أُولى الخطوات لاكتشاف السعادة الحقة!!

أُولى الخطوات لاكتشاف السعادة الحقة!!

يبحث كثيرٌ من الناس عن السعادة ويلتمسون الطريق الذي يوصل إليها، وكأني بهم جميعاً يبحثون عن المفقود في عالم المجهول. فبعضهم يُصيب الهدف والبعض الآخر يُخطئه التوفيق.

فما هي السعادة إذن؟ سؤالٌ لطالما حيّر التفكير الإنساني منذ بدء الخليقة إلى اليوم، فأعمال الناس تتكيّف تبعاً لتصوُّرهم للسعادة، فمن هداه تفكيره إلى سعادةٍ روحيّة كانت وسائل وصوله إليها روحيّة، ومن قاده خياله إلى سعادةٍ ماديّة كانت خطواته إليها مادية، إذن فباعتبار تصور السعادة يكون سلوك الناس ترجماناً لأخلاقهم، فمن شُغف بالماديّات وكان حريصاً عليها كان بديهياً أن يكون طبعه ماديّاً، ومن يكن سلوكه وتصرّفه روحياً كان خُلقه بحسب منطلقه روحيّ الدلالة والمعنى. ومن هنا يسهل علينا أن نحكم على أخلاق الناس بناءً على السعادة التي تصبو نفسهم إليها أو ابتغاء الحصول عليها. إنَّ السعادة تختلف من حيث الرؤية وزاوية النظر من شخص لآخر، فالفقير المحتاج يراها مثلاً عند الأغنياء! والمريض العاجز يراها عند الأصحاء، والمحبّ يراها في إرضاء محبوبه، وهكذا دواليك كلٌّ يسعى إلى ما يرى فيه سعادته أو يتمنّى ويتخيّل فيه هذا الأمر كلما حُرم منها أو بَعد عنه اشتياقاً إليه.

فالسعادة إذن بحسب تحليل سيكولوجية نفس الإنسان هي ذلك الشعور الذ يحسُّ به الإنسان عند امتلاكه لشيءٍ يفقده أو يبتغي تحصيله، فكأنَّ السعادة بهذا الاعتبار هي التي يسبقها الإحساس بفقد شيءٍ مرغوبٍ فيه، وبقدر ما ينال الإنسان من آمال تكون سعادته، والعكس بالعكس، فبقدر ما تنهار الآمال والطموحات يكون إحساسٌ بالشقاء وهكذا..

وما دمنا قد عرفنا ذلك فنستطيع أن نقول: أنَّ السعادة هي إرضاءٌ للنفس، إذ كلما قَلّت مطالب النفس كان إرضاؤها ميسوراً، وعليه فالسعادة تقتضي تحديد مطالب النفس باسترشاد العقل وهدي تعاليم الدين وإلا مالت النفس بصاحبها نحو مهاوي الفساد، وقادته نزعاتها الأمّارة بالسوء إلى حالةٍ طبعيّة بدائيّة تنزله منزلة البهيمية والسبعيّة. ولو اتبع الناس هذه المعادلة أي تحديد مطالب النفس بقياس العقل وهدي الشريعة لكان من السهل عليهم أن يكونوا كلهم سعداء! بمعنى أنَّ تصرّف الإنسان في حالته النفسيّة الطبعيّة على ضوء توجيهٍ عقلي وعرفاني وبمراعاة حدّ الاعتدال لا تبقى رؤيته للسعادة وتعريفه لها بحسب ما كانت تُمليه عليه نوازعه الأمّارة، إذ كان يرى فيما قبل استرشاد العقل والمعرفة (الشريعة) السعادةَ في غصب حقوق اليتامى ونهب أموالهم أو في إشباع الغرائز والنزوات، أو في الوصول إلى مكامن القوة للاستعلاء وقهر الضعفاء!!، نعم هكذا كان يرى شكل سعادته ولونها، لكن بعد تحديد مطالب النفس باسترشاد العقل والمعرفة تغيّرت نظرته وأصبح ما كان يراه سعادةً مزيّفة ظاهرياً رحمةً وباطنها عذاب! وهذا التغيُّر إن دلَّ على شيء فإنّما يدلُّ على أنه اكتشف تحت ضوء العقل والمعرفة أنَّ حالته النفسيّة التي كانت توحي إليه دون قيدٍ أو شرط السعادة إنما كانت توحي إليه الشقاء، وأنَّ ما كان يتصوّره من سعادةٍ في نهب حقوق الناس وأموالهم هو ظلم. وفي إشباع الغرائز وارتكاب الموبقات هو فساد، وفي الوصول إلى القوة والاستعلاء على البشر هو تجبّرٌ وطغيان! هكذا تكتشف الحقيقة والسعادة الحقّة بعد تغيّر في النفس من حالةٍ طبعيّة أمّارةٍ إلى حالةٍ أخلاقية لوّامة، حيث لا تبقى هذه الحالات في نفس صاحبها طباعاً، بل تصير أخلاقاً بفضل العقل ونور الشريعة أو ما يمكن تسميته بالعرفان.

إنَّ السعادة التي يبحث عنها الإنسان منذ القِدم والتي لطالما تناولها الفلاسفة والمفكِّرون بحثاً وتحليلاً إنّما بذرتها تكمن في نفس كل إنسان كامنةً لا تنمو ولا تنبثق إلا حينما تتوفر الشروط الملائمة لها، فمتى تحوّلت النفس من طبعيّتها إلى أخلاقيّتها فهمت السعادة الحقّة وانتقل الإنسان إلى مراحل متقدِّمة من حالات النفس ليصل بها إلى حالةٍ روحانية هي أقصى ما يصل إليه الإنسان من سعادةٍ في دنياه قبل أخراه وهي النفس المطمئنّة. فالسعادة الحقّة هي في الإيمان، إذ به يكون رضى النفس ورضى الله وبه تسكن النفوس. كل شقاء يعاني منه المجتمع البشري هو نتيجة حتميّة لعدم فهم واستيعاب معنى السعادة النموذجيّة بفعل انقيادٍ أعمى لميولات نفسٍ طبعيّة أمَّارة توهم الإنسان إفراءاً بسرابٍ يحسبه ماءاً فينتهي به اللهث وراءه نحو الهلاك والمعاناة، فالظلم والعدوان ومظاهر الفساد البشري هي سعادةٌ وفق منظور ما يراه المستغلون والطُغاة وتجار الحروب بما يجنونه من منافع ماديّة هائلة، فحينما يستطيع الإنسان استغلال أخيه الإنسان بحسب ما يتصوّره من وراء ذلك من مبرِّرات تحقيق السعادة، عكس لنا هذا المثال أنَّ تعريف السعادة في فهم الإنسان يشوبه كثيرٌ من الالتباس ودلّل لنا أيضاً أنَّ إشكاليتها لم يجد لها الفلاسفة ولا المنجِّمون لا الساسة حلاً ناجعاً سوى الحل الذي طرحه الإسلام بمنهجه التشريعي الكامل والخالد في الكتاب والسُنّة النبوية الطاهرة. إنَّ للسعادة علاقةً وثيقةً بالنفس وحالاتها وعلى هذ الأساس كان اهتمام الإسلام بهذه الجوانب المتعلّقة بحالات الإنسان وطرق إصلاح النفس الشيء العظيم الذي يُوصل في نهاية المطاف إلى السعادة الأبدية والجنة الأرضيّة، حيث قال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (الرحمان: 47). أي سعادة دنيوية روحيّة يعيش صاحبها في جنة دنيوية وجنةٍ أخرى في الآخرة بعد الموت. إنَّ المدَّعين بأنَّ السبيل إلى السعادة إشباع حاجات النفس دون قيدٍ أو وازع خطأٌ فاحش وزعمٌ باطل لأنَّ إرضاء النفس بالمطلق والحرية دون ضابطٍ يوجّهها ستدفعه تلك السعادة المتوهّمة إلى الوقوع في شباك السوء ومذاهب المنكرات، لذلك نبّه القرآن البشرية إلى هذا الخطأ قائلاً: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ (يوسف: 54). وحيث أنَّ البشرية استخفَّت بهذا التنبيه القرآني وانكبَّت وراء نظريات إشباع الحاجة وشعارات التحرُّر والسعادة المادية المفرطة سبَّبت لنفسها العديد من الكوارث الأخلاقية والاجتماعية لها وللآخرين، فلا هي وصلت إلى حيث ظنّته سعادة ولا هي أخذت عِبراً مما هي تُعانيه من تحلّل وتفسُّخ ورذيلةٍ وانعدام السكينة؟؟!

إنَّ الوصول إلى السعادة متاحٌ لكل إنسان شريطة تحديده لمطالب النفس تحت ضوء العقل والمعرفة تجاوزاً للنفس الأمّارة بالسوء وتقييداً لها، ثم وصولاً إل مرحلة النفس اللوَّامة تمكّن الإنسان من النفور التلقائي من كل الأهواء والأماني الخبيثة الشريرة حيثما تبادرت إلى الذهن، آنذاك كان للإنسان أن ينتقل إلى السعادة الحقيقية التي لا يطالها شقاء وهي النفس المطمئنّة التي هي منشأ للحالات الروحانيّة كلها قال تعالى:

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي * (الفجر: 28 إلى 31)

كما وجّه تعالى الناس إلى حياةٍ أخرى فيها سعادةٌ أبدية تفوق سعادة الدنيا وما فيها، وهذه الحياة الأخرى بما فيها من نعيمٍ مُقيم هي انعكاسٌ لمستوى روحانية المؤمن وسعادته الروحية في دنياه والتي يجلبها الله لعبده المؤمن السعيد، قال تعالى:

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَـٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة: 26).

هذه هي سعادة الصالحين في الآخرة حيث يُدخلهم ربهم الجنّات ليتذوّقوا بجلاء طعم الروحانية التي أحسُّوا بحلاوتها في مشوار حياتهم الروحيّة في الدنيا وهم ينتهجون منهج الله وعمل الصالحات.

كثيرٌ من الناس يبحثون عن السعادة في الحياة فيختارون طريق الضلال والفساد آملين أن يُحقّق لهم السعادة بينما تركوا طريق السعادة الحقّة التي رسمها الله سبحانه وتعالى للوصول بهم إلى سعادةٍ دائمة ونعيمٍ مُقيمٍ وسكينةٍ قلبيّة، فالجدير بالإنسان أن لا يتخبّط وخيرٌ له أن يلتمس السعادة من أصولها، يقول تعالى:

وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ (الأنعام: 154)

فلا تبحثوا عن السعادة بعيداً أيها الناس ما دام الله قد رسم لكم طريقها وهو أعلم بكم من نفوسكم وهو أدرى بنفعكم وضارِّكم حيث قال:

وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (البقرة: 217).

فاتجهوا نحو الله بقلوبكم ليُيسِّر لكم أموركم ويرزقكم من نِعمه الظاهرة والباطنة، قال سبحانه:

وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّـهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (الطلاق: 3 و4).

فلا تتخبّط أيها الإنسان وتبحث عن السعادة في بواعث نفسِك الأمَّارة ففيها هلاكك، وسِرْ بنفسك نحو مدارج الإيمان تزكيةً لها ووصولاً بها حيث تكون نفساً مطمئنّة ملؤها السعادة الروحانية الحقّة والتي هي قبسٌ يسير من نفحات سعادة الأخرة.

جعلنا الله وإيّاكم من السعداء على منهج الله عز وجل وأدخلنا وإيَّاكم فيمن قال في حقّهم:

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (هود: 109)

وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

مســـاهــــمــــــة الصـــــــديـــــق:

جمال المذكوري (المغرب)

Share via
تابعونا على الفايس بوك