روح التضحية والإيثار أساس خدمة الدين
   وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(249)

 

شرح الكلمات:

بقية –البقية تُطلَق على كل شيء أفضل وخير. يقال: فلان بقية قومه: أي من خيارهم (الأقرب). وقد وردت بهذا المعنى في قوله تعالى (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا) (مريم:77). ووردت بمعنى العقل في قوله (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض) (هود:117). ولما كان العقل بمعنى الخير، ونافعا للإنسان وحافظا له أُطلقت البقية على العقل.

ترك-التركة يراد بها عموما الإرث، ولكنها أيضا تعني ما يرثه الإنسان من صفات طيبة من الآخرين. كما قال تعالى (يرثني ويرث من آل يعقوب) (مريم:7). كان لا يستطيع أن يرث بني إسرائيل إرثا ظاهريا، فالمراد أن يرث حسناتهم ويتصف بصفاتهم الطيبة.

تحمِله-علاوة على معنى الحمل الظاهري فإن الكلمة تعني أيضا الإغراء: يقال حمله على كذا أي أغراه (اللسان).

التفسير:

في الآية السابقة أجاب نبي ذلك الوقت على من اعترضوا على تعيين طالوت ملكا لهم:  (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم).. أي أن الله تعالى هو الأعلم بما في الإنسان من قدرات خفية، وما دام هو الذي اختار طالوت ملكا عليكم فلا بد أنه الأفضل بينكم. كما أن الحُكم لا يكون بقوة المال ولكن بالعلم وروح التضحية، وهو الأفضل بينكم في هذين الأمرين. فهو الأعلم والأكثر استعدادا لبذل قواه الجسمانية عند المواقف الصعبة الخطيرة.

وفي هذه الآية ذكر دليلا آخر قدّمه النبي لتبرير اختيار طالوت ملكا.. هو أن (يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل وموسى وآل هارون تحمله الملائكة).

قال المفسرون إن التابوت هنا هو ذلك الصندوق الذي كان يحتفظ فيه بنو إسرائيل بالنسخة الأصلية للتوراة وبعض الآثار المباركة من موسى وهارون. كانوا يأخذون معهم في السفر والحضر لأنهم يعتبرونه ذا بركة عظيمة (الجواهر في تفسير القرآن).

وقد جاء ذكر هذا التابوت في التوراة هكذا:  (فيصنعون تابوتا من خشب السنط 10) والعجيب أن القرآن يقول إن الملائكة تحمل هذا التابوت، ولكن التوراة تذكر أن أعداء بني إسرائيل خطفوا هذا التابوت منهم، قيل: (وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب.. واشتبكت الحرب، فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضُربوا من الصف في الحقل نحو أربعة آلاف رجل. فجاء الشعب إلى المحلّة. وقال شيوخ إسرائيل لماذا كسَّرنا اليوم الربُّ أمام الفلسطينيين. لنأخذ لأنفسنا من شَيْلُوهَ تابوت عهد الرب فيدخل في وسطنا ويخلصنا من يد أعدائنا. فأرسل الشعب إلى شيلوه، وحملوا من هنا تابوت عهد رب الجنودِ الجالسِ على الكروبيم).

وتقول التوراة إن الفلسطينيين خافوا من تأثير هذا التابوت على إسرائيل وتشددوا.. فحارب الفلسطينيون وانكسر إسرائيل وهربوا كل واحد إلى خيمته. وكانت الضربة عظيمة جدا. وسقط من إسرائيل ثلاثون ألف راجل. وأُخذ تابوت الله (صموئيل الأول: 4).

فإذا كان المراد من التابوت هنا هو هذا التابوت نفسه فما كان مدعاة لأي مسرة أو سكينة لهم، لأنهم بالرغم من وجود هذا الصندوق بينهم مُنوا بالفشل الذريع والهزيمة النكراء، مع أنهم كانوا مستبشرين بهذا التابوت لدرجة أن كاهنهم الأكبر عندما علم بوقوع هذا التابوت في يد الأعداء سقط ميتا (المرجع السابق). ولكن التابوت الذي يذكره القرآن الكريم موجبٌ للسكينة ولا يمكن أن يكون التابوت المذكور في التوراة.

إذا رجعنا إلى القواميس نجد أن التابوت يُطلَق على الصندوق وكذلك على السفينة (اللسان). ولكنها مجازا تُطلق على القلب. ويؤيد ذلك قولهم عن القلب: بيت الحكمة، صندوق الحكمة وعاء الحكمة (المفردات).كذلك يؤيد ذلك قولهم: ما أودعتُ شيئا تابوتي فقدتُه.. أي أنني لست متلون المزاج وإنما أنا ذو مزاج ثابت مستقر.. ما وقع في قلبي بقي فيه. وكذلك قيل: التابوت: الأضلاع وما تحويه كالقلب والكبد وغيرهما تشبيها بالصندوق الذي يُحرَز فيه المتاع (التاج). فإيداع سرّ علمي أو روحاني في التابوت يعني أنه قد كُتب على جدران القلب وحُفظ فيه كما يُحفظ المتاع في الصندوق.

والتابوت: القلب (التاج). وقيل إنه عبارة عن القلب، والسكينة وعمّا فيه من العلم (المفردات).

كذلك فإن كلمات القرآن تدل صراحة على أن المراد من التابوت هنا هو القلب، لأنه يقول (فيه سكينة من ربكم) والظاهر أن السكينة لا تنزل في الصناديق وإنما تنزل في القلوب.

كذلك وُصف هذا التابوت بأنه تحمله الملائكة. ولو اعتبرنا التابوت صندوقا ظاهريا فهذا يتنافى مع تعاليم القرآن الكريم الذي يقول (وما منع الناس أن يؤمنوا إذا جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا. قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) (الإسراء: 95). فلو قلنا إنه تابوت ظاهري لأدى ذلك إلى الاعتقاد بأن الملائكة كانوا يحملونه ويمشون بين الناس، وهذا يتعارض مع تعاليم القرآن الكريم كما ذكرنا. فلا بد أن يكون التابوت هنا بمعنى القلب. وحمل الملائكة للقلب يعني تشجيع صاحبه. يقال حمله على كذا أي أغراه (الأقرب). فقوله (يأتيكم التابوت فيه سكينة) يعني أن الملائكة سوف يشجعون ويحضون أتباع طالوت على بذل التضحيات، وسوف يؤيدون كل فرد منهم وينصرونه، ويتفق المؤرخون على أن عدد جيش طالوت كان قليلا جدا، وكان من المحال أن يتغلبوا على أعداد غفيرة من العدو إلا بنصرة من الله تعالى وتأييد من الملائكة (تفسير الطبري).

ويتبين من هذه الآية ضمنيا أن من أساليب اكتساب البركات الإلهية عن طريق الملائكة أن يُنشئ الإنسان علاقة إخلاص ووفاء وطاعة صادقة مع الخلفاء الذين يقيمهم الله تعالى. فقد ذُكر هنا أن الدليل على أن يد القدرة الإلهية هي التي اصطفَت طالوت ملكا.. هو أنكم تنالون قلوبا جديدة من الله تعالى.. تنزل فيها السكينة وتؤيدها الملائكة. أي أن إنشاء العلاقة بطالوت يُحدث انقلابا عظيما في نفوسكم. فتزدادون همة وإيمانا ويقينا، وتقف الملائكة إلى جانبكم تؤيدكم وتنفخ في قلوبكم روح التضحية والاستقامة، فإنشاء علاقة حب وإخلاص ووفاء مع الخلفاء الصادقين يوطد العلاقة مع الملائكة، ويجعل الإنسان مهبطا للأنوار الإلهية.

وقوله (وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون).. البقية في اللغة هي أفضل شيء وخيره، فالمراد: الأخلاق الفاضلة التي ظهرت من موسى وهارون وأتباعهما المقربين. أي أن قلوبكم سوف تتحلّى بالمحاسن التي تركها آل موسى وآل هارون إرثا لكم. وهذا يشبه دعاء سيدنا زكريا (..فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب..)(مريم: 6و7).. أي هب لي ابنا يرث المحاسن والأخلاق الكريمة التي تركها آل يعقوب، وليس أن يرث ما تركه هؤلاء من أموال وممتلكات.. ذلك لأنه عندما دعا زكريا هذا الدعاء كان قد مضى على يعقوب أكثر من مائة جيل.

وقوله تعالى (آل موسى وآل هارون) لا يعني أن لهما أمتين منفصلتين. فهذا خطأ بالبداهة، فكيف يكون هناك أمتان في قوم واحد وفي وقت واحد وفي شرع واحد؛ وإنما يعني “آل” أهليهما وأقاربهما، والمراد أن هؤلاء أيضا يكونون متصفين بصفات حميدة كانت في أولاد هذين النبيين.

وإذا قيل: ليس من الضروري أن يكون الأهل متصفين بصفات أسلافهم.. فالجواب أن الله تعالى استخدم كلمة (بقية) أي محاسنهم وخيرُ ما فيهم، فلا بد أن يكون أهلهما أصحاب محاسن. ثم إن التوراة أيضا تذكر أن الله أمر موسى أن يخلع على هارون لباسا مقدسا وأن يتم تكريمه، ويفرض أيضا على بني إسرائيل تكريم بني هارون، وأن يُعهد إلى هؤلاء نظام المعابد والكهنوت. قيل:  (وتقدِّم هارون وبنيه إلى باب خيمة الاجتماع، وتغسلهم بماء. وتُلبس هارون الثياب المقدسة، وتمسحه وتقدِّسه ليَكْهَن لي: وتقدِّم بنيه وتلبسهم أقمصة، وتمسحهم كما مسحت أباهم، ليكهنوا لي. ويكون ذلك لتصير لهم مسحتُهم كهنوتا أبديا في أجيالهم) (خروج 12:40). فصحيح أن أهل الإنسان لا يكونون بالضرورة متحلّين بصفاته الحسنة، ولكن فيما يتعلق بأهل موسى وهارون فإن الله أودعهم أخلاقا حميدة. وقد جعل الله علامة انتخاب طالوت ملكا لهم من لدن الله.. أنه سوف يخلق في أصحابه نفس التقوى والروحانية والأخلاق السامية التي كان آل موسى وهارون يتحلون بها.

ويتبين من هذه الآية ضمنيا أن من أساليب اكتساب البركات الإلهية عن طريق الملائكة أن يُنشئ الإنسان علاقة إخلاص ووفاء وطاعة صادقة مع الخلفاء الذين يقيمهم الله تعالى. فقد ذُكر هنا أن الدليل على أن يد القدرة الإلهية هي التي اصطفَت طالوت ملكا.. هو أنكم تنالون قلوبا جديدة من الله تعالى.. تنزل فيها السكينة وتؤيدها الملائكة.

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(250)

 

شرح الكلمات: 

اغترف-لعبارة (اغترف غرفة) معانٍ متعددة، ولذلك أضيفت كلمة (بيده) لتحديد المعنى وهو: شَرِب قليلا من الماء ياستعمال يده (الأقرب).

كم-تفيد معنى الكثرة. قال البعض إنها لا تدل على الكثرة بالضرورة (تفسير الرازي).

فئة-الفئة: الجماعة وهي مِن فاء أي رجع ومال (الأقرب). ولما كانت الجماعة تعتمد على أفرادها، وأفرادها يعتمدون عليها عند حلول شدة لذلك يسمون فئة.

التفسير:

عندما خرج طالوت بجنوده لمبارزة جالوت، امتحنهم الله بنهر، لكي يفصل عنهم ضعاف الإيمان، ولا يتصدى للعدو إلا كاملو الإيمان منهم والذين تؤيدهم الملائكة. والنهر بمعنى جدول ماء، وأيضا السعة والرخاء. (المفردات). وهنا يمكن أن يكون قد ورد بالمعنيين. فالمعنى أن الله أخبر هؤلاء الجنود عن طريق ملكهم أنكم سوف تُمتحنون بالمال والرخاء؛ وإذا اندفعتم وراء المتع الدنيوية والمال فلن تستطيعوا تقديم أي خدمة في سبيل الله تعالى، وأما إذا لم تتأثروا بالمال فسوف تحققون النجاح. وفي هذا المعنى يكون قوله (فمن شرب منه) على سبيل المجاز.

ولكن بما أن طالوت وأصحابه قد اختُبروا فعلا بجدول ماء فلا حرج أن تؤخذ الكلمة بمعناها الظاهري. تتطلب الحرب والقتال من الإنسان أن يكون سريع الحركة، أما إذا ملأ بطنه بالماء فلا يتمكن من الحركة السريعة، ولذلك أمرهم الله أن يبقوا خفيفي البطن ولا يشربوا من الماء إلا قليلا ليحاربوا بهمة ونشاط. ولكن معظمهم لم يدركوا حكمة الأمر الإلهي وشربوا ملء بطونهم، وكان هناك قلة منهم –تقول التوراة إنهم ثلاثمائة (قضاة 7)-لم يشربوا إلا اغترافا بأيديهم حتى يظلوا على نشاطهم وخفة حركتهم، وجزاء على تضحيتهم هذه وتقديرا لإخلاصهم أمر الله أن يتم الفتح على يد هؤلاء وحدهم، ولا يشترك في الحرب سواهم. وبالفعل سار طالوت بهؤلاء دون غيرهم إلى الحرب، وتم الفتح بإذن الله على أيديهم.

وقوله (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة) يعني أن الكثير من الجماعات الصغيرة تغلبت على جماعات كبيرة بفضل الله تعالى. ذلك أنهم يتمتعون بروح التضحية والإيثار، ويعتادون على استغلال أوقاتهم في أمور مفيدة بدلا من إضاعتها في اللغو. ثم إنهم أمناء صادقون، مجتهدون، ذوو همم عالية، وعزائم قوية. أما خصومهم أهل الكثرة العددية فإنهم يكونون عراة من هذه الصفات الحميدة. والنتيجة أن هذه الجماعة القليلة تغلب الجماعة الكبيرة. الحقيقة أن شخصا واحدا يتمتع بروح الإيثار والإخلاص يتغلب على عشرات. خذوا مثلا المجنون، يخاف الناس من التصدي له مع أنه وحيد. ذلك أنهم يخافون من الإصابة بضربة أو جرح، فيستخدمون قوتهم إلى حد محدود، ولكن المجنون لا يبالي بالضرب والجرح ولا بالموت، ولذلك يستخدم كل قواه فيتغلب على الكثيرين مع أنه وحيد. كذلك كل جماعة يتمتع أفرادها بروح التضحية والإيثار وينهمكون في خدمة الدين كالمجانين، ويبلغون في بذل الجهود والتضحيات حدا يخاف الآخرون من بلوغه.. فالواحد منهم يساوي عشرة بل عشرين من الآخرين. ففي وقعتي بدر والخندق تغلبت جماعة صغيرة من المسلمين على جماعة أكبر منها عدة أضعاف.

Share via
تابعونا على الفايس بوك