44 نابغتان من صلحاء العرب

44 نابغتان من صلحاء العرب

عبد المؤمن طاهر


لقد كتب سيدنا المسيح الموعود رسالة إلى السيد مير عباس علي شاه في 6 نيسان/ إبريل عام 1885م الموافق 19جمادى الثاني 1302هـ جاء فيها:

“لقد أُوحيَ إليّ: “يدعون لك أبدالُ الشام وعبادُ الله من العرب”. والله أعلم ما هذا الأمر، ومتى وكيف يظهر، والله أعلم بالصواب. رأيت من المناسب أن أخبرك به”.

وقد تلقى حضرته هذا الوحي قبل أن يأخذ البيعة بحوالي أربع سنوات. ثم لما بدأ بأخذها في 23 آذار 1889م بأمر الله أخذ الناس يتوافدون عليه؛ فمنهم من كان من الهند ومنهم من كان من البلاد العربية عامة، وكان أول المبايعين العرب الشيخ محمد بن أحمد المكي وأول من بايع من بلاد الشام محمد سعيد الطرابلسي الشامي .

نذكر فيما يلي مِن الصلحاء الذين قبلوا الأحمدية في عهد خلفاء المسيح الموعود ، شخصيتين بارزتين على مستوى الوطن العربي كله، كانتا على علاقة وطيدة مع الخلفاء وحازتا ألطافهم وكرمهم وأدعيتهم، ألا وهما الأمير الأول لجماعة الشام السيد منير الحصني والأستاذ المرحوم محمد حلمي الشافعي رئيس الجماعة في مصر.

الأستاذ منــير الحـــصني

علَم من أعلام المسلمين الأحمديين وجبل شامخ في بلاد العرب. اشتهر بإخلاصه، وشجاعته وجرأته في الحق. من مواليد دمشق. درس بكلية صلاح الدين الأيوبي بالقدس أثناء الحرب العالمية الأولى، وهناك تعرف على الأحمدية عن طريق حضرة زين العابدين ولي الله شاه، الذي كان مدرسا لتاريخ الأديان بالكلية الصلاحية. وبعد الحرب سافر الأستاذ إلى ألمانيا لدراسة القانون في جامعة برلين، ورجع من هناك في عام 1925م.

التقى برائد الأحمدية في بلاد العرب، مولانا جلال الدين شمس، الذي وصل مع الأستاذ زين العابدين ولي الله شاه في نفس العام للدعوة في بلاد العرب. دخل الأستاذ منير في الجماعة عام 1927 وأبدى استقامة عجيبة وأسوة حسنة، ونذر حياته لخدمة  الإسلام، فكان أكبر مؤيد ومعين للأستاذ شمس. أقام مركزا للجماعة بدمشق، وبقي على صلة بالأستاذ شمس الذي توجه إلى فلسطين وأنشأ مركزا للجماعة في الكبابير بحيفا، ثم من بعده بالأستاذ أبي العطاء الجالندهري. وانتقل الأستاذ منير إلى الكبابير لمساعدة المبشر في الأنشطة التي اتسعت، وجعل من الكبابير مركزا تبشيريا للدعوة الإسلامية الأحمدية في الشرق الأوسط. عُين أميرا للجماعة الأحمدية في سورية في 1928، وبقي في هذا المنصب الرفيع حتى وفاته. وظل دائما معينا لكل مبشر يقدُم لبلاد العرب. فعاون الأستاذ محمد سليم 1936، ثم الأستاذ محمد شريف 1938. وتنقل بين مصر وفلسطين وسورية لخدمة الأحمدية. وقد كتب في مجلة “البشرى” كثيرا من المواضيع والقصائد والأناشيد.

كان حضرته من أوائل الموصين العرب، وصَدَقَ عَهْدَ البيعة والوقف، فآثر دينه على دنياه حقا وبدل نفسه تبديلا، ولصدقِ جهاده حظي بتقدير الخلفاء حتى تشرف عام 1970 بأن يكون نائبًا عن حضرة الخليفة الثالث في رئاسة الاجتماع السنوي، وذلك عندما مرض حضرته يوم ذلك الاجتماع.

بعد خدمة الأحمدية لثلاث وستين سنة تُوفي هذا الرجل الصالح بدمشق عام 1988 عن عمر يناهز التسعين، رحمه الله رحمة واسعة. وقد سماه حضرة الخليفة الرابع -رحمه الله- عند وفاته في خطبة الجمعة: واحدًا من أبدال الشام وصلحاء العرب.

لقد فارق الأستاذ منير الحصني هذه الدار وله فيها من الباقيات الصالحات ما سيبقى بإذن الله إلى الأبد. لقد كتب حضرته العديد من الكتب والمقالات والقصائد والكتب، ومن أهمها كتابه القيم “المودودي في الميزان”.

فيما يلي نقتبس من رسالة الأستاذ المرحوم التي كتبها، بصفته أمير جماعة سوريا، إلى الخليفة الثاني لتُقرأ في الجلسة السنوية عام 1939م بمناسبة احتفال الجماعة بمرور ربع قرن على خلافته .

تحيـة دمـشق

تحييك الجزيرةُ والشآمُ

بشيرَ الدين والبيتُ الحرامُ

مولاي أمير المؤمنين أيده الله بنصره العزيز

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أناطت بي جماعة دمشق أن أرسل كلمة باسمها واسمي في يوم مهرجانكم العظيم تنوه فيها بفضلكم الكبير وأياديكم الغرة على ما أوليتموها من نعمة الهداية بفضل الله …

هذه دمشق – التي زرتموها يا مولاي على رأس وفدكم المبارك منذ بضع عشرة سنة، وأرتكم منها جموحًا فأبيتم إلا كبحه، وشماسا فأبيتم إلا رياضته، وأرسلتم لها خادمكم ولي الله زين العابدين وشمسكم جلال الدين، فأضاءاها بنوركم الذي هو من نور الله ونور المصطفى ونور والدكم العظيم أحمد المسيح الموعود ، ونشرا فيها تحت لوائكم الكريم حقائق الإسلام وآياته البينات – يقف أبناؤها الأحمديون الذين هم ربائب نعمتكم في حب الله، فيقدمون لكم أسمى التهاني في يوم تكريمكم العظيم ومهرجانكم الكبير ويشاركون إخوانهم الأحمديين في مشارق الأرض ومغاربها برفع أسمى آيات الشكر على نعمكم التي لا تعد ومننكم التي لا يدرك لها الحد، لأنها من نعم الله ذي الجلال.

مولاي هذه الخمس والعشرون السنة التي مرت على خلافتكم العظمى، يشهد العالم كله كيف أن جميع ملوك المسلمين وأمرائهم ومئات ملايينهم لم يعملوا شيئا من خدمة الإسلام في خلالها، بالرغم من إعطائكم أعظم درس للجميع في خدماتكم التي بهرت العقول وحيرت الألباب، إذ لم تتركوا قارة من قارات الدنيا الخمس إلا وغزوتموها بأبطالكم الميامين ورفعتم فيها صوت الإسلام عاليًا…..  وأختم كلمتي:

تحية دمشق

تحييك الجزيزة والشآمُ

بشيرَ الدين والبيتُ الحرامُ

.

تركتَ بجِلِّقٍ أثراً فهامتْ

بحبّكُمُ وحُقَّ لها الهيامُ

.

وما عجبٌ بأن نَكَرتْك يومًا

دمشقُ وقبلُ أُقّتتِ الكرامُ

.

بعثتَ بها الحياة فليس فيها

سوى ما قد بعثتَ له مقامُ

.

أمات الموتُ فيها كلَّ حِبٍّ

فإذ أحييتَها انبعثَ الغرامُ

.

دمشقٌ كان يكنفها ظلامٌ

فلما زرتَها ولّى الظلامُ

.

أمحمودُ العظيمُ ومَن يرجّى

لدين الله غيرُك أو يرامُ

.

سبقتَ وليس بدعًا أن تُجلِّي

وهل في الأرض مثلكمُ هُمامُ

.

إلهُ الكون خارَك فاشرأبّتْ

لك الأعناق واطّردَ النظامُ

.

تخيّرَك المهيمن مِن أناس

رضوا بالله ربًّا واستقاموا

.

جماعة أحمدَ الموعودِ عيسى

عليه صلاةُ ربي والسلامُ

.

أميرَ المؤمنين وهل سِواكم

لنشر الدين في الدنيا إمامُ

.

نصرتَ محمدا خيرَ البرايا

فتَمَّ لدينه بكمُ القيامُ

.

ستملك هذه الدنيا يقينا

وعُدّتُك المعارف لا الحُسامُ

.

وتظهر عزةُ الإسلام فيها

فيحييها كما يحيي الغمامُ

.

أميرَ المؤمنين كُسيتَ ثوبا

من الرحمن تَمَّ به انسجامُ

.

وهل غيرُ الخلافة مِن رداءٍ

به للدين يستعلي ذِمامُ

.

رفقتَ شمائلا وعظمتَ كعبا

ففي حاليك قد عظُم المقامُ

.

سموتَ على الأنام بكل فضل

وقصّر عن سموّكمُ الأنامُ

.

ملوك الأرض يفنى كلُّ مجد

لهم ولمجدكم أبدًا دوامُ

.

لنا في المجد يوما بعد يوم

بكم فتح جديد واعتزامُ

.

وكيف نخاف فَقْدَ المجد يوما

ومحمودُ العظيمُ لنا إمامُ

.

أيا بدراً يضيء بكل وقت

على الدنيا ووالده التمامُ

.

بقيتَ خليفةَ الرحمن فينا

طويلا تهتدي بكم الأنامُ

.

وعَمَّ البِشر والأفراح دوما

بكم مولاي وانتشرَ السلامُ

.

حباك الله فضلا بعد فضل

ليغدو بدرُ دينكمُ تمامُ

الحاج محــمد حلــمي الشــافعي

وُلد المرحوم محمد حلمي الشافعي في 21 مارس/آذار سنة 1929 لأب أزهري. انضمّ إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية في ستينيات القرن الماضي إثر نقاشات طويلة مع الأستاذ مصطفى ثابت، حيث كانا يعملان في حقول البترول في سيناء. وقد أوقف المرحوم الشافعي حياته بعد التقاعد لخدمة الإسلام، فجعل جلّ وقته يترجم كتب الجماعة وخطب الخليفة، ويرد على الاعتراضات ويقوم بالجولات التبليغية في أوروبا وأفريقيا، ويحرر مجلة “التقوى”، ويترجم كلام الخليفة الرابع – رحمه الله- في البرنامج الشهير “لقاء مع العرب” الذي كان يجيب فيه أمير المؤمنين على الأسئلة الواردة.

علاقته مع الخلفاء

التقى المرحوم بالخليفة الثالث -رحمه الله- حين شارك في الجلسة السنوية في ربوة، وكان الخليفة في ذلك الوقت مريضا، فيقول المرحوم عن مرض حضرته ومشاعر الأحمديين: “كنت أراهم يجتمعون للدعاء ويجمعون التبرعات للصدقة، عسى الله أن يشفيه ويعيده إليهم سالما…. لأول مرة أرى أناسا يبكون عندما عرفوا أن إمامهم مريض، وكانوا يدعون له بحرارة وبشدة. هذه العلاقة لا يجدها الإنسان حتى في أقربائه؛ ربما أبكي لأبي أو لأخي أو لابني.. ولكن  الإمام أحبُّ إليهم من أولادهم وأهليهم.”

لقاؤه بالخليفة الرابع رحمه الله

يقول وهو يتحدث في حوار في قناتنا الفضائية عن استقراره في بريطانيا لخدمة الجماعة:

“قابلت الخليفة الحالي- أطال الله عمره- فكلفني ببعض الأعمال. فكانت عندي فرصة أن أقابله وأجلس إليه. فعرفتُ ما هي الأحمدية حقيقةً، وتصورت المجتمع الإسلامي في عهد النبي … رأيت الجسد الواحد، ورأيت المسلمين في توادهم وتراحمهم…. في كل يوم أدخل في الأحمدية من جديد، لأني أجد شيئا جديدا يقربني من الأحمدية…. إن رداء الخلافة يضفي على الإنسان صفات لا يحس بها قبل ذلك. ومنذ بيعته وقع حبه في قلبي بوصفه الإمام وبوصفه خليفة سيدنا الإمام المهدي، ولشخصيته الرقيقة والطيبة… كان ملاكا طيبا وودودا. كلماته رقيقة وإن كانت هيبته موجودة على وجهه. وإني أتشرف بلقائه، وفي كل يوم يعلم الله كيف أزداد حبا له. وأتمنى أن يذوق المسلمون جميعا هذا الحب، لأن هذا الحب هو الذي يجمع المسلمين ويجعلهم جسدا واحدا.”

الخليفة الرابع يرثيه

وقد توفي الأستاذ حلمي على باب مكتب أمير المؤمنين إثر نوبة قلبية بعيْد وصوله هناك لمقابلة حضرته في 23 رمضان الموافق 12-2-1996 بعد أن رجع من مصر. وقد رثاه الخليفة الرابع -رحمه الله- أثناء درس القرآن في رمضان بتاريخ 14شباط/فبراير، فقال:

“انتقل إلى رحمة الله أخ حبيب وإنسان فدائي، هو حضرة الأستاذ حلمي الشافعي، وسوف نصلي عليه صلاة الجنازة بعد قليل عندما أرجع لأصلي بكم صلاة الظهر.لقد شاهده كثير من الإخوة من خلال برنامج “لقاء مع العرب” على قناتنا الفضائية. كان الإخوة من كل أنحاء العالم يكتبون إليّ في رسائلهم أن الأستاذ إنسان رائع  محبوب جدا، والحق أن هذا البرنامج يكتسب بهاء وحيوية بوجوده فيه، فالنفس ترتاح برؤية وجهه وإخلاصه، وحديثه وترجمته، وفصاحته وبلاغته. ولم يكن الإخوة الأحمديون وحدهم يثنون عليه خيرا، بل كنت أتلقى رسائل مدح وثناء من عرب غير أحمديين.كان أسلوب بيانه جميلا جدا، وكنت أقول له: إنني أجد في ترجمتك لكلامي متعة لا أجدها في تراجم الآخرين، لأنني أشعر بأنك تترجم كلامي غائصا في نفسي. كان يبكي ببكائي ويضحك بضحكي، وكان يُخيّل إليّ كأن قلبينا يعزفان على وتر واحد. كان يترجم كلامي بنفس الطبيعة والمزاج اللذيْن كنت أتحدث بهما، فكان صوته يرتفع أو ينخفض بحسب عواطفي، وكانت أمارات الحزن بادية في وجهه عند حديث حزين، كما كان وجهه يتهلل فرحًا عند أمر سار. لقد وهبه الله ملكة خاصة في هذه الأمور. لقد فتح المرحوم بذلك بابا جديدا في حقل الترجمة. لم أعرف إلى اليوم مترجما ينسجم مع المتحدث تمامًا بأمارات وجهه، واختيار كلماته، وأسلوب كلامه. هناك مترجمون بارعون في جماعتنا بألمانيا، ولكن هذه الأمور خاصة بالمرحوم، ولأجل ذلك كان محبوبا جدا لدى جميع الإخوة في العالم”.

وأضاف حضرته:

“لقد سافر الأستاذ في الفترة الأخيرة إلى وطنه مصر لبعض المهام، حيث أصيب بنوبة قلبية شديدة للغاية، ولكنه أصر على الأطباء بأن لا بد له من العودة إلى لندن، فرفض الأطباء طلبه بكل صرامة، وقالوا: لا يمكن ذلك؛ فصحّتك لا تسمح. ولكن يبدو أنه ألح في طلبه كثيرا حتى رضوا له بالسفر كارهين.وأثناء وجوده في مصر ما كان يشاهد برنامج لقاء مع العرب إلا ويجهش بالبكاء، ويقول: يا ليتني أرجع مرة أخرى إلى لندن، وأجالس أمير المؤمنين لأترجم له. كان يعشق هذا العمل، وكان يحب خدمة الدين حبا جما، كان في مجال تراجم الكتب مثل التفسير الكبير وغيره من أنصار الله الفدائيين المخلصين من الطراز الأول”.

وبعد درس القرآن الكريم وصل أمير المؤمنين إلى دار الضيافة المجاورة لمسجد الفضل، حيث جثمانه الطاهر، فقبَّل وجهه في حبّ ورقّة، ودعا له بضع دقائق، ثم حمل مع الإخوة التابوت إلى فناء المسجد، وصلى عليه الجنازة.

وقد دفن المرحوم -حسب رغبته- في المقبرة الأحمدية في “بروك وود” بغرب مدينة ووكنغ. (الفضل العالمية، 22 شباط/فبراير 1996)

حين وصل المرحوم من مصر إلى “إسلام آباد” بعد مرضه، بعث إليه الخليفة -رحمه الله- طبيبًا أحمديًا ليفحصه، فلما رفع الطبيب تقريره عن صحة المرحوم وصف له أميرُ المؤمنين أدوية وأهدى له سلة جميلة من الثمار مع رسالة يقول له فيها: “إنني أودّ عيادتك في بيتك، ولكن الأشغال الكثيرة المكثفة في رمضان لا تسمح بذلك، فاسترحْ في بيتك، إلى أن أزورك هناك بعد رمضان بإذن الله تعالى، وعندما تنتقل إلى بيتك الجديد بالقرب من مسجد الفضل فسأقوم بمعالجتك تحت رعايتي”.

فلما قدمتُ له هدية أمير المؤمنين مع الرسالة بدأ يبكي ويقول: لماذا يحبّني أمير المؤمنين هكذا، هذا ما يقتلني.

إن معظم ما نُشر في مجلة التقوى منذ سنة 1990 وحتى وفاته كان بقلمه أو من تراجمه.

يروي عنه الأستاذ نصير أحمد قمر أنه قال له مرة: “لقد أضعتُ معظم عمري في مشاغل الدنيا، ولا أدري كم بقي لي من العمر، لذلك أحب أن تصل هذه الكنوز الروحانية إلى يد العرب بأسرع ما يمكن”.

“وكان المرحوم يعمل 18 – 20 ساعة يوميا أثناء ترجمة التفسير الكبير وخطب أمير المؤمنين. وكان ينسى تناول الطعام مرارا، ويقول: لا أريد إضاعة الوقت في الأكل، بل أريد استغلاله في العمل”.

رحمهما الله رحمة واسعة، وكثّر من أمثالهما.

Share via
تابعونا على الفايس بوك