2 الخلافة الراشدة على منهاج النبوة


وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (سورة النور: 56-57)

التفسـير:

لقد أصدر الله تعالى في هذه الآية قراره النهائي فيما يتعلق بمصير المسلمين، فوعَدهم أنهم لو آمنوا بالخلافة، ساعين لذلك حق السعي، فسيقيم الله بينهم الخلافة كما أقامها في الذين خلوا من قبل، وسيثبّتهم من خلال الخلافة على دينهم الذي اختاره لهم، وسيقوّي هذا الدين، وسيـبدّل خوفهم أمنًا، مما يجعلهم عابـدين لله الأحد دائـمًا ولا يشـركون به شـيئًا.

ولا يغيبنّ عن البال أن هذا وعدٌ وليس نبوءة. فلو أن المسلمين لم يثبتوا على إيمانهم بالخلافة وتركوا العمل الصالح الذي هو ضروري لقيام الخلافة، فلن يعودوا مستحقين لهذا الإنعام، ولن يليق بهم عندها أن يقولوا بأن الله تعالى لم ينجز وعده.

ثم يقول الله تعالى للمؤمنين بعد ذكر موضوع الخلافة مباشرة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ .. أي حينما نقيم بينكم نظام الخلافة فمن واجبكم أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتطيعوا رسول الله. وكأنهم إذا ساعدوا الخلفاء في تمكين الدين فقد أطاعوا الرسول. وهذا هو نفس الموضوع الذي قد بينه النبي بقوله: “مَن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني”. (مسلم: كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية)

كما أن الله تعالى قد نبّه بقوله وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ إلى أن السبيل لطاعة الرسول عند قيام الخلافة أن تقيموا الصلاة من أجل تمكين الدين ونشره، وتؤتوا الزكاة وتطيعوا الخلفاء طاعة كاملة.

كما لفت الله تعالى بذلك نظر المسلمين إلى أن مِن المحال بدون الخلافة إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة حقًّا.

الواقع أنه لا يمكن إقامة الصلاة حقًّا بدون الخلافة، ذلك لأن أهمّ الصلوات هي صلاة الجمعة التي فيها الخطبة التي يتم بها تذكير الناس بمصالح الأمة وضروراتها. فإذا لم يكن هناك نظام الخلافة فكيف يطّلع الناس على تلك الأمور؟ فمثلاً كيف يمكن لفروع جماعتنا في باكستان أن تعرف ما يتمّ في الصين واليابان وغيرها من البلاد من أعمال ونشاطات تتعلق بنشر الإسلام؟ وما هي التضحيات التي يطالبهم الإسلام بها؟ إذا كان للمسلمين جميعا مركز أو خليفة واجب الطاعة، فإنه سيتلقى التقارير من شتى أنحاء العالم حول ما يتم هناك من أعمال ونشاطات لنشر الإسلام، فيُخبر الناسَ بأن الإسلام اليوم بحاجة إلى كذا وكذا من التضحيات والخدمات. ولذلك فقد أفتى الأحناف أن الجمعة لا تجوز بدون سلطان مسلم (المختصر للقدوري، باب صلاة الجمعة). والحكمة في هذه الفتوى هي ما قد بينته.

كما أن طاعة الرسول مستحيلة من دون الخلافة، والغرض الحقيقي من طاعة الرسول هو أن ينخرط الجميع في سلك الوحدة.

فالجمعة التي هي أهمّ الصلوات إنما يتمّ أداؤها على أحسن وجه إذا كان بين المسلمين نظام الخلافة. ولما كانت جماعتنا تتمتع بنظام الخلافة فترى أن خطبي تكون بفضل الله تعالى بحسب مقتضيات الأوضاع السائدة دائمًا، وهناك كثير من المسلمين من غير جماعتنا الذين يتأثرون من هذه الخطب كثيرا.

كما أن طاعة الرسول مستحيلة من دون الخلافة، والغرض الحقيقي من طاعة الرسول هو أن ينخرط الجميع في سلك الوحدة. لقد كان الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – يصلّون، ومسلمو اليوم أيضا يصلّون، وكان الصحابة يحجّون وكذلك مسلمو اليوم أيضا يحجّون، فما الفرق بين الصحابة ومسلمي اليوم يا ترى؟ إنما الفرق أن روح الطاعة كانت قد بلغت حد الكمال في الصحابة لكونهم تابعين للنظام، فكلما أمرهم النبي بشيء عملوا به دونما تردد، ولكن روح الطاعة هذه مفقودة في المسلمين اليوم. إنهم يصلّون ويصومون ويحجّون، ولكن لا توجد فيهم الطاعة، لأنها لا تتأتى بدون النظام. إذًا، فكلما وُجدت خلافة وُجدت طاعة الرسول أيضًا، لأن طاعة الرسول لا تعني أن نصلّي ونصوم ونحجّ، إذ تدخل هذه الأحكام في طاعة الله تعالى، إنما المراد من طاعة الرسول أنه إذا أعلن أن هذا أوان التركيز على الصلوات فعلى الجميع أن يركّزوا على الصلوات خاصة، وإذا قال إننا الآن بحاجة إلى التركيز على أداء الزكاة والتبرعات فعلى الجميع أن يركزوا على ذلك، وإذا قال إن هذا وقت التضحية بالنفس والوطن فعلى الجميع أن يهبّوا للتضحية بنفوسهم وأوطانهم.

ويقول الله تعالى لنا: إذا لم تكن هناك خلافة فستضيع صلاتكم، وتضيع زكاتكم، وتخلو قلوبكم من طاعة الرسول. وبما أن جماعتنا معتادة على العيش تحت النظام، وأفرادها مطيعون بفضل الله تعالى، فلو تمّ نقلهم إلى عهد محمد رسول الله لوجدتَهم يتحلّون بطاعة كطاعة الصحابة، ولن يجد أحدهم نفسه غريبًا في ذلك المحيط، بل سينسجم معه فورًا كما تنسجم قطعة من الماكينة في مكانها، وسيصبح بمجرد وصوله هناك واحدا من الصحابة، فيطيع النبيَّ في كل ما يأمره به دونما تردد وسؤال.

علامات الخليفة الحق

ثم ذكر الله تعالى في هذه الآية علاماتٍ يُعرف بها الخليفة الحق من الخليفة الباطل، وهي كالآتي:

العلامة الأولى: إن الله تعالى هو الذي يختاره، أي لا يكون في اختيار ذلك الخليفة مكيدة من المكائد البشرية، فلا هو يتمنى الخلافة، ولا يُختار بحسب مخطط سابق، بل في بعض الأحيان يتم اختياره في ظروف يبدو اختياره فيها مستحيلا. فكلمات وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ نفسها تدل على أن الله تعالى هو الذي يختار الخليفة، لأن الذي يَعِدُ هو الذي يُنجز ما وعد، لا غيرُه.

والعلامة الثانية أن الله تعالى ينصره كما ينصر الأنبياءَ لقوله تعالى كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ .. أي أن هؤلاء الخلفاء سيستحقّون نصرتنا كما استحقّها الخلفاء في الماضي.

علمًا أننا حين ننظر إلى الخلافة في الذين خلوا من قبل نجدها ثلاثة أنواع، هي:

النوع الأول من الخلافة هو “خلافةُ نبوّةٍ” كخلافة آدم لقوله تعالى إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً . والظاهر أنه لم يتم انتخابٌ لآدم، كما لم يكن ملِكًا، إنما وعد الله الملائكة بإقامة خليفة له في الأرض، فأقام آدمَ بحسب هذا الوعد، وعاقبَ الذين كفروا به. لا شك أن آدم كان خليفة مِن حيث إنه هو وقومه خلَفوا جيلاً هلكوا، كما كان خليفة مِن حيث إن الله تعالى قد أخرج منه نسلا كثيرًا؛ ولكن أكبر ما يميّزه هو أنه كان نبيًا ومأمورًا من عند الله تعالى كما تدل على ذلك الآيةُ المذكورة أعلاه. وبهذا المعنى نفسه قد سُمي داود خليفة حيث قال الله تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى . ولما كان داود نبيًا فثبت أن المراد من الخلافة هو خلافة النبوة.

إذًا، فخلافة السابقين كانت “خلافة نبوةٍ” كخلافة آدم وداود – عليهما السلام – حيث سمّى القرآن كلا منهما خليفة. ولكن كلا منهما قد سُمّي خليفة لكونه نبيًا ومأمورًا حيث كان سببًا في تجلّي صفات الله في الدنيا وصار مظهرًا لله في العالم.

والنوع الثاني من الخلافة هو “خلافةُ مُلْكٍ” كما هو ثابت من قول هود لقومه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وكذلك من قول صالح لقومه وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ . فالمراد من الخلفاء هنا مجرد ملوك ماديين، والمراد من النعمة أيضًا مجرد نعمة الحُكم والمُلك. وقد قال الله تعالى عن اليهود مشيرا إلى هذه النعمة نفسها وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ . فترى أن الله تعالى قد بيّن هنا أنه جعل اليهود خلفاء بطريقتين أولاهما إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ أي أعطاهم “خلافة نبوة”، وثانيتهما وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا أي أعطاهم “خلافة مُلْك”. وبما أنه لم يكن في زمن موسى أيُّ مَلِكٍ يهودي آخر، فالمراد هنا نبوة موسى ومَلَكِيّته، حيث صار ملكًا عليهم بعد عبور نهر النيل، شأنه شأن النبي الذي كان بعد فتح مكة نبيًا من جهة وملِكًا من جهة أخرى، ولكن مَلَكِيّته كانت تابعة لأحكام الله تعالى ولم يكن كالملوك الماديين المستبدين.

والنوع الثالث من الخلافة هو أناس يخلفون النبي ويتّبعون خطواته، أي أنهم يدْعون قومه إلى شرعه ويعملون على جمع شملهم، سواء كانوا أنبياء أو غير أنبياء. فمثلا لما ذهب موسى إلى الطور في الليالي الموعودة أمر هارونَ بالإشراف على قومه وقال اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ . ولما كان هارون قد وُهب النبوة قبل هذه الواقعة، فالخلافة التي وهَبها موسى إياه لم تكن خلافة نبوة، بل كانت “خلافة نظام”، إذ لم يكن المراد منها إلا أن يتولى هارون نظام قوم موسى في غيابه ويحافظ على وحدتهم ويجنّبهم الفساد. فكان هارون نبيًا تابعًا وخليفةً لنبيٍ مَلِكٍ أيضًا، ولكن خلافته هذه لم تكن “خلافة نبوة”، بل كانت “خلافة نظام”.

وبما أن جماعتنا معتادة على العيش تحت النظام، وأفرادها مطيعون بفضل الله تعالى، فلو تمّ نقلهم إلى عهد محمد رسول الله لوجدتَهم يتحلّون بطاعة كطاعة الصحابة، ولن يجد أحدهم نفسه غريبًا في ذلك المحيط، بل سينسجم معه فورًا كما تنسجم قطعة من الماكينة في مكانها، وسيصبح بمجرد وصوله هناك واحدا من الصحابة، فيطيع النبيَّ في كل ما يأمره به دونما تردد وسؤال.

بيد أن الله تعالى قد يجمع في شخص “خلافة نظام” مع “خلافة نبوة”، أي أنه تعالى يبعث لإصلاح أمة نبي سابق نبيا آخر لا يأتي بشرع جديد، إنما ينفّذ شرع النبي السابق، وبتعبير آخر إنه يعمل على تكميل مهمة النبي السابق فيما يتعلق بالشرع؛ فيكون خليفة له من هذه الناحية، ولكن فيما يتعلق بمنصبه فيعطيه الله تعالى إياه مباشرة. وقد جاء في بني إسرائيل خلفاء كثيرون من هذا النوع، بل كل أنبياء بني إسرائيل بعد موسى كانوا خلفاء من هذا النوع؛ أعني أنهم كانوا أنبياء، ولكنهم لم يأتوا بشرع جديد، بل عملوا على إقامة شرع موسى نفسه. يقول الله تعالى في القرآن الكريم إِنَّا أَنـزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ .. أي لا شك أننا أنزلنا التوراة وكان كتابًا مليئًا بالهداية والنور يحكم بها لليهود الأنبياءُ الذين كانوا مطيعين لنا وكذلك العارفون والعلماء الربانيون لأنهم كانوا مطالَبين بالحفاظ على كتاب الله تعالى.

إذًا، فوعدُ الله تعالى للمسلمين لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني أنه تعالى سيمنح هؤلاء الخلفاء البركات كما منحها الخلفاء الأولين وسيعاملهم كمعاملته مع الأولين، أي أنهم سيتلقون التأييد الرباني كما تلقّاه الأنبياء وخلفاؤهم السابقون.

 لماذا شُبهت الخلافة الإسلامية بخلافة النبوة دون خلافة المُلك؟

ولو قال قائل: لقد ذكر الله تعالى في القرآن أن الأولين قد مُنحوا “خلافة المُلك” أيضًا، فلماذا شُبّهت الخلافة الإسلامية بخلافة النبوة بشكل خاص دون خلافة المُلك؟

والجواب أنه لا شك أن الله تعالى قد وعد المسلمين بالملوكية أيضا، ولكن الله تعالى لا يتحدث هنا عن المُلك الماديّ بل يتحدث عن النعم الدينية فقط.

والدليل الأول على ذلك هو قول الله تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ .. أي أن الله تعالى سيقيم الدين الذي ينتمي إليه هؤلاء الخلفاء. وهذا الأمر لا ينطبق على الملوك الماديين، إذ لا يمكّن الله تعالى لهم دينهم؛ بل هذا خاص بالخلفاء الروحانيين فقط. فثبت أن الخلافة الإسلامية تشبه “خلافةَ النبوة” لا “خلافة الملوكية”.

والدليل الثاني هو قول الله تعالى وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا .. إذ لا تتوافر هذه الميزة في الملوك الدنيويين أبدا، حيث تجدهم اليوم جالسين على عروشهم لابسين تيجانهم، بينما تجدهم غدًا مخلوعين عن عروشهم يتسوّلون في الشوارع. كما ليس هناك أي وعد لهم من الله تعالى بأنه سيبدّل خوفهم أمنًا، بل الواقع أن هممهم تنهار في كثير من الأحيان إذا داهمهم خطر كبير.

والدليل الثالث هو قول الله تعالى يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا .. أي أن هؤلاء الخلفاء يكونون موحِّدين خالصين وأكبر أعداء للشرك. أما ملوك الدنيا فيقعون في الشرك أيضا حتى قال الرسول إنهم قد يقعون في الكفر البواح المكشوف (البخاري: كتاب الفتن، باب قول النبي سترون بعدي أمورًا تنكرونها). فلا يمكن، والحال هذه، أن يكون هؤلاء مصداقا لآية الاستخلاف.

والدليل الرابع قول الله تعالى وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .. أي أن الذين يكفرون بهؤلاء الخلفاء سيصبحون فاسقين. فكيف، يا ترى، يمكن أن يصير الإنسان فاسقًا إذا رفض طاعةَ ملِكٍ يمكن أن يقع في الكفر البَوَاح؟ كلا، لا يمكن أبدًا أن يصبح المرء فاسقًا لإنكاره طاعة الملوك الماديين كهؤلاء. إنما تصدر فتوى الفسوق ضد الإنسان إذا ما رفض طاعة الخلفاء الروحانيين.

فهذه الأدلة الأربعة المذكورة في آية الاستخلاف تؤكد أن الخلافة المذكورة هنا ليست “خلافة الملوكية”. فقول الله تعالى لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ…. يؤكد أن الخلافة الموعودة في هذه الآية تشبه “خلافة النبوة” لا “خلافة المُلك”.

والعلامة الثالثة لهذه الخلافة هي أن استمرارها منوط بإيمان الأمة وعملِها الصالح، فالله تعالى سيفي لهم بوعده ما داموا مؤمنين يعملون الصالحات. وهذا يعني أن من أكبر ما يميّز النبوة عن الخلافة أن النبوة تقام حين تمتلئ الدنيا شرًّا وفسادًا كما قال الله تعالى ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ .. أي أنّ مِن سنة الله تعالى، حين ينتشر الفساد في البر والبحر وينسى الناس ربهم ويُعرضون عن أحكامه ويتمادون في الغي والضلال وتحيط الظلمة بكل شبر من الأرض، أن يبعث نبيًا لإصلاح الناس، فيعود بنور الإيمان من السماء إلى الأرض، ويهدي الناس إلى الدين الحق. أما الخلافة فتقام حين تكون الأغلبية من القوم مؤمنين يعملون الصالحات. فالخليفة لا يأتي ليثبّت الناس على العقائد الصحيحة، بل يأتي لتكميل النظام. تأتي النبوة عندما لا يكون عند الناس إيمان ولا عمل صالح، بينما تأتي الخلافة حين يكون جميع الناس – تقريبًا – مؤمنين يعملون الصالحات؛ ومن أجل ذلك لا تبدأ الخلافة إلا عند انتهاء النبوة، لأن النبوة تكون قد ثبّتتِ الناسَ على الإيمان والعمل الصالح، ولأن أكثريتهم تكون مؤمنة تعمل الصالحات، فيُعطيهم الله تعالى نعمة الخلافة. أما العصر الذي لا يخلو من الصالحين كما لا يكون مليئًا بالأشرار، فلا تكون فيه نبوة ولا خلافة؛ إذ لا يكون مرض الناس قد بلغ الشدة في ذلك الوقت حتى يتطلب مجيء نبي، كما لا تكون صحتهم على ما يرام حتى يُقام بينهم خليفة يستعين بهم لخدمة الدين.

والعلامة الرابعة التي ذكرها الله تعالى أنه سينشر في الدنيا ما يأتي به هؤلاء الخلفاء من أحكامٍ وأفكارٍ دينية رغم الظروف غير المواتية، لقوله تعالى وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ . وهذا برهان عظيم على صدق الخلافة الحقّة، وإذا تدبّر فيه المرء وجده آية عظيمة على صدق الخلفاء.

ثم إن من معاني الدين الحُكمَ والسياسةَ، وعليه فقوله تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ يعني أن من علامات الخلفاء الصادقين أن الله تعالى يكتب النجاح لسياستهم وإستراتيجيتهم. من الممكن أن يخطئ الخليفة في الأمور الشخصية أحيانًا، ولكنه لو أخطأ في ما يخص الجماعة ورقيها ماديًا وروحيًا فإن الله تعالى يحمي جماعته من مغبّة خطئه ويطلعه على خطئه بطريق آخر فيتداركه. وهذا ما يسمى “العصمة الصغرى” بحسب مصطلح الصوفية. وهذا يعني أن الأنبياء يتمتعون بـِ “العصمة الكبرى”، أما الخلفاء فيتمتعون بـِ “العصمة الصغرى”، فلا يدَعهم الله تعالى يرتكبون خطأ فادحا يؤدي إلى هلاك الجماعة. من الممكن أن تحدث في قراراتهم أخطاء جزئية طفيفة، ولكن العاقبة تكون خيرًا، فيجعل الله على أيديهم الإسلام غالبًا وأعداءه مغلوبين، وبتعبير آخر إن سياستهم تصبح سياسة لله تعالى لكونهم يتمتعون بـ “العصمة الصغرى” من عنده تعالى.

والعلامة الخامسة التي بيّنها الله تعالى للخلفاء الصادقين هي قوله وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا .. أي كلما هدد خطر ما الخلافةَ الإسلامية على نطاق الأمّة هيأ الله الأسباب التي تُبدّل هذا الخطر أمنًا للأمّة شريطة أن تكون قلوبهم عامرة بنور الإيمان. فترى أنه لما عمّت الفوضى عند استشهاد عثمان جمع الله تعالى طائفة كبيرة من المسلمين على يد علي . ولما قام معاوية ضد علي خلق الله تعالى الخشيةَ في قلب معاوية كلما اقتضتها الظروف، فبعث إلى ملك الروم المسيحي – الذي أراد أن يستغلّ النـزاع بين المسلمين وقرر الهجوم على المملكة الإسلامية – رسالة ينذره فيها بقوله: لا يغرّنك الخلاف الموجود بيننا نحن المسلمين. واعلم أنك لو هاجمت الدولة الإسلامية فسأكون أول قائد يخرج لمحاربتك دفاعًا عن علي .* فخاف الملك الروماني، وانقلب خوف المسلمين أمنًا. لقد كان هذا التصرف من معاوية دليلا على أن قلبه كان عامرًا بالإيمان ولو جزئيًا، ولو أن معاوية تصالح مع عليّ وأطاعه طاعة كاملةً لزال الخلاف بين المسلمين للأبد، وكانت لذلك نتائج طيبة جدا تجعل مسلم اليوم يرفع رأسه بكل فخرٍ. ولكن المؤسف أن معاوية أعلن طاعة مؤقتة ولم يعلن طاعة كاملة.

ثم إن من معاني الدين الحُكمَ والسياسةَ، وعليه فقوله تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ يعني أن من علامات الخلفاء الصادقين أن الله تعالى يكتب النجاح لسياستهم وإستراتيجيتهم. من الممكن أن يخطئ الخليفة في الأمور الشخصية أحيانًا، ولكنه لو أخطأ في ما يخص الجماعة ورقيها ماديًا وروحيًا فإن الله تعالى يحمي جماعته من مغبّة خطئه ويطلعه على خطئه بطريق آخر فيتداركه. وهذا ما يسمى “العصمة الصغرى” بحسب مصطلح الصوفية.

يظن البعض خطأً أن المراد من هذه الآية أن الخلفاء الراشدين يكونون محفوظين من كل تخويف، فيستنتجون بناء على ظنهم هذا أن عمر وعثمان وعلي لم يكونوا خلفاء راشدين إذ قد تعرضوا لشتى القلاقل حتى قُتلوا، فليس هناك خليفة راشد صادق إلا أبا بكر فقط.

لقد وقع هؤلاء في هذا الخطأ لأنهم لم يتدبّروا ألفاظ القرآن الكريم. لا شك أن تبدّل الخوف أمنًا نعمةٌ عظيمة، ولكن الله تعالى لم يقل هنا “وليبدّلنّهم من بعد الخوف أمنًا”، بل قال وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا .. أي أنه تعالى يزيل الخوف الذي تستشعر به قلوبهم ويدفع ما يسبب لهم الخوف ويبدّله أمنًا. إذًا، فليس هناك وعد من الله تعالى أن الخلفاء لا يتعرّضون لما يُعَدُّ في نظر غيرهم من الناس خوفًا، وإنما يعِد الله تعالى بإزالة ما يسبّب الخوف للخلفاء. فالثعبان مثلاً شيء مخيف عادة، ولكنه لا يسبب أدنى خوف لكثير من الناس الذين يأخذونه بأيديهم ويلعبون به…. فإن الله تعالى لم يقل هنا “وليبدّلنهم من بعد الخوف أمنا”، بل قال وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا .. أي لن يكون هناك ما يخيفهم.

ولو وضعنا هذا الأمر في الحسبان لتبيّن لنا أنه لم تأت على الخلفاء أي مصيبة خافوها، وإذا حلّت بهم بالفعل مصيبة كهذه أزالها الله تعالى. لا شكّ أن عمر قد استُشهد، ولكن واقع الأمر يكشف لنا أن عمر لم يكن يخاف الشهادة، بل كان يتمناها في سبيل الله تعالى، حيث كان يدعو: “اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك، وموتًا في بلد رسولك” (البداية والنهاية المجلد السابع ص137). فإذا استُشهد من كان يدعو الله تعالى طوال عمره بأن يُستشهَد في المدينة، فكيف نقول عنه حين استُشهد أنه جاء عليه وقت من الخوف ومع ذلك لم يبدّل الله تعالى خوفه أمنًا؟ لو كان عمر خائفا من الشهادة ثم استُشهد لجاز لأحد القول إن الله لم يبدل خوفه أمنًا، ولكنه ما دام يدعو الله تعالى أن يكتب له الشهادة في المدينة، فكيف نقول أنه كان يخاف الشهادة؟ وما دام عمر غير خائف من الشهادة، بل كان يدعو لها حتى استجاب الله دعاءه، فثبت أنه لم يأت عليه خوف يستشعره في قلبه ثم لم يدفعه الله عنه. فإن هذه الآية إنما تقول إن ما يخافه الخلفاء لن يقع أبدًا، حيث وعدهم الله تعالى بتبديل خوفهم أمنًا. فإذا كانوا لا يخافون أمرًا، بل رأوا فيه عزّتهم ورفع درجاتهم، فلا يصحّ أن يعتبره أحد خوفًا لهم، ثم يقول: لماذا لم يبدّل الله تعالى خوفهم أمنًا؟

ثم إن الأحداث التي وقعت مع عثمان تؤكد أنه لم يكن خائفا منها، إذ الثابت من التاريخ أن المتمردين لما استولوا على المدينة كانوا ينتشرون قبل الصلاة في المسجد ليفصلوا أهل المدينة بعضهم عن بعض، حتى لا يجتمعوا ولا يهبّوا للمقاومة. وبرغم هذا الجو المشحون بالفتنة والخطر كان عثمان يحضر المسجد للصلاة وحده دون خوف. وظل يحضره إلى أن منعه الناس من ذلك. ولما تفاقمت الفتنة وأراد المتمردون الهجوم على بيت عثمان ناشد الصحابةَ أن لا يعرّضوا من أجله أرواحهم للخطر، بل عليهم أن يرجعوا إلى بيوتهم بدلاً من حراسة بيته. (المرجع السابق ص 176-177)

فهل يتصرف الخائف من الشهادة هكذا؟ وهل يقول للناس: لا تحرسوني بل ارجعوا إلى بيوتكم.

ومن الأدلة الدامغة على أن عثمان لم يكن خائفا من هذه الأحداث أن معاوية جاء للحج أيام تلك الفتنة، وعندما أراد العودة إلى الشام ذهب إلى المدينة للقاء عثمان ، وعرض عليه أن يخرج معه إلى الشام ليكون في مأمن من الفتن. فقال له عثمان : “لا أختار بجوار رسول الله سواه”. فقال معاوية: إذا كنت لا ترضى بذلك فإني أبعث لك من الشام جنودًا يحمونك من الثوّار. فقال عثمان : “لا أريد أن أقتّر على جيران رسول الله الأرزاقَ بجند تساكنهم”. قال معاوية : إن هؤلاء سيقتلونك غدرًا أو يخرجون لمحاربتك. قال: “حسبي الله ونعم الوكيل”. (الكامل في التاريخ: المجلد الثالث ص 157، والبداية والنهاية المجلد السابع ص 169، والطبري الجزء الخامس ص 353)

ثم لما هاجم الأشرار عثمانَ وتَسوّروا عليه بيتَه، لم يخف منهم أبدًا، بل ظل يقرأ القرآن بسكينة. (البداية والنهاية، المجلد السابع ص 184-185: صفة قتله أي عثمان )

ونفس الحال بالنسبة لعلي ، فكان يخاف أن يتوقف انتشار الصدق والروحانية، فبدل الله خوفه أمنًا. ولكنه ما خاف من معاملة الناس له، حيث كان جيش معاوية في بعض الأحيان يزيد على جيش علي ، ولكنه لم يكترث لذلك أبدا، وظل يقول إنه لن يرضى إلا بما يقوله القرآن الكريم.

ولو ظننا أن هؤلاء الخلفاء الراشدين كانوا يخافون المعارضة لوجب التسليم بأن أنبياء الله تعالى – والعياذ بالله – أيضًا كانوا يخافون الناس دائمًا، إذ لا يتعرض أحد للمعارضة الشديدة كما يتعرض لها الأنبياء. فثبت أن معارضة أهل الدنيا ليست بشيء في أعين الخلفاء حتى يخافوها.

وعندما أقول إن الخوف هنا لا يعني الخوف العادي، وإنما المراد منه ذلك الخوف الذي تستشعره قلوب هؤلاء الخلفاء، فقولي هذا لا يعني أنهم يشعرون بالخوف العادي بالضرورة، بل إن الله تعالى يبعد عنهم هذا النوع من الخوف أيضا، إلا أن تكون هناك مصلحة ربانية؛ ومثاله الخوف الذي كان في عهد علي ، وكان سبب ذلك أن حالة المسلمين عمومًا كانت قد تردَّت لدرجة أنهم لم يعودوا عندها مستحقين لنعمة الخلافة. فأنا لا أقصد مما قلت أن الله تعالى لا يحفظهم من الخوف العادي، إنما أركز هنا على أن الوعد الإلهي المذكور في هذه الآية إنما يخص ذلك الخوف الذي يعتبره الخلفاء خوفًا، والواضح أنهم ما كانوا يخافون إلا أن تقع الأمة الإسلامية في الغي والضلال، فبدل الله تعالى خوفهم هذا أمنًا حيث حفظ الأمة من الضلال فضلا منه، وظلّت الهداية الإلهية ميسرة للمسلمين بعد وفاة الخلفاء أيضًا رغم الفتن الكبيرة. والحق أن المعجزة الحقيقية إنما هي أن تظل أعمال المرء وأمانيه تتحقق بعد وفاته أيضًا، إذ لو تحقق له في حياته ما أراد فقد يرجع الناس نجاحه إلى التدابير المادية. أما إذا تحققت أهدافه بعد وفاته أيضا فلا يمكن لأحد أن يرجع نجاحه إلى التدابير المادية، بل كان هذا دليلا على كونه محبوبًا ومقربًا عند الله تعالى.

والعلامة السادسة التي بينها الله تعالى للخلفاء الصادقين هي يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا .. أي هؤلاء الخلفاء سيقومون بعبادتي دون أن يشركوا بي شيئًا.. بمعنى أن الله تعالى سيشحنهم بالشجاعة والجرأة فلا يخافون في الله تعالى لومة لائم. إنهم لن يعملوا أي شيء خوفًا من المخلوق، بل يتوكلون على الله تعالى ويعملون كل شيء ابتغاء وجه الله ورضوانه تعالى. وليس المراد من قوله تعالى لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا أنهم لن يعبدوا الأصنام، ذلك لأن المسلم العادي أيضًا لا يعبدها فما بالك بالخلفاء؟! إنما المراد من قوله تعالى لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا أنهم لن يتنازلوا عن أي موقف خوفًا من المخلوق، بل سيقومون بكل عمل تحقيقًا لمشيئة الله وابتغاء مرضاته تعالى غير مكترثين للمحن والمصائب التي قد تصيبهم في هذه السبيل؛ ذلك أننا نرى أن أكبر الشجعان أيضًا يغيّر في بعض الأحيان موقفه خوفًا من الناس، فمع أنه لا يريد الانحراف عن الحق إلا أنه يتمنى في قلبه أن يقوم بالعمل بحيث لا يعترض عليه أحد، فيحاول إرضاء الجميع.

وهذه العلامة أيضًا كانت متوفرة في الخلفاء الراشدين على أكمل وجه. فلما توفي النبي وانتُخب أبو بكر خليفة، ارتدت الجزيرة العربية كلها، واستفحلت الفتنة حتى لم يصلّ الناس جماعةً إلا في مكة والمدينة، ورفض أهل البلد كلهم أداء الزكاة إلا أهل مكة والمدينة وقرية أخرى، محتجين بأن قول الله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً (التوبة:103) كان خاصًا بالنبي ، فلا يحق لأحد بعده أن يطالبنا بالزكاة على أموالنا. وثار العرب كلهم على الدولة الإسلامية وخرجوا بجيوشهم لمحاربتها. لا شك أن الإسلام كان ضعيفًا في عهد النبي ، ولكن الأعداء كانوا يهاجمونه متفرقين، إذ كانت طائفة تحارب المسلمين في وقت، بينما تحاربهم طائفة أخرى في وقت آخر. أما في غزوة الأحزاب حين جاءت جيوش الكفار متجمعة متحدة فكان الإسلام قد اكتسب القوة إلى حد ما، ولكنه لم يكن قويًا بحيث لا يخاف أي هجوم بعد ذلك في المستقبل. ثم لما خرج النبي لفتح مكة انضمت إليه بعض القبائل لنصرته. وهكذا ترى أن الله تعالى قد جعل أعداء الإسلام ينبرون لمحاربته بالتدريج حتى لا يكتسبوا القوة فيستولوا على البلاد كلها. ولكن عند خلافة أبي بكر ارتدت القبائل العربية كلها دفعة واحدة إلا في مكة والمدينة وقرية أخرى، وخرجت كلها بجيوشها لمحاربة المسلمين. وقد بلغ عدد جيش بعض القبائل مئة ألف مقاتل، بينما كان عدد الجيش المسلم عشرة آلاف فقط، وكان هذا الجيش على وشك الرحيل ناحية الشام. وهو نفس الجيش الذي قد جهزه النبي قبل وفاته تحت قيادة أسامة بن زيد لمحاربة الرومان على حدود الدولة الرومانية. أما باقي المسلمين فكانوا ضعفاء وشيوخًا ما عدا بعض الفتيان القلائل. ونظرًا إلى الظروف الحرجة المحدقة بالمسلمين فكر الصحابة أنه لو خرج جيش أسامة فلن يبقى في المدينة أحد للدفاع عنها ضد الثوار المتمردين. فذهب إلى أبي بكر وفدٌ يضم كبار الصحابة بمن فيهم عمر وعلي المشهورَين بشجاعتهما، فالتمسوا منه تأجيل رحيل الجيش إلى حين قمع الثورة، إذ ليس هناك سبيل آخر للدفاع عن المدينة وقد أخذ العدو يتقدم إليها بجنوده. فغضب أبو بكر مما أشاروا عليه وقال: هل تريدون أن يكون أول عمل يقوم به ابن أبي قحافة بعد وفاة النبي هو أن يمنع الجيش الذي أمر النبي برحيله. والله لن أوقف هذا الجيش أبدًا، ولا أبالي بتمرد العرب كلهم، ولا يهمني إذا لم يبق هناك أحد للدفاع عن المدينة. والله، سأبعث هذا الجيش الذي أمرني النبي بتسييره وإن دخل العدو علينا في المدينة وأخذت الكلاب تجر جثث المسلمات في شوارعها. إذا كنتم تخافون جيوش الأعداء فيمكنكم أن تتركوني، وسأخرج للقاء الأعداء وحدي. (البداية والنهاية: المجلد الخامس ص 304: في تنفيذ جيش أسامة بن زيد)

فما أعظمَ هذا المشهدَ دليلاً على صدق قول الله تعالى يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا !

أما القضية الأخرى أعني الزكاة، فقال الصحابة لأبي بكر إن كنت لا تريد منع الجيش الإسلامي من الخروج فعليك أن تتصالح مع الثوار على أن لا نأخذ منهم الزكاة هذه السنة، وذلك لكي تهدأ الثورة خلال هذه الفترة ونجد سبيلاً للقضاء على هذه الفوضى. إنهم ثائرون ومستعدون للقتال والموت، وليس من الحكمة، والحال هذه، أن تطالبهم بأداء الزكاة. فرفض أبو بكر هذا الاقتراح أيضًا بشدة وقال: “والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ” (البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ). فقال الصحابة: من يتصدى للمرتدين المتمردين إذا خرج جيش أسامة ولم نعقد معهم هدنة مؤقتة؟ هل يبقى بعد ذلك غير الشيوخ والضعفاء أو بعض الشباب في المدينة؟ وكيف يمكنهم أن يقفوا في وجه الأعداء الذين يبلغ عددهم مئات الآلاف؟ فقال أبو بكر: إذا كنتم لا تقدرون على التصدي للعدو، فسأخرج لمحاربته وحدي. (تاريخ الخميس المجلد الثاني ص 201: ذكر بدء الردة، والطبري المجلد الرابع ص 63: بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي)

لقد خرجت هذه الكلمات من فم شخص لم تكن عنده خبرة عالية بفنون الحرب والقتال، وكان يقال إنه رقيق القلب. فمن أين استمد هذه الشجاعة والبسالة وهذه الثقة واليقين، يا ترى؟ إنما سببه أنه كان مدركًا أن الله تعالى هو الذي قلَّده منصب الخلافة، وأنه هو المسؤول عن كل الأمور، فمن واجبه أن يواجه التحدي، أما النجاح فبيد الله تعالى، فلو أراد الله له النجاح فسيجعله غالبًا، أما إذا لم يرد الله له النجاح فلن تحققه له جيوش الدنيا كلها.

ومن المواقف الأخرى الدالة على عظيم شجاعة أبي بكر أنه خاض الحربَ في وقت واحد ضد اثنتين من أقوى الدول في عصره، أعني إمبراطورية قيصر وإمبراطورية كسرى، وذلك برغم أن خروجه لمحاربة قيصر وحده كان يماثل خروج أفغانستان اليوم لمحاربة أمريكا أو إنجلترا. وبينما هو يخوض الحرب ضد تلك القوة العظيمة، بلغه أن الجيوش الفارسية تتأهب للهجوم على المسلمين، وأن أمارات الثورة والتمرد تلوح في المناطق الفارسية الخاضعة للدول الإسلامية، فأمر بشن الهجوم على الدولة الفارسية بدون تأخير. ولما قال له الصحابة كيف نقاتل هاتين القوتين العملاقتين في وقت واحد، قال لهم: لا تكترثوا لذلك أبدًا، بل اذهبوا وقاتِلوهم. وبما أن المسلمين كانوا مشغولين بقتال الجيوش الرومانية، فبدا هجومهم على المناطق الفارسية أمرًا مستبعدًا لدرجة أنه لما بلغت الملك الفارسي أخبار تقدم الجيوش الإسلامية لم يكترث لها مطلقًا، وقال إنما هي أراجيف، إذ كيف يمكن أن يفكر المسلمون في الهجوم علينا وهم لا يزالون متشابكين مع عدو قوي في حرب خطيرة؟ فكان من أكبر دواعي هزيمة الفرس في المعارك الأولى أنهم لم يبعثوا من عاصمتهم أي جيش لمقاومة المسلمين، بل ظل ملِكُهم يظن أن هذه الأخبار ليست إلا أراجيف وإشاعات باطلة. ولكن لما بلغته الأخبار بشكل مكثف ومتواصل بعث قائدًا له ليستطلع الأخبار ويخبره بالخبر اليقين. فكتب إليه في تقريره أن المسلمين قد شنوا الهجوم بالفعل، وأنهم قد استولوا على مناطق كثيرة. عندها بعث الملك الفارسي جيشًا لمحاربة المسلمين.

ثم لما صار عمر خليفة أبدى نفس التوكّل الذي تحلّى به أبو بكر ، مع أنه هو الذي كان يقول لأبي بكر من قبل كيف نحارب هذه الجيوش الجرارة التي هي أكثر منا عددا وعتادًا؟ وكان يقترح عدم إرسال جيش أسامة حتى يشترك في القتال ضد المتمرّدين. إنه عمر نفسه الذي فتح للحرب جبهتين: جبهةً ضد قيصر وجبهة ضد كسرى، ولم يبرح حتى أطاح بعرشيهما.

أما عثمان فكان معروفًا بالحياء ورقّة القلب بل كان عند الناس اعتقاد بأنه ضعيف، ولكنه لما تولى الخلافة أبدى شجاعة نادرة حتى يندهش المرء برؤية مواقفه الجريئة. لقد تصدّى للمعارضة الداخلية بثقة تحيّر العقول.

وكذلك كان علي ، إذ لم يبال بأي معارضة أو خطر. وبرغم أنه كان محاطًا بالأخطار من الداخل والخارج، إلا أنه آثر مرضاة الله تعالى عند كل موقف ولم ينحرف قيد شعرة عن المشيئة الإلهية كما فهمها دون أي خوف من أي مخلوق.

إذًا، فإن الله تعالى قد حقق علامة يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا على يد جميع الخلفاء الراشدين بشكل واضح ورائع، ما يشكل دليلا قاطعًا على أن الله تعالى هو الذي أقامهم على منصب الخلافة، وهو الذي كفَل لهم التأييد والنصرة.

أتناول الآن الاعتراضات التي تُثار عادة بصدد هذه الآية.

الاعتراض الأول: يُقال إن الوعد الموجود في هذه الآية قد قُطع مع الأمة الإسلامية كلها وليس مع بعض أفرادها، أي أن الله تعالى سيجعل هذه الأمة كلها خليفة وليس بأنه سيختار بعض أفرادها خلفاء، أي أن الله تعالى سيُعطي المسلمين كلهم الحكم والغلبة وليس بأنه يجعل بعضًا منهم خلفاء.

وليس المراد من قوله تعالى لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا أنهم لن يعبدوا الأصنام، ذلك لأن المسلم العادي أيضًا لا يعبدها فما بالك بالخلفاء؟! إنما المراد من قوله تعالى لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا أنهم لن يتنازلوا عن أي موقف خوفًا من المخلوق، بل سيقومون بكل عمل تحقيقًا لمشيئة الله وابتغاء مرضاته تعالى غير مكترثين للمحن والمصائب

والجواب الأول هو أنه مما لا شك فيه أن هذا الوعد قد قُطع للأمة كلها، ولكن هذا لا يمنع أن يتحقق هذا الوعد على يد بعض أفرادها. فهناك وعود تكون للأمة كلها، ولكنها تتم على يد الأفراد، ومع ذلك يقال إن الوعد الذي قُطع للأمة كلها قد تحقق. وهناك أمثلة كثيرة على هذا الأسلوب الكلامي في كل لسانٍ في العالم. فمثلا يقال في لغتنا: إن الإنجليز ملوك. فهل يعني هذا أن كل واحد من الإنجليز ملِكٌ؟ كلا، لا يكون كل شخص إنجليزي ملِكًا ولا يمكن أن يكون، ومع ذلك يقال إن الإنجليز ملوك….كذلك يقال إن الأمة الفلانية ثريّة جدًّا، ولكن هذا لا يعني أن كل فرد منها يكون ثريًّا. فمثلا يقال إن الإنجليز أثرياء، مع أنه يوجد بينهم من يعيشون في فقر مدقع…. فثبت أنه إذا قُطع وعد لقوم فلا يعني ذلك أنه لا يمكن أن يتم على يد بعض أفراد منهم، بل هنالك كثير من الوعود التي تُقطع مع الأمم وتتم على يد بعض أفرادها. ومثاله في القرآن الكريم قول الله تعالى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ . فهل بوسع أحد أن يثبت أن كل بني إسرائيل صاروا ملوكا؟ ثم هل يمكن أن يشك أحد في وجود فقراء كثيرين بين بني إسرائيل، ومع ذلك يقول لهم موسى وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ؟ إذًا، إنما المراد من هذا التعبير أنه إذا كان الملك من قوم فكل القوم ينتفعون من النعم والمنافع المتعلقة بالمُلك، ولذا يجوز القول إن القوم كلهم ملوك. إذًا، فما دام هؤلاء المعترضون لا يعنون بهذه الآية، رغم وجود كلمة وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ، أن كل يهودي صار ملكًا، فلماذا يستنتجون من قول الله تعالى وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أن هذا الوعد لا يمكن أن يتحقق من خلال بعض أفراد الأمة، وإنما المراد منه أن الأمة كلها تُعتبر خليفة؟

والجواب الثاني هو أن فعل الله تعالى نفسه قد كشف المعنى الحقيقي لهذه الآية. إن الله تعالى يقول هنا وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ… ، فلو كان المراد من الخلافة هنا الديمقراطية فعلينا أن نرى أقامت الديمقراطيةُ بعد الرسول أم لم تقم، أما لو كان المراد الرباني من ذلك أن يشرّف بعض أفراد الأمة بالخلافة، فيقال إن الأمة كلها قد تمتعت ببركات الخلافة، فعلينا أن نرى فيما إذا قامت الخلافة على هذا المنوال بين المسلمين أم لا.

وعندما ننظر إلى الأمر الواقع بعد وفاة الرسول نجد أن بعض أفراد الأمّة نالوا الخلافة وليس كلّهم. إذًا، فإما أن يقول هؤلاء المعترضون أن المسلمين لم يعودوا بعد الرسول من الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، بل صار الجميع منافقين والعياذ بالله – كما يزعم الشيعة… – ولذلك لم يتحقق لهم وعد الخلافة في الأمة، وإما أن يعترفوا بأن الطريق الصحيح للخلافة إنما هو ذلك الذي قامت عليه الخلافة بالفعل بعد وفاة الرسول .

إذًا، فإن المنوال الذي أقام الله عليه الخلافة في المسلمين بعد الرسول هو بمثابة شهادة ربانية فعلية، وهذه الشهادة الربانية الفعلية تؤكد أن الله تعالى سيحقق وعد الخلافة للأمة في المستقبل أيضًا على نفس المنوال أي من خلال بعض أفراد الأمة.

أما الاعتراض الثاني الذي يُثار حول هذه الآية فهو قول البعض: لنفترض أن هذه الآية تعني أن بعض أفراد الأمة سينالون الخلافة، ولكنك تسلّم بأن الخلافة في الأولين كانت خلافةَ نبوة وخلافةَ ملَكيّة، ولكنك لا تعتبر الخلفاء الأربعة من الأنبياء ولا من الملوك؛ فكيف تحقَّقَ هذا الوعد؟ وكيف صاروا مصداقا لهذه الآية؟

والجواب أنه لا شك أن الخلافة في السابقين كانت على شكل نبوة أو ملَكيّة، ولكن المشابهة بين شيئين لا تكون بالضرورة في كل النواحي، بل في الأمر الأساس. مثلا لو شبّهنا شخصًا طويلا بشخص طويل آخر، وكان الأول صالحا وعالما والآخر سارقا وجاهلا، فلا يجوز لأحد أن يقول كيف يصحّ هذا التشبيه بينهما مع أن أحدهما سارق والآخر صالح. ذلك لأننا شبهنا الواحد بالآخر من حيث الطول وليس في كل شيء. وهناك مثال لذلك في القرآن الكريم حيث قال الله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً .. فالله تعالى قد شبّه النبي بموسى ، مع أنه كان قد أُرسل إلى فرعون فقط، بينما لم يُبعث النبي إلى ملك واحد بل إلى ملوك الدنيا كلهم. كما أن موسى قد بُعث لهداية بني إسرائيل فقط، بينما بُعث النبي لهداية العالم كله. ثم لم يكن عهد نبوة موسى إلا تسعة عشر قرنًا، أما النبي فرسالته ممتدة إلى يوم القيامة. هذه هي أهم الفروق بين موسى والنبي ، ومع ذلك نقول نحن المسلمين إن النبي جاء مثيلا لموسى. فإذا كانت كل هذه الفروق لا تقدح في المشابهة بين هذين النبيين فلِم يعترض هؤلاء على بعض الفروق الجزئية بين أحوال خلفاء الأمم السابقة وأحوال خلفاء الإسلام؟

هذا، وفي هذه الآية إشارة ربانية بالغة الأهمية يجب أن لا تنساها الجماعة الإسلامية الأحمدية، وهي أن الله تعالى قد قال هنا لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ .. أي لكي تمتد الخلافة في المسلمين عليهم باتّباع طريق الذين من قبلهم عند انتخاب الخلفاء.

ومن بين الأمم السابقة كانت المسيحية – دون اليهودية – هي الأمة التي لم تكن فيها الخلافة ملَكيّة، بل كانت خلافةً دينية بحتة. وهناك إلهام للمسيح الموعود باللغة الأردية يؤكد ما قلت وهو: “كليسا كي طاقت” (تذكرة ص 615: وجريدة “بدر” يوم 19 مايو 1906).. أي قوة الكنيسة، والمراد من هذا الإلهام أن وراء قوة الكنيسة سببًا خاصًا، فخذوا هذا السبب والسر في الاعتبار والحسبان دائمًا. وكأن هذا الإلهام يوجه أنظارنا إلى اتّباع الطريق الذي بيَّنه الله تعالى لانتخاب الخليفة في القرآن الكريم بقوله تعالى كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ .. حيث أمَرنا الله تعالى أن نتّبع لدى انتخاب الخلفاء الطريق الذي كان يتبعه الذين كانوا من قبلنا أو طريقًا مشابها لذلك. وأنت تعلم أن الخلافةَ المسيحية مستمرة منذ تسعة عشر قرنا نتيجة اتّباع المسيحيين هذا الطريق الخاص. لا شك أن المسيحيين لا يستمّدون من خلافتهم ذلك النور الذي كانوا يستمّدونه في بداية أمرهم لكون المسيحية الحالية قد انحرفت وفسدت؛ ولكن بوسع الجماعة الإسلامية الأحمدية أن تصوغ هذا القانون والطريق بحسب تعليم الإسلام حتى تستمر الخلافة بينهم مئات بل آلاف السنين. ولذلك قد قمتُ بسنّ قواعد حول انتخاب الخلفاء في المستقبل، وأُؤمن بأن الجماعة الإسلامية الأحمدية لو ظلت مؤمنةً بالخلافة وساعيةً لاستمرارها كما ينبغي، فإن الخلافة ستستمر فيها إلى يوم القيامة بإذن الله تعالى، ولن يستطيع أي شيطان أن يفسدها.

والاعتراض الثالث الذي يُثار ضد الخلافة هو قول البعض: إذا كان الله تعالى قد وعد المسلمين بالخلافة فلماذا انقطعت الخلافة بعد علي ؟

والجواب أن هذا الوعد كان مشروطًا، إذ تُصرّح كلمات الآية بكل وضوح وجلاء أن الله تعالى يقطع هذا الوعد لأولئك الذين يؤمنون بالخلافة ويقومون – كجماعة – بأعمال تساعد على استمرار الخلافة بينهم. ذلك لأن الله تعالى يقول هنا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، والعمل الصالح في العربية هو ما يكون بحسب مقتضى الحال؛ وبما أن هذه الآية تتحدث عن الخلافة فالمراد مِن آمَنُوا أنهم يكونون مؤمنين بالخلافة، والمراد من وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أنهم يعملون أعمالاً يستحقون بها استمرار الخلافة بينهم. فإذا لم يتوفر فيهم هذا الشرط فلن يحقق لهم الله تعالى هذا الوعد. والواقع أن الخلافة بعد عليّ لم تكن إلا خلافة شكلية، إذ تحوّلت إلى الملَكيّة عمليًا، ولم تهتم تلك الخلافة الشكلية بتبليغ دعوة الإسلام ونشره مع أنه شرط أساس للخلافة، فلما فات الشرط فات المشروط، وألغى الله تعالى وعده للمسلمين.

قد قمتُ بسنّ قواعد حول انتخاب الخلفاء في المستقبل، وأُؤمن بأن الجماعة الإسلامية الأحمدية لو ظلت مؤمنةً بالخلافة وساعيةً لاستمرارها كما ينبغي، فإن الخلافة ستستمر فيها إلى يوم القيامة بإذن الله تعالى، ولن يستطيع أي شيطان أن يفسدها.

والاعتراض الرابع الذي يُثار ضد الخلافة هو قول البعض: ما دامت الأمة هي التي تختار الخليفة بالانتخاب فيجب أن يجوز لها عزله أيضا.

والجواب الأول هو أنه مما لا شك فيه أن الخليفة يُختار بالانتخاب من قبل الأمة، ولكن في هذه الآية نصٌّ صريح على أن الله تعالى يتّخذ الأمة أداةً لتنفيذ قراره فحسب، وينوّر عقولهم عند الانتخاب بوجه خاص، بينما الواقع أن الله تعالى هو الذي يقيم الخليفة، لقوله تعالى لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ . فبرغم أن انتخاب الخليفة يتمّ عن طريق المؤمنين، ولكن الإلهام الرباني يجعل قلوب القوم تميل إلى من يستحق الخلافة حقًّا عند الله تعالى، كما أنه تعالى يبّين هنا أنه يخلق في الخلفاء خصوصيات مميزة، وأنهم يكونون نعمة ربانية عظيمة. وعلى هذا سيكون تفصيل هذا الاعتراض كالآتي: ألا يحق للأمة أن تعزل شخصًا هو من الموحِّدين الكاملين، وأراد الله تعالى أن يُقيم دينه، ويدفع كل الأخطار عن الأمة من أجله، ويمحو الشرك على يده، ويحفظَ الإسلام بجهوده؟ ومن الواضح أنه من المحال أن تعزل الأمة مثل هذا الإنسان، ولن يريد عزله إلا إخوان الشيطان.

والجواب الثانـي هو أن الله تعالى قد استعمل هنا لفظ الوعد، والوعد يدل على الإحسان والإنعام، إذًا، فإن اعتراضهم هذا يعني أن الله تعالى ما دام قد جعل أمر انتخاب هذا الإنعام في يد الأمة، فيجب أن يكون من حقها أيضًا أن ترفض هذا الإنعام. وكل عاقل يدرك أنه استنباط بالغ الإساءة، لأن المرء إذا رفض نعمة عُرضت عليه بدون أن يسألها أصبح أشدَّ جريمة وأقام الحجة على نفسه. لأن الله تعالى سيقول في هذه الحالة: أيها الناس قد خيّرتكم في أن تأخذوا هذا الإنعام من خلال أي إنسان، فقلتم: نريد أن نتلقى هذا الإنعام في شكل فلان، فجعلتُ أفضالي مرتبطة بالشخص الذي اخترتموه؛ وبعد أن رضيت بقولكم أي بانتخابكم إياه رُحتم تقولون لسنا براضين بهذا الإنعام، وماذا عسى أن أجيبكم على رفضكم هذه النعمةَ إلا أن أقول وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ . وإلى هذا المعنى نفسه قد أشار الله تعالى هنا في آية الاستخلاف أيضًا حيث قال وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .. أي لقد خيّرنا الأمة عند انتخاب الخليفة، كما قمنا بإرشادها لتختار الشخص المناسب عند الانتخاب، ثم اصطفينا هذا الإنسان المنتخب واخترناه لنا، فلا يبقى بعد ذلك للأمة أي خيار في عزله. ومن أراد أن يأخذ هذا الخيار بيده فعليه أن يعلم أنه لا يعارض الخليفة، بل يكفر بنعمتنا؛ فإذا كان هو لدى انتخاب الخليفة في عداد الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فإننا سنمحو اسمه من قائمة الذين آمنوا وعملوا الصالحات وندرجه في زمرة الفاسقين من جراء هذه الخطوة الخاطئة من قِبله.

Share via
تابعونا على الفايس بوك