الحاجة إلى رزق الأرض والسماء

الحاجة إلى رزق الأرض والسماء

التحرير

 

هبْ أنّ ثلاثة أصدقاء، باختلاف الزمان والمكان والعصر والأوان، قد التقوا ذات مساء. وهم، وإن امتازوا بميزات خاصة، يجمعهم توجه واحد على سواء. فهم جميعاً مسلمون مؤمنون ولكنهم يتمايزون بكون أولهم يقدم العقل والعقلانية في البحث في أمور الدين، ويرى أن هذا هو المنهج السليم الذي يسلم به دين المرء ويستقيم سلوكه، ويطمئن أنه لن يَزِلّ عن الصراط المستقيم. أما الثاني فيرى أن كل ملكات الإنسان بما فيها العقل ما هي إلا وسائل لارتقائه الروحي، وبما أن الروحانية هي الغاية من الدين فإذن على المؤمن أن يقدمها على كل شيء كي تتثبت أقدامه في الإيمان، وإلا فإنه لا أمان للمؤمن إن لم يكن له نصيب من الروحانية في ازدياد واطِّراد. أما الثالث فيتخذ بين ذلك سبيلاً متوسطاً. فلا يهمل دور العقل ولا ينكر أهمية الروحانية.

فوفقاً لما تم تبيانه اصطلحنا أن نسمي الأول بالعقلاني والثاني بالروحاني والثالث بالوسطي. فما أن بدأ حديث الإخوة والأصدقاء حتى بادر كل منهم بالإدلاء بدلوه. فتحدث العقلاني عن مكانة العقل وأهميته للإنسان، وكيف أن الإنسان قد تميز بهذه النعمة عن سائر المخلوقات، وارتقى بها أعلى الدرجات، وخاض بها كل مضمار، وانكشف بالعقل كثير من الأسرار، وكان العقل وما زال حصناً من الشبهات، ومدمراً وحارقاً للخزعبلات، وبه يتقدم الإنسان نحو الإيمان، ويدرك أنه في مأمن من الزوغان. فهل بغير العقل يدرك المؤمن أنه يتحلى بالإيمان، ويعلم ما هو عليه من العلم ويزن بضاعته بالميزان؟.

فتقدم الروحاني وأثنى على ما قدمه العقلاني من حسن البيان، وذكر ما في كلامه من دقة واتزان، فقال إنه يتفق مع صديقه فيما قال. فالعقل نعمة عظيمة ومنة جزيلة من منن الرحمن. ولكنك يا صديقي تعلم أن العقل إنما هو وسيلة إدراك وأداة تحليل وفصل وميزان، وبها يتقدم الإنسان من الإيمان. وما رحم الإيمان إلا القلب الذي تتولد بذرته فيه ثم تزداد وتكبر حتى تصبح عرشاً للرحمن. وهذا القلب إن فسد فسد الجسد والعقل وتهدم كيان الإنسان. والعقل إن قاد إلى حقيقة نتيجة معطيات معينة فهو يدرك أن لا أمان أن تتغير هذه النتيجة بتغير المعطيات. فكان العقل ذاته مسبباً لعدم الاطمئنان الذي يتسرب إلى جنان. فما على المؤمن إلا أن يحرص على إيمانه بالتطلع إلى السماء واستمطار فضل الرحمن، كي يزداد قرباً وحباً فيطمئن القلب ويرتضي العقل ويكون في جنة الخلد والرضوان.

فيرد العقلاني على صديقه فيقول: وهل يأمن المتطلع إلى السماء أن يكون ما عليه هو من الله أم من الشيطان. وكيف يفصل المؤمن بين ما تفضل به عليه ربه أو ما حدثته به نفسه. ألا ينبغي أن يرد ما يتلقاه إلى العقل كي يفصل فيه ويخرج منه الغث والسمين. ألا ترى أن مطر السماء ينبغي أن يصادف أرضاً فتصبح الأرض مخضرة وبها من الزهور من كل الألوان. ألا إن ما يراه في السماء لا يأمن أن يكون من وحي ذاته ومما تحدثه به نفسه في كل أوان.

فيقول الروحاني: ألا ترى يا صديقي أن التطلع للسماء خير من النبش في الأرض بالطول والعرض. ألا ترى أن النبش فيها لن يرفع الإنسان بل يجعله يغور في غورها. وكلما ازداد بحثاً كلما شُدَّ نحو الأرض ولم يعد النظر إلى السماء إلى السماء عنده في الحسبان. فلن يصل بعد الحفر والمشقة إلى بعض كنوز الأرض في بعض الأحيان ولكنه كلما وجد شيئاً ثميناً كلما أسرف في الحفر حتى ينقضي العمر ويستقر في حفرة من الأرض مساحتها متران اثنان. فشتان بين الباحث في الأرض والمتطلع إلى السماء التي فيها الرزق الذي ينال من باطن الأرض، وبها يستدل على كنوز الأرض بأقل الطرق وأقصرها، ومنها الرجع ومن الأرض الصدع. ومن السماء الهداية إلى السبيل والصراط المستقيم، وفي الأرض السبل التي قد تتفرق عن سبيل الله الرحمن الرحيم. فالسبيل الوحيد بين السبل المتفرقة يحتاج إلى هداية الرحمن الذي يعلم ما في السماء وما في الأرض وبيده الملك. فما أضعف احتمال اختيار الصراط المستقيم في هذه المسالك المتفرقة.

ألا ترى أن العقل قد يشق طرقاً لا تؤدي إلى شيء إلا مزيداً من الاضطراب وقلة الاطمئنان. ألا ترى أن الله تعالى قد جعل ذاته ليست من المدركات فكانت علاقة الناس به هي علاقة إيمان لا إدراك. ألا يسلّم عقلك بهذا؟. ألا ترى أن القلب الذي هو عرش الرحمن أجدر بالرعاية والعناية لأن به النجاة وبه الإيمان. فيتحدث الأوسط بعد طول غياب فيسأل العقلاني: كيف آمنت؟. فيرد العقلاني: أتفق مع ما سمعت مع عقلي ومنطقي ووجدت أنه كلام سليم غير سقيم، وقلبته من وجوه عدة فوجدت أنه متين محكم. فما كان لي أن أترك ما أفهم وأعلم وأدرك إلى ما لا أعلم. وما كان لي أن أحقر عقلي الذي اعتز به. فتقدمت بجرأة واتبعت الحق وما باليت أبداً بأحد. والحمد لله الذي قوّم عقلي وهداني ما عُمِّي على غيري.

ثم كرر الأوسط السؤال إلى الروحاني فقال الروحاني. لقد سمعت كلاماً انساق مع عقلي وقلبي. وارتاحت له نفسي وشعرت أن به شيئاً خاصاً. كما وجدت أن فيه دعوة إلى تزكية نفسي وتطهيرها من أدرانها. فأحببته فوق كل ما كانت تحبه نفسي. وآثرته على كل شيء. ووجدت أنه يقودني نحو الحب الذي كنت أبحث عنه. ووجدت كأن قلبي الذي كان يبحث عن الحب قد وجد ضالته التي طالما قد ضل الطريق وهو يبحث عنها. فاندفعت نحو الإيمان بكل العزم. وبدأت أجد ما وعدني ربي حقاً ونلت من رزق السماء نزراً يسيراً. فشدهت وأحببت أن أنال المزيد. وتعلقت عيناي بالسماء وجلست أرتقب هذا الرزق في كل أوان. فارتاحت نفسي واطمأن قلبي. ووجدت أن تلك الثمرات تدركها عيون عقلي فازددت من الاطمئنان. والحمد لله كثيراً الذي أنعم علي بنعمة الإيمان.

فقال الأوسط موجهاً كلامه لصديقيه. يا صاحبي لقد سررت بما سمعته منكما أشد السرور. فكلاكما قد أحسن الحديث وأبان. وأنا ثالثكما الذي يقيم وزناً عظيماً لكل ما قدّمتماه. ويوافق على كثير مما عرضتماه. يوافق على كل ما دافعتما به عما تران، ويوافق على اعتراض كل منكما على أخيه. وسأسوق لكما مثالاً استخدمه الله تعالى في القرآن، فما وجدت خيراً منه للفصل فيما قلتما. وهو يصلح لكليكما، ففيه العقل يصول ويجول، ويحوي كذلك من نور الروحانية فيضاً عظيماً. ألا وهو مثال الشجرة الطيبة في القرآن. فمثّل القرآن الكريم الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. وما العقل إلا الأرض وما السماء إلا الروحانية. والشجرة هي حالة الإنسان المتكاملة التي تتجذر في الأرض وترتفع نحو السماء. وكما نعلم أن الشجرة تبدأ بذرة في الأرض أي أن أول الحالة هي حالة سميتها عقلية لكنها ليست عقلية مجردة. ولكن البذرة تبدأ بالتجذر في الأرض ثم الارتقاء نحو السماء وهي في تلك الفترة تحتاج إلى ظروف سماوية ملائمة لتستمر بداية هذه الحالة التي هي حالة بسيطة على كل الأحوال. وما أن تكبر الشجرة حتى تصبح جذراً يمتد في الأرض وجذعاً في الأرض وفروعاً تمتد في السماء وثماراً. وتعيش الشجرة على الماء والمعادن والعناصر التي تحويها الأرض وتمتصها الجذور فتصل إلى كل الشجرة. كما أن السماء فيها الهواء والشمس حيث يتم تصنيع الغذاء والثمرات. فتنعكس حالة الفروع ومقدار الشمس والهواء على جذور الشجرة فتتقوى وتغلظ. كما أن الأرض تتلقى الماء السماوي الذي يغذي ماء الأرض اللازم للشجرة. وتعرف صحة الشجرة من مظهرها من ثمراتها التي هي نتاج الأرض والسماء. فلا ينبغي أن نغفل جانباً أو أن نغلبه على الآخر. وفي التدبر في هذا المثل القرآني الخير الكثير، ففيه فيوض وبركات كثيرة لا تحد، كما هي كلمات الله دائما. وكلاكما، إن وعيتما ذلك أم لم تعيا، لكل منكما نصيب من الآخر. فلا إيمان بلا روحانية، ولا روحانية بلا عقل. ولكن الإسراف في جانب وعدم الانتباه إلى الجانب الآخر سيعود بالضرر على حالة الإنسان بمجملها. ويمكن فهم ذلك بمثال الشجرة. فمن أسرف في العناية بالأرض والري ولم يلتفت إلى تقليم الفروع وصحة الجذر لم ينال النتائج المرجوة، وقد ينعكس ذلك على حياة الشجرة التي قد تهاجمها الآفات والحشرات أو تخرب ثمارها الطيور، وهذا هو حال من يسرف في العقلانية، ومع أنه لاعقلانية في عدم الالتفات إلى الثمرات، فهي الغاية من الشجرة. كذلك فإن المسرف في الروحانية هو كمن يبالغ في تقليم الشجرة والعناية بها ولا يلتفت إلى الاهتمام بالأرض وبصحة الجذور وبالآفات والحشرات الأرضية. كما أنه قد لا يلتفت إلى ريها. فتكون النتيجة أنه لن ينال الثمرات الروحانية وقد تموت الشجرة وتتحول إلى جذع خشبي. فلا بد للعقلاني أن يلتفت إلى الثمرات ويبقى نظره دائماً إلى السماء. ولا بد للروحاني أن يثبت جذور إيمانه بالأرض وأن يعتني بها ويقلبها بالمحراث ويسقيها من ماء الأرض ويرتقب بعد ذلك ماء السماء. لا بد لنا جميعاً أن نتفقد أحوال شجرتنا الطيبة ونقدم لها كل ما يلزمها من رزق الأرض والسماء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك