بيان سياحة المسيح عليه السلام إلى كشمير

هذا الكتاب القيم لسيدنا الإمام المهدي عليه السلام يعتبر عملاً متميزا ومعلماً هاماً في مسيرته الدينية والعلمية والأدبية. فلقد سلط الكتاب الضوء على حياة المسيح الناصري عليه السلام ووفاته بأسلوب بحثي علمي متفوق وبأدلة لا يملك القارئ اللبيب إلا التسليم بها. ولئن كان المؤلف عليه السلام قد تلقى هذه الحقائق بوحي من الله العليم الحكيم إلا إنه قد سلك في هذا الكتاب مسلكاً بحثيا علمياً محضاً وقدم الأدلة الدامغة الشافية الوافية البينة من مصادر عديدة متيسرة في متناول الجميع وبين أيديهم. ولقد جاء الكتاب في أربعة أبواب. الباب الأول يتناول الشواهد من الإنجيل على حقيقة حياة المسيح وأنه قد نجا من حادثة الصلب، وقام بالعديد من الأعمال بعد هذه الحادثة، وأن عقيدة النصارى واليهود في قتله على الصليب عقيدة باطلة ينقضها الإنجيل بنفسه. ثم تناول في الباب الثاني شواهد القرآن الكريم والحديث الشريف التي تؤكد نجاته من الصليب وانتقاله إلى مكان آخر، حيث آواه الله وأمّنه بعد الظلم والعذاب، وتؤكد قيامه بالعمل الموكل إليه قبل أن يُتوفى عن سن متقدمة جاوزت المائة وعشرين عاما. ثم بيّن عليه السلام في الباب الثالث الشواهد التي وُجدت في كتب الطب والتي يتداولها العلماء منذ مئات السنين التي تذكر “مرهم عيسى” وتبين تركيبته وتذكر أن الحواريين قد استخدموه في علاج جروح المسيح الناصري عليه السلام. وتناول في الباب الرابع الشواهد من كتب التاريخ القديم والحديث، فلقد أخرج من بطون الكتب ما يذهل القارئ من فقرات تتحدث عن رحلات المسيح وتؤكد أنه قد وصل إلى الهند وأنه قد ألقى عصى التسيار فيها. ثم استنتج الدلائل على أن القبر الموجود في سيرينغر، كشمير في حارة خان يار والمسمى بضريح “يوز آصف” ما هو إلا قبر المسيح الناصري عليه السلام. ولقد اقتبس سيدنا الإمام المهدي عليه السلام  من كتاب العلماء والباحثين الغربيين ما اعتقدوا به من أن المسيح قد انتقل إلى الهند وما وجدوه من تشابه كبير بين البوذية والمسيحية. ولقد بين عليه السلام أن هذا الكتاب ما هو إلا مواساة للمسلمين الذين ينتظرون مسيحاً سفاكاً للدماء، مازال حياً في السماء، يُكره الناس على الدخول في الإسلام بالسيف، فينقض تلك الفكرة الباطلة ويزيل الآثار السيئة التي تركتها على الحالة الخلقية للمسلمين . كذلك هو مواساة للنصارى بتبيان أن الإله الحق منزه عن الولادة  والألم والضعف البشري . وها نحن نقدم

هذا الكتاب القيم للقراء في حلقات آملين أن يحقق الفائدة المرجوة منه.

>> التقوى<<

* ملاحظة: الهوامش التي كُتب في آخرها (المؤلف) هي من سيدنا الإمام المهدي عليه السلام. أما التي كُتب في آخرها (المترجم) فهي من توضيح هيئة المترجمين.

الباب الرابع

في الشهادات المستمدّة من التاريخ

بما أن هذا الباب يتضمّن شهادات متنوّعة، فلذلك سنقسمه، مراعاةً للترتيب، إلى عدة فصول كالآتي:

الفصل الأول

في الشهادات المأخوذة من الكتب الإسلامية التاريخية

التي تُثبت سياحة المسيح عليه السلام

لقد ورد في الصفحات 130 إلى 135 من أحد الكتب التاريخية الشهيرة باللغة الفارسية المسمّى >> روضة الصفا<< ما نُسجّل ترجمته الملخّصة فيما يلي:

>> إنما سُمّي عيسى عليه السلام بالمسيح لأنه كان يُكثر السياحة. كان يُغطّي رأسه بطاقية من الصوف، ويلبس قميصاً من الصوف أيضاً؛ وكان يحمل بيده عصاً. وكان ينتقل دائماً من بلد إلى بلد ومن مدينة إلى مدينة؛ ويبيت حيثما حلّ به الليل. وكان يأكل خضر الغاب، ويشرب مياهها. وكان يسيح مشياً على الأقدام؛ وحدث ذات مرة في زمن سياحته أن اشترى له أصحابه فرساً، فركبه يوماً، ولكنه لم يستطع أن يهيّئ للفرس ما يلزمه من العلف، فردّه إلى صاحبه.         ولقد وصل المسيح، بعد أن هاجر من وطنه، إلى منطقة >>نصيبي<< التي تبعد عن وطنه بمئات الفراسخ؛ وكان يصحبه بعض الحواريين أيضاً، فأرسلهم إلى مدينة من المدن للتبشير؛ وبما أن الشائعات والأخبار الكاذبة عن عيسى ووالدته كانت قد وصلت إلى هذه المدينة، فألقى حاكمها القبضَ على الحواريين، وأرسل في طلب عيسى عليه السلام. فجاء وشفى بعض المرضى بقوّة الإعجاز، وأتى بمعجزات أخرى، فآمن به مَلِكُ >>نصيبي<< مع جميع عساكره ورعيته. وإن حادثة نزول المائدة الواردة في القرآن قد وقعت أيضاً في أيام سياحته<<.

هذا ملخّص ما ورد في تاريخ >>روضة الصفا<<. وقد عزا المؤلّف إلى عيسى عليه السلام عدّةَ أمور أخرى سخيفة وخرافية غير معقولة على أنها معجزات له، ولكنا قد أعرضنا عن ذكرها متأسفين على تفاهتها، ومُنزّهين كتابنا عن كذبها وسخفها ومبالغاتها، وآخذين مقصدها الحقيقي الذي يتلخص في أن المسيح عليه السلام قد وصل أثناء سياحته إلى نصيبين. وهي مدينة بين الموصل والشام، واسمها في الخرائط الإنجليزية (NASIBUS). وإذا سافرنا من الشام إلى فارس فإننا نمرّ في طريقنا على نصيبين التي تبعد عن بيت المقدس نحو 450 فرسخاً* (هكذا ورد سهواً في الأصل، والصحيح: 450 ميلاً. المترجم)، وتأتي بعدها الموصل بحوالي 48 ميلاً؛ والمسافة بين الموصل وبيت المقدس هي 500 ميل، ولا تبعد حدودُ >>فارس << من الموصل إلا 100 ميل، وهذا يعني أن >>نصيبي<< تقع على مسافة مائة وخمسين ميلاً من حدود فارس. وتنتهي حدودُ فارس الشرقيةُ إلى مدينة >>هرات<< الأفغانية، أي أن >>هرات<< تقع على حدود أفغانستان الغربية المتصلة بفارس؛ وهكذا تصبح المسافة بين هرات وحدود فارس الغربية 900 ميل تقريباً. والمسافة بين هرات و >>ممر خيبر<< حوالي 500 ميل. اُنظر الخريطة التالية:

هذه خريطة البلاد (1) والمدن التي مرّ بها المسيح عليه السلام قادماً إلى كشمير. وكان ينوي بهذه الرحلة أن يجتمع أوّلاً بأولئك الإسرائيليين الذين أخذهم الملِك >>شَلمَناصر<<إلى بلاد >>ميديا<<. علماً أن بلاد >>ميديا<< هذه قد حُدّد محلّها في خرائط المسيحيين في جنوب بحر الخزر (قزوين) حيث تقع بلاد فارس في هذه الأيام؛ مما يؤكد لنا أن >>ميديا<< كانت، على الأقل، جزءا من ذلك البلد الذي يُدعى اليوم بـ >>فارس<<. وحدود فارس الشرقية متصلة بأفغانستان؛ وفي جنوبها البحر، وفي غربها بلاد الروم. على أية حال، فإذا وَثِقنا برواية >>روضة الصفا<< تَبيّن لنا أن المسيح عليه السلام كان ينوي بسفره إلى نصيبين الوصولَ إلى أفغانستان مروراً بفارس، ليدعو إلى الحق الخِرافَ الضالةَ من بني إسرائيل الذين اشتهروا في آخر الأمر بأفغان(2). ويبدو أن كلمة >>الأفغان<< عبرانية الأصل ومركبّة، ومعناها الشجاع، وأنهم قد اتخذوا لأنفسهم هذا اللقب زمن انتصاراتهم.

إذاً فإن عيسى عليه السلام قد جاء إلى >>بنجاب<<. وإذا سافرنا من أفغانستان إلى كشمير مروراً بنجاب، نقطع مسافة نحو 80 فرسخاً أي 130 ميلاً، بينما تبلغ المسافة بينهما عن طريق >>شترال<< 100 فرسخ. فاختار المسيح بحزمه وحصافته طريقَ أفغانستان لكي تستفيد بزيارته خرافُ إسرائيل الضالّة، أي الأفغانُ. وبما أن حدود >>كشمير<< الشرقية متصلة ببلاد >>تِبَّت<<، فكان من السهل عليه عليه السلام أن يرحل إليها بعد زيارة كشمير. وبعد دخوله إلى >>بنجاب<< لم يكن صعبا عليه أن يزور أماكن مختلفة بالهند، قبل أن يتوجّه إلى كشمير ثم >> تِبَّت <<. وكما تشير روايات التواريخ القديمة لهذه البلاد، فمن الأقرب إلى القياس أن يكون المسيح قد قام بزيارة >> بنارسو     <<و          >> نيبال <<، ثم رجع إلى كشمير عن طريق >> جامون <<أو >> راولبندي <<. ولما كان المسيح عليه السلام من سكان البلاد الباردة، فمن المرجّح أن يكون قد مكث في هذه البلاد الهندية حتى نهاية الشتاء، ثم رحل بعد ذلك إلى كشمير في أواخر مارس أو في أوائل إبريل. وبما أن بلاد >> كشمير <<تُشبه بلاد الشام تماماً، فمن المؤكّد أن يكون قد أقام بكشمير إقامة دائمة. ومن المحتمل أيضاً أن يكون قد قضى بعض سني عمره في أفغانستان؛ وليس من المستبعد أن يكون قد تزوَّج هناك أيضاً.

وثمة قبيلة من الأفغان تُعرف باسم >> عيسى خيل <<، وأيُّ عجب في أن يكون هؤلاء من أولاد عيسى عليه السلام. إن تاريخ الأفغان ، مع الأسف، متفرّق ومشوش جداً، فالتوصلُ إلى الحقيقة من خلال رواياتهم الشعبية المبعثرة أمر متعذر. وعلى كلّ حال، كما أن أهل كشمير هم أيضاً من بني إسرائيل. والذين كتبوا في مؤلفاتهم خلاف هذه الحقيقة منخدعون جداً حيث لم يُعملوا الفكرَ بدقة؛ حتى إن الأفغان أنفسهم يعترفون بأنهم من أولاد قيس؛ وقيس هذا كان من بني إسرائيل.

وعلى كل حال، فإننا لا نرى حاجة لتطويل هذا البحث هنا، إذ قد سبق أن تناولناه بالتفصيل في أحد كتبنا، وإنما يهمّنا هنا بيان سياحة المسيح عليه السلام التي قام بها إلى كشمير و >> تِبَّت << عن طريق >> نصيبين <<مروراً بأفغانستان ثم >> بنجاب <<. وبسبب هذا السفر الطويل سُمّي عليه السلام بالنبي السائح، بل لُقّب بـ >> إمام السائحين <<كما ذكر أحد علماء الإسلام فضيلةُ الإمام العلامة العارف بالله أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد الفهري الطرطوسي المالكي الذائع الصيت بعظمته وفضيلته في الآفاق بالصفحة 6 من كتابه المسمّى >> سراج الملوك <<المطبوع بالمطبعة الخيرية بمصر عام 1306 الهجري، حيث  قال: >> أين عيسى روحُ الله وكلمته، رأسُ الزاهدين، وإمام السائحين <<..أي أنه قد تُوفِّي كما تُوفّي أمثاله.

انظروا كيف وصف هذا العالَمُ الفاضلُ عيسى عليه السلام بكونه سائحاً بل >> إمام سائحين <<.

كما ورد في>> لسان العرب<< عن المسيح: قيل سُمّي عيسى بالمسيح لأنه كان سائحا في الأرض لا يستقرّ .

قد ورد المعنى نفسه في تاج العروس شرح القاموس بزيادة أن المسيح مَن مُسح بالخير والبركة، أي أنه مفطور عليهما حتى إن لمسه أيضاً يُكسب الخيرَ والبركة؛ وقد وُصف به عيسى عليه السلام، واللهُ يعطي هذا الاسم مَن يشاء من عباده. وهناك مسيح آخر إزاءه، قد مُسح بالشرّ واللعنة، أي أنه مطبوع عليهما، حتى إن مسّه يورث الشرّ والضلال واللعنة؛ وقد وُصف به المسيحُ الدّجال وأيضاً كل مَن كان على شاكلته.

علماً أن هذين الوصفين – أي المسيح بمعنى السائح، والمسيح بمعنى الممسوح بالخير والبركة – ليسا بضدّين، ولا يُناقض أحدُهما الآخرَ، لأنه من سنّة الله تعالى أنه يصف البعض باسم ينطوي على عدةّ معان، وجميع هذه المعاني تنطبق على صاحب ذلك الاسم.

وخلاصة القول إن كون عيسى عليه السلام نبيّاً سائحاً أمر ثابت من كتب التاريخ الإسلامي، بحيث لو أردنا تدوين كلّ ما ورد فيها بهذا الصدد لصار هذا البحث بسبب سعته وطوله كتاباً ضخماً، لذلك أكتفي بما ذكرتُ.

(يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك