكتف ظفر الله خان بهذه الأشكال من المساندة بل عندما عرضت القضية على الجمعية العمومية حضر بنفسه في الدورة وشارك في الجلسات العامة وفي اللجنة السياسية… ودافع عن القضية التونسية بقوة وإيمان.”

وكتبت جريدة “الصباح” في عددها الصادر في 14 مايو 1981 بمناسبة زيارة محمد ظفر الله خان لتونس ما يلي:

“إن الصحف التونسية تابعت في الخمسينات تدخلاته ومواقفه التاريخية من قضيتي تونس والمغرب…. وفي مقال مطول بعنوان “قضيتا تونس ومراكش أمام الجمعية العامة”، أوردت جريدة “الزهرة” يوم 5 نوفمبر 1953 صورة عن تدخُّل السيد محمد ظفر الله خان للدفاع عن القضيتين ببسطة صادقة اللهجة حارة الأنفاس مدعمة بالحجج المنطقية والقوانين الدولية أوضح فيها حق تونس ومراكش في الحصول على استقلالهما.”

وما يزال التونسيون يذكرون لحد الآن التأثير الذي كان لخطاب السيد ظفر الله خان في افتتاح المناقشات حول قضية تونس بالجمعية العامة سنة 1952، فقد ألقى خطابا تجاوزت مدته ثلاث ساعات وتجاوزت أصداؤه مبنى الأمم المتحدة لتساهم في اطلاع الكثير من شعوب العالم على عدالة القضية التونسية.”

وهكذا كان لكلمة حضرته دور بارز وأساسي في وضع هذه القضية في قائمة قضايا الأمم المتحدة.

ولما قرر مؤتمر العالم الإسلامي أن يحتفل المسلمون في العالم أجمع بالحادي والعشرين من نوفمبر 1952 باعتباره يوم تونس والمغرب دعمًا لكفاح المسلمين فيهما من أجل الاستقلال، أمر سيدنا الخليفة الثاني أبناء جماعته بعقد اجتماعات دعمًا لموقف هؤلاء المسلمين المضطهدين، كما دعا لهم بالنجاح.

(جريدة الفضل عدد 21-22 نوفمبر 1952)

لقد استجاب الله تعالى دعوات الخليفة وجماعته، وأثمرت جهود محمد ظفر الله خان، كما تكللت جهود أهل تونس والمغرب بالنجاح العظيم، حيث استقل البَلدان في عام 1956.

دعم ظفر الله خان لاستقلال ليبيا

كانت القوى الاستعمارية تحيك المؤامرات ضد مستقبل ليبيا، واتفقت بريطانيا وإيطاليا في 10 مارس 1949 على مشروع (بيفن سيفورزا) الخاص بليبيا، الذي يقضي بفرض الوصاية الإيطالية على “طرابلس” والوصاية البريطانية على “برقة” والوصاية الفرنسية على “فزان”، على أن تمنح ليبيا الاستقلال بعد عشر سنوات من تاريخ الموافقة على مشروع الوصاية. وقد وافقت عليه اللجنة المختصة في الأمم المتحدة في 13 مايو 1949 وقُدّم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للاقتراع عليه، ولكن مشروع الوصاية باء بالفشل إذ لم يحصل على الأصوات المؤيدة الكافية. ونتيجة للمفاوضات المضنية لحشد الدعم لاستقلال ليبيا التي قام بها وفد من أحرار ومناضلي ليبيا للمطالبة بوحدة واستقلال ليبيا، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21/11/1949 القرار رقم 289 الذي يقضي بمنح ليبيا استقلالها في موعد لا يتجاوز 1/1/1952، وتشكلت لجنة للعمل على تنفيذ هذا القرار وبذْلِ قصارى جهدها من أجل تحقيق وحدة ليبيا ونقل السلطة إلى حكومة ليبيّة مستقلة.

هذا ما تجدونه منشورا في كثير من وسائل الإعلام، ولكننا سنذكر الآن الجانب المجهول من تاريخ ليبيا الذي قلما يذكره المؤرخون. لا شك أن الجمل السابقة تشير إلى بعض الحقائق التي يجهلها الناس ولكن بطريقة غير واضحة.

لقد كانت الدوائر الاستعمارية تحيك المؤامرات، وكانت بريطانيا وإيطاليا وفرنسا متفقة على تقسيم ليبيا إلى ثلاثة بلدان منفصلة، ثم مع كل هذا الاتفاق والتواطؤ لم تستطع هذه الدول أن تأخذ الأصوات المؤيدة الكافية لنجاح المشروع! فكيف حصل ذلك؟ ولو نجحوا لكانت ليبيا ثلاث دول متفرقة تعيش تحت هيمنة أوروبية.

نلخص فيما يلي تفاصيل هذه القضية من كتاب (تحديث نعمت) أي التحديث بالنعمة، وهو السيرة الذاتية لمحمد ظفر الله خان، حيث يقول:

كان عدد الأعضاء في الأمم المتحدة آنذاك أقلّ من ستين دولة، وكان لا بد لنجاح أي مشروع من أن يحظى بثلثي الأصوات المقترعة. فعرفنا من خلال النقاش فيما بيننا أن لدينا 15 صوتا فحسب في حين كنا بحاجة إلى 19 صوتا ليفشل هذا المشروع المطروح (مشروع الوصاية). صحيح أن البلاد العربية كانت معارضة لهذا المشروع، ولكن ستة منها فقط كانت أعضاء في الأمم المتحدة، وكان وزير خارجية مصر سعادة أحمد خشبة باشا أيضا يسعى جاهدا لجمع الأصوات المطلوبة، فكنا نتشاور ونتلاقى من أجل حل هذه المشكلة.

الدعاء بتضرع وابتهال

لقد حان موعد مناقشة المشروع في حين لم نستطع جمع أكثر من 15 صوتا فحسب. كنت قلقا جدا، وصليت صلاة الظهر في هذه الحالة المثيرة للقلق والاضطراب، ودعوت الله تعالى بتضرع وابتهال أن يهدينا إلى طريق نتبعه من أجل تحرير عباده المظلومين. فلما كنت في السجدة إذ ألهمني الله تعالى بفضله خطة.

فلما فرغت من الصلاة تلقيت مكالمة هاتفية من محمود فوزي – المندوب المصري في الأمم المتحدة – يقول لي إن وزير خارجية مصر يريد أن أقابله قبل بدء جلسة المجلس العام حتى نفكر مرة أخرى ونبحث عن حل لهذه المشكلة. فلما ذهبت إليه وقابلته سألني: هل وجدت أي حل؟ قلت: نعم، أو بالأحرى هو ما ألقى الله تعالى في رُوعي، وهو: بدلاً من جمع الأصوات المعارضة لهذا المشروع يجب أن نبحث عن بعض البلاد المؤيدة لوضع “برقة” تحت الوصاية البريطانية و”فزان” تحت الوصاية الفرنسية، ونطلب من هؤلاء المؤيدين أن يعارضوا فقط مشروع وضع “طرابلس” تحت الوصاية الإيطالية.

فقال سعادة أحمد خشبة باشا: ماذا سنستفيد من ذلك؟

محمد ظفر الله خان: بهذا سوف يفشل الجزء الثالث من المشروع.

سعادة أحمد خشبة باشا: مع كل ذلك سوف يتم تقسيم البلد. وكنتَ مصرًّا قبل هذا على ألا يتم هذا التقسيم، فكيف طرأ التغير على رأيك بين ليلة وضحاها؟

محمد ظفر الله خان: لم أغير رأيي، بل لا أزال أريد ألا يتم تقسيم ليبيا، غير أننا إذا استطعنا إلغاء الجزء الثالث من المشروع نكون قد ضمنّا عدم تقسيم ليبيا.

سعادة أحمد خشبة باشا: وكيف ذلك؟

محمد ظفر الله خان: إذا فشل مشروع وضع طرابلس تحت الوصاية الإيطالية فلا بد أن ترفض دول أمريكا اللاتينية قبول بقية أجزاء المشروع، وبالتالي لن تصوت لصالح المشروع عند التصويت الشامل حول أجزائه الثلاث.

قفز سعادة أحمد خشبة باشا من شدة الفرح وقال: رائع جدا. لماذا لم يدُرْ هذا بخلدي أنا؟ على أية حال، ماذا يجب علينا فعلُه الآن، لأنه لم يبق لدينا وقت كثير؛ إذ سيكون التصويت مساء.

محمد ظفر الله خان: قد نفوز بصوت “هايتي” إذ هي دولة من أمريكا اللاتينية، وليست لها علاقات مع إيطاليا، فيجب أن تحاولوا ذلك. أما أنا فسوف أحاول إقناع المندوب الهندي.

استطاع محمد ظفر الله خان وخشبة باشا إقناع مندوب هايتي ومندوب الهند لمعارضة الجزء الثالث من المشروع. ونجحت الخطة إذ كانت الأصوات المؤيدة للجزء الثالث من المشروع 33 والمعارضة 17، وبحسب قانون الجمعية العامة كان العدد المطلوب لنجاح المشروع هو 34 ولم يكن عند مؤيدي المشروعِ هذا الصوت الواحد.

يقول حضرته:

عندما أعلن رئيس الجلسة فشل هذا الجزء من المشروع بدأتُ أضرب على الطاولة الأمامية بشدة حتى تورّمتْ يدي.

كان الجزء الرابع من المشروع أن تبقى هذه الدويلات الثلاثة – المزعومة – من ليبيا تحت وصاية البلاد الأوروبية الثلاثة لعشر سنوات قادمة. فلما نادى الرئيس للتصويت على تقسيم البلد إلى بلدان ثلاثة، وقفتُ وقلت: أرجو التوضيح ما هو البلد الثالث منها؟ إذ إن التصويت باء بالفشل حوله. فقال الرئيس: سوف يتقدم الآن أحد باقتراح التغيير في المشروع فنكتب “بلدين” بدلاً من “ثلاثة”. وبينما كنت أريد أن أقف لأقول شيئا إذ استأذن مندوب الأرجنتين وقال: لا جدوى من التصويت على بقية أجزاء المشروع لأنه في حالة عدم تسليم طرابلس إلى إيطاليا سوف تعارض دول أمريكا اللاتينية المشروع كله. وهذا ما حصل بالضبط على صعيد الواقع، وباء مشروع (بيفن سيفورزا) الخاص بليبيا بالفشل الذريع.

رجعتُ إلى كراتشي بعد هذه الجلسة في الجمعية العامة، فأتى لمقـابلتي السفـير الإيطالي في باكستان، ومعه رسالة من وزير خارجية إيطـاليا قال فيها: لم أتأسف على فشل المشروع، بل نريد أن نصـادق الدول العربية ونكسب ثقتهم، لذلك فإننا جاهـزون لتأييد استقلال ليبيا في الجلسـة القـادمة.

فعُرض مشروع منح الاستقلال لليبيا في عام 1949، وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21/11/1949 القرار رقم 289 الذي يقضي بمنح ليبيا استقلالها في موعد لا يتجاوز الأول من يناير 1952، وشُكّلت لجنة لتنفيذ هذا القرار، وكانت باكستان ومصر من أعضائها البارزين. (تحديث نعمت ص 569 إلى 573)

لعل سعادة أحمد خشبة المندوب المصري في الأمم المتحدة كان يتذكر جهود محمد ظفر الله خان لذلك أدلى بتصريح يفيض بمشاعر الإخلاص والامتنان تجاه حضرته إثر صدور فتوى التكفير ضده من قبل مفتي مصر، فقال:

“إن السيد ظفر الله خان الرجل الوقور ذا اللحية الکثّة أخذتْه نشوةُ فرح لا توصف بانتصار الدول العربية ومؤيديها فی قضـية ليبيا أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1952 فقال بصوت مسمـوع للجميع إن سروره لا يقدّر بانتصار قضية ليـبيا العربية. وکذلك کان دفاعه مجيدا عن طرابلـس.” (جريدة الأهرام 28 يونيو 1952)

تكريم محمد ظفر الله خان

وشكرًا على هذه الأيادي البيضاء وإشادةً بهذه المواقف الجريئة الصادقة لصالح العرب منحتْ عدة دول عربية لسيادته أرقى أوسمتها ونياشينها. واتخذه ملك الأردن الحسين وملك السعودية فيصل وملك المغرب الحسن الثاني صديقا حميما لهم. نذكر فيما يلي بعض أحداث تقدير واحترام وتكريم حضرته من قبل كبار زعماء العرب.

تكريمه في المملكة العربية السعودية

كان محمد ظفر الله خان على علاقة طيبة مع وزير الخارجية السعودية آنذاك “الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود”، فأخبره مرة عن رغبته في أداء فريضة الحج، فقال له: ستنـزل ضيفا علينا وتحج. ولكن بعد عدة سنوات في عام 1955 سافر حضرته للعمرة غير أنه لم يخبر الأمير فيصل عن قدومه وإنما أبلغ سفيرَ باكستان في المملكة العربية السعودية. فلما وصل حضرته في جدة استقبله في المطار السفير الباكستاني الذي أخبره أنه أخبر الملك سعود أن محمد ظفر الله خان قادم لأداء العمرة، فقال الملك: إنه سيحل ضيفا علينا. ثم أمر بتجهيز كل شيء لازم للضيف المكرم. (تحديث نعمت ص 644-645)

اعتراف الأردن بخدمات

محمد ظفر الله خان

كان محمد ظفر الله خان في زيارة لإيران في عام 1953، فقابله السفير الأردني في طهران، فقدم له دعوة رسمية من قبل حكومة بلاده لزيارة الأردن خلال هذه الجولة، فاعتذر حضرته وقال لا بد أن أصل سريعا إلى كراتشي. ولكن في اليوم التالي تلقى رسالة من العاهل الأردني يطلب منه زيارة عمان. فسافر حضرته إلى الأردن حيث استقبله الملك الحسين في قصره وقال له:

نشكرك جزيل الشكر على ما قمت به دفاعًا عن الحق العربي منذ بداية  القضية الفلسطينية. وعندما ارتكبت إسرائيل مذبحة مروعة في قرية قبية داخل المناطق العربية قُمتَ في الجمعية العامة وكشفتَ عن مكائد الإسرائيليين ومؤامراتهم.

واعترافا بخدمات ظفر الله خان للعالم العربي كله، قد منحه العاهل الأردني خلال تلك الزيارة أعلى وسام في الأردن. (تحديث نعمت، ص610 إلى 612)

تعزية الملك الحسين بوفاة ظفر الله خان وإشادته بمواقفه

وعند وفاة محمد ظفر الله خان في سبتمبر عام 1985 بعث عاهل الأردن رسالة عزاء إلى عائلته في باكستان، وقد نشرت بعض الجرائد هذا الخبر كالآتي:

عمان، بترا: بعث جلالة الملك الحسين برقية تعزية إلى أسرة المرحوم السير ظفر الله خان الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى أمسِ الأول، وأشاد جلالة الحسين بمناقب الفقيد الكبير وخدماته الجلّى للقضايا الإنسانية عموما والقضايا العربية والإسلامية خصوصا.

وقال جلالته: إن ذكرى الفقيد ستظل حية في الأذهان لِما قدّم من جليل الخدمات للإنسانية ولقضايا العدل في كل مكان وعلى الأخص القضية الفلسطينية.

وقال: لقد كان المرحوم بحقٍّ نصيرَ القضية العربية، وستبقى جهوده المستمرة سواء في العالم الإسلامي أو في دول عدم الانحياز أو في محكمة العدل الدولية مثالا مشرفا لرجل عظيم كرس حياته للمبادئ السامية لديننا وحضارتنا.

ويذكر أن الفقيد ظفر الله خان هو أول وزير خارجية لدولة باكستان عند قيامها عام 1947 وكان يحمل لقب “سير”، وكان من أشد المدافعين عن القضايا العربية وقضايا التحرر وعدم الانحياز أثناء رئاسته للجمعية العامة في الأمم المتحدة. كما كان -رحمه الله – لسان حق في القضية الفلسطينية منذ نشأتها ودافع بحماس وإيمان عن حق الشعب الفلسطيني…. كما ناصرَ قضايا الشعوب العربية التي كانت تسعى لنيل استقلالها والتحرر من سيطرة المستعمر، ودافع عن قضايا شعوب العالم الثالث وعدم الانحياز سواء في الأمم المتحدة أو في محكمة العدل الدولية التي كان رئيسا لها أو في المحافل والمؤتمرات الدولية كافة.

كما كان المرحوم ظفر الله خان داعية إسلاميا متميزا، عمل على نشر تعاليم الإسلام السمحة وعرضها بمفهوم عصري وعلمي. (جريدة “الدستور” الأردنية، العدد 5547 الصادر في 3 أيلول 1985)

وقد أُطلق حينها على أحد شوارع العاصمة الأردنية عمان اسم ظفر الله خان تقديرا لجهوده التي بذلها دفاعا عن الحقوق العربية.

تكريمه في المملكة المغربية

في عام 1962 دُعي محمد ظفر الله خان لزيارة المغرب، وفي القصر الملكي منحه العاهل المغربي أعلى وسام الدولة وقال له مشيدا بمواقفه المشرفة:

لا نقدر أن نجازيك بشيء على الخدمة التي أسديتها للمغرب وعائلتها الملكية، ولكن إذا قبلتَ منا هذا الوسام تذكارًا لسعادتنا بك وصداقتنا معك فسيكون ذلك مدعاة لسعادتي وسروري.

ثم في السنة نفسها زار العاهل المغربي الولايات المتحدة الأمريكية حيث دُعي في اجتماع المندوبين الأفريقيين والآسيويين، وكان المندوب الباكستاني سيرأس هذه الجلسة، وهو آنذاك محمد ظفر الله خان، فعرّف جلالةَ الملك على المندوبين، ثم حين قام الملك لإلقاء كلمته بدأها بقوله:

أيها السادة إن هذه الجلسة مصدر فرحة وسرور خاص لي إذ سنحت لي الفرصة لأنقل باسمي وباسم الشعب المغربي آيات الشكر والامتنان للشخصية الكريمة التي ترأس الآن جلسة المجموعة الآسيوية والأفريقية، وذلك على خدمتها لنا في وقت عصيب جدا. لقد أبديت له بمشاعري هذه في الرباط أيضا، غير أنني كنت أريد أن أقولها له أمامكم أنتم أيضا. كان أصدقاؤنا يكادون يُعَدّون على أصابع اليد عندما طُرحتْ قضية المغرب على طاولة الأمم المتحدة، غير أننا عندما كنا نسمع محتوى خطابات ظفر الله خان في الأمم المتحدة بالراديو أو نقرأها في الصحف كانت قلوبنا تمتلئ طمأنينة، ويحدونا الأمل أن يكون النجاح حليفنا يوما ما لأن قضيتنا بيد محام محنك وقدير. (تحديث نعمت ص 695)

مواقف سيدنا مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

قال حضرته في رسالة بعد تولي منصب الخلافة في 1982:

“إن في قلوبنا المكلومة لجرحًا لا يبرح يشتد ألمًا وغورًا مع مر الأيام ولا يكفّ عن النـزيف.. أعني تلك الاعتدءات البربرية الوحشية التي تصبّها إسرائيل على إخواننا الفلسطينيين بكل قسوة وبدون رحمة. إنني أحث كل المسلمين الأحمديين رجالا ونساء، صغارا وكبارا على أن يدعوا لهم ويثيروا ضجة في السماء بالبكاء والابتهال.. كي يرحم ربنا كلَّ من ينتسب إلى سيدنا ومولانا محمد ، وأن ينتقم من أعدائهم، ويذيقهم أشد العذاب على تلك المذابح الوحشية”.

خطابه الشهير: “حُبُّ العرب من الإيمان”

في خطاب مستفيض دعا حضرته – رحمه الله – أبناء الجماعة إلى الدعاء من أجل الأمة العربية والإسلامية، ومما ورد فيه:

“إخواني الكرام!

إن الأمر الأهم الذي أحب أن أحدثكم بشأنه هو أن العالم الإسلامي يمر بفترة ابتلاء رهيب، وأخص بالذكر الدول العربية والعالم العربي المستهدف لمظالم متوالية وتعذيب شديد من كل جانب، وكأن الأهداف التقت باتجاه إبادة العرب من على وجه الأرض. إن إسرائيل والمعسكرَين الشرقي والغربي على حد سواء مشتركون في الظلم الدائر ضد العرب، حيث يتلاعبون بمقدرات الأمة العربية في حقل السلاح، ويدفعونهم ليسفك العربي بيده دم أخيه العربي. وحيث كان الأمر متعلقا بإسرائيل فلا توجد في الأرض قوة هي على استعداد لمد يد العون للعرب بجدية. وإن ما يتراءى في الأفق هو أن هؤلاء قد اتفقوا على وضع العرب في حالة ينهبون فيها نفطهم مقابل أسلحة زائدة لديهم، ويسعون لنهب خيراتهم وتحريض بعضهم ضد البعض الآخر.

إن العرب اليوم في حالة يرثى لها، مما لا يسمح لأي مسلم السكوت عليها واحتمالها. لذا فإني أحض جماعتنا على الالتزام بالدعاء المستمر في هذه الأيام وبكل إلحاح وتضرع لصالح الأمة العربية، ليس مرة أو مرتين، بل ثابروا على الدعاء لهم دونما انقطاع، في تهجدكم وفي كل صلواتكم. ادعوا ربكم ليتفضل على العرب ويرحمهم وينقذهم من مصائبهم وآلامهم، ويغفر لهم ويعفو عنهم، حتى يعود إليهم النور الذي أشرق من بينهم بكل قوة وجلال، فيجعلهم الله U حَمَلَةَ هذا النور المحمدي إلى العالم قاطبة، وليكونوا في الصف الأول من المضحين في سبيل الإسلام كما كانوا من قبل ولا يكونوا من المتخلفين.

إن بعثة رسول الله في الأمة العربية يشكل إحسانا عظيما إلى العالم أجمع، وإن لم يكن مردُّ ذلك لإرادتهم، فللعرب فضلهم العظيم أن كان محمد المصطفى من بينهم.

ولقد قدم العرب من التضحيات في سبيل الإسلام ما لا نجد له نظيرا بين أمم الأرض. ولا ريب أنه وإن كان ظهور محمد من العرب دون إرادتهم، لكنه لا بد أن كانت فيهم خصال حميدة ما وُجدت في سواهم، فأهّلتْهم في نظر الله U لتكون فيهم بعثة سيد الأنبياء . وإن الذي يتفحص إنجازات العرب العملية، يوقن بصحة الاصطفاء الإلهي إياهم، وهكذا يصبح إحسان العرب إلينا إحسانا مباشرا وإراديا، حين نراهم تقدموا فنصروا رسول الله وأيدوه وتسابقوا إلى ميادين الشهادة في سبيل الله وما نكصوا، وهكذا نوّروا العالم بنور الإسلام في سنين معدودات.

لقد نصحـنا رسول الله بقولـه: حب العرب من الإيمان. (المستدرك للحاكم، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم)

“أحِبُّوا العرب لثلاث، لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي”. (مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي، كتاب المناقب، باب ما جاء في فضل العرب، وكنـز العمال رقم الحديث 33922)

وقال أيضا: أحبّوا العرب وبقاءهم، فإن بقاءهم نور في الإسلام، وإن فناءهم ظلمة في الإسلام.” (كنـز العمال، للمتقي الهندي، ج 12 رقم الحديث 33917)

هذه هي الأمة العربية التي فاقت الدنيا إحسانا، فقد أحسن العرب إلينا أن أوصلوا الإسلام لنا، وقد بعث الله نبيه الأمي محمدا المصطفى منهم. ولو لم يكن هنالك من سبب لمحبة العرب إلا هذا لكان كافيا لمحبتهم والدعاء لهم بنفس الروح والاندفاع الذي دعا لهم به المسيح الموعود . فكما أرسل المسيحُ الموعود تحياته وأدعيته إلى الوطن العربي محمولة على منقار حمامة الشوق، كذلك ينبغي اليوم على كل أحمدي استمطار رحمة السماء على بلاد العرب ليحفظهم الله تعالى من كل ابتلاء وينورهم بنور هدايته، ويرفع عنهم آلامهم، وينظر إليهم بعين العفو والغفران، وأن يمطرهم بوابل رحمته بجاه المصطفى ، اللهم آمين”.

موقفه لدى كارثة الخليج

عندما بدأت الأزمة الخليجية عام 1990، بادر حضرته -رحمه الله- بمتابعة هذا الحدث وتقديم النصح للأمة العربية والإسلامية حول ما ينبغي أن يفعلوه لتدارك هذه الأزمة الخطيرة. وقد بين حضرته، في سلسلة طويلة من الخطب المتتالية، أن القرآن الكريم قد قدّم حلاًّ لمثل هذه الأزمات، وعلى المسلمين أن يتبعوا وصْفةَ القرآن الكريم فيسووا هذا الخلاف فيما بينهم وألا يقحموا الأمم الغربية في القضية. وقد بين حضرته أن هذه الخطوة الغربية إنما هي الخطوة الأولى لإنشاء النظام العالمي الجديد الذي تسعى أمريكا لفرضه على العالم، وما تخفي صدورهم أكبر.

وقد قُدِّمت هذه السلسلة من الخطب للقارئ العربي في صورة كتاب تحت اسم “كارثة الخليج والنظام العالمي الجديد”، نقدم فيما يلي بعض ما ورد فيه.

قال حضرته:

لا يزال الغرب يتذكر الفظائع التي ارتكبها ضد اليهود كما يعرف طبيعتهم أيضا. وتكشف شخصية شيلوك (Shelok) في رواية اليهودي التائه لشكسبير صورةً أدبية لوَلَعهم بالانتقام. وفي مثل هذا الموقف.. وربما لم يدُرْ ذلك بخلدهم أول الأمر، ولكنهم بالتدريج فكروا: لماذا لا نصرف خطر اليهود بعيدا عنا ونوجهه نحو عالم الإسلام؟ فإن هذا سيحقق لنا ميزة مزدوجة: نقتل عصفورين بحجر واحد، أو نتخلص من عدوين في وقت واحد. (خطبة جمعة 15 فبراير 1991)

أين هي العدالة؟ إن السياسة الغربية وممارساتها الدبلوماسية تسمى في قاموس الإسلام دجلاً. وقد وصلت بلاد الغرب اليوم إلى أقصى حدود الدجل باسم الدبلوماسية والسياسة. يغلّفون جرائمهم دائما في أغلفة كرقة في الكلمات، ودعايات قوية تقدِّم كلامهم في صورة منطقية. (خطبة جمعة 7 أغسطس 1990)

لم نسمع من أي خبير غربي يبين لنا: إذا كان هؤلاء القادة (قادة العرب والمسلمين) مرضى حقا، فما هو المرض الذي أوجد هذه العقول المريضة؟ ولم يفكروا أنه حتى لو قطعت تلك الرؤوس المريضة فسيبقى المرض، ليتولد منه مزيد من الرؤوس التي لن تكون أبدا خالية من المرض وتأثيراته. ما هو هذا المرض؟ إنه إنشاء دولة إسرائيل في هذه المنطقة، ثم استمرار التمييز في تعامل الغرب مع إسرائيل. فما كان هناك موقف يثير مسألة رعاية مصلحة إسرائيل في مقابل مصلحة العرب المسلمين إلا وكان الغرب دائما وأبدا، ودونما استثناء واحد، يهرَع إلى تفضيل مصلحة إسرائيل والتضحيةِ بمصالح العالم العربي المسلم…. هكذا كانت دائما استجابة الغرب في كل مناسبة ليتخلصوا من العالم العربي الجاهل في نظرهم، ويحموا العالم من أذاه، وسبيلهم الوحيد لذلك هو تفكيك العرب وتفتيتهم إلى قطع صغيرة، وتدمير كل إمكانيات نهضتهم في المستقبل. (خطبة الجمعة 24 أغسطس1990)

نصيحتي إلى القوى المتحالفة وإلى قادة الحلفاء: إذا كنتم ترغبون حقا في الصالح العام وخير البشرية والسلام الدائم.. وقد رأيتم كيف فشلتْ مبادئكم السياسية مرارا، وعجزتْ عن توطيد السلام في العالم.. فبالله عليكم تَعلّموا اليوم درسا، واتّبعوا مبادئ الإسلام السياسية التي تتسم بالتقوى وجذورها في التقوى، وتنمو في ماء التقوى، وتزدهر وتنتعش بماء التقوى. فلو اتبعتم تلك المبادئ الإسلامية….. فهي الوسيلة الوحيدة الأكيدة ليكون في العالم سلام دائم… أؤكد لكم إذا بقيت مقاصدها (أي مقاصد القوى الغربية).. كما كانت مقاصد الساسة في كل الأزمنة.. قائمةً على الإثرة بدلا من مكارم الأخلاق، فلن يكون بوسعها أبدا تحقيق السلام للعالم. لا بد للدول العظمى أولاً أن تقتل الذئاب الكامنة في غابات نيَّاتها هي.

وهنا يبرز أهم سؤال: إذا كان العالم الإسلامي نفسه لا يقبل العدالة كما يقدمها القرآن ولا يطبق نظام العدالة الإسلامية في بلاده.. ولا يُقيم مفاهيمه على العدالة.. فكيف يَدْعو العالمَ إلى عدالة الإسلام؟ هذا محال. فما دام العالم الإسلامي لا يقوم بنفسه على العدالة.. أي لا يقوم على مفهوم العدالة القرآني.. فلن يستطيع منح السلام للعالم ولن يستطيع أن يتوقع السلام من العالم.

وإن أعظم اللوم في هذا يقع على المشايخ المتعصبين والساسة، ذلك لأن مكائد الفئتين تقضي على نظام العدل الإسلامي….. لا يكفي إذن أن نشكو غير المسلمين بسبب الاعتداءات التي مارسوها علينا، بل يجب أن ننظر في داخلنا أيضا ونرى لماذا تُرتكب الاعتداءات ضدنا، ولماذا يستخدم العدو الماكر ضدنا أسلحة صنعها المسلمون بأيديهم؟ الحق أنه قد أنشئت في بلاد المسلمين مصانع -لأشد الأسلحة فتكا بالإسلام – يديرها المشايخ، وتُصدَّر هذه الأسلحة بكميات كبيرة إلى البلاد المعارضة، ثم تستعمل نفس الأسلحة ضد عالم الإسلام.

إن ساسة المسلمين يستحقون قسطا كبيرا من اللوم على هذا.. لأنهم لم يقوموا بأي محاولة لفهم الإسلام، وتركوا هذه المسؤولية للمشايخ، واعتقدوا أن أي صورة يرسمها المشايخ للإسلام صحيحة. ولقد رفضت ضمائرهم وعقولهم المتنورة هذه الصور، ولكن تنقصهم الشجاعة لمعارضة هذه المفاهيم.. رغم اعتبارهم إياها غير إسلامية. هذا الخلط السيكولوجي جعل من السياسة الإسلامية مريضا منافقا ذا وجهين.

وأشد ما يعذب النفس في عالم الإسلام اليوم أنهم يعلنون الجهاد باسم الله تعالى وباسم دين سيدنا محمد ، ويتبنون شروط السياسة اللادينية لهذا الغرض وينبذون وراء ظهورهم سياسة الإسلام العالية التي قدمها القرآن المجيد. ولذلك نجد أنه، باستثناء حالات نادرة، كلما اصطدم المسلمون في هذا العصر بأعدائهم وأعداء الله تعالى.. لقوا هزيمة مخزية، في حين أن وعْد الله تعالى في القرآن صريح ثابت:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (سورة الحج:40).

فهو تعالى يحذّر الأعداء من أولئك الذين خرجوا جهادا في سبيله وباسمه، ويقول إذا كان هؤلاء ضعفاء فالله ليس ضعيفا..سوف يعينهم، ولسوف ينصرهم على أعدائهم…..

فنصحي للبلاد الإسلامية أن يكونوا على علاقات محبة فيما بينهم، ويؤدوا مسئولياتهم في جو من الأخوّة الإسلامية الخاصة، ولكن عليهم ألا يدَعُوا الهوية الإسلامية تتصارع مع الهوية غير الإسلامية. لو استمر استقطاب المسلمين في جانب وغير المسلمين في جانب آخر، واعتبار قوى الغرب وحدها غير إسلامية.. فاعلموا أن دول العالم الأخرى أيضا تتوجس منكم خيفةً. لا تنسوا أن اليابان غير مسلمة، وكذلك كوريا وفيتنام والهند. فكل هذه القوى العظيمة في العالم ترى أن رسالتكم قد وصلتهم أيضا. ولذلك لو جعلتم الهوية الإسلامية في قتال مع البلاد غير الإسلامية لوقعتم في سياسة انتحارية غاية في الحماقة، ولن تجنوا شيئا، بل ستفقدون ما في أيديكم الآن.

إذن فلا يستطيع العالم الثالث أن يتحد ما لم يعمل وفقا لتعليم القرآن الكريم القائل:

وتعاونوا على البر والتقوى ،

وهو تعليم لا يشير إلى الفوارق الدينية بل يمكن بحسبه التحالف مع الوثني أو اليهودي أو النصراني أو حتى مع الملحد. ينبغي أن تتعاملوا فقط بالبر والتقوى، وتتعاونوا على ما هو خير فقط.

على هذا المبدأ من التعاون ينبغي أن تبسطوا يد التحالف إلى هذه الأمم. ولذلك فمن الضروري جدا إنشاء “مجلس الأمم المتحدة” للأمم الفقيرة.

ويجب أن يتضمن دستور هذه المنظمة ما يلزمها بإصدار القرارات التي تستطيع تنفيذها حقًّا. كما يجب أن يتعهد كل عضو فيها بالتزامه بقبول حكومة العدل في كل حال. وينبغي أن يكون هناك نظام فعال وعادل، للتحاور والتشاور.. تحت إشراف هذه المنظمة، لحل القضايا والمشاكل المتعلقة بدول العالم الثالث. كما لا بد وأن يتقوى في هذه الأمم الضعيفة الاتجاه الذي ينأى بهم عن اللجوء إلى الأمم القوية لحل قضاياهم والتدخل في شؤونهم.

إن في هيئة الأمم المتحدة الحالية تناقضات متأصلة، وينبغي أن نتعلم منها حتى لا تنطوي مؤسساتنا على تناقضات. وكما قلت.. إنها قاعدة قهرية ظالمة.. أن أية دولة من الدول القوية دائمة العضوية، مثل أمريكا أو الاتحاد السوفييتي أو فرنسا أو بريطانيا أو الصين، لو أرادت أن تعتدي على دولة وتهاجمها بنفسها أو عن طريق دولة عميلة تابعة لها، فلا يملك أحد حق الانتقام من المعتدي.. ما دامت واحدة من الدول الدائمة في مجلس الأمن مصرة على حمايتها من العقاب، اعتمادا على حق الفيتو أي الاعتراض على قرارات المجلس. (خطبة جمعة 8 مارس 1991)

وفيما يتعلق بنا.. فقد أخبرنا ربنا من قبل أننا ضعفاء. لقد أخبرنا سيدنا ونبينا محمد قبل 14 قرنا أن الله تعالى سوف يخلق أو يقيم في المستقبل أمما عظيمة قوية لا قِبَلَ لأحد بقتالها، فينبغي ألا يدور بخلدكم قتالهم بأسلحة الدنيا. ذلك مسطور في كتب الحديث…. لقد أخبرنا النبي أننا غير قادرين على إحراز أي شيء إلا بالدعاء. إن قدر الله تعالى هو الذي سوف يدمر القوى العظمى إذا ما عزمت على فعل الشر في العالم. أما وقد جعل الله سائر العالم بلا سلاح ولا حيلة من ناحية، وأعطى القوى العظمى فرصة لعمل الشر من ناحية أخرى، فإن مسئولية حماية الضعفاء تكون في يد الله يقينا.

هناك إذَنْ وسيلة وحيدة للحصول على التأييد السماوي.. ذلك أن تقيموا علاقات مع الله تعالى، وأن يصلح المرء نفسه قدر وسعه. يجب أن لا ترتكبوا أي شر باسم الإسلام. يجب أن تمحوا كلمة الإرهاب من قاموس المسلمين. إن الفوضى والشر وتخزين المشاكل لإيذاء الآخرين هي أفعال الحمقى ولا علاقة لها بالإسلام بتاتا. ينبغي عليكم أن تدخلوا في السلم وتصلحوا أعمالكم ومعاملاتكم فيما بينكم وعلاقاتكم مع الأمم الأخرى، وتنتظروا بصبر.. وسترون كيف يتغلب قدر الله على خداع الماكرين الأشرار. (خطبة الجمعة 8 مارس 1991)

إن دعوتي هذه دعوة “درويش”. إنها نصيحة إنسان متواضع.. ولو وَعاها قلب وانصاع لها انتفع بها، لأنها تعاليم القرآن الكريم. أما إذا رفضتم نصيحتنا بدافع الكِبر والرعونة.. فإني أحذركم اليوم.. بأن عالم الإسلام سوف يواجه أخطارًا فظيعة لا قبل له بها.. وسيبقى بسببها باكيًا يندب حظه، ضاربًا برأسه في الصخر لأمد بعيد، ولن يكون له مخرج منها، ولن يكون له سبيل لاستعادة قوته الضائعة وشرفه وكرامته التي اكتسبها.. ويمكن أن يكتسبها.

الواقع أن بلاد المسلمين قد وصلت إلى مرحلة بحيث إذا استمروا في التقدم بهدوء وحكمة، بعيدًا عن العنف، فإنهم في العشر أو الخمس عشر سنة القادمة سيتمكنون من أن يكونوا قوة عظمى، لا ينظر إليها الآخرون نظرة سوء حتى وإن أرادوا ذلك. أما إذا تعثروا الآن وارتكبوا الخطأ.. فسوف يقعون في وهدة هلاك يتعذر منها النجاة.” (خطبة الجمعة بتاريخ 17 أغسطس 1990)

بعض المواقف الجليلة الأخرى للجماعة مع القادة العرب

كما اهتمت الجماعة الإسلامية الأحمدية بالعرب ولم تقصّر في إخلاصها لهم وإسداء النصح إليهم والدفاع عن قضاياهم، فإنها أيضا قد أبدت احتراما خاصا لمن تولى زمام الحكم في الحجاز، وذلك لأن الله تعالى قد منحهم شرف خدمة الحرمين الشريفين. كان احترامها لهم  نابعا من حبها العميق للنبي والمقامات المقدسة في تلك الأراضي المباركة.

وفيما يلي نقدم بعض الأحداث الهامة التي تفصح عن العلاقة الطيبة للجماعة الإسلامية الأحمدية مع هؤلاء القادة القدامى.

طلبُ الجماعة إلى قادة العرب لافتتاح مسجد “الفضل”

كان للجماعة شرف إنشاء أول مسجد في لندن. لقد وضع حجر أساسه الخليفة الثاني عام 1924. ولما اكتمل بناؤه في 1926 كتب المولوي عبد الرحيم درد – الداعية الإسلامي هناك – بأمر من الخليفة الثاني رسالة إلى الملك فيصل عاهل العراق التمس منه فيها جلالة الملك تكليف ابنه “زيد” بمهمة افتتاح هذا المسجد التاريخي. ولم تمر إلا أيام قليلة حتى زار العاهل العراقي أوروبا، فاغتنمت الجماعة هذه الفرصة وتقدمت إليه  بطلب آخر بأن يتفضل بنفسه بافتتاح المسجد ما دام موجودا هناك، ولكنه لم يردّ بشيء.

ثم توجهت الجماعة إلى العاهل السعودي عبد العزيز بن سعود، فأرسلت له برقية طالبة منه إيفاد أحد أبنائه ليتولى مراسم افتتاح المسجد. فقبل هذا الطلب وأرسل الأمير فيصل ليقوم بهذه المهمة. فلما وصل إلى لندن استُقبل بحفاوة بالغة من قِبل المولوي عبد الرحيم درد. وانتشر خبر وصوله في أرجاء لندن وتناقلته الصحف اللندنية بأنه وصل هناك لافتتاح مسجد الفضل. إلا أن التغيير المفاجئ طرأ على موقفه فبدأ يتراجع عما جاء لأجله دون أن يصرح برفض الطلب المذكور. خلاصة القول لم يتشجع الأمير فيصل على افتتاح المسجد رغم أنه قد جاء من بلاده خصيصا لهذا الغرض.

فلما رأى المولوي عبد الرحيم تلكؤ الأمير أرسل إلى الخليفة الثاني برقية بأنه إذا لم يصل الأمير فيصل للافتتاح فيأذن له أن يطلب من السير عبد القادر (أحد كبار الساسة الهنود الذي كان متواجدًا عندها في لندن) أن يقوم بالافتتاح. وهكذا قام السير عبد القادر بافتتاح المسجد. (سلسلة أحمدية ص 384-386)

الأمير فيصل في مسجد “الفضل”

لقد سبق أن ذكرنا أن الاستعمار حين كان يخطط لتمزيق فلسطين وأحس العرب بالخطر، واجتمعت الوفود العربية لمناقشة هذه القضية الحساسة مع المستعمرين في لندن سنة 1939، قام حضرة إمام الجماعة الخليفة الثاني بتأييد الوفود العربية كل تأييد، ودعا لهم بالتوفيق من الأعماق، وذلك في برقية بعثها حضرته إلى الداعية الإسلامي الأحمدي حضرة جلال الدين شمس، فقرأها على مسامع الوفود العربية في مأدبة فخمة أقامتها الجماعة في مسجد الفضل بلندن ترحيبا وتكريما لهم.

مقابلة حضرة العرفاني مع الملك عبد العزيز آل سعود

لقد قام الشيخ يعقوب علي العرفاني (أحد كبار صحابة المسيح الموعود ) بالحج أثناء عودته من لندن في عام 1927. وقد حلّ ضيفا على أحد أصدقائه القدامى الشيخ إسماعيل الغزنوي الذي كان أحد مقربي الملك عبد العزيز ابن سعود. وكان في مكة شيخ هندي حاقد على الشيخ الغزنوي، فأراد الوشاية به عند الملك، فأبلغ الملكَ أن للشيخ العرفاني معتقدات سخيفة ومن المحتمل أن يثير ها هنا الفتنة والفساد.

كان الملك عبد العزيز يعرف معتقدات الجماعة، فلما طلب الشيخُ العرفاني مقابلته استفسر الملكُ شيخَ الإسلام عبد الله بن بلهيد قائلا: هل أقابله أم لا؟ فأشار عليه أن يقابله، ويسمع منه ما يقول. فقابله الشيخ العرفاني في لقاء حضره توفيق شريف وزير المعارف في السعودية أيضا. فتكلم الشيخ العرفاني مع الملك بصراحة ووضوح عن معتقدات الجماعة الإسلامية الأحمدية، وقدم له بعض كتب الجماعة أيضا.

وبعد هذا اللقاء عندما أخبر شيخ هندي – اسمه إسماعيل السورتي – جلالةَ الملك أن الشيخ الغزنوي هو مَن أحضر يعقوبَ علي العرفاني هنا، رد عليه الملك قائلا: لا علاقة للشيخ الغزنوي بهذا الرجل لأنه قد جاء للقائي مع توفيق شريف وقابلته بعد الاستشارة من الشيخ عبد الله بن بلهيد، وبالتالي قبلتُ منه ما أهداني من كتب.

ثم سأل الملكُ الشيخَ السورتي عن سبب مجيء الشيخ العرفاني، فرد عليه: لقد جاء للحج. فقال الملك: نحن أهل البادية نجير من يأتي إلى بيتنا ولو كان عدوا لنا، أما هو فقد جاء لزيارة بيت الله تعالى، فمن أنا أو أنت حتى نخرجه من بيت الله. أما ما قلتَ إنه سيثير الفتنة، فلو صدر منه ما يخالف القانون فإن الحكومة تتولى أمره.

يقول الشيخ يعقوب علي العرفاني لما علمتُ بهذا الحديث كله طلبتُ من جلالة الملك اللقاء ثانية، فلما حضرتُ عنده وتكلمت معه جرى بيننا الحوار التالي:

العرفاني: هل يعرف جلالة الملك لماذا حظِي بشرف خدمة الحرمين الشريفين؟

جلالة الملك: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

العرفاني: لا شك أنه فضل الله تعالى، ولكن لا بد من سبب وراء هذا الفضل.

جلالة الملك: لا أعرف ذلك. ما هو هذا السبب بحسب رأيك؟

العرفاني: كان جدُّ جلالتك قد جاء للحج في عهد الشريف عون، ولكنه منعه من الحج بسبب الاختلاف في المعتقدات. فلم يرض الله تعالى بتصرفه هذا، فنـزع منهم هذا الشرف ووهبه لآل سعود.

جلالة الملك: يا مرحبا.

العرفاني: إن مكة المكرمة مركز لمسلمي العالم أجمع، فسيقصدها الناس على اختلاف معتقداتهم ومذاهبهم، وذكّرتُ جلالتك بهذه الواقعة حتى لا تنسوا أنكم إذا تعرضتم لأحدٍ بناء على اختلاف المعتقدات، فسوف ينـزع الله تعالى منكم هذه الخدمة وسيعطيها لمن لا يتعرض لأحد بسبب هذا الاختلاف.

فوقف جلالة الملك وهو يستغفر الله تعالى وقال: لن أفعل ذلك أبدا. ثم قال: إن وجودك هنا دليل على أننا لا نتعرض لك، رغم أن أحدا قد وشى بك عندي إلا أننا لم نُعِرْه أدنى اهتمام.

العرفاني: لقد علمتُ بهذه الوشاية وهو ما دفعني إلى أن أبلّغكم هذا الحق. ولقد أدّيت واجبي بحمد الله تعالى.

وبعد ذلك أنهى الشيخ يعقوب علي العرفاني هذه الزيارة المباركة وغادر مكة المكرمة ووصل جدة في طريقه إلى قاديان، وهناك استلم برقية من الخليفة الثاني يأمر فيها بأن يذهب إلى الملك عبد العزيز ويقابله مرة أخرى. فألغى سفره وائتمر بأمر الخليفة الثاني وقابل جلالة الملك مرة أخرى.

(تلخيص من كتاب الحج للشيخ يعقوب على العرفاني ص250، 275 إلى277)

اكتشاف النفط في أرض الحجاز

كان الأستاذ غلام حسين أحد أبناء الجماعة البارين الذي تفوق في مجال الدراسة في الهند ووصل إلى رتبة نائب مدير للمدارس في إحدى المحافظات بالهند. وهو عم الدكتور محمد عبد السلام (الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء)، كما كان حماه أيضا. تقاعد من الوظيفة الحكومية في بداية الثلاثينيات ثم ذهب للحج وتأخر على أهله عدة شهور، فقلقوا عليه جدًا. فلما رجع سألوه عن سبب تأخره فأخبر أن أحدا أخبر الملكَ عبد العزيز بن سعود أنه عالم فذّ يتقن عدة لغات، فطلب منه الملكُ أن يترجم له بعض الكتب إلى الإنجليزية، فلم يستطع العودة إلى أهله إلا بعد إنجاز هذا العمل.

قال الأستاذ غلام حسين: في إحدى المرات قلت للملك عبد العزيز بن سعود: لا بد أن يخرج النفط من أرض الحجاز. فقال الملك كيف هذا؟ فلفتُّ انتباهه إلى حديث النبي التالي:

“لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى.” (البخاري، كتاب الفتن)

فوقر قوله في قلب الملك عبد العزيز بن سعود، فعقد اتفاقية مع شركة أجنبية للبحث عن النفط في أراضي السعودية، إلى أن اكتشف النفط هناك. (بتصرف من حوار مع زوجة الدكتور عبد السلام، مجلة “النور” لسان حال الجماعة الإسلامية الأحمدية في أمريكا، فبراير 2009 ص 35- 36)

مؤامرة ضد السعودية وموقف الأحمدية

وعندما عقد الملك عبد العزيز بن سعود الاتفاقية مع الشركة لاستخراج النفط من أراضيها عام 1935، أثيرت ضجة في جرائد الهند وغيرها من البلاد الإسلامية، وعُقدت اجتماعات ونُشرت كلمات مثيرة ضد العاهل السعودي، واعتبر المتظاهرون هذه القضية دينية بحتة وفتحوا جبهة كبيرة للمعارضة.

فكان موقف الخليفة الثاني موقفا وجيها. كان ينظر إلى الأوضاع في تلك البقعة المباركة من وجهة نظر مؤمن يغار على حرمة تلك المقامات المقدسة. فقال حضرته:

“نهتم دائما بشؤون العرب. كنا مع الأتراك لما كانوا يحكمون أراضي عربية، ولما تولى الشريف حسين الحكمَ عارضه الناس، ولكننا قلنا لهم لا يليق بكم أن تنشروا الفساد وتثيروا القلاقل في الأراضي المقدسة، بل يجب أن تعترفوا بحُكمِ مَن جعله الله حاكما على تلك البلاد، لتنتهي الفتن والقلاقل نهائيا من البلاد العربية. ثم لما تولى أهل نجد زمام الحكم أيّدنا الملك ابن سعود – مع أن الوهابيين وأهل الحديث هم أكبر معارضينا – إذ ليس من اللائق أن تتعرض مكة المكرمة للحروب اليومية. لقد أوذي أفراد جماعتنا وتعرضوا للضرب عندما ذهبوا للحج، ومع ذلك لم نرفع صوت الاحتجاج حتى من أجل حقوقنا أيضا لأننا لا نريد أن تُثار الفتن في تلك البقاع…..ليس عند الملك ابن سعود معرفة كافية حول المصطلحات الأوروبية وليس لديه اطلاع شامل على الشؤون العالمية، ولذلك لم يأخذ حذره في استخدام الكلمات المناسبة في الاتفاقية، بل اتبع فيها أسلوب عامة المسلمين. إن من شيمة المسلم أن يثق بالآخرين عادة، لكن لدى عقد الاتفاقيات يجب ألا يعتمد الإنسان على الآخرين بغير حذرٍ، وإنما عليه أن يختار الكلمات المناسبة بعد التأني والتفكير العميق. ومع أن هذه الاتفاقية قد عُقدت – على ما يبدو – مع الشركات الإنجليزية وليست مع الحكومة الإنجليزية، ومن الممكن ألا يكون الغدر والخداع في نية الشركة إلا أن هناك إمكانية أنها ستُوقع الملكَ ابن سعود في مشاكل إذا فسدت نيتها، ولكن مع كل ذلك لم نر من المناسب إثارة ضجة على هذا الأمر، لأننا رأينا أنْ لا فائدة من تشويه سمعة الملك، لأن ذلك سيؤدي إلى إضعاف قوته، وإذا ضعفت قوة الملك ضعفت قوة العرب. والآن من واجبنا أن نساعد الملك بأدعيتنا ونوحد كلمتنا الإسلامية حتى لا يجرؤ أحد على استغلال ضعف الملك.” (خطبات محمود ج 16 ص 549 إلى 551، خطبة الجمعة بتاريخ 30 أغسطس 1935)

يتلخص هذا المقتبس في أمور ثلاثة كان الخليفة الثاني يسعى لتحقيقها  نتيجةً لحبه للنبي واحترامه للأماكن المقدسة:

  1. ألا يحدث أي فساد وفتنة عند هذه الأماكن المقدسة،
  2. أن قوة ملك الحجاز تمثل قوة العرب فإن ضعف فستضعف قوة العرب كلهم، فلا بد من تقوية الملك حتى يظهر العرب أقوياء في العالم،
  3. توحيد الكلمة الإسلامية بمناصرة المسلمين بعضهم بعضا حتى لا يجد العدو ثغرة يستهدف من خلالها مهاجمة الإسلام.

خدمات الدكتور محمد عبد السلام

وتنويها بالخدمات المشكورة التي قام بها الابن البار الأحمدي الدكتور عبد السلام (أول مسلم حصل على جائزة نوبل في الفيزياء) للنهوض بالدول العربية في مجال البحث العلمي، منحته المملكة المغربية عضوية المجمع العلمي المغربي. كذلك فقد تمت استضافته في الأردن، وألقى المحاضرات العلمية في الجامعات الأردنية، ومُنح شهادة تقدير من جامعة اليرموك تقديرا لجهوده العلمية. وكذلك دُعي لإلقاء المحاضرات في الكويت عام 1981.

Share via
تابعونا على الفايس بوك