القرآن الكريم.. وسيلة نيل مقام الوصال بالله تعالى
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (هود: 14)

التفسـير:

هذه الآية أيضًا تؤيد المعنى الذي تُبيّنه الآية السابقة. إذ إن الكفار لـمّا ظنوا أن محمدًا سوف يخفي بعض الوحي الإلهي خوفًا من طعنهم، ردّ الله عليهم بقوله للرسول الكريم: ما كنت لهم إلا نذيرًا، ولم تدّعِ الألوهية حتى يتحتم عليك اصطحاب هذه الأشياء دليلاً على صدق دعواك. وإنك لنبيٌّ مُرسَل ولا بدّ لك من تبليغ الرسالة كما هي دون أي نقصان فيها.

وكان من الممكن أن يرد الكفار على ذلك بقولهم إنّ هذه دعوى باطلة، وإنما أنت في الواقع رجل مفترٍ وليس في يدك قوة أو أسباب غير عادية، فيردّ الله عليهم في هذه الآية بقوله: لا شك أن هذا النبي لا يملك أي كنوز ظاهرة حاليًا، ولكنه يملك كنوزًا روحانية، ولا سيما الكنـز الذي لا يساويه كل ما لدى الناس من أموال وثرواتٍ مجتمعةً، ألا وهو القرآن الكريم. فإذا كنتم صادقين في زعمكم أن محمدًا مفترٍ وكذاب، وأن بعض ما أتى به من كلام إنما هو ناقص مُفتَقر إلى التغيير والتعديل، فتعالوا أيها الكافرون إلى ساحة النـزال. ولا نطالبكم أن تأتوا بكتاب يوازي القرآن كلّه ضخامةً ومعنىً، وإنما أن تأتوا بعشر سور من مثله، حتى وإن كان الذي تأتون به يماثل تلك الأجزاء التي ترونها تافهة تفتَقر إلى التعديل. أما إذا لم تستطيعوا ذلك، ولن تستطيعوا، فلا مناص لكم من الاعتراف بأن هذا الرسول يملك كنـزًا لم يسبق له نظير في العالم أجمع.

وقوله تعالى فَأْتوا بعشر سورٍ مثلِه مفترياتٍ . لقد سبق أن ذكرت في تفسير سورة يونس أن مسألة سموّ القرآن وتحدي العالم بالإتيان بنظيره.. قد عالجها القرآن في خمسة مواضع، وأرى أن مفهوم التحدي في كل موضع منها يختلف عن غيره:

  1. وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فَأْتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (البقرة: 24).
  2. أم يقولون افتراه، قل فأتوا بسورةٍ مثلِه وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . (يونس: 39).
  3. أم يقولون افتراه، قل فأتوا بِعَشْرِ سُورٍ مثلِه مفترياتٍ وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . وهي الآية التي نحن بصددها هنا.
  4. قل لئن اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآنِ لا يأتون بمثله ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيراً (الإسراء: 89).
  5. أم يقولون تَقَوَّلَه، بل لا يؤمنون. فليأتوا بحديثٍ مثله إن كانوا صادقين (الطور: 34 و35).

ويلاحَظ أن التحدي في الموضعين الأول والثاني من نوع واحد، أما تحديات المواضع الأخرى الثلاثة فكل منها له معنى خاص به. ففي سورة الإسراء كان التحدي بالإتيان بمثل القرآن كله، وفي سورة هود بالإتيان بعشر سور، بينما كان التحدي في سورة الطور على الإطلاق.. ولو كان بالإتيان ببعض سورة. فما السبب في هذا الاختلاف؟

قيل إن الاختلاف سببه التنازل للمعارضين في التحدي حتى ينكشف لهم عجزهم التام. فطالبَهم أولاً بمثل القرآن كله، وعندما عجزوا طالَبَهم بعشر سور مثله، فلما عجزوا طالبهم بسورة، وحينما عجزوا أيضًا طالبهم بحديث مثل القرآن.

من ذلك يتبين أن هنـاك علاقةً عميقة بين التحدي المُطالـب بمثل القرآن وبـين الكنـوز والخزائن، ألا وهي أن القرآن المجيد أيضًا كنـز من كنوز الله وخزائنه، ويردّ الله تعالى على من يطالبون بالكنوز أنهم يطالبون الرسول بما هو فعلاً بين يديه.. فمعه أعظم الكنوز وأسماها.

وعندي أن هذا التعليل لا يخلو من الاضطراب والضعف، لأن ترتيب نزول القرآن يخالف ذلك. حيث كان ترتيب نزول هذه السور كالآتي: سورة الطور، ثم سورة الإسراء، ثم سورة هود، ثم سورة يونس وأخيرًا سورة البقرة. فليس من السائغ نظراً لترتيب نزول السور أن يكون التحدي أولا ببعض آيِ القرآن، فإذا عجزوا يرفع التحدي إلى القرآن كله، فلما عجزوا يخفض إلى عشر سور ثم إلى سورة واحدة.

ثم إن القرآن الكريم لا يسرد هنا حادثًا لنعتبر به فحسب، بل يبين هنا تحديًا علينا أن نُوجّهه إلى العالم أجمع، فيجب أن نكون على بينة منه ونعلم جيدًا بماذا نتحداهم. هل نطالبهم بالإتيان بمثل القرآن كله، أم بعشر سور منه، أم بسورة، أم ببعض سورة؟ فإذا كانت المطالبة بتقديم آيةٍ واحدةٍ مِثلِه مما يفي الغرض فما الداعي بأن نطالبهم بسورة كاملة، أو إذا كانت الكفاية في المطالبة بالإتيان بسورة واحدة مثله  فلماذا نطالبهم بعشر سور مثله، أو إذا كانت المطالبة بعشر سور كافية فلماذا نطالبهم بمثل القرآن كله؟

فالرأي عندي أن لا حاجة بنا للخوض في تحديد زمن نزول هذه التحديات وهذه السور، لأن بعضها قد نزلت في فترات متقاربة جدًا بحيث يتعذر تحديد ترتيبها الزمني. ثم يجب أن نأخذ بالاعتبار في صدد نزول القرآن أنه لم تنـزل سورة واحدة بعد أخرى، بل في بعض الأحيان نزلت في فترة واحدة أكثر من سورة. فإننا وإن كنّا نستطيع تحديد زمن نزولها بالنظر إلى زمن نزول آخر آية منها، ولكن لا يصح هذا بالنظر إلى كل آياتها.

ولذلك كله أرى أن هذه الآيات تتضمن مطالبات متنوعة، وكل مطالبة منها مستقلة ولا تتركنا بحاجة إلى تحديد زمن نزول السور، بل نستطيع اليوم أيضًا أن نتحدى العالم بكل هذه المطالبات وفي وقت واحد، كما تمّ التحدي بها عند نزول القرآن.

وقبل أن أتناول بالبحث كلَّ مطالبة منها على حدة.. أود أن ألفت الأنظار إلى أن كل تحدٍ منها جاء مقرونًا بذكر المال والثروة والقوة والقدرة، ما عدا الوارد في سورة البقرة، لأن التحدي الوارد فيها هو نفس ما في سورة يونس، قد أعاده الله في سورة البقرة، بصورة مختصرة، مع العلم أن سورة البقرة سورة مدنية وسورة يونس مكيّة.

يقول الله في سورة يونس قبل التحدي:

قل من يرزقكم من السماء والأرض، أمَّن يملك السمعَ والأبصارَ، ومن يُخرج الحيَّ من المـيّت، ويُخرج الميتَ من الحيّ، ومن يُدبّر الأمرَ. فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون…. قل هل مِن شركائكم مَن يبدأ الخلقَ ثم يعيده. قل الله يبدأ الخلقَ ثم يعيده، فأنى تؤفَكون. قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق. قل الله يهدي للحق، أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتّبَعَ أمَّن لا يَهِدِّي إلا أن يُهدى. فما لكم كيف تحكمون (يونس: 32 و35 و36).

وكذلك جاء في سورة الطور بعد إيراد التحدي:

أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون. أم خَلقوا السماوات والأرض، بل لا يوقنون. أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ، (الطور: 36 – 38).

وجاء هنا في سورة هود قبل التحدي: ..لولا أُنزِلَ عليه كنـزٌ أو جاء معه مَلَكٌ..

وجاء في سورة الإسراء بعد التحدي:

وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجُرَ لنا من الأرض ينبوعًا، أو تكون لك جنةٌ من نخيل وعنب فتفجّر الأنهارَ خلالَها تفجيرًا. أو تُسقط السماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفًا أو تأتيَ بالله والملائكة قبيلاً. أو يكون لك بيت من زخرفٍ أو ترقى في السماء.. (الإسراء: 91 إلى94).

من ذلك يتبين أن هنـاك علاقةً عميقة بين التحدي المُطالـب بمثل القرآن وبـين الكنـوز والخزائن، ألا وهي أن القرآن المجيد أيضًا كنـز من كنوز الله وخزائنه، ويردّ الله تعالى على من يطالبون بالكنوز أنهم يطالبون الرسول بما هو فعلاً بين يديه.. فمعه أعظم الكنوز وأسماها. ويرد على من يطالبون بالملائكة فيقول: إن الملائكة لا تتنـزل لمسابقات مادية، وإنما تنـزل بالوحي، وقد نزلت بالفعل على الرسول الكريم بكلام الله تعالى. فالمنكرون يطالبون الرسول بما قد حصل من قبل. وإذا كانوا قد أعماهم التعصب فأنكروا كونَ القرآن كنـزًا، أو تنـزّلَ الملائكة معه من عند الله تعالى.. فليأتوا بمثل القرآن، لأنه بنفسه يؤكد أنه منقطع النظير إذ يقدم الأدلة على نزوله من عند الله وعلى كونه كنـزاً يعجز الجميع عن أن يأتوا بمثيل له.

وهناك فرق يجب الانتباه إليه في هذه الآيات المتضمنة للتحدي، وهو أنه عندما طالبَهم بالإتيان بكلام مثيل للقرآن بكمية أكبر فقد ذكر إلى جانبه المطالبة بالكنوز والملائكة من جانب الكفار، ولكنه عندما تحداهم بالإتيان بمثله بكمية أقلّ لم يُشفعه بهذه المطالبة على لسان الكفار، بل الله نفسه سألهم عندئذ قائلاً: هل أنتم مُلاّكُ هذه الكنوز، وهل أنتم المشرفون على نواميس الطبيعة والمدبّرون لها.

وسبب هذا الفرق في الأسلوب هو أن الأماكن التي ذكر فيها موضوع كون القرآن كنـزًا كبيرا بصورة واضحة كان هذا السؤال عندها متوقعًا وواردًا من قبل الكفار، لذلك يذكره القرآن بلسانهم مشفوعًا بالرد عليه. أما الأماكن التي ذُكر فيها هذا الموضوع بشكل دقيق عميق فما كان الكفار ليدركوا عندها عظمةَ القرآن الكريم، ولو تُرك الأمر عندئذ هكذا انتظارًا لتساؤلاتهم لبقيت  جوانب من فضل القرآن الكريم خافيةً على الناس. ولذا فقد كشفها الله بنفسه بتوجيه السؤال إليهم، وبهذا فقد أظهر كل محاسن القرآن وجلاّها. فتبارك الله أحسن الخالقين.

والآن أتناول هذه الآيات – كلاًّ على حدة – لإيضاح الحكمة من هذه التحديات.

أولاً: لقد جاء التحدي الأكبر في سورة الإسراء مُطالبًا بالإتيان بمثل هذا القرآن كاملاً دون أن يشترط عليهم بأن يكون هذا الكلام منسوبًا إلى الله، بـل يمكنهـم أن يأتـوا بأي كلام كان، ومن أي مصدر يشاؤون، شريطة أن يكون مثل القرآن الكريم أو أفضل منه.

ولما كان تحديد المماثلة أمرًا هامًا فقد بيّنها القرآن الكريم في سورة الإسراء نفسها حيث قال:

ولقد صرَّفنا للناس في هذا القرآن من كل مثلٍ فأبى أكثر الناس إلا كفورًا (90)..

أي إذا كان الكافرون يرون هذا القرآن من افتراءات البشر فعليهم أن يقدموا كلامًا مساوياً له في الفضائل التالية:

1 – أن يكون هدايةً كاملة في أمور الدين، مستوعبًا جميع ضرورياته من العقائد وفلسفتها، وصفاتِ الله وحكمة ظهورها، وعلم الكلام، والعبادات وفلسفتها، وعلم الأخلاق ومبادئه الفلسفية، والمعاملات وأسسها الحكيمة، وما يتصل بالدين من أمور الحضارة والمدنية والسياسة والاقتصاد، وحقيقة الحياة الآخرة وما يتعلق بها، وغيرها من أمور حيوية ضرورية.

2 – أن يتناول الأمور السالفة الذكر من كل نواحيها سعةً وعمقًا، مرشدًا إلى الصواب والحق في كل مجال منها.

3 – أن تكون كل عناصره مع سعتها ودقتها لا تقدم إلا النافع الخالي من الضرر.

4 – أن يكون كلامًا عامًا.. لا يخص شعبًا بعينه، ولا يرعى مصلحة فئة معينة، بل يخاطب الإنسانية جمعاء، ويصلح للطبائع البشرية كلها، ويتفق مع كافة الظروف والأوضاع ويناسب مستوى الأفهام جميعًا.

وبما أن القرآن الكريم لم يكن قد نزل بشكله الكامل عند نزول سورة الإسراء، لم يطالبهم الله فيها أن يأتوا بمثله الآن، بل قال: (لا يأتون بمثله).. أي لن يستطيعوا أن يأتوا بمثله لا في شكله الحالي ولا بعد اكتمال نزوله.

ولعل في هذا التحدي ردًّا على من يزعمون معرفة الأمور الغيبية ممن يسمَّون “الروحانيين” (Spiritualists)، فينبّههم إلى أن الإتيان بمثل علوم القرآن مستحيل على الإنسان، سواء حاول هو بنفسه أو بمعونة الأرواح الخفية التي يدّعون الاتصال بها. مع العلم أن المراد بالجن هنا هو تلك الكائنات التي يتوهمون وجودها والتي يزعم الروحانيون الاتصال بها لمعرفة الدقائق الروحانية. ومما يؤكد قولي هذا هو أن الله تعالى وقد سبق أن ذكر الروح قبل هذه الآية بأربع آيات إذ قال

ويسئلونك عن الروح. قل الروح من أمر ربي وما أوتيـتم من العـلم إلا قلـيلا (الإسراء:86).

ثانيًا: والآية الأخرى التي تتناول اعتراض الكفار بأن الرسول   لا يملك كنـزًا وليس معه ملَك هي الآية التي نحن بصددها فَأْ توا بعشرِ سورٍ مثلِه مفترياتٍ فإن الآية  تقدم القرآن على أنه كنـز نزلت به الملائكة وتتحداهم بأن يأتوا ولو بما يماثل عشر سور من هذا القرآن، ثم ليزعموا أن الملائكة قد جاءت به من عند الله تعالى، ثم لينتظروا مصيرهم بعد هذا الافتراء على الله جل شأنه.

وقال لهم: إذا كنتم أنتم لا تتجاسرون على هذا الافتراء فكيف تستسيغون زعمكم أن محمداً قد تجاسر على هذا الافتراء. وإذا كان محمد  بالفعل مفتريًا كذابًا فلماذا لا يؤاخذه الله عز وجل؟ بهذا الأسلوب يدعوهم الله هنا إلى المبارزة العلمية والروحانية معًا.

كما ويطالبهم هنا بالإتيان بعشر سور فقط على عكس ما تحدّاهم به في سورة الإسراء، لأن القرآن الكريم لا يعالج هنا بيانَ كماله من كافة الوجوهِ كما فعل هناك، بل  إنه يفنّد هنا اعتراضهم على بعض الأمور الواردة في الوحي القرآني كما هو واضح من قوله تعالى: ولعلك تاركٌ بعضَ ما يوحى إليك ، وأيضا من قولهم لولا أُنزلَ عليه كنـزٌ أو جاء معه مَلَكٌ . وبهذا يدعوهم الله تعالى لأن يختاروا ما يشاءون مما يرونه عيبًا في القرآن ويأتوا إزاءه بعشر سور مما يختلقون حتى يتم اختبارهم فيما يدّعون.

وقد اختار العدد عشرة لأنه عدد تام، وكأنه تعالى يقول لهم: ها نحن لا نضيّق عليكم الفُرص بطلب مثال واحد تأتون به، بل بوسعكم أن تحاولوا عشر مرات وتعرضوا عشرة أمثلة إن كنتم فاعلين. ولا يعني عدد العشرة أنهم فعلاً كانوا قادرين على الإتيان بسورة واحدة فطالبهم بعشر تصعيداً لاختبارهم، كلا، بل إنه الطريق الأمثل لدحض مزاعمهم، أن يُعطَوا أكثر من فرصة في عشر محاولات، حتى لا يدّعوا بأنهم كانوا مغبونين.

ثالثًا: والموضع الثالث الـذي أعـلن فيه القرآن أنـه كتـاب لا نظـير لـه هو ما جـاء في سورة يونس حيث تحدّاهم الله تعالى أن يأتوا بسورة واحدة فقط مما يماثل هذا القرآن، وهو دون التحديين السابقين بعشر مرات. ذلك لأن التحدي هنا جاء تدليلاً على إحدى دعاوي القرآن الكريم، وليس ردًا على الكفار. فقد ذكر قبل هذا أن القدرة الكاملة والتصرف المطلق هو لله وحده، والدليل على ذلك هو القرآن الكريم نفسه. ولقد أورد فيها خمسة تحديات عن القرآن قائلا:

وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله، ولكنْ تصديقَ الذي بين يديه، وتفصيلَ الكتاب، لا ريبَ فيه من رب العالمين (يونس:38)

فهو (أولاً) يحتوي على تعليم لا يمكن للإنسان أن يأتي بمثله؛ وهو (ثانيًا) يصدّق الكتب السماوية السابقة؛ وهو (ثالثًا) يكمّل الأحكام الناقصة فيما سبق من كتب؛ وهو (رابعًا) مصون من كل عبث أو تصرف إنساني؛ وهو (خامسًا) منهج عام لجميع الناس وكافة الأزمان، من رب العالمين.

أي أننا نقدّم – كبرهان على حتمية وقوع القيامة – أمرين اثنين هما: القرآن والإسلام، مؤكّدين أن القرآن هو الكتاب الموعود به على جبل الطور، وسوف يُكتب وينشر كثيرا في العالم دون انقطاع، وأن الإسلام سوف يدخل فيه الناس أفواجًا… وأن هذا المعين الدافق سترتوي منه الدنيا بأسرها من أقصاها إلى أقصاها.

ثم يأتي التعقيب على ذلك بقوله تعالى

أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورةٍ مثلِه وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين (يونس: 39)

أي إذا كنتم تحسبون أن ما ذكرناه عن القرآن ليس حقًا ولا عدلاً فأتوا بسورة واحدة مثله تتصف بتلك المزايا الخمس الآنفة الذكر، أما وأنكم لن تستطيعوا الإتيان حتى بسورة واحدة من مثله، فيمكن أن تقدِّروا مدى كمالاته وفضائله التي لا تعد ولا تحصى، وتعرفوا كم هو أسمى من افتراء البشر. فالمماثلة يراد بها هنا فضائل القرآن الخمس هذه.

رابعًا: والتحدي الرابع هو قوله تعالى

أم يقولون تَقَوَّلَه.. فليأتوا بحديث مثله (الطور:34، 35)

أي إذا كنتم صادقين في مزاعمكم فقدِّموا ولو أمرًا واحدًا من مثله. وكان هذا أقل التحديات شأنًا، حيث قيل لهم: فأتوا بكلام ولو أقل من سورة واحدة من القرآن الكريم. مع العلم أن هذا التحدي أيضًا لم يَرِد استجابةً لدعوى من الكفار، بل إنه جاء تدليلاً على ما ادعاه القرآن نفسه في مستهل تلك السورة بقوله تعالى

والطورِ، وكتابٍ مسطور، في رَقٍّ منشور،  والبيتِ المعمور، والسقفِ المرفوع، والبحرِ المسجور، إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع (الطور:2-9)..

أي أننا نقدّم – كبرهان على حتمية وقوع القيامة – أمرين اثنين هما: القرآن والإسلام، مؤكّدين أن القرآن هو الكتاب الموعود به على جبل الطور، وسوف يُكتب وينشر كثيرا في العالم دون انقطاع، وأن الإسلام سوف يدخل فيه الناس أفواجًا، عامتهم وكذلك خاصتهم من ذوي الفضائل الروحانية والملكات الجسمانية، وأن هذا المعين الدافق سترتوي منه الدنيا بأسرها من أقصاها إلى أقصاها.

ثم يعقّب الله تعالى بعد عدة آيات بقوله: أم يقولون تَقَوَّلَه بل لا يؤمنون. فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (الطور: 34 و35).. أي إن كان هذا عندهم افتراءً فعليهم أن يأتوا بحديث أي نبأ واحد مثل الذي جئنا به فيما سبق من أنباء متنوعة، ولا نشترط عليهم أن يكون الحديث الذي يأتون به منسوبًا إلى الله، بل لا نشترط حتى أن يكون من عند أنفسهم، بل لهم أن يستخرجوه من أي كتاب سماوي أو غير سماوي.

مع الاعتبار أنه تحداهم هنا بأقل المطالبات وقال: فليأتوا ولو بنبأ واحد مثل الأنباء الكثيرة التي يزخر بها القرآن الكريم، وأكّد لهم فشلهم وعجزهم معلّلاً ذلك بقوله: إنكم لن تقدروا على ذلك أبدًا، لأن الإدلاء بمثل هذه الأنباء يقتضي أن يكون مصدرها خالقًا للسماوات والأرض ومراقبًا لها، ومالكًا لما فيها من كنوز وخزائن، وواهبًا للنفوس رقيها الروحاني، ومُطّلعًا على الأمور الغيبية، بينما أنتم محرومون من هذه المواصفات والقدرات كلها، فأنّى لكم أن تدلوا بمثل هذه الأنباء. ولم تكن هناك حاجة لتأكيد فشلهم في تقديم نظير لهذا النبأ القرآني من الكتب السماوية السابقة، لأنها كانت كتبا صحيحة من حيث مصداقيتها ومرجعيتها إلى الله فعلاً، لكن الفرق بينها وبين القرآن الكريم هو الدرجة والمنـزلة.

خامسًا: أما التحدي الخامس فقد ورد في سورة البقرة حيث طالبهم بالإتيان بسورة واحدة. قال الله تعالى وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (الآية:24). وهنا أيضا جاء بالتحدي تدليلاً على دعوى القرآن المذكورة في قوله تعالى ذلك الكتب لا ريب فيه هدىً للمتقين . مع العلم أن مطالبة الإتيان بسورة واحدة جاءت أيضا في سورة يونس مع نفس التأكيد بأنه لا ريب فيه ، مما يعني أن هناك صلة وثيقة بين موضوع لا ريب فيه وبين مطالبة الإتيان بسورة واحدة. تعالوا نر ما هي تلك العلاقة.

لقد أعلن القرآن الكريم عن نفسه في سورة البقرة قبل إيراد هذا التحدي بآيات عديدة أنه هدًى للمتقين .. أي أنه قادر على إيصال الإنسان إلى الدرجات العلى في الروحانية. وكأن التحدي هنا يعني أنكم إذا كنتم في شك مِن كون القرآن من عند الله تعالى فتعالوا لمبارزته في مجال تأثيراته الروحانية، وَأْتوا ولو بسورة واحدة ذات تأثير روحاني مثله. ذالك أنه لَمِن مزايا القرآن أن قراءة أية سورة منه تشحن الإنسان بتأثيرات روحانية سامية للغاية، وكأنه يقضي على الشكوك التي تثور في النفس، ويوصل العباد إلى دنيا اليقين وهو مقام الوصال بالله تعالى. وهذا المقام إنما يُنال بتلاوة القرآن الكريم وحده، إذ ليس هناك أي كتاب آخر يستطيع أن يباريه في هذه الميزة الرائعة. إن كل سورة منه تتسم بهذه الصفة التي لا يمكن أن يجاريها أيّ كلام آخر.

ولما كان القرآن الكريم محتويا على معارف سامية فكان لزامًا على منزِّله أن يختار أفضل الكلمات وأروع التعابير وإلا بقيت تعاليمه غامضة مبهمة. وما دام القرآن قد نزل بهذه الميزة اللغوية الراقية فلا بد أن تشتمل هذه التحديات على مطالبة المعارضين بالالتزام بقواعد الفصاحة والبلاغة أيضا.

لقد تبين تمامًا مما أوضحناه إلى الآن أن هذه التحديات الخمسة تمثل خمس مطالبات في الواقع، كل واحدة منها مستقلة، وثابتة ومتحققة، ولا تنسخ إحداها الأخرى.

لقد وقع المفسرون في الخطأ بسبب زعمهم بأن كل تحدٍ منها يعني الإتيان بمثل القرآن في الفصاحة فقط، مع أن الأمر على عكس ذلك. فالتحدي في هذه السور الخمس ليس واحدا – كما أسلفتُ – بل إنها تحديات مختلفة مستقلة، وكل واحد منها يدعو إلى الإتيان بمثل القرآن كله أو بعضه طبقا للسياق والظروف.

أما إذا قيل: هل تتضمن هذه التحديات المطالبة بضرورة كون كلام الكفار فصيحًا كفصاحة القرآن أم لا، فالجواب: نعم، وبكل تأكيد، ولكنها مطالبة ضمنيّة، وليست الغاية الحقيقية المطلوبة. ذلك أن المعاني السامية لا يمكن التعبير عنها إلا بكلمات فاضلة وتراكيب رائعة. ولما كان القرآن الكريم محتويا على معارف سامية فكان لزامًا على منزِّله أن يختار أفضل الكلمات وأروع التعابير وإلا بقيت تعاليمه غامضة مبهمة. وما دام القرآن قد نزل بهذه الميزة اللغوية الراقية فلا بد أن تشتمل هذه التحديات على مطالبة المعارضين بالالتزام بقواعد الفصاحة والبلاغة أيضا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك