الـمادة.. فضيلة أم رذيلة!؟

الـمادة.. فضيلة أم رذيلة!؟

التحرير

ما إن ينصرم عام إلا ويأتي بعده عام جديد فتُطوى صفحة من صفحات التاريخ ويُشرع في أخرى تخطها ريشة ميول الإنسان ونزعاته.. وبما أن عصرنا الحديث يتسم بالسرعة وتُقاس فيه الأمور بمنظار الربح والخسارة ولا يبالي أحد بالقيم والأخلاق مما انعكس سلبًا على الإنسان المعاصر فأفرط في تلبية حاجاته المادية وهمَّش حاجاته الروحية. ولا تظن أن هذا الداء متفشٍّ في العالم الغربي فحسب بل إنه وللأسف الشديد قد ألقى بظلاله على كثير من البلاد الإسلامية لإفتتانها بجنّة الدجال الوهمية.

وحتمًا ينقاد المرء الذي لا يقيِّم نفسه ويراجعها إلى وحل الغي والضلال حتى يستعصي عليه أن يفكر في البحث عن مخرج، ثم يرفع يديه إلى السماء. إنها بحق فتنة تَطَايَرَ شَرَرُهَا وتحقق نَبَأُهَا فألْقَتْ بظلالها على الأرض كلها فلقد

  ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ .

ولا يختلف اثنان في أن للفتن والآفات مضاعفات على بني الإنسان. فالقحط الروحي الذي يشهده عالمنا اليوم هو داء روحي فتاك لا سبيل للوقاية منه إلا بذكر الله الذي به تطمئن القلوب وتتغذى منه الروح. ومما لا شك فيه أننا في أمسِّ الحاجة في زماننا هذا لمعالجة النفس مما يعلق بها من ميول وأهواء، لذلك ينبغي على الإنسان أن ينظر إلى أمراضه الروحية بجدية أكبر من علله الجسدية التي تفزعه فيهرع مسرعا إلى الطبيب. فالمرض المادي إنما يهلك الجسد وحده بينما الأمراض الروحية تهلك الروح والجسد معا. ولعل أولى الخطوات إلى العلاج أن يقوم المرء بتحليل ومراجعة علاقاته الشخصية مع محيطه وبيئته، لأن الميول والأهواء غالبا ما تنبعث من مؤثر خارجي أو داخلي فيسري بعد ذلك تأثيرها السام ظاهرا وباطنا، فيؤثر الشيطان  على سلوك الإنسان قولاً وفِعلاً.

فشبه صلة الإنسان بالمادة في الحياة بصلة السفينة بالماء، لما يوجد بينهما من تلامس سطحي، إذ العبرة المستفادة من مثله الرائع هذا أنه لا يمكن تصور سفينة من غير ماء كما لا يمكن تصور حياة الإنسان دون أن يحتك بالمادة.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو عن السبيل إلى تخليص النفس من جذباتها والرقي بها. وكيف يمكن أن يلبي الإنسان حاجاته المادية دون أن يغوص في عالم المادة وهوتها السحيقة؟!

إن أولى الطرق لتخليص النفس من جذباتها أن يتخلى الإنسان عن أنانيته ويتحرر من عبودية النفس الأمارة التي تستعبده وتجعله يخلد إلى الأرض. فتذهب الأدناس وتتَبَرّأ النفس مِن الأرجاس وتغتسل من الأدْرَانِ والأوساخ  التي طالما حجبت الإنسان عن الله. وما لم ينكسر هذا القيد لا يمكن أن يرتقي الإنسان بنفسه إلى الحضرة الأحدية. كما أنه لا يمكن أن تتوطد الصلة بالله دون عبودية واستسلام.. ومن الطبيعي أن من صفات العبودية أنه من كان عبدا لأحد كان تابعا له، وعبودية الإنسان لربه لا بد لها من طاعة ومحبة، وقد أرشد القرآن الكريم الناس إلى ذلك في قوله تعالى:

  قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله

وبالتالي فإن العمل بتعاليم الله تعالى يقتضي عشقه عز وجل والاصطباغ بصبغته قولاً وفعلاً. فبالعشق ينبعث في نفس المؤمن حماسًا وجنونًا لدرجة يهون كل أمر شاق أمامه حتى يصل إلى محبوبه. كما أن العاشق الصادق لا يتوقف عن السعي وراء هدفه ولو أفنى في ذلك حياته، هذا هو حال المؤمن السالك سبيل الوصال بالله!

أما الأسوة العملية فلا بد لها من نموذج كامل يقتدى ويقتفى أثره، فالأسوة لا تتحقق إلا في إنسان كامل بلغ منتهى العروج الروحاني وهذا جلي في شخص سيدنا ومولانا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي قال عز وجل في حقه

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ .

فلتكن صلتنا بالله وطيدة وليكن سعينا طبق سنته الطاهرة واقتفاء أثره المبارك عليه أفضل صلاة وسلام.

ولفهم كيفية تلبية متطلباتنا المادية دون أن نتركها تؤثر فينا، ننبه القارئ الكريم أن ما ندعو إليه ليس دعوة إلى الزهد والتبتل على نهج أدعياء التصوف الذين انقطعوا عن الأخذ بالأسباب فراحوا يتكففون الناس طعامهم وشرابهم! أو أولئك الذين عزفوا عن الزواج وعطلوا النسل رهبانية ابتدعوها. إن الزهد ليس معناه أن يُهمل الإنسان حاجاته ودنياه، إذ لا بد أن تكون صلة بين الإنسان والمادة لأنه يستحيل عليه أن يعيش ويحيى وهو مقطوع الصلة بالعالم المادي الذي خُلق منه.. ويكفي أن نعلم كيف أن رسل الله وأنبياءه كان لهم أيضا اتصال بالجوانب المادية في الحياة حيث كانت لهم أزواج وذرية وأنهم عليهم السلام على عظيم قربهم من الله كانوا أيضا يراعون متطلبات الرزق، فكانوا يمشون في الأسواق لقضاء حوائجهم ويختلطون بالناس.. وما كان لكل هذه الجوانب المادية هدفا وغاية تبعدهم عن الغاية المثلى التي هي مدار خلق الإنسان، وإنما كانت صلتهم بعالم المادة بما يتيح لهم فقط سداد متطلباتهم الأساسية الطبيعية للحياة، ولم تكن الماديات هدفا أو غاية لهم يحيون من أجلها!.. لقد أومأ الشيخ جلال الدين الرومي وهو من كبار الصوفية في إحدى قصائده فشبه صلة الإنسان بالمادة في الحياة بصلة السفينة بالماء، لما يوجد بينهما من تلامس سطحي، إذ العبرة المستفادة من مثله الرائع هذا أنه لا يمكن تصور سفينة من غير ماء كما لا يمكن تصور حياة الإنسان دون أن يحتك بالمادة. كما يحتوي مثله على إشارة لطيفة وهي أن تكون صلة الإنسان بالحياة المادية أيضا سطحية بحيث لا تغمره وتغرقه في ماديتها وأن يكون حظه منها مقتصرا على ما هو ضروري ولا بد منه لقضاء الحاجة الملحّة والحفاظ على النفس.

وفي ضوء القرآن الحكيم نجد هذا المنهج جليا في آيات كثيرة تحث على الوسطية والاعتدال في المأكل والمشرب وغيرها، كما نهى القرآن عن التبذير والفساد بشتى صوره وأشكاله كما حث على اكتساب الخيرات لكن مع استيفاء حقوقها من زكاة! وبالإنفاق من كل ما رزقنا الله من نِعم، وكأن ذلك كله ترويض للنفس لفهم كيفية العلاقة بين ما هو مادي وروحي وما يجب أن يكون بينهما من تلازم دون أن تغوص النفس في سطوة المادة ولعل هذا هو المقصد العظيم الذي ترمي إليه مقاصد تعاليم القرآن في هذا الجانب.. فالمادة فضيلة لمن خاف مقام ربه وأنفقها في ما يرضيه عز وجل. وهي في حد ذاتها رذيلة لمن أساء إنفاقها في ما يغضبه عز وجل.

Share via
تابعونا على الفايس بوك