مرهم عيسى.. شهادة عظمى لطلاب الحق

هذا الكتاب القيم لسيدنا الإمام المهدي يعتبر عملاً متميزاً ومعلماً هاماً في مسيرته الدينية والعلمية والأدبية. فلقد سلط الكتاب الضوء على حياة المسيح الناصري ووفاته بأسلوب بحثي علمي متفوق وبأدلة لا يملك القارئ اللبيب إلا التسليم بها. ولئن كان المؤلف قد تلقى هذه الحقائق بوحي من الله العليم الحكيم إلا إنه قد سلك في هذا الكتاب مسلكاً بحثياً علمياً محضاً وقدم الأدلة الدامغة الشافية الوافية البينة من مصادر عديدة متيسرة في متناول الجميع وبين أيديهم. ولقد جاء الكتاب في أربعة أبواب. الباب الأول يتناول الشواهد من الإنجيل على حقيقة حياة المسيح وأنه قد نجا من حادثة الصلب، وقام بالعديد من الأعمال بعد هذه الحادثة، وأن عقيدة النصارى واليهود في قتله على الصليب عقيدة باطلة ينقضها الإنجيل بنفسه. ثم تناول في الباب الثاني شواهد القرآن الكريم والحديث الشريف التي تؤكد نجاته من الصليب وانتقاله إلى مكان آخر، حيث آواه الله وأمَّنه بعد الظلم والعذاب، وتؤكد قيامه بالعمل الموكل إليه قبل أن يُتوفى عن سن متقدمة جاوزت المائة وعشرين عاماً. ثم بين في الباب الثالث الشواهد التي وُجدت في كتب الطب والتي يتداولها العلماء منذ مئات السنين التي تذكر “مرهم عيسى” وتبين تركيبته وتذكر أن الحواريين قد استخدموه في علاج جروح المسيح الناصري . وتناول في الباب الرابع الشواهد من كتب التاريخ القديم والحديث، فلقد أخرج من بطون الكتب ما يذهل القارئ من فقرات تتحدث عن رحلات المسيح وتؤكد أنه قد وصل إلى الهند وأنه قد ألقى عصى التسيار فيها. ثم استنتج الدلائل على أن القبر الموجود في سيرينغر، كشمير في حارة خان يار والمسمى بضريح “يوز آصف” ما هو إلا قبر المسيح الناصري . ولقد اقتبس سيدنا الإمام المهدي من كتاب العلماء والباحثين الغربيين ما اعتقدوا به من أن المسيح قد انتقل إلى الهند وما وجدوه من تشابه كبير بين البوذية والمسيحية.

ولقد بين أن هذا الكتاب ما هو إلا مواساة للمسلمين الذين ينتظرون مسيحاً سفاكاً للدماء، ما زال حياً في السماء، يُكره الناس على الدخول في الإسلام بالسيف، فينقض تلك الفكرة الباطلة ويزيل الآثار السيئة التي تركتها على الحالة الخلقية للمسلمين. كذلك هو مواساة للنصارى بتبيان أن الإله الحق منزه عن الولادة والألم والضعف والبشري. وها نحن نقدم هذا الكتاب القيم للقراء في حلقات آملين أن يحقق الفائدة المرجوة منه. “التقوى

*ملاحظة: الهوامش الني كُتب في آخرها (المؤلف) هي من سيدنا الإمام المهدي . أما التي كتب في آخرها (المترجم) فهي من توضيح هيئة المترجمين.

الباب الثالث

في الشهادات المأخوذة من كتب الطب

لقد وجدنا شهادة عظيمة على نجاة المسيح من الموت على الصليب، وهي تبلغ من القوة بحيث لا مناص من قبولها، ألا وهي وصفة طبية تُدعى “مرهم عيسى”؛ وهي مسجلة في مئات الكتب الطبية التي بعضها من مؤلفات المسيحيين، وبعضها من مؤلفات اليهود والمجوس، وبعضها من مؤلفات المسلمين، غير أن معظمها قديمة العهد جداً.

وقد أكد البحث على أن هذه الوصفة قد انتشرت بين ملايين الناس في أول الأمر انتشاراً شفهياً، ثم بعد فترة من الزمن سجلوها بالكتابة؛ وكان أول كتاب سجلها هو كتاب “القرابادين”[1] الذي أُلف باللغة الرومية في عصر المسيح بعد حادث الصليب بقليل. ولقد ورد في هذا الكتاب أن هذه الوصفة (أي مرهم عيسى) قد أُعدت لجروح عيسى . ثم ترجم كتاب “القرابادين” بلغات عديدة إلى أن تمت ترجمته إلى اللغة العربية في عصر المأمون الرشيد. ومن عجائب قدر الله تعالى أن كل طبيب حاذق مسيحياً كان أو يهودياً أو مجوساً أو مسلماً، قد سجل هذه الوصفة في كتابه، وصرح كل واحد منهم أن هذه الوصفة قد أعدها الحواريون من أجل عيسى .

ويتبين بالنظر في كتب خواص المفردات الطبية أن هذه الوصفة مفيدة جداً في علاج الجروح الناتجة عن الضرب أو السقوط حيث يتوقف باستخدامها النزيف من مثل هذه الجروح فوراً. ومن مكونات هذه الوصفة “المر” الذي يحمي الجرح من التقيح والالتهاب. كما أنه مفيد في علاج الطاعون وفي جميع أنواع الدمامل والبثور. ولا يتبين لنا فيما إذا كانت هذه الوصفة قد تلقاها عيسى بالوحي بعد أن جُرح في حادثة الصليب، أم أنها قد أُعدت بإرشاد من طبيب. وإن بعض محتوياتها هي كالإكسير في الطب، وخاصة “المر” الذي ورد ذكره في التوراة أيضاً. وعلى كل حال، فإن جروح المسيح كانت قد اندملت في بضعة أيام باستخدام هذه الوصفة، فاستعاد قوته لدرجة أنه استطاع أن يقطع مسافة 70 فرسخاً من أورشليم إلى الجليل مشياً على الأقدام، وفي ثلاثة أيام فقط. وكفى ثناء على هذه الوصفة أن المسيح كان يُبرئ الآخرين، بينما هذه الوصفة قد شفت المسيح نفسه.

هذا، وإن الكتب التي سجلت هذه الوصفة تزيد عن ألف كتاب، وإن تسجيل قائمتها هنا مدعاة للتطويل، لأن هذه الوصفة شهيرة جداً عند الأطباء الذين يداوون بالطب اليوناني[2] فلا أرى داعياً لتسجيل أسماء جميع الكتب التي ذكرتها، بل أكتفي بذكر بعضها، التي هي متوفرة لدينا، فيما يلي: فهرس الكتب الطبية التي تتضمن ذكر “مرهم عيسى” وأنه قد أُعد لمعالجة الجروح الجسدية التي أصيب بها عيسى

*”القانون” للشيخ الرئيس أبي علي بن سينا المجلد الثالث صفحة 133

*”شرح القانون” للعلامة قطب الدين الشيرازي، المجلد 3

*”كامل الصناعة” لعلي بن العباس المجوسي المجلد 2 ص 602

*”مجموعة البقائي” لمحمود محمد إسماعيل الملقب عند الخاقان بـ والد محمد بقا خان، المجلد 2 ص 497

*”تذكرة أولي الألباب” للشيخ داود الضرير الأنطاكي ص 303

*”القرابادين الرومي”، وقد أُلف بعد عصر المسيح بقليل ونُقل إلى العربية في عهد المأمون الرشيد، بحث أمراض الجلد.

*”عمدة المحتاج” لأحمد بن حسن الرشيدي الحكيم، والكتاب تلخيص لأكثر من مائة كتاب فرنسي مشتمل على الأدوية بما فيها “مرهم عيسى”.

*”قرابادين فارسي” للطبيب محمد أكبر الأرزاني، أمراض الجلد.

*”شفاء الأسقام” – المجلد 2 ص 230

*”مرآة الشفاء” للطبيب “نتهو شاه” – نسخة مخطوطة – أمراض الجلد.

*”ذخيرة خوارزم شاهي” – أمراض الجلد

*”شرح القانون” للجيلاني – المجلد 3

*”شرح القانون” للقرشي – المجلد 3

*”قرابادين” لعلوي خان – أمراض الجلد

*”علاج الأمراض” للطبيب محمد شريف خان، ص 893

*”قرابادين يوناني” – أمراض الجلد

*”تحفة المؤمنين على حاشية مخزن الأدوية” ص 713

*”المحيط في الطب” ص 367

*”إكسير أعظم” للطبيب محمد أعظم خان الملقب بناظم جهان، الجزء الرابع ص 331

*”قرابادين معصومي” للمعصوم بن كريم الدين الشوستري الشيرازي

*”عُجالة نافعة” لمحمد شريف الدهلوي ص 410

*”طب شبري” المسمى بـ “لوامع شبرية” للسيد حسين شبر الكاظمي ص 471

*”مخزن سليماني” ترجمة إكسير عربي، المترجم محمد شمس الدين البهاولفوري، ص 599

*”شفاء الأمراض” المترجم الطبيب الأستاذ محمد نور كريم ص 282

*”كتاب الطب الدارا شكوهي” لنور الدين محمد عبد الحكيم عين الملك الشيرازي ص 360

*”منهاج الدكان بدستور الأعيان في أعمال وتركيب المنافع للأبدان” تأليف أفلاطون الدهر ورئيس الأوان أبي المنا بن أبي نصر العطار الإسرائيلي الهاروني (اليهودي)، ص 86

*”زبدة الطب” للإمام أبي إبراهيم إسماعيل بن حسن الحسيني الجرجاني ص 182

*”طب أكبر” لمحمد أكبر الأرزاني ص 242

*”ميزان الطب” لمحمد أكبر الأرزاني ص 152

*”سديدي” لرئيس المتكلمين إمام المحققين السديد الكاذروني المجلد 2 ص 283

*”الحادي الكبير” لابن زكريا – أمراض الجلد

*”قرابادين” ابن تلميذ – أمراض الجلد

*”قرابادين” ابن أبي صادق – أمراض الجلد

هذه هي أسماء الكتب التي أوردتُها كنموذج. ولا يخفى على أهل العلم، وبخاصة الأطباء، أن معظم هذه الكتب كانت تُدرَّس في مدارس المسلمين الكبيرة في الأزمنة السابقة، وأن طلاب العلم في أوروبا أيضاً كانوا يدرسونها. وإن الحق هو أن عشرات الملايين من الناس في كل قرن ظلوا يطلعون على أسماء هذه الكتب، وأن مئات الألوف منهم قد درسوها من أولها إلى آخرها؛ وإننا لنستطيع القول بكل تحدٍّ إنه ليس بين علماء أوروبا وآسيا أحدٌ يجهل أسماء بعض هذه الكتب العظيمة الواردة في هذا الفهرس. وفي العصر الذي كانت الأندلس وقسطمونية وشنطرين تُعتبر قبلة لطلاب العلم، كان أهل أوروبا يدرسون بكل شغف وشوق كتابَ “القانون” لأبي علي بن سينا – وهو كتاب عظيم في الطب ويتضمن وصفة “مرهم عيسى” – وكذلك كُتُبَه الأخرى مثل “الشفاء” و”الإشارات” و”البشارات” التي تبحث في علم الطبيعة والفلسفة والنجوم وغيرها. كما كانوا يدرسون هناك ما ألفه أو ترجمه من اللغة اليونانية كبار العلماء كأبي نصر الفارابي وأبي ريحان وإسرائيل وثابت بن قرة وحنين بن إسحاق وغيرهم. ومن المؤكد أن تكون تراجم هذه الكتب موجودة إلى اليوم في بعض مناطق أوروبا. وبما أن الملوك المسلمين كانوا تواقين للنهوض بالطب وغيره من العلوم، فقد اهتموا بتعريب أجود الكتب اليونانية اهتماماً بالغاً؛ وقد ظلت الخلافة مستمرة لفترة أطول في عهد ملوك كانوا إلى توسيع آفاق العلم أرغب منهم في توسيع رقعة مملكتهم؛ ولأجل ذلك لم يقنعوا بتعريب الكتب اليونانية فحسب، بل استدعوا من الهند كبار كُهَّان الهندوس وأعطوهم رواتب مغرية، وكلّفوهم بترجمة كتب الطب وغيره من العلوم. ومن أعظم منن هؤلاء الملوك على طلاب الحق أنهم قاموا على تراجم الكتب الرومية واليونانية التي تتضمن أيضاً وصفة “مرهم عيسى” حيث ذُكر فيها بصورة واضحة أن هذا المرهم قد أُعدّ لمعالجة جروح عيسى .

ومما يجدر بالذكر أن الأطباء الحُذّاق في العهد الإسلامي، كثابت بن قرة وحنين بن إسحاق، البارعين في اللغة اليونانية براعتَهم في الطب والعلوم الطبيعية والفلسفة، عندما قاموا بتعريب القرابادين اليوناني الذي يتضمن وصفة “مرهم عيسى”، سجلوا الكلمة اليونانية “شليخا” – أي اثنا عشر – كما هي دون تعريبها، كي تظل إشارة إلى أن الكتاب مترجم من اليونانية؛ فلذلك تجدون هذه الكلمة اليونانية بعينها في معظم هذه الكتب المترجمة.

وجدير بالذكر أن النقود القديمة حرية بالتقدير العظيم دون شك، إذ تنكشف بها أسرار تاريخية هامة، ولكن الكتب العتيقة – التي ظلت معروفة لدى عشرات الملايين في كل قرن باستمرار، ودُرّست في المدارس الكبرى، ولا تزال باقية في مناهج المدارس – هي أسمى مكانة وأجلّ شرفاً آلاف المرات من هذه النقود والكتابات الأثرية. ذلك لأن النقود والكتابات الأثرية تحتمل التزييف، ولكن الكتب العلمية – التي ظلّت منذ بدايتها معروفة لدى عشرات الملايين، وكان ولا يزال كل شعب محافظاً عليها حارساً لها – تُعدُّ شهادات عظيمةً بحيث تتضاءل أمامها شهادة النقود الأحجار. وإذا استطعتم فسموا لنا اية قطعة نقدية أو لوحة أثرية نالت من الذيوع والصيت ما ناله كتاب “القانون” لأبي علي بن سينا!

وإذاً فإن “مرهم عيسى” لشهادة عظمى لطلاب الحق. وإنهم إن لم يقبلوا هذه الشهادة فسوف تسقط جميع الشواهد التاريخية من درجة الاعتبار. ذلك لأن الكتب التي تذكر هذا المرهم يبلغ عددها إلى اليوم حوالي ألف أو أكثر، وقد ذاع صيت هذه الكتب ومؤلفيها بين عشرات الملايين من الناس؛ ومن رفض هذا البرهان البديهي الجلي والقوي كان من أعدى أعداء علم التاريخ. وكيف يجوز غض النظر عن هذا البرهان العظيم تعنتاً وإجحافاً؟!

ذلك أن نبي الله المقدس كان قد أنبأ بأن الدين الصليبي لن يتقلص ولن يفتر رُقيُّه إلا بعد ظهور المسيح الموعود في الدنيا؛ وعلى يده سيتم كسرُ الصليب. وكان هذا النبأ إشارة إلى أن الله سيهيئ بمشيئته في عصر المسيح الموعود أسباباً وعواملَ تكشف حقيقةَ حادث الصليب؛ فعندئذ تأتي نهاية هذه العقيدة وينقضي أجلها؛ ولكن ليس بالحرب والقتال، بل بأسباب سماوية ستتجلّى في الدنيا بصورة البحوث والأدلة العلمية.

وهل يسوغ لنا أن نُسيء الظن بهذه الشهادة الكبرى التي تحيط كالدائرة بآسيا وأوروبا، وتتأسس على ما قاله كبار فلاسفة اليهود والمسيحيين والمجوس والمسلمين. فهلم، يا أرواح الباحثين، إلى هذه الشهادة المثلى، وفكّروا جيداً، أيها المنصفون، في هذه القضية! فهل مثلُ هذه البينة النيّرة تستحق الإعراض والإهمال؟! وهل يليق بنا ألا نستضيء بهذه الشمس المشرقة للحق؟!

ومن الوهم الباطل الذي لا أساس له أن المسيح ربما أُصيب بتلك الجروح قبل النبوة، أو أنه أصيب بها في زمن نبوته ولكنها ليست ناتجة عن حادث الصليب، وإنما جُرحت يداه ورجلاه بسبب آخر، كأن يكون قد سقط من على سطح بيت مثلاً؛ فأُعدَّ لذلك “مرهم عيسى”! أقول إنه وهم باطل لأن هذه الوصفة تتضمن ذكر الحواريين أيضاً، الذين لم يكن لهم وجود قبل نبوته ، وكلمة “شليخا”[3] اليونانية – ومعناها اثنا عشر – ما زالت موجودة في هذه الكتب. كما أن المسيح لم تكن له قبل النبوة عظمة تُذكر حتى يُحتفظ بذكراه؛ خاصة وإن عصر نبوته لم يتجاوز ثلاثة أعوام ونصف، ولم تُسجّل كتب التاريخ أي حادث من الضرب أو السقوط خلال هذه الفترة القصيرة من حياته سوى حادث الصليب. ومن ظن أن جروح المسيح هذه ربما نتجت عن سبب آخر وليس بسبب تعليقه على الصليب، فعليه أن يقدّم الدليل والبرهان على ذلك؛ لأن ما نقدمه نحن، أي حادث الصليب، هو حادث ثابت يسلّم بوقوعه الجميع بحيث لا يُنكره اليهود ولا النصارى؛ وأما الزعم بأن جروح المسيح كانت بسبب آخر فلا يدعمه تاريخ أي شعب أو ملة، ولذلك فإن مثل هذا الزعم ليس إلا انحرافاً متعمداً لا يمكن دحضها بأعذار واهية كهذه، إذ ما زالت بعض هذه الكتب المخطوطة بأيدي مؤلفيها محفوظة إلى اليوم. ففي حوزتي أيضاً مخطوطة من “القانون” لأبي علي بن سينا. أليس من الظلم الصارخ ووأد الحقيقة الثابتة أن نضرب بمثل هذا الدليل البين عُرضَ الحائط؟ أعيدوا النظر جيداً ومرة بعد أخرى في سبب وجود هذه الكتب حتى الآن في مكتبات قديمة لليهود والمجوس والنصارى والعرب والفرس واليونان والرومان والألمان والفرنسيين وغيرهم من أهل أوروبا وآسيا. فهل من الحق أن نُعرض دون دليل عن هذا البرهان العظيم الذي يبهر بنوره عيونَ المنكرين؟!

لو كانت هذه الكتب مؤلفة بأيدي المسلمين وموجودة عندهم فقط لجاز لمستعجل أن يقول: إن المسلمين قد لفّقوا هذه الشهادة من عندهم ودونوها في كتبهم تهجماً على المعتقدات المسيحية؛ ولكن هذا الزعم باطل لأسباب عديدة سنذكرها لاحقاً، وباطل أيضاً لأن مثل هذا التلفيق لا يمكن صدوره عن المسلمين، لكونهم يعتقدون، كالنصارى، بصعود المسيح إلى السماء بعد حادثة الصليب بدون تأخير؛ بل لا يعتقد المسلمون بتعليق المسيح على الصليب أصلاً، أو إصابته بالجروح بسبب ذلك؛ فكيف يمكنهم إذاً أن يتعمدوا تزويراً يُخالف عقيدتهم؟! كما لم يكن للإسلام وجود حين ألّفت كتب “القرابادين” بالرومية واليونانية، وانتشرت واشتهرت في مئات الملايين من الناس، متضمنة وصفةَ “مرهم عيسى”، ومقرونة بتصريح أن هذا المرهم أعدّه الحواريون لمعالجة جروح عيسى . وكان بين هذه الملل.. أي اليهود والنصارى والمسلمين والمجوس.. عداء ديني؛ فتسجيلهم جميعاً لهذا المرهم في كتبهم، غير حافلين بمعتقداتهم الدينية، يدل صراحة على أن “مرهم عيسى” كان أمراً شهيراً للغاية، بحيث لم يسع أياً من هذه الشعوب والملل إنكارُه.

غير أن جميع هذه الأمم لم تلتفت للاستفادة من هذه الوصفة – المسجلة في مئات الكتب المعروفة عند مئات الملايين – فائدة تاريخية، إلى أن حان موعد ظهور المسيح الموعود. ولا يسعنا هنا إلا القول إن الله تعالى قد قدر بمشيئته منذ البداية أن لا تنكشف على الدنيا تلك الحربةُ اللمعة وذلك البرهانُ الساطع الكشّاف للحق، والقاضي على المعتقدات الصليبية، إلا بيد المسيح الموعود. ذلك أن نبي الله المقدس كان قد أنبأ بأن الدين الصليبي لن يتقلص ولن يفتر رُقيُّه إلا بعد ظهور المسيح الموعود في الدنيا؛ وعلى يده سيتم كسرُ الصليب. وكان هذا النبأ إشارة إلى أن الله سيهيئ بمشيئته في عصر المسيح الموعود أسباباً وعواملَ تكشف حقيقةَ حادث الصليب؛ فعندئذ تأتي نهاية هذه العقيدة وينقضي أجلها؛ ولكن ليس بالحرب والقتال، بل بأسباب سماوية ستتجلّى في الدنيا بصورة البحوث والأدلة العلمية. وهذا هو المراد من الحديث الوارد في صحيح البخاري وغيره من الكتب. فكان لزاماً أن تُمسك السماء هذه الأمورَ والشهادات البينةَ والأدلةَ القطعية اليقينية حتى يُبعث المسيح الموعود في الدنيا؛ فحدث كما قُدِّر، ومنذ اليوم، وقد ظهر الموعود العظيم، ستتفتح كل عين، وسيتدبر المتدبرون، لأن مسيح الله قد جاء. فلا بد الآن أن تستنير العقول، وتنتعش القلوب، وتتقوى الأقلام، وتعلو الهمم. فاليوم سيوهب كل سعيد فهمَه، ويشرَّف كلُّ رشيد بعقله؛ فما يلمع في السماء لا بد أن يضيء الأرض أيضاً. فطوبى لمن يستنير بذلك النور، وما أسعدَ الذي ينال من ذلك النور نصيباً. وكما أنكم ترون أن الأثمار لا تأتي إلا في اوانها، فكذلك النورُ لا ينزل إلا في موعده؛ وليس لأحد أن يستنزله قبل أن ينزل هو بنفسه، ولا ممسكَ له إذا نزل. ولا مناص من أن يقع الاختلاف والجدال، ولكن النصر مكتوب للحق في النهاية؛ لأن هذا الأمر ليس من عند الإنسان، ولا هو في يد أحد من بني آدم، بل هو من عند الله الذي يُبدِّل الفصول، ويُصرّف الأزمان، ويُخرج الليل من النهار، والنهارَ من الليل. إنه يُنشئ الظلام، غير أنه يُحب النور. إنه يدَعُ الشركَ ينتشر، ولكنه لا يحب إلا التوحيد، ولا يرضى بأن يُعطى جلالُه لأحد غيره. إن السنّة الإلهية المستمرة منذ خلقِ الإنسان وإلى أن يفنى وجوده هي أنه عز وجل يحمي التوحيد دوماً. إن جميع الأنبياء الذين أرسلهم الله إنما بُعثوا لترسيخ عبادته في الدنيا بالقضاء على عبادة الناس والمخلوقات الأخرى، وكانت غايتهم الوحيدة أن يتجلى في الأرض مضمونُ “لا إله إلا الله” كما تجلّى في السماء. وإن أعظَمَهم شأناً هو ذلك الذي أكثرُهم جلاءً لهذا المعنى، والذي كشف عن ضعف الآلهة الباطلة، وأظهَرَ تفاهتَها بالعلم والقوة؛ وبعد أن برهنَ على كل هذه الأمور، تركَ لذلك النصر المبين تذكاراً خالداً هو: “لا إله إلا الله محمد رسول الله”. وإنه لم يدَّعِ أن “لا إله إلا الله” دونما دليل، بل دعم هذه الحقيقة أولاً بالبراهين القوية، وكشف خطأ الشرك بالأدلة الدامغة؛ ثم لفتَ أنظار الناس إلى لا إله إلا الذي حطّم قواكم كليةً، وكسر غطرستكم تماماً. فتذكاراً لهذه الحقيقة الثابتة علَّمَنا تلك الكلمة المباركة الخالدة: “لا إله إلا الله محمد رسول الله”. (يُتبع)

[1] القرابادين أو القراباذين أو الأقرياذين أو الأقراباذين هو علم مصادر الأدوية وخصائصها وتحضيرها، ويسمى بالإنجليزية: Pharmacopoeia  وأيضاً Materiamedica. (المترجم)[2]المراد من الطب اليوناني هو طريقة العلاج التي تتأسى على الفلسفة الطبية اليونانية القديمة، لقد اطلع عليها العرب من خلال الكتب اليونانية، وطوروها ببحوثهم القيمة. (المترجم)

[3] لقد وردت هذه الكلمة في مصادر مختلفة بقراءات مثل: شليخا، ودشليخا وسليخا، وقد قال سيدنا أحمد في كتاب له آخر “ست بتشان” (أي القول الحق): “لعلها كلمة يونانية أو عبرية”. وقد وجدنا في الآرامية كلمة (شليحا) وفي العبرية (شليح) بمعنى الرسول؛ علماً أن “الحاء” كثيراً ما تنقلب “خاء” في هاتين اللغتين. ولا جرم أن هذه الكلمة إشارة واضحة إلى الحواريين الاثني عشر الذين أعدوا المرهم. فقد قال الشيخ الرئيس في الطب أبو علي بن سينا في كتابه الشهير “القانون في الطب” (المجلد الثالث، الكتاب الرابع، المقالة الحادية عشرة، في المراهم والضمادات، طبعة مصرية ص 405) ما نصه: “مرهم الرسل: وهو دشليخا، أي مرهم الحواريين، ويُعرف بمرهم الزهرة وبمرهم منديا. وهو مرهم يُصلح بالرفق النواصير الصعبة والخنازير الصعبة، ليس شيء مثله، وينقي الجراحات من اللحم الميت والقيح ويُدمل. يقال إنه اثنا عشر دواء لاثني عشر حوارياً” (المترجم)

Share via
تابعونا على الفايس بوك