آثار الاستقامة الصادقة

فإذا بلغ الإنسان في محبّة الله تلك الدّرجةَ التي يصبح فيها موتُه وحياته لله لا لنفسه، فإنّ الإله الذي لم يزل منذ الأزل يحبّ محبّيه، يشمله عندئذ بمحبّته، فينشأ في الإنسان من امتزاج المحبّتين نور عجيب.. لا تعرفه الدنيا ولا تستطيع فهمه. ولقد سُفكت دماء آلاف الصّدّيقين والأخيار.. فقط لأنّ الدنيا لم تعرفهم. ولقد رُمُوا بتهمة الاحتيال والأنانية لأنّ الدنيا لم تستطع أن تبصر وجههم النّوراني، كما يشير قوله تعالى:

  ينظرون إليك وهم لا يبصرون (الأعراف: 199)

فمِن اليوم الذي ينشأ فيه ذلك النّور يصير هذا الإنسانُ الأرضي سماويا، وينطق في داخله مَن هو مالكُ كل كائن، ويُري تجليّاتٍ من ألوهيته، ويتّخذ مِن قلبه المفعم بالحبّ الخالص عرشًا له. وعندما يتحوّل هذا الإنسان بانقلاب نوراني إلى إنسان جديد، يصبح الله له إلـهًا جديدًا، ويُظهِر له الجديدَ من سُنَنِهِ وعاداته. ولا يعني ذلك أنّ الله – سبحانه – يعتريه التّجدّدُ عندئذ أو يكتسب عادات جديدة.. وإنما المراد أنّ الله يبدي لأجل هذا العبد شؤوناً تختلف عن شؤونه المشهودة عموما.. ولا تدري عنها فلسفةُ الدّنيا شيئًا. فيكون هذا الإنسان مصداقًا لقوله جلّ شأنه:

  ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد ..

أي أنّ أفضلَ الناس مَن يتفانون في ابتغاء مرضاة الله تعالى، ويشترون رضوانه بنفوسهم؛ وهؤلاء هم الذين تشملهم رحمةُ الله. هكذا فمن يحوز درجة الرّوحانية حقًا يضحّى بنفسه في سبيل الله تعالى.

يقول الله في هذه الآية: إنما ينال النّجاةَ من كل الآلام مَن يبيع نفسه في سبيلي ولنيل مرضاتي، ويُثبِت ببذل نفسه أنّه لله تعالى، ويرى أنّ كيانه كلّه لم يخُلق إلا لطاعة الله وخدمة المخلوق. ثم يأتي بالحسنات الحقيقية التي تتعلّق بكل ملكة من ملكاته.. برغبةٍ وشوقٍ، وحضورِ قلبٍ.. وكأنما هو ناظرٌ في مرآةِ طاعتِه إلى حبيبه الحقيقي.. حتى أنّ إرادته تنطبع بإرادة الله، وتنحصر لذّتُه كلّها في طاعته، وتصدر عنه جميعُ الأعـمال الصّالحات على سبيل اللّذة وليس عن طريق المشقّة.

هذه هي الجنّة الحاضرة التي يحظى بها الإنسان الربّاني نقدًا عاجلاً. وأمّا جنّة الآخرة فما هي في الحقيقة إلا آثار هذه الجنّة الحاضرة وأظلالها، وسوف تمثِّلها القدرة الإلهية في العالم الثّاني عيانًا في صور حيَّة محسوسة. وإلى هذا المعنى أشار الله عز وجل إذ قال:

ولمن خاف مقام ربّه جنتان (الرحمن:47)،

وقوله تعالى:

وسقاهم ربهم شرابًا طهورا (الإنسان:22).

وقوله تعالى:

إنّ الأبرار يشربون من كأسٍ كـان مزاجـها كافورا * عيـنًا يشرب بها عباد الله يفـجّرونها تفجيرا (الإنسان:6-7).

وقوله تعالى:

ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا * عينا فيها تسمّى سلسبيلا (الإنسان:18-19).

وقوله تعالى:

إنّا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا (الإنسان: 5).

وقوله تعالى:

ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا (الإسراء:73)..

أي أنّ من يخشى ربَّه وتستولي عليه الرّهبة لعظمة الله وجلاله فله جنّتانِ: إحداهما في هذه الدنيا، ثم الجنّة الثّانية في الآخرة. وهؤلاء الذين تفانَوا في الله سقاهم ربهم شرابًا طهَّر قلوبهم وأفكارهم ونواياهم. وإنّ الأبرار يشربون شرابًا مُزج بالكافور، ويشربون من عينٍ هم بأنفسهم يفجّرونها تفجيرًا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك