34 آيات رأيناها في عهد الخلفاء

34 آيات رأيناها في عهد الخلفاء

عبد المؤمن طاهر

__

لقد بين سيدنا المسيح الموعود والإمام المهدي أن الدين الذي لا يؤيده الله تعالى بآيات بينة ومعجزات متجددة يصبح ميتًا لا حياةَ فيه، وقشرًا لا لُبَّ فيه، ومجرد قصة تروى. ولقد ماتت الأديان كلها إلا الإسلام، لأن الله تعالى ما زال يؤيده بنصره، ويُري الآياتِ على صدقه، وقد أقامني في هذا العصر ليُري على يدي آياته المتجددة تبيانًا لصدق الإسلام ونبي الإسلام .

ولقد أظهر الله على يد المسيح الموعود آلاف الآيات، وما زال يُظهرها على أيدي خلفائه العظام حتى اليوم، وسيظل يُظهِرها – بإذنه – إلى أن يرث الأرض ومن عليها. وفيما يلي أسجل ثلاثًا من تلك الآيات البينات والمعجزات التي أظهرها الله تعالى على أيدي الخلفاء في حياتنا ورأيناها بأم أعيننا.

أولاً: “كلبٌ يموت على كلب”

في شهر فبراير/شباط عام 1974 انعقدت ثاني قمة إسلامية في لاهور بباكستان، وذلك حين كان “ذو الفقار علي بوتو” (والد بينظير بوتو) يحكم البلاد. وقبل انعقادها، بدأت الأخبار تصل أن مؤامرة ستُدبَّر ضد الجماعة الإسلامية الأحمدية في هذه القمة، وكانت غايتها أن يبايَع الملكُ السعودي فيصل خليفةً للمسلمين، حتى كان بعض الرؤساء -كالرئيس الأوغندي “عيدي أمين” – يُدلون بتصريحات في حقه، ووُزِّعت كتيبات ضد الجماعة في هذه القمة.

وبعد شهرٍ ونصف، عقدت “رابطة العالم الإسلامي” اجتماعها في مكة المكرمة. فتكونت لجنة برئاسة المندوب السعودي د. مجاهد الصواف، فأعدّت قرارًا يطالب الحكومات الإسلامية اعتبارَ الأحمديين أقلية غير مسلمة، وفرْضَ الحظر على توظيفهم. وقد وافقت اللجنة على هذا الطلب إلا أن المندوب الباكستاني وافق على الجزء الديني للطلب فقط، ولم يوافق على طلب حظر التوظيف. ولكن المندوب السعودي الذي كان رئيسًا لتلك اللجنة أصرَّ على فرض الحظر على توظيفهم، وقال: إن السعودية قد فرضت هذا الحظر بناءً على فتاوى العلماء.

ثم في 29 مايو/أيار أثار طلاب كلية “نِشْتَر” بملتان فتنةً في محطة القطار بربوة. فاندلعت الاضطرابات الدموية ضد المسلمين الأحمديين في سائر باكستان، واستمرت قرابة سنة، قدم فيها المسلمون الأحمديون التضحيات بأموالهم وأنفسهم.

وفي شهر أغسطس دُعي الخليفة الثالث حضرة مرزا ناصر أحمد -رحمه الله- إلى مجلس الشعب الباكستاني للرد على أسئلة المشايخ من جميع الفِرق الإسلامية سنةً وشيعة، واستمرت المناقشة أكثر من عشرة أيام واستغرقت 52 ساعة كاملة. فأفحمهم بحججه الدامغة، وحذَّرهم مرارًا وتكرارًا من اتخاذ أي قرار يجعلهم في جانب ويجعلنا في جانب آخر، وإلا سيتحقق فيهم حديث الرسول الذي أنذر فيه أمته وقال:

“إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً. قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي”. (الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة).

إلا أن الضغط السعودي كان شديدًا على مجلس الشعب الباكستاني، فأعلن في 7 سبتمبر/ أيلول اعتبار المسلمين الأحمديين أقلية غير مسلمة، وهكذا تحققت نبوءة سيدنا محمد رسول الله عن الفرقة الناجية بكل جلاء.

لقد نُفّذت المؤامرة ضد الأحمدية، ولكن لم يسلم  من عقاب الله تعالى قطبا رحاها.. أعني الملك السعودي فيصل والحاكم الباكستاني “ذو الفقار علي بوتو”. فقد قُتل الملك فيصل بعد ذلك بقليل بيد ابن أخيه، أما “بوتو” فلقي مصيره التعيس بعد سنوات قليلة وفيما يلي بعض تفاصيله.

إعـدام “بـوتـو”

وكان هلاك “بوتو” آية عظيمة على التأييد الرباني للأحمدية ودليلا على صدق مؤسسِها ، إذ كان قتله تحقيقًا لنبأ عظيم أوحى به الله إليه ، وتعريبه:

“منذ أيام أخبرني الله تعالى عن موت شخص، وكان هذا الإخبار على شكل قيمة عددية لبعض حروف الهجاء وأشار إليه وحي الله تعالى الذي جاء فيه: “كلبٌ يموت على كلب”.. أي أنه كلب، وسيموت على عدد لفظ “كلب” الذي يدل على سِنّ  52.. يعني أن سن هذا الشخص لن تتجاوز 52 عامًا، بل عندما يدخل في السنة الـ 52 من عمره يرتحل في السنة نفسها إلى الآخرة.” (إزالة أوهام، الخزائن الروحانية ج 3 ص 190)

وبيان ذلك أن حكومة “بوتو”لم تكتفِ باعتبار الأحمدية فرقة غير مسلمة فقط بناء على قرار مجلس الشعب، بل حرّضت الرعاعَ من أتباع المشايخ المتطرفين المعارضين للأحمدية على قتل أبنائها المسالمين العزل ونهب أموالهم وهدم بيوتهم ومحلاتهم. فنُهبت آلاف البيوت، وحُرقت آلاف المحلات، واعتُقِل المئات، واستُشهد العشرات، وفُصل المئات من الوظائف، وطُرد العشرات من المدارس والجامعات، وتعرض الأحمديون في كل أنحاء باكستان لمقاطعة اجتماعية مشددة، حتى فُرض حظر شديد على وصول الحليب لأهل ربوة، وحُرم الآلاف من الاستقاء من الآبار، وحُبِس عشرات الآلاف منهم في بيوتهم، وسُوّدت وجوه العشرات ثم أُكرهوا على المشي في الأسواق، ودُسَّ الروث في فم بعضهم، ومُنعوا من دفن موتاهم في المقابر، ونُبشتْ قبور البعض، حتى أُخرجَ جثمان أحمدي من قبره في مدينة خوشاب، وأُلقي في العراء. والأدهى والأمرّ من ذلك أن الظالمين هاجموا مئات المساجد الأحمدية، فهدموها أو حرقوها مع المصاحف الموجودة فيها، أو أغلقوها، أو استولوا عليها بمساعدة الحكومة.

كان الأحمديون يذهبون إلى إمامهم -رحمه الله- منهوبين، ويرجعون من عنده فرحين مسرورين حيث كان يضع البلسم الشافي على جروحهم قائلاً: أبشِروا وابتهِجوا، فإن ما يُفعَل بكم قد فُعِل برسول الله وصحابته، ففِرّوا إلى الله وخِرّوا على أعتابه بالدعاء والبكاء، فإنه لا يضيع عباده الصالحين. وقال -رحمه الله- في إحدى خطبه ناصحًا جماعته: “لا داعي للقلق والاضطراب. مُروا من خلال هذه الهتافات، والفتاوى، والكتابات الكاذبة التي تطبع في الجرائد اليومية ضاحكين مستبشرين، ولا تكترثوا لها. ينبغي ألا يتولد الغيظ في قلوبكم، بل لِتتولد فيها عواطف الرحمة تجاه هؤلاء الناس. عندما أفكر أتألم أنا الآخر أحيانًا إذ كيف يمكن للإنسان أن ينحط لدرجة أن يكذب أولاً ثم يأخذ كذبه دليلاً يؤسس عليه مطالبةً مزيفةً مثيرةً للفتن. فعلى الإخوة أن يُكثِروا من الدعاء في هذه الظروف بأن يهب الله هؤلاء القوم العقل والفهم، ويهيئ لهم أسباب الفلاح والرشد والتأييد والنصر، وأن يحبهم كما يحبنا، لكي يفهم هؤلاء ويعقلوا وينضموا إلى جماعة هذا القائد الروحاني العظيم والخادم المتواضع لرسول الله .” (خطبات ناصر ج 5 ص 138-139)

أما “بوتو” فاستمر في ضحكه وعدوانه على الأحمديين، فكان يقول في كل اجتماع بكل زهو وغرور: أنا الذي قد قمتُ بحل القضية القاديانية المعلقة منذ 90 عامًا، حتى قال في نشوة الحُكم: سوف أُحمِّل الأحمديين إناء الشحذة، وسأقضي عليهم.

فتطرق الخليفة الثالث -رحمه الله- إلى تحديه فقال:

“تُحاك المكائد وتوضع الخطط الخطيرة ضد الجماعات الإلهية في العالم لتُسحق من على وجه الأرض. يعلن المعلنون أنهم إذا تولّوا زمام السُلطة فسيصلبون الأحمديين كلهم خلال ثلاثة أيام. ولكن لا يُصلب إلا مَن قدّر الله له أن يصلب، أما الذي قدّر الله له الحماية فينقذه  من النار الملتهبة ويُنـزله عن الصليب حيًا كالمسيح . لا قيمة للمكائد الدنيوية مقابل قدرة الله، ولا تنجح أبدًا. ولكن عندما توضع الخطط وتحاك المكائد بكل أنواعها لإيذاء هذه الجماعة الصغيرة التي هي على صلة متينة بربها وتتمسك به ولا تطيق الابتعاد عنه ، فإنها تقول لربها غير آبهةٍ بتخويف الدنيا: ربنا، إذا أردتَ منا التضحية بأنفسنا فلن نبخل في تقديمها، لأننا نريد رضاك، ولا يستطيع هذا العالم أن يضرنا إلا بما شئت، فثبِّتْ أقدامنا يا ربنا”. (خطبات ناصر ج 3 ص 397)

وقد تحدث حضرة مرزا طاهر أحمد (الخليفة الرابع فيما بعد) عن تلك الأيام العصيبة فقال:

في تلك الفترة قضيت كثيرًا من الليالي ساهرًا في كرب عظيم وباكيًا أمام ربي في التهجد قائلا: رب خُذْ الظالمين بعقابك. وفي إحدى الليالي استيقظت من النوم فجأةً، وسقطت من سريري دون قصد مني، إذ كان جسدي تحت سيطرةِ قوةٍ لا أستطيع وصفها. كنت في حالة وحي، إذ كنت أردد بصوت عال وجسمي يرتعد: “أَدْهَى وأَمَرُّ”، “أَدْهَى وأَمَرُّ”. فلما زالت هذه الحالة أدركت ما أقول. فقمت وفتحت المصحف ورأيت سياق هذه الكلمات في القرآن الكريم. (سيدنا طاهر سووينئر، جماعة بريطانيا، يوليو 4004)

وسياق الآيات واضح جلي وهو كالآتي:

أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (القمر:42-49)

المهم أن “بوتو” نسي أن للمظلومين ربًّا يأتي لنصرتهم بغتةً من حيث لا يُحتسب. وفعلاً جاءت النصرة الربانية بعد ثلاث سنوات شداد، حين أطاح بعرش “بوتو” أحدُ أعداء الأحمدية وهو الجنرال ضياء الحق، فألقاه في السجن، وبدأ محاكمته في قضية مزوّرة لقتل أحد السياسيين. واستمرت المحاكمة سنتين لم ينفك الأحمديون يعلنون خلالهما من أقصى البلاد إلى أقصاها، في جرائدهم وأحاديثهم للناس، أن عقاب “بوتو” لن ينتهي بالسجن، بل إن عقابه الحقيقي ينتظره وهو الإعدام، وسوف يُعدَم حين يدخل في الـ 52 سنة من عمره، وذلك بحسب إلهام للمسيح الموعود والإمام المهدي جاء فيه: “كلبٌ يموت على كلبٍ”، وقد فسره أن هذا إشارة إلى موتِ عدوٍ لي شديدِ العداء لدى دخوله السن 52، كما تشير إليه القيمة العددية لكلمة “كلب”

ك =[20]    ل=[30]    ب= [2]

20 + 30+ 2 = 52

ونحن على يقين أن العدو المشار إليه في الإلهام هو “بوتو”.

ولما سمع المشايخ ذلك أسرعوا إلى الجنرال ضياء الحق يتوسلون إليه أن لا يعدم “بوتو”، وإذا كان عازمًا على ذلك في كل حال فليُعْدِمْه فورًا أو بعد أن يتجاوز السن 52 حتى لا يقول الأحمديون إن نبوءة مؤسس جماعتهم قد تحققت. وكانت توسلاتهم إلى الجنرال مباشرةً وأيضًا عن طريق السياسيين والحكومات الخارجية وخصوصا السعودية. ولكنهم ما استطاعوا أن يردّوا قدر الله الذي قد أتى، فأُعدمَ “بوتو” عام 1979 تمامًا بعد أن دخل العام الـ 52 من عمره.

ويقول حضرة مرزا طاهر أحمد بهذا الشأن: كانت سنتان قد مضتا على صدور الحكم بإعدام “بوتو”، ولم يكن أحد يتصور أن حكم إعدامه سينفَّذ فعلاً. وفي الليلة السابقة ليوم 4 إبريل 1979 استيقظت من النوم بشعور قوي شديد رسخ في قلبي كالمسمار أن حادثًا قد وقع الآن. كنت مستلقيًا على السرير في حالة يقظة حتى حان الوقت لأخرج من سريري وأصلي التهجد ثم الفجر كالمعتاد. ليس من عادتي سماع الأخبار من المذياع في الصباح الباكر غير أني شغلت المذياع، فأول خبر سمعته في ذلك اليوم: لقد أُعدمَ السيد “بوتو”.

ثانيًا: هجرة الخليفة الرابع رحمه الله

كانت هجرة سيدنا مرزا طاهر أحمد -رحمه الله- من باكستان في الواقع تحقيقًا للنبوءات الإلهية. فهناك وحي للمسيح الموعود يتحدث بوضوح عن الهجرة: “داغ هجرت” أي صدمة الهجرة (التذكرة (مجموعة الوحي والرؤى والكشوف للمسيح الموعود ) ص 218 طبعة 2004 قاديان)، وقد تحقق هذا الوحي أولاً بهجرة الخليفة الثاني من قاديان إلى باكستان، ثم بهجرة خليفته الرابع -رحمه الله- من باكستان إلى لندن.

وهناك وحي آخر للمسيح الموعود نصه: “سيأتي عليك زمان كمثل زمان موسى” (التذكرة ص 366). وثمة رؤيا للمسيح الموعود حيث قال: رأيت أني أصبحت عليًا. وفي آخر هذه الرؤيا قال : “ثم كشف الله عليّ بوحيه أن شخصًا من المعارضين يقول عني: دعوني أقتلْ موسى”. (التذكرة ص 169)

وقد قال الخليفة الثاني في تفسير قول الله تعالى وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ : “بعد داود وسليمان عليهما السلام قد ذكر الله تعالى أيوبَ الذي قضى عمره كله في المحن. ولربما كان سيدنا عليٌّ أشبهَ الناس بأيوب في العصر النبوي. أما في عصر المسيح الموعود فلا يزال الأمر بمنـزلة نبوءة ستتجلى في حينها. (التفسير الكبير، سورة الأنبياء)

ولا شك أن هذه النبوءات كلها تنطبق على هجرة الخليفة الرابع -رحمه الله- كما يدل عليه الواقع، وكما أكده حضرته بنفسه حيث قال مرة: لم يأت على المسيح الموعود زمان كهذا، ولم يمرّ بأحداث كهذه، فلا جرم أنها كانت نبوءة أن بعض خلفائه سيمرّ بمثل هذه الأحداث، وقد حصل ذلك في هذا الزمن عند صدور القرار العسكري الغاشم ضد الجماعة.  (خطبة الجمعة 5 يوليو 1985)

رؤيا مبشـرة

وأتذكر جيدًا أن الخليفة الرابع – رحمه الله- بدأ يعقد مجلس العرفان في المسجد “المبارك” بربوة بعد تولّيه منصب الخلافة بفترة. كان -رحمه الله- يردّ على أسئلة الإخوة في هذا المجلس في البداية، ثم أتى ذات يوم بكتب متنوعة باللغة الإنجليزية وقال: سأوزع هذه الكتب على بعض الإخوة الذين يتقنون الإنجليزية، فيقومون بتلخيصها ثم يقدمونه هنا، وسوف أعلق على ما ورد فيها. ثم بعد فترة قال: نسمع لبعض الأيام قصائد المسيح الموعود وخلفائه من أصحاب الأصوات الجملية. ثم بعد أيام قال: تعالوا نغيّرْ مجريات هذا المجلس مرة أخرى، فمن الآن فصاعدًا أسمع من الإخوة ما رأوه من أحلام ورؤى في الفترة الأخيرة. وذات يوم قام شخص عمره ما بين 30 و 35 عامًا، بين الساريتين المحاذيتين للمحراب وقال: “سيدي، لقد رأيت في الرؤيا ميدانًا كبيرًا اجتمع فيه خلق كثير وكأنهم يشاهدون مشهدًا بالغ الخطورة. فشققت طريقي من بينهم لأرى ما يجري هناك، فإذا…” ولم يستطع صاحب الرؤيا أن يكمل كلامه لشدة غلبة الرقة عليه، فشجّعه الخليفة وقال: أَكمِلْ أَكمِلْ. فاستأنف كلامه وقال بصعوبة بالغة: “فإذا بشخص معلق على الصليب”. ثم بدأ الرجل يبكي بكاء مريرًا، فشجّعه الخليفة ثانية ليكمل رؤياه، ولكنه لم يستطع. فشجعه بلطف وحنان أكثر حتى قال الفتى وقد بُحّ صوته: “فعرفتُ أنه أنت يا سيدي”. ثم بدأ صاحب الرؤيا يبكي بكاء مرًا عاليًا. فلم يتمالك الخليفة نفسه وقال له من فوره ووجهه يشعّ نورًا: لماذا تبكي؟ أبشِرْ، فإنها رؤيا مباركة مبشرة، حيث أخبر الله تعالى فيها أنه سيأتي عليّ وقت أكون فيه مهددًا بالموت، ولكن الله تعالى سينجّيني منه كما نجّى المسيح من الموت على الصليب.

إني لا أحفظ كلمات الخليفة بالضبط، ولكن هذا هو فحواها تمامًا. وقد كان شقيقي عبد الباسط (المقيم حاليا في ألمانيا) حاضرًا معي في هذا المجلس، وقد شهد على دقة ما كتبتُ هنا عن هذا الحادث.

خلفـية المؤامـرة

بدأت قصة الهجرة حين نفخ الخليفة -رحمه الله- في أبناء الجماعة حماسًا منقطع النظير لنشر الدعوة، فأكثروا من إحضار الناس في الباصات إلى مركز الجماعة لمقابلة الخليفة وعلماء الجماعة لإزالة ما رسخ في أذهانهم ضدنا من اعتراضات وتهم يشيعها المشايخ، وكان كثير من هؤلاء الزوار ينضمون إلى الجماعة بعد تحري الأمر ومعرفة الحقيقة. فثارت ثائرة المشايخ، وأخذوا في تحريض الجنرال ضياء الحق ضد الجماعة وخليفتها. وحدث أن اختفى في 17 فبراير/ شباط 1983 شيخ يدعى “أسلم قريشي”، فأعلن المشايخ حالفين أن خليفة الأحمديين قد أمر باختطافه وقتله؛ وأثاروا في طول البلاد وعرضها ضجة شديدة مطالبين الحكومة بإلقاء القبض على الخليفة. واستمرت حملتهم واشتدت جدًّا في أيام معدودات. ولما وجد الخليفة الجو مشحونًا ذهب إلى العاصمة ليراقب الوضع عن كثب. فوجد أن المشايخ يأتون من مدن شتى، ويلقون خطبًا نارية ضد الجماعة من مسجد قريب من مسجد جماعتنا في إسلام آباد. وذات يوم بعث الجنرال ضياء رسالة إلى الخليفة قائلا: لا تعبأ بضجة المشايخ، وسوف أسوي قضيتهم خلال أيام بعد الفراغ من بعض المهام. ولكنها لم تكن أكثر من شِراك؛ فقد تسلّمَ حضرتُه بعده بقليل رسالةً من أحد كبار رجال المخابرات، ثم رسالة من مسؤول كبير آخر:

“إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرُجْ إني لك من الناصحين. فرجع الخليفة فورًا من إسلام آباد.” (ايك مرد خدا (رجل رباني) 278-282، طبعة 1996 بريطانيا)

القرار الغاشـم

وبعدها بأيام قلائل أصدر الجنـرال قراره العسكري الغاشم الشهير باسم “قرار حظر القاديانية” -وجعله جزءًا من الدستور الباكستاني، ولا يزال مطبقًا حتى اليوم من سوء حظ هذا البلد- فحرّم به على المسلمين الأحمديين الانتماءَ إلى الإسلام بأي شكل، فلا يجوز لهم تسمية أنفسهم مسلمين، أو النطق بالشهادتين، أو قراءة القرآن، أو رفع الأذان، أو إلقاء تحية المسلمين، أو تسمية مساجدهم مساجد وما إلى ذلك، ومَن خالف منهم هذا القانون فعقابه السجن ثلاث سنوات مع الغرامة، والإعدام في بعض الحالات.

لقد أصدره مساء يوم الخميس في 26 إبريل/ نيسان 1984، حيث تم الإعلان عنه في النشرة الإخبارية مساءً. وفي الساعة العاشرة ليلاً دعا الخليفة -رحمه الله- نخبة من كبار الجماعة في ربوة لاجتماع طارئ. وفي اليوم التالي حضر مندوبون من خارج ربوة للمزيد من المشورة، فأجمعوا على أن يهاجر الخليفة من باكستان في أسرع ما يمكن، إذ أصبح من المحال عليه في ظل هذا القانون أن يقوم بمهام الخلافة من إرشاد الجماعة وتوجيهها. فقبِل حضرته مشورتهم، بشرطين أوّلهما أنه لن يغادر البلد بجواز سفر زائف، كما لن يهاجر متنكرًا، بل سيخرج بلباسه الرسمي، وثانيًا أنه لن يخرج فورًا بل بعد بضعة أيام ليضع خلالها خطة للمستقبل، وأنه لو صدرت خلال هذه الفترة أية أوامر من قبل الحكومة لإلقاء القبض عليه، أو جاءه الأمر بالمثول في المحكمة فلن يختفي ولن يغادر البلد، كي لا يُعتبر هذا سبّة توصَمُ بها الجماعة والخلافة إلى الأبد.

لم يعرف بقرار هجرة الخليفة إلا بضعة أفراد من كبار الجماعة، حتى إن أهله لم يعرفوا ذلك إلا في اللحظات الأخيرة.

كان اليوم التالي لصدور القرار يوم الجمعة، فذهب الخليفة إلى المسجد الأقصى لصلاة الجمعة، ولكنه لم يلق الخطبة، غير أنه صلّى بالناس.

وفي نفس اليوم وُضعت “خطة هجرته” مِن قِبل السيد وقيع الزمان الذي كان يعمل في الجيش الباكستاني قبل تقاعده بمنصب اللواء.

وتقرر أن يسافر حضرته بالخطوط الجوية الهولندية KLM، وكانت هناك رحلتان في ذلك الأسبوع في 30 إبريل وفي 2 مايو، فأشار مدير KLM على الخليفة أن يعجّل بالسفر بالرحلة الأولى، لأن الرحلة التي تذهب في الثاني من مايو ستقف في إحدى دول الخليج، وهناك خطر أن يطالب الجنرال الباكستاني حُكّامَها بإلقاء القبض على الخليفة أثناء وقوف الرحلة هناك، فالأفضل أن يسافر برحلة أخرى لا تقف إلا في هولندا. (مجلة “تحريك جديد”، سيدنا طاهر نمبر، أغسطس سبتمبر 2008، و ايك مرد خدا ص 293)

كلمات الوداع

كان على الخليفة -رحمه الله- أن يخرج من ربوة في ليلة 29 إبريل. كان “المسجد المبارك” الذي يصلي فيه الخليفة يكتظ بالمصلين الذين كان بينهم الكثيرون من خارج ربوة. كان تفكير الخليفة في ساعة فراق جماعته الحبيبة ومركزها قد ألقاه في كرب عظيم تجلّى بوضوح في كلماته الوجيزة التي ألقاها بعد أداء مختلف الصلوات في 28 إبريل، والتي نوردها فيما يلي. علمًا أن هذه الكلمات لم تسجل من قبل نظام الجماعة إنما سجلها بعض الإخوة بأنفسهم كما يروي شودري حميد الله المحترم، الوكيل الأعلى للتحريك الجديد”.

1: “السلام عليكم ورحمة الله، اصبروا وارفعوا الهمم. لقد آمنّا بالله تعالى. لسنا مشركين. إن الله تعالى يريد منا التضحيات، ولسوف نقدمها. مهما شاء الله منا التضحيات فإننا سنقدمها، وسنقدمها، وسنقدمها. أنا أول من سيقدم التضحية، سأقدم التضحية، سأقدم التضحية.”2: “السلام عليكم ورحمة الله، لم أرد منكم الجلوس هنا لأخطب فيكم. لقد طلبت منكم الجلوس لأراكم، فإني لأجدُ قرة عيني برؤيتكم. إني لأشعرُ بسكينة قلبي برؤيتكم. إني أحبكم، إني أعشقكم. بالله العظيم، لم تحبّ أم ولدها كما أُحبكم.”

3- “السلام عليكم ورحمة الله، إني أريد أن أوصيكم اليوم بالصبر. لا تدَعوا أهداب الصبر تنفلت من أيديكم. لا يصدر منكم ما يتنافى مع الصبر. تمسكوا بأهداب الصبر.. عليكم بالصبر. إن الصبر يتحول إلى الروحانية. إن أدعية الصابر هي التي تحدث ثورة في الدنيا. إن القوى كلها لا تساوي أمام الصبر شيئًا. لا تتصرفوا تصرفًا يسبب لومًا للجماعة. إن أكبر سلاح عندنا هو الدعاء والابتهال. فابكوا بكاءً مريرًا تهتزّ به السماء. عاهِدوني حالفين أنكم ستطيعونني في كل ما آمركم به. إني أرى أن الجماعة تدخل في مرحلة جديدة من الروحانية. إني أقسم لكم بالله العظيم أنه سيحوّل حزننا سرورًا. ستتحول آهاتنا وابتهالاتنا أفراحًا. والله إن الفتح لنا. ستنتصرون، ستنتصرون، ستنتصرون. بالله أنتم الصادقون، أنتم الصادقون، أنتم الصادقون. إن واجبنا إنقاذ الأمم، وسوف ننقذها. إن الصابرين هم الغالبون دائمًا، أما غير الصابرين فهم الهالكون دومًا.”

وقد روى شودري حميد الله: إن آخر صلاة صلاها الخليفة في مسجده قبل هجرته هي صلاة العشاء، وقد ردد خلال القراءة قول الله تعالى رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ مرارا وبحرارة ورقة وبكاء حتى خُيّل إلينا أنه قد أعلن للقوم هجرته التي كانت سرًا مكتومًا. (سيدنا طاهر سووينئر لجماعة بريطانيا، عدد يوليو 2004 ص 79-80)

الإخبار الرباني

كان الله تعالى قد أخبر الخليفةَ -رحمه الله- بالمؤامرات التي تحاك ضد الجماعة قبل صدور القرار الغاشم، بل قد أخبره بهجرته أيضًا حيث قال حضرتُه رحمه الله:

“في ليلة، أعني في الليلة التي اتُّخذَ فيها قرار هجرتي، أخبرني الله بها فجأة، كما ألقى في قلبي بكل قوة أنه لا بد لك من مغادرة البلد بأسرع ما يمكن حفاظًا على نظام الخلافة، فليست القضية قضية حياتك فقط. وكنت قد عاهدتُ الله تعالى قبلها بليلة أني سأضحي بحياتي في سبيل الأحمدية، ولن تقدر قوة على أن تحول دون ذلك، ولكن الله تعالى أخبرني بأمور غيّرت قلبي تمامًا. عندها أدركت خطورة المؤامرة التي كانت تحاك ضد الجماعة، والتي كان عليّ إفشالها بأي ثمن. كانت المؤامرة أن يغتالوا الخليفة، وإذا ثارت الجماعة نتيجة قتله فيقضون على نظام الخلافة فيها، ويدكّون مدينة ربوة بمساعدة الجيش دَكًّا، ولن يسمحوا بانتخاب خليفة جديد، وهكذا يتم القضاء على نظام الخلافة. ولو نجحوا في ذلك فماذا كان سيبقى في أيدينا بعد ذلك”؟ (خطبات طاهر، المجلد 3 ص 768-769)

واللافت أن الله تعالى كان قد أخبر بعض صلحاء الجماعة أيضًا عن هجرة الخليفة وكيفية سفره من خلال الرؤى. فمثلاً بعث الداعية محمد عثمان جو -وهو صيني- إلى الخليفة قبل هجرته رؤيا رآها قبل الهجرة بيومين حيث قال:

“رأيت في صباح السابع والعشرين رؤيا أن أمير المؤمنين على وشك أن يسافر إلى إسلام آباد في باص صغير يحرسه من حوله حراس أمير المؤمنين، وكلهم يلبسون زيًا لونه كلون السماء، والشرطة حولهم. ولما اقتربتُ من الباص الصغير لم أجد فيه أمير المؤمنين، وحسبت أنه قد ذهب إلى إسلام آباد بطريقٍ غيبـيٍّ. ولم يكن في الباص إلا بعض المتاع. ثم ركبت هذا الباص لتوديع أمير المؤمنين، وسافرت مع الحراس قليلاً ثم نزلت بعد مسافة، فأعطاني الحراس بعض الفاكهة.

لقد جاءت هذه الرؤيا موافقةً تمامًا خطةَ هجرة الخليفة التي كانت قد وُضعت قبل بضع ساعات كما سيذكر لاحقًا.

والرؤيا الثانية رأتها السيدة فائزة بيغم إحدى بنات الخليفة –رحمه الله – قبل السفر بيوم حين كانت هجرة الخليفة سرًا مكتومًا، حتى لم يكن أحد من أفراد بيته يعلم عنها شيئًا. لقد رأت في الرؤيا أن حضرته يسافر في طريق لا يُستخدم بكثرة، في قافلة ليس فيها السيارة التي يسافر بها عادة وإنما هناك سيارتان غريبتان. ولقد تباطأت سيارة أمير المؤمنين في مكان بدا أن الطريق يتم تصليحه هناك. والواقع أنه ليست هناك أية أعمال تصليح، وإنما هناك أكوام من الأحجار لرصف الطريق. فلما تباطأت سيارة الخليفة عند أكوام الأحجار ظهر من ورائها شحاذون وتوجهوا إلى السيارتين بسرعة. كانت وجوههم مريبة وأسلوبهم غير مريح، فأصبتُ بقلق شديد. وفجأةً ظهرتْ من السيارة الأمامية يدٌ ترمي أوراقًا نقدية كثيرة بقيمة روبية واحدة، فانكبّ أكثر الشحاذين على الأوراق يجمعونها، وبينما هم في ذلك تقدمت السيارتان بسهولة من بين أكوام الأحجار، وواصلتا سفرهما إلى كراتشي. (ايك مرد خدا، ص 295)

وقد تحققت هذه الرؤى في السفر حرفيًا كما سيُذكَر لاحقًا.

السفر الإعجازي

خرج الخليفة -رحمه الله- من ربوة يوم الأحد 29 إبريل 1984 في الساعة الثانية ليلاً من بيت مرزا بشير أحمد في قافلة تضم سيارتين؛ ركب إحداهما الخليفة مع حرمه وابنتيه الصغيرتين، وقد قادها شودري حميد نصر الله خان (أمير جماعة لاهور)، أما السيارة الأخرى فركبها حراسه، وقد قادها شودري إدريس نصر الله. ثم تبعتهما على فترات سياراتٌ أخرى فيها بعض كبار الجماعة. وكل هذه السيارات كانت من لاهور ما عدا سيارة واحدة كانت من ربوة.

بعد خروج الخليفة بساعات انطلقت من ربوة قافلة أخرى من السيارات إلى إسلام آباد بطريق سرجودها، وذلك بُعيدَ صلاة الفجر. كانت هذه القافلة تضم السيارة التي كان الخليفة يركبها عادة. لقد جلس أخوه الدكتور مرزا منور أحمد في مقعدها الخلفي لابسًا زيًا مشابهًا لزيّ الخليفة، وكان معه بعض حراس الخليفة أيضًا، وكان جميع ركاب هذه السيارات يُرَون من الخارج. وكانت الأجهزة الأمنية الحكومية الخمسة قد نشرت رجالها داخل ربوة وخارجها، فأبلغتْ أربع منها كبارَ المسؤولين في إسلام آباد أن خليفة الأحمديين قد خرج من ربوة في قافلة من السيارات قاصدًا إسلام آباد. ثم أبلغوهم أن قافلة الخليفة قد توقفت في طريقها في مصنع قريب من مدينة “جِهْلُم” يملكه أحد أقارب الخليفة. (ايك مرد خدا ص 294)

وكانت قافلة الخليفة -رحمه الله- بعد خروجها من ربوة سلكتْ الطريق الذي هو ما بين قرية “لاليان” ومدينة “جهنغ”، وهو ليس من الطرق الرئيسية، إنما هو طريق بسيط. وكان قد خرب بسبب الفيضانات، وكان على جوانبه أكوام من الأحجار لتصليحه، وكان رجال المخابرات العسكرية قد أقاموا هناك مكانًا للرقابة متنكرين بثياب الشحاذين، ولكنهم من سوء حظهم نسوا أن يبدلوا نعالهم العسكرية. فلما مرت السيارتان من بين أكوام الأحجار أسرع إليهما هؤلاء “الشحاذون”، فرمى إليهم سائق السيارة الأمامية السيد “إدريس نصر الله” أوراقًا نقدية كثيرة، فكان طبيعيًا أن يتوجهوا إليها فيما تمكنت السيارتان من المرور من بين أكوام الأحجار بسلام. ولا بد أن يكون بعض هؤلاء “الشحاذين” قد رأوا أمير المؤمنين وهو جالس في سيارته بزيه الرسمي، ومن أجل ذلك عُلم فيما بعد أن واحدًا من الأجهزة الأمنية الحكومية الخمسة أبلغ كبار المسؤولين في إسلام آباد أنهم قد رأوا قافلة خليفة الأحمديين تمر من هذا الطريق، ولكن الله تعالى أعمى المسؤولين الكبار، فلم يعيروا تقريرَ “الشحاذين” أذنًا صاغية.

ويحكي الخليفة -رحمه الله- أنه هو الآخر كان قد رأى شحاذًا يلبس معطفًا كبيرًا ويحمل إناء الشحاذين وذلك أمام بيت مرزا بشير أحمد حين خرج حضرته في هذا السفر.

توقف الخليفة في الطريق بالقرب من مدينة “سكهر”، حيث تناول الطعام في مطعم كان على جنب الطريق وكان صاحبه يعرفه من زمان، فقضى هناك ساعة ونصف في تناول الطعام والحديث مع صاحب المطعم. ثم واصل سفره وبلغ كراتشي في الساعة الحادية عشرة ليلاً، حيث حل في بيت أحد الإخوة، ثم توجه إلى المطار بعد الطعام والاستراحة.

ومن عجيب قدرة الله تعالى أنه لم يوقف سيارة الخليفة أحد رغم كثرة الحواجز التي أقامتها الأجهزة الأمنية المختلفة خلال هذا السفر الطويل: 750 ميلاً. (ايك مرد خدا)

ساعة شابهت “الساعةَ”

كان حضرته -رحمه الله- سيسافر إلى لندن برفقة حرمه وبنتيه والسيد شودري حميد نصر الله واللواء وقيع الزمان، وكانت الطائرة ستقلع في الساعة الثانية ليلاً. وبينما جلس الخليفة في صالة الانتظار، أعلن رجال المطار أن الرحلة قد أُجّلت لساعة. كان المسؤولون -كما قال الخليفة- يأتون ويذهبون بسرعة كأن أمرًا خطيرًا قد حصل. وبعد انتهاء “الساعة” سمحوا للطائرة بالإقلاع، فركب الخليفة الطائرة مع رفاقه، وأقلعت الطائرة بفضل الله تعالى ونصرته.

وصلت الطائرة إلى أمستردام في الساعة الثامنة في 30 إبريل صباحًا. فأراد الخليفة لقاء الإخوة من هولندا، مما اضطره أن يسافر بطائرة أخرى. وهكذا كان إخواننا من هولندا أول من تشرفوا بلقاء الخليفة بعد هجرته من باكستان، حيث قابلوه في المطار، فقضى في الحديث معهم ثلاث ساعات. ثم سافر من هناك ووصل إلى مطار هيثرو بلندن في الساعة الحادية عشرة، حيث كان في استقباله كبار الجماعة. ووصل إلى مسجد “الفضل” في الساعة الثانية عشرة والنصف، حيث كان أفراد الجماعة ينتظرون إمامهم المهاجر على أحرّ من الجمر، فشرف الجميعَ بالمصافحة. ثم صلى بهم أول صلاة وهي صلاة الظهر. ثم بعد صلاة العصر جلس في مكتبه قليلاً، ثم بعد صلاة المغرب ألقى في قاعة “محمود” أول خطاب في لندن بعد الهجرة. لم يكن صوته على ما يرام، فأخبر الإخوة أنه لم يستطع استخدام مكبر الصوت بموجب هذا القرار الغاشم، وكان عليه أن يوصي قبل سفره أفراد الجماعة الذين حضروا بأعداد كبيرة، ولكي يوصل صوته إلى الجميع كان عليه أن يخطب بصوت عالٍ جدًّا، فبُحَّ صوته. لقد أخبر في هذا الخطاب الأول عن أسباب هجرته وأحوالها. وبعدها قام بأول لقاء رسمي في مكتبه، وكان شرف هذا اللقاء من نصيب الدكتور عبد السلام المرحوم. (ايك مرد خدا)

خـطأ فادح من ضياء الحق

وقد علُم فيما بعد سبب تأخير الرحلة في مطار كراتشي. كان الجنرال ضياء قد أصدر إلى كل المطارات والموانئ أوامر موقعة بخط يده بعدم السماح لإمام الجماعة بالسفر خارج باكستان. ولكنه ارتكب خطأ فادحًا، ذلك أنه كان قد عاش طويلاً في عهد الخليفة الثالث مرزا ناصر أحمد رحمه الله، فنسي خلال تهوُّره وتسرُّعه أن الخليفة الحالي اسمه مرزا طاهر أحمد، فكتب في تعليماته إلى رجال المطارات والموانئ ما يلي:

“لا تسمحوا أبدًا لمرزا ناصر أحمد، الذي يعتبر نفسه خليفة للجماعة الأحمدية، بمغادرة أرض باكستان”.

ولما قُدّم جواز سفر الخليفة الرابع -رحمه الله- إلى رجال المطار في كراتشي وجدوا مكتوبًا فيه في خانة المهنة: إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية، ولكن الاسم هو مرزا طاهر أحمد، لا مرزا ناصر أحمد، فحاولوا الاتصال بكبار المسؤولين في إسلام آباد لحل هذه المعضلة، “ولكن لا حياة لمن تنادي”، فقد قيل لهم من إسلام آباد إن قافلة الخليفة قد وصلت إلى جِهْلُم، وهو مقيم هناك في بيت أحد أقاربه. ولم يوجد بين المسؤولين من يجرؤ على إيقاظ الجنرال ضياء في منتصف الليل ويسأله ما إذا كان يريد إيقاف مرزا طاهر أحمد أم مرزا ناصر أحمد المتوفى قبل حوالي سنتين. فلما يئس رجال المطار بعد محاولات كثيرة سمحوا للطائرة بالإقلاع.

وفي الصباح لما علم الجنرال ضياء بسفر الخليفة جُن جنونه، فصبّ جام غضبه أولاً على كبار المسؤولين في مطار كراتشي وطردهم من وظائفهم فورًا. ثم اتصل بنفسه بأكبر رجال الشرطة بمحافظة جهنغ التي تقع فيها مدينة ربوة وقال له: كان مرزا طاهر أحمد مقيمًا في محافظتك، فأين غاب؟ ثم أمر الجنرال السفارةَ الباكستانية في بريطانيا بالبحث عن الخليفة عبثًا! (أيك مرد خدا)

لا جرم أن هجرة الخليفة الرابع -رحمه الله – قد أنقذته بفضل الله تعالى من الاعتقال، إذ كان حاكم البنجاب قد أصدر أوامره إلى الخليفة بالمثول أمامه في لاهور قبل شيوع خبر هجرته باثنتي عشرة ساعة فقط.

والجدير بالذكر هنا أن الله تعالى قد أرى معجزة مماثلة من قبل أيضًا، وبيان ذلك أن صلاحية جواز سفر الخليفة كانت قد انتهت، فكان عليه استصدار جواز سفر جديد من أجل سفر هجرته، فلما قُدم الطلب في مكتب الجوازات في “فيصل آباد” واجه مدير المكتب نفس اللغز الذي واجه أصحاب المطار، إذ كانت عنده أيضًا أوامر الجنرال ضياء بعدم إخراج جواز سفر لإمام الجماعة الأحمدية، ولكن المشكلة أنه قد ورد في أوامر الرئيس اسم مرزا ناصر أحمد، لا مرزا طاهر أحمد. وكان هذا المسؤول نفسه قد أخبر الخليفةَ بذلك فيما بعد. (ايك مرد خدا)

وهكذا أخرج الله عبده مِن بين فَكَّي الموت مرة بعد أخرى كما فعل من قبل برسوله الكريم خلال هجرته المباركة. فسبحان الذي أخزى الأعادي.

 ثالثًا: المباهلة وهلاك “ضياء الحق” 

كان حُكم الجنرال حكمًا عسكريا دكتاتوريا لم تَعهده البلادُ من قبل، وقد تعرضَ للاحتقار مِن قبل الشعب بما لم يتعرض له أي حاكم باكستاني من قبل، أما المسلمون الأحمديون فقد خنق عليهم العيش بعد هجرة الخليفة -رحمه الله- حيث حظر عليهم ممارسةَ واجباتهم الدينية الإسلامية، كما أعطى المشايخ المتعصبين وأتباعهم الرعاع كل حرية لسلب ممتلكات المسلمين الأحمديين، وإحراق بيوتهم وقتلهم بدون هوادة.

كان الخليفة الرابع رحمه الله قد حذر هذا الطاغية مرارًا عن المغبة الوخيمة الجرائمه، وقد خاطبه وأعوانه في خطبة الجمعة بتاريخ 14 ديسمبر 1984 فقال:

بفضل الله تعالى إن للجماعة الإسلامية الأحمدية وليًّا ومولى. إن للجماعة الإسلامية الأحمدية مولى، وإن إله الأرض والسماء هو مولانا، ولكنني أخبركم أن لا مولى لكم. وأقسم بالله أنه عندما يأتي مولانا لنصرتنا فلن يستطيع أحد أن ينصركم. عندما يمزقكم قدر الله تعالى إربًا فستُمحى آثاركم ولن تذكركم الدنيا إلا بالذلة والهوان، وسيُذكر اسم المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام الخادم الصادق لمحمد المصطفى بعزة ومحبة وعشق أكثر فأكثر يوما بعد يوم.

ولما طفح الكيل بالظلم والإضطهاد على الأحمديين الأبرياء، وجه الخليفة الرابع -رحمه الله- دعوةَ المباهلة إلى أئمة التكفير للأحمديين عامةً وإلى هذا الطاغية خاصة، بعد أن عدّد كل التهم الموجهة إلينا وتبرأَ منها قائلاً: لعنة الله على الكاذبين، وذلك في خطبته للجمعة يوم 10/6/1988. وكلمات المباهلة هي كـما يلي:

“أيها القادر القوي.. عالم الغيب والشهادة، إننا نبتهل إليك ربنا، بعزة وجهك وبجبروتك وبعظمتك وجلالك وغيرتك، وندعو أن تنـزل على الفريق الذي هو صادق عندك فيما ذكر من دعواه، رحمة بعد رحمة في هذه الدنيا والآخرة، وأن تنجيه من المصائب وتظهر صدقه للعالمين، وتبارك فيه بركة تلو بركة، وتطهر مجتمعهم من كل فساد وسوء وشر.. وترزق أهله الصلاح والعفاف والتقوى صغارا وكبارا رجالا ونساء، وتزيدهم حبا وقربا منك، يوما بعد يوم، بحيث يتضح للناس جليا أنك معهم.. تؤيدهم وتنصرهم، وتدرك الدنيا جيدا من خلال أعمالهم وخصالهم وقيامهم وقعودهم وأساليب حياتهم، أنهم هم حزب الله، لا حزب الشيطان، وأنهم ليسوا من أعداء الله.كما نتضرع إليك ربنا ونبتهل أن تنـزل على الفريق الكاذب المفتري منا غضبك وقهرك في حدود سنة واحدة، وتكتب لهم الخزي والذلة والهوان.. وتأخذهم بعذاب أليم وتسحقهم بعقاب شديد.. وتنـزل عليهم المصائب تلو المصائب، وتسلط عليهم الآفات تلو الآفات، إلى أن يظهر للعالم جليا بأنه لا دخل لعداوة الإنسان وبغضه في نزول هذه الكوارث وإنما يد قدرة الله وغيرته وسخطه وراء كل هذه العجائب. نعم عاقِب فريق الكاذبين عقابا لا يدع مجالا لأي خداع أو مكر من أي من الفريقين المشتركين في المباهلة، حتى يظهر بجلاء ووضوح أن هذا العذاب هو من غضبك وسخطك أنت، الذي جاء ليميز بين الصادق والكاذب، ويفرق بين الحق والباطل، ذلك لكيلا يبقى الأمر مشتبها به على كل قلب أودعه الله نعمة التقوى، وعلى كل عين تبحث عن الحق بخلوص النية، وليظهر لأهل البصيرة عيانا مَن الصادق الذي هو مع الحق والحق معه، ولتستبين سبيل المجرمين. آمين يا رب العالمين.

نحن الفريقان

الفريق الأول

إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية

نيابة عن جميع أفرادها

رجالا ونساء، صغارا وكبارًا.

المرزا طاهر أحمد

ابن المرزا بشير الدين محمود احمد،

إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية

—-

الفريق الثاني

كل من يكذب و يكفر

الجماعة الإسلامية الأحمدية

ويقبل أن يكون الفريق الثاني

في هذه المباهلة متحملا

مسؤوليتها وعواقبها بإرادته وانشراح

صدره وبكل جدية وبصيرة.

فظل الخليفة -رحمه الله- ومِن ورائه كل جماعة المسيح الموعود والإمام المهدي يبكون ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يصدر حكمه في هذه القضية المصيرية، ويميز بين الصادقين والكاذبين، ولتستبين سبيل المجرمين.. فتقبل الله ابتهالهم وبكاءهم فأظهر أول آية من السماء بعد انقضاء شهر كامل على المباهلة.. حيث ظهر الشيخ “أسلم قريشي” على الشاشة الباكستانية فجأةً مع أكبر ضابط للشرطة في الإقليم في 10/7/1988 بعد غيابه خمس سنوات – وهو الذي اتهم المشايخُ خليفتَنا باختطافه وقتله، وطالبوا الجنرال ضياء بإلقاء القبض على حضرته ومعاقبته- فأعلن هذا الشيخ على الشاشة أنه لم يختطفه أحد من الأحمدين، وإنما هرب من البيت إلى إيران بسبب ضائقة مالية وجو ديني غير ملائم، وخدم هناك الجيش الإيراني.

هذا، وفي خطبته للجمعة يوم 1/7/1988 قال إمامنا الهمام رحمه الله وهو يتحدث عن الدكتاتور ضياء الحق: “إننا ما زلنا ننتظر ما سيُظهره الله تعالى من قضائه بشأن هذا الرجل. ولكنه سواء قبِلَ دعوتي للمباهلة أم لم يقبلها، فإنه إمام المكفرين لنا، وأول المؤذين والمسؤولين عن كل ما يُصَبّ على الأحمديين الأبرياء من ظلم واضطهاد. إذ كان ولا يزال يأمر بالاعتداء عليهم، ثم يراقب هل وُضعت أوامره موضعَ التنفيذ أم لا، ويستمتع بتعذيبهم أيما متعة. لذا ولا يُنتظر مِن مثل هذا الشخص قبولُ دعوة المباهلة باللسان، بل إن استمراره في الاضطهاد يُعدّ دليلا على قبوله لها”.

وفي خطبة الجمعة يوم 5/8/1988 بشر حضرته رحمه الله أبناء الجماعة وقال أريد أن أخبركم أن رحى الله أخذت تدور وعندما تدور رحى قدرالله فلا يستطيع أحد أن يوقفها وليس في العالم قوة تستطيع أن تنقذ من عذاب تلك الرحى من أراد الله تمزيقه فيها.

ثم في خطبته للجمعة يوم 12/ 8/ 1988 ذكر حضرتُه رؤياه التي رأى فيها المثل الإنكليزي History repeats itself  وتعريبه “التاريخ يعيد نفسه” وبين حضرته أن معناه الذي فهمته هو أنكم لن تجدوا لسنة الله بشأن المجرمين الظالمين تبديلًا وأخبر حضرته أن هذه الرؤيا منذرة جدا وقال: “لقد قدر لمن دعوناه للمباهلة يرى يوم غضب الله بسبب شكاوته وإلا فما كان الله ليرشد له هكذا عن طريق هذه الرسالة “التاريخ يعيد نفسه”. فلن تجد في هذا تبديلًا بل سوف يعاقب الله المجرمين حتما. ثم قال حضرته رحمه الله في الخطبة نفسها: “سوف يبطش بهم قدر الله حتما وسوف يعاقبن يقينا من لا يكف منهم عن هذه الشرور”.

وبعد خمسة أيام فقط من هذا الإنذار الإلهي الذي تم على لسان الخليفة –رحمه الله- نـزل قدر الله من السماء يوم 17/ 8/ 1988، حيث انفجرت في جوّ السماء الطائرة العسكرية التي تحمل هذا الدكتاتور مع بعض أسياده الأمريكان، وأصبح رمادًا تذروه الرياح، حيث لم يُعثَر على شيء من جثته المحرقة سوى سنه الذهبية التي دفنوها في قبره كما هو معروف؛ فقد ذكرت صحيفة بريطانية شهيرة:

“لم يكن في التابوت الذي دفنوه في “إسلام آباد” إلا بعض أسنانه “المحرقة”.  (Financial Times) العدد الصادر يوم 22/8/1988)

أما الجماعة وخليفتها فقد كتب الله لهم بعد المباهلة من التقدم والازدهار المطرد ما هو غني عن البيان. فالحمد لله أولاً وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، إلى يوم الدين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك