بعدٌ عملي لعطف ورحمة وكرم خير خلق الله صلى الله عليه وسلم

إن حياة نبي الإسلام  كتاب مفتوح كلما بحثت في أي جزء منه تجد فيه تفاصيل تثير الاهتمام وتخلب اللب. ولم يحدث أن تم تسجيل وقائع حياة نبي أو حياة مَعلم آخر تسجيلاً دقيقًا ومتاحًا للدارسين، مثل حياة الرسول العظيم . وصحيح أن هذه الغزارة في الحقائق والمرويات المدوّنة، قد أعطت النقاد الماكرين فرصتهم المنتظرة، ولكن من الصحيح أيضًا أنه حين تتم دراسة الانتقادات بعناية، ويتم الرد الحاسم عليها، فإن ما تثيره فينا حياة الرسول من الإيمان والحب الغامر والتقوَى، لا يماثلها فيه حياة أي شخص آخر.

إن الحياة الغامضة التي لا يعرف الناس شيئًا عن تفاصيلها قد تسلم من النقد، ولكنها لا تفلح في بث الإقناع وزرع الثقة في قلوب من يتبع أصحابها. إذ تظل صعوبات الغموض، وظلمات الحيرة، وخيبة الأمل، قابعة في القلوب. ولكن الحياة الغنية بالتفاصيل المدوّنة، مثل حياة الرسول ، تثير فينا التأمل العميق ومن ثم تثبّت الاقتناع. وعندما يتم تصفية الحسابات الخاطئة للانتقادات والمفاهيم الزائفة، بكشف الحقائق وتسليط الأضواء عليها، فمن المحتم أن تجذب حياة الرسول منَّا كل حب وإعجاب وتقدير، وتثير فينا كل إعزاز وإكبار وتوقير، بشكل كامل ودائم وإلى الأبد.

تلك هي عزيز القارئ أهم ملامح هذا الكتاب القيم الذى ستطالعه عبر حلقات في هذه الزاوية. والجدير بالذكر في هذا المقام أنه من الصعب تقديم ملخص كامل متوازن لحياة كحياة الرسول ، التي كانت واضحة كالكتاب المفتوح، وشديدة الثراء بما تحتويه من وقائع ومواقف وأحداث. وقد أعطى المؤلف لمحة، ولكن حتى هذه اللمحة لها وزن وثقل. حيث أنه كان يمارس ما يعظ به، وكان يعظ بما كان يمارسه؛ وإذا عرفته فقد عرفت القرآن المجيد، وإذا عرفت القرآن المجيد فيمكنك أن تتعرّف عليه.

يا رسول الله، لقد أهانك أبي، وعقابه على ذلك هو الموت، فإذا رأيتَ ذلك فإني أريدك أن تأمرني بقتله…» ولكن الرسول لم يوافق على قتل عبد الله بن أبيّ، وذكر لابنه أنه سيستمر في معاملة أبيه برحمة وتقدير. وعندما قارن ذلك الشاب عبد الله خيانة والده وجفاءه مع رحمة وعطف وكرم الرسول ، عاد إلى المدينة مليئًا بغضب مكتوم ضد أبيه…

لقد حصل شرف نقل هذا الكتاب إلى لغة الضاد للأستاذ الفاضل فتحي عبد السلام وراجعه ثلة من أبناء الجماعة المتضلعين في اللغة والدين.

المعركة مع بني المصطلق

بعد معركة أحُد حدثت مجاعة خطيرة في مكة، وقد قام الرسول بجمع ذخيرة من المؤن لمساعدة فقراء مكة في أزمتهم القاهرة، بصرف النظر عن كل العداوة التي يحملونها له في مكة، وبصرف النظر عن كل المكائد التي كانوا يمارسونها لنشر النفور منه في أرجاء الجزيرة العربية كلها. ولقد استمرت كراهيتهم له دون أن تهدأ أو تخفّ، بل في الحقيقة صارت أسوأ وأشدّ، حتى إن القبائل التي كانت شديدة التعاطف مع المسلمين، صارت تحمل لهم العداوة والبغضاء، ومنهم كانت قبيلة بني المصطلق.

فقد كان لهم علاقات حسنة مع المسلمين، ولكنهم الآن صاروا يعدّون العدّة للهجوم على المدينة، ولما سمع الرسول عـن استـعداداتهم للعدوان، أرسل رجالاً لتقصّي الحقيقة، وعاد الرجال وأكدوا الأخبار. وقرر الرسول التحرّك للقاء هذا الهجوم الجديد، وبناء عليه فقد حشد قوّة وقادها إلى ديار بني المصطلق، وعندما لقيَ المسلمون العدوّ حاول الرسول إقناعهم بالانسحاب دون قتال فأبوا، وفي ساعات قلائل حدث الاشتباك وهُزم العدو.

ولأن كفار مكة كانوا قد عقدوا العزم على خلق الفساد والإساءة للمسلمين، والقبائل الصديقة كانت تتحوّل إلى العداء والعدوان، فقد غامر المنافقون في هذه المناسبة بالاشتراك في المعركة إلى جانب المسلمين، ولعلهم ظنوا أن الفرصة قد حانت للنيْل من الإسلام. غير أن معركة بني المصطلق انتهت بالنصر في ساعات قلائل، ولم يجد المنافقون فرصة للإضرار بالمسلمين. وقرر الرسول البقاء في ديار بني المصطلق بضعة أيام، وخلال ذلك نشب عراك بين واحد من المهاجرين وآخر من الأنصار على الاستقاء من بئر هناك. وكان المسلم المهاجر عبدًا محرّرًا، فضرب الأنصاري الذي صاح: “يا للأنصار”. وصاح الآخر: “يا للمهاجرين”. وغلب الحماس على الناس، ولم يتبين أحد ماذا حدث، وسل الشباب الصغار من الفريقين سيوفهم، وظنها عبد الله بن أبي بن سلول فرصة جاءت إليه من السماء، فقرر أن يصب الوقود على النار قائلاً: “لقد ذهبتم بعيدًا في إكرام المهاجرين، ولقد أدارت المعاملة الطيبة رءوسهم، والآن صاروا يكاثرونكم بكل سبيل”. ولعله ظن أن كلامه سيؤدي إلى النتيجة المطلوبة، أو لعله تصوّر أن النّزاع سوف يتطوّر ليكون ذا خطورة بالغة، ولكن ذلك لم يحدث. لقد أخطأ عبد الله بن أبيّ في تقدير الآثار السيئة لخطابه على الأنصار، واستمر موغلاً في تصوّره أن الأنصار قد اقتنعوا بحديثه فقال: “لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ”. (البخاري)

لقد قصد نفسه بقوله: الأعزّ، وقصد الرسول بقوله: الأذلّ. وحالما قال ذلك، أدرك المؤمنون المخلصون من المسلمين حقيقة الأذى الكامن والضرر المتربّص في ذلك الحديث، وأحسّوا أن ما استمعوا إليه من كلام لم يكن كلامًا بريئًا، كان الكلام للشيطان الذي جاء ليقودهم إلى الضلال. ووقف رجل شاب وأبلغ الرسول بالأمر، فأرسل إلى عبد الله بن أبي بن سلول وصحبه وسألهم عما حدث، فأنكر عبد الله هو وصحبه أنهم فعلوا شيئًا من ذلك، أو أنهم ساهموا في هذه الحادثة.

ولم يقل الرسول شيئًا، ولكن الحقيقة بدأت تظهر وتنتشر، وبعد ساعات وصلت أنباء الحادثة إلى سمع ابن عبد الله ابن أبي ابن سلول واسمه “عبد الله”، وفي الحال ذهب لرؤية الرسول وقال له: “يا رسول الله، لقد أهانك أبي، وعقابه على ذلك هو الموت، فإذا رأيتَ ذلك فإني أريدك أن تأمرني بقتله، فإنك لو أمرت أحدًا غيري بذلك فقتله، فربما كبر عليّ أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض فأقتله فأغضب الله ويعذبني”.

ولكن الرسول لم يوافق على قتل عبد الله بن أبيّ، وذكر لابنه أنه سيستمر في معاملة أبيه برحمة وتقدير. وعندما قارن ذلك الشاب عبد الله خيانة والده وجفاءه مع رحمة وعطف وكرم الرسول ، عاد إلى المدينة مليئًا بغضب مكتوم ضد أبيه. وفي الطريق إلى المدينة أوْقف والده وقال له إنه لن يدعه يدخل المدينة حتى يسحب الكلام الذي قاله ضد رسول الله، وقال له: “إن اللسان الذي قال إن الرسول هو الأذل وأنت الأعز، يجب أن يقول الآن إن الرسول هو الأعز وإنك أنت الأذل، ولن أدعك تذهب حتى تقول ذلك”. وصُدم عبد الله بن أبي بن سلول وخاف، وقال: “حقًّا ما قال ابني؛ إن محمدًا هو الأعز وأنا الأذل”. وعند ذلك أفسح عبد الله لأبيه الطريق. (ابن هشام ج2)

لقد قلنا من قبل إن هناك قبيلتين يهوديتين أقصيتا خارج المدينة من جراء إساءاتهما الخبيثة، ومكرهما السيئ، والمؤامرات التي تسببت في قتل بعض المسلمين.

كانت بنو النضير إحدى القبيلتين، وقد هاجر بعضهم إلى الشام، وذهب الباقون إلى خيبر؛ وهي بلدة تقع في شمال المدينة. كانت خيبر مركزًا يهوديًا حصينًا جدًا في الجزيرة العربية، وراح اليهود الذين هاجروا هناك يعملون على إثارة العرب ضد المسلمين. كان أهل مكة بالفعل أعداء ألداء للإسلام، ولم يكونوا في حاجة إلى أية إثارة جديدة تحمّسهم ضد المسلمين، وكذلك الشأن مع غطفان من نجد ؛ فكانوا يكرهون المسلمين أيضًا بسبب صداقاتهم لأهل مكة. وقد اعتمد اليهود الذين استقرّوا في خيبر في تنفيذ مؤامراتهم على قريش في مكة، وغطفان في نجد، بالإضافة إلى أنهم خطّطوا كي ينقلب بنو سليم وبنو أسد ضد الإسلام. ونجحوا أيضًا في إقناع قبيلة بني سعد التي كانت تحالفهم، كيْ يتّحدوا مع أهل مكة في حلف يجابه الإسلام. وبعد مكائد عديدة وتدابير طويلة الأمد، تم تنظيم اتحاد كونفدرالي لحرب المسلمين، وكان هذا الاتحاد يضم أهل مكة، والقبائل المقيمة في الأراضي المحيطة بمكة، وقبائل نجد، ومعهم القبائل التي كانت تقيم في الأراضي الواقعة شمال المدينة.

غزوة الخندق

في السنة الخامسة للهجرة، احتشد جيش ضخم قدّر المؤرخون قوّته بعدد يبلغ عشرة آلاف أو أربعة وعشرين ألف رجل، ولكن جيشًا يحتشد من القبائل المختلفة في الجزيرة العربية لا يمكن أن يكون تعداده عشرة آلاف، لذلك تبدو الحقيقة أقرب إلى الأربعة والعشرين ألف مقاتل؛ ولعلهم كانوا ثمانية عشر أو عشرين ألفًا.

ولم تكن المدينة التي يرغب كل هذا الحشد في مهاجمتها سوى بلدة متوسطة الحجم، لا تستطيع على الإطلاق أن تقاوم غزوًا منسقًا تقوم به كل الجزيرة العربية. كان تعداد المدينة إذ ذاك لا يتعدّى ثلاثة آلاف من الذكور، بما في ذلك الشيوخ والشباب والأطفال. وفي مواجهة هذا التعداد السكاني، حشد العدوّ جيشًا من عشرين ألفًا إلى أربعة وعشرين ألفًا من الرجال الأشداء، المتمرّسين على الحرب وفنون القتال. وحيث إنهم جاءوا من الأجزاء المختلفة في الجزيرة العربية، فقد أُحسن اختيارهم ليكونوا ضمن هذا الجيش.

ومن ناحية أخرى، كان كل من يمكن استدعاؤهم لمقاومة هذا الجيش الجرّار، هم جميع السكان الذكور في المدينة، ويمكن الحكم على احتمالات نجاح مواجهة مثل هذا العدد الهائل الذي كان على سكان المدينة أن يناجزوه، فقد كان نِزالاً غير متكافئ إلى أبعد الحدود. فالعدوّ كان يضم من عشرين إلى أربعة وعشرين ألفًا من المقاتلين الأقوياء، بينما لا يكاد يبلغ المسلمون ثلاثة آلاف، هم كل ذكور المدينة كما سبق ذكره، بما فيهم الكبير والصغير.

وعقد الرسول اجتماعًا لطلب المشورة، عندما سمع عن الاستعدادات المعادية الهائلة. وكان سلمان الفارسي بين الذين استشارهم الرسول ، وكان المسلم الأوّل من بلاد فارس. فسأل الرسول سلمان عما يفعلونه في بلاده إذا أرادوا الدفاع عن مدينة ضد جيش عرمرم؟ فقال سلمان: إذا لم تكن المدينة حصينة، وكانت قواتها المحلية صغيرة للغاية، فإن العادة جرت لدينا على حفر خندق حول المدينة والدفاع عنها من داخله. وقبل الرسول الفكرة.

كانت القمم الوَعرة تحف بالمدينة من أحد جوانبها، وكان ذلك يضمن حماية طبيعية من هذا الجانب. جانب آخر مملوء بالدروب الضيقة المكتظة بالسكان المتقاربين، ومن هذا الجانب فإن المدينة لا يمكن مباغتتها دون علم سكانها. وفي الجانب الثالث كانت غابات النخيل وبعض البيوت. وعلى مسافة منها حصون القبيلة اليهودية بني قريظة. وكان المسلمون قد عقدوا عهدًا مع بني قريظة للتعايش في سلام وللدفاع المشترك، ولذلك كان هذا الجانب يُعتبر آمنًا أيضًا من هجوم العدو.

في الجانب الرابع كان هناك سهل منبسط مفتوح، وكان الخوف أن يهجم العدوّ من هذا الجانب لأنه الأكثر احتمالاً، ولذلك قرر الرسول حفر خندق على هذا الجانب المفتوح لمنع العدوّ أن يباغت المدينة بالهجوم. ووُزّعت المهمّة بين المسلمين، كلّ عشرة أشخاص عليهم حفر عشر أذرع من الخندق، وكان على الجميع حفر ميل كامل بعرض وعمق كافيَين.

وعندما كان الحفر يمضي على قدم وساق، اعترضت صخرة صلبة طريق الحفر، ولم يستطع أحد من المسلمين أن يتمكن منها، فرفعوا تقريرا بذلك للرسول فحضر إلى المكان في الحال، وأخذ المعوَل وضرب الصخرة بقوّة، وتطايرت منها بعض الشرارات فصاح الرسول عاليا: “الله أكبر”. وضرب الصخرة ثانية، ومرة أخرى تطاير الشرر فصاح الرسول ثانية: “الله أكبر”. وضرب الصخرة ضربته الثالثة، وتطاير الشرر كذلك، فهتف الرسول : “الله أكبر”. وتفتّتت الصخرة إلى شظايا، وسأل الصحابة رسول الله عن كل ذلك، ولماذا قال الله أكبر مرارًا؟

وأجاب بما معناه:

لقد ضرب الصخرة بهذا المعوَل ثلاث مرات، وفي المرات الثلاث رأى مشاهد مجد الإسلام تُوحَى إليه وتنكشف لـه. فرأى في الشرارات الأولى قصور الشام في إمبراطورية الروم، وأُعطيَت لـه مفاتيح تلك القصور. وفي المرة الثانية رأى قصور فارس في المدائن قد أضاءت، وأعطيَت له مفاتيح ملك الفُرس. وفي المرة الثالثة رأى أبواب صنعاء وأعطيَت لـه مفاتيح مملكة اليمن، وأخبرهم أن هذه وعود الله وأنه يثق فيها، وحثّهم على أن يتوكلوا على الله، ولن يضرهم العدوّ، إلا أذىً. (الزرقاني ج 2 وفتح الباري ج 7)

ومن وجهة النظر العسكرية الاستراتيجية، فلم يكن من الممكن حفر خندق عظيم نظرًا لقلة عدد القوّة العاملة للمسلمين، لكن بدا هذا الخندق على الأقل كحاجز يؤمّنهم ضد الاقتحام المفاجئ للمدينة، رغم أنه لم يكن منيعًا على العبور، ولقد برهنت الأحداث التالية على ذلك، ولم يكن هناك جانب آخر يناسب العدوّ للهجوم على البلدة، وهكذا بدأ جيش ضخم من رجال القبائل يصل إلى المدينة، وحالما عرف الرسول ذلك، خرج إليهم ليدفعهم عنها في ألف ومائتي رجل بعد أن أرصد المجموعة الأخرى الباقية من الرجال للدفاع عن الأجزاء الأخرى للمدينة.

لقد قدّر المؤرّخون عدد المدافعين عن الخندق بتقديرات مختلفة، حدّده البعض بثلاثة آلاف، وبعضهم قدّره بألف ومائتي رجل، وقدّره آخرون بسبعمائة، وهي تقديرات يبلغ اختلافها درجة يبدو أن من الصعب التوفيق بينها، ولكن بعد تحليل مختلف القرائن يمكن أن نستنتج صحّة جميع التقديرات المتعلقة بعدد المسلمين المنخرطين في الدفاع عن الخندق، لأنها ترجع في اختلافها إلى مراحل مختلفة في هذه الموقعة.

القتال ضد أحزاب ضخمة

لقد سبق وذكرنا أنه بعد انسحاب المنافقين من أحُد، كان عدد من بقيَ من المسلمين في الميدان سبعمائة، ولم تحدث موقعة الخندق إلا بعد عامين من أحُد، وخلال هذين العامين لم يسجّل التاريخ أن أعدادًا كبيرة من الناس قد دخلوا في الإسلام.

وليس من المتوقع أن يزيد عدد المسلمين المقاتلين في خلال ذلك الوقت من 700 إلى 3000، كذلك من غير المعقول أيضًا أن تنعدم زيادة عدد المسلمين المقاتلين بين معركتي أحُد والخندق، فقد استمر دخول الناس في الإسلام، ومن الطبيعي أن نتوَقع ثمة زيادة معقولة بين موقعة أحُد وغزوة الأحزاب (الخندق). ومن هذين الاعتبارين، يبدو أن التقدير الأصوَب لعدد المسلمين في الموقعة هو 1200 مقاتل، والسؤال الذي يمكن أن يرد على ذلك هو: لماذا قال بعض المفسرين إن العدد 3000، وقال البعض الآخر إنه 700؟ وإجابتنا على هذا السؤال هي أن الرقمين يرجعان إلى مرحلتين من مراحل الموقعة.

كانت هناك ثلاث مراحل لهذه المعركة، المرحلة الأولى قبل أن يصل العدوّ إلى المدينة عندما كان المسلمون منغمسين في حفر الخندق، خلال هذا الوقت يمكننا أن نفترض مطمئنين أن الصبيان ونسبة ما من النساء قد جاءوا للمساعدة في إزالة التراب المحتفَر من المكان. ولذلك من المعقول أن تكون أعداد المسلمين الذين اشتركوا في أعمال الحفر قد بلغت ثلاثة آلاف، ويشمل هذا الرقم الصبية وبعض النسوَة. فالصبية كانوا قادرين على المساعدة في حمل الأتربة، وهناك ما يؤكد هذا الافتراض، فلقد دُعي الصبْية إلى الحضور بمجرّد بدء الحفر. والنسوَة اللائي تنافسن مع الرجال دائمًا على المساعدة في كل حروب المسلمين، لا بد أنهن كن مفيدات في أداء الأعمال المساعدة المرتبطة بالحفر، ومن الوجهة الفعلية فلقد ساهم كل سكان المدينة في العملية. ولكن بمجرد حضور العدوّ إلى ميدان المعركة، أمر الرسول كل صبيّ دون الخامسة عشرة بمغادرة المكان وترك مشهد العمليات، وسمح لمن هم فوق الخامسة عشرة بالمساهمة في المعركة لو أرادوا. (انظر السيرة الحلبية جزء 2)

لقد ضرب الصخرة بهذا المعوَل ثلاث مرات، وفي المرات الثلاث رأى مشاهد مجد الإسلام تُوحَى إليه وتنكشف لـه… وأخبرهم أن هذه وعود الله وأنه يثق فيها، وحثّهم على أن يتوكلوا على الله، ولن يضرهم العدوّ، إلا أذىً.

ومن ذلك يتبيّن أن عدد المسلمين وقت الحفر كان يفوق عددهم عند بدء المعركة، فقد انسحب الصبْية والنسوَة ولم يبق عند الخندق سوَى المقاتلين من الذكور البالغين وحدهم، وهؤلاء هم الذين ذكرت بعض التقديرات أن عددهم كان 1200 مقاتل.

بقي التقدير الثالث الذي لم نبيّنه حتى الآن، وهو ذلك الذي ذكر أن عدد المقاتلين عند الخندق كان سبعمائة مقاتل، ونرى أن هذا التقدير كان صحيحًا أيضًا. وقد طرحه ابن اسحاق وهو ثقة، كما أيّده فيه ابن حزم، ولذلك من الصعب أن نشكّ في مصداقيته. وعند مراجعة التفاصيل المتعلقة بهذه المعركة، يتبين لنا أن تقييم هذا العدد كان صحيحًا. فقد حدث أن نقض بنو قريظة الحلف الذي عقدوه مع المسلمين بالاشتراك معهم في الدفاع عن المدينة إذا تعرّضت للعدوان. وكان قد عُهِد إليهم بالدفاع عن جزء من المدينة. فلما تبيّن للرسول أن بني قريظة قد خانوا عهدهم وعلم بنيّتهم الخبيثة بالهجوم على المدينة من الخلف، رصد حراسة بقوّة من المسلمين في ذلك الجزء من المدينة المعرّض للهجوم من طرف بني قريظة. ومن المعروف أن الرسول أرسل فرقتين إحداهما مؤلفة من مائتي رجل والأخرى من ثلاثمائة، لحماية جزأين من المدينة بمجرد أن بلغه نبأ خيانة بني قريظة، وبالتالي فلم تعد النساء والأطفال في مأمن، وأمر الرسول القوّة المرسلة أن يرفعوا أصواتهم بالتكبير ليعلم بقية جيش المسلمين أن النساء والأطفال آمنون. وتكشف هذه التفاصيل صحة تقدير ابن اسحاق بأن عدد المقاتلين عند الخندق كان سبعمائة مقاتل، لأن انسحاب 500 رجل من 1200 لإرسالهم لظهر المدينة يؤدّي إلى بقاء 700 مقاتل، هم الذين اشتركوا في المعركة ضد الأحزاب عند الخندق.

ولهذا فإن نتيجة التقديرات الثلاثة لعدد جيش المسلمين في معركة الخندق كانت صحيحة، وعلى ذلك لم يكن لدَى الرسول سوَى 700 رجل فقط ليدافعوا عن الخندق. صحيح أن الخندق كان قد تم حفره، ولكن كان يبدو من المستحيل على جيش المسلمين أن يواجه جيشًا بهذه الضخامة، ويردّه على الأعقاب حتى ولا بمساعدة الخندق، ولكن المسلمين كعادتهم وثقوا في الله ربهم وتوكلوا على معونته، وانتظروا جيش العدوّ، بينما أرسلوا الأطفال والنساء إلى منطقتين من البلدة بدتا آمنتين في ذلك الوقت.

وعندما بلغ العدوّ الخندق أخذته الدهشة والذهول، لأن العرب في الجزيرة العربية لم يألفوا هذه الحيلة من قبل في أيّة معركة، لذلك قرروا أن يضربوا خيامهم على جانب الخندق الذي هم عليه، حتى يتدبروا أمرهم ويبحثوا أفضل الطرق للهجوم على المدينة. فقد كان جانب منها يحميه الخندق، والجانب الثاني به قمم وعرة ذات حصانة طبيعية، وعلى جانب ثالث توجد بيوت حجرية مع حدائق النخيل والبساتين، فكان من المستحيل على العدوّ أن يباغت أيّ جانب من المدينة. وعقد قادة العدوّ مؤتمرًا جامعًا، وقرروا أنه قد بات من الضروري استمالة بني قريظة إليهم، وفصلهم عن المسلمين وحلفهم، وأن يطلبوا منهم الانضمام إلى الأحزاب في هذا الهجوم الشرس والحرج على المدينة، وكان كل ما عليهم أن يفعلوه هو أن يفسحوا طريقًا لجيش الأحزاب إلى البلدة. وفي النهاية اختار أبو سفيان حُيَيّ بن أخطب؛ زعيم قبيلة بني النضير اليهودية، والتي تم نفيها من المدينة، والتي كانت المحرّض الأساسي للقبائل العربية ضد المسلمين، وكلفه أن يتفاوض مع بني قريظة للحصول منهم على تسهيلات تمكنهم من الهجوم على المدينة من الخلف. وذهب حُيي بن أخطب إلى الحصن اليهودي كي يلقَى قائد بني قريظة. وفي البداية رفضوا رؤيته، لكنه لما شرح باستفاضة كيف أن هذه اللحظة هي فرصتهم لدحر المسلمين، نجح في استمالة كعب، أحد رجالات بني قريظة، وأوْضح له أنّ العرب عن بكرَة أبيهم قد خرجوا جميعًا للهجوم على المسلمين والقضاء عليهم، وأنّ الجيش الذي يقف على الجانب الآخر للخندق ليس جيشًا عاديًا، بل هو بحر يموج بالرجال الأشدّاء الذين يستحيل على المسلمين أن يقاوموهم. وأخيرًا تم الاتفاق على أنه بمجرد أن ينجح المشركون في اقتحام الخندق، فإنّ بني قريظة سيهاجمون هذا الجزء من المدينة الذي أوْدع فيه الرسول كلّ النساء والأطفال طلبًا لسلامتهم. وبدوا متأكدين أن هذه الخطة كفيلة بتهشيم مقاومة المسلمين، وستكون بلا شك فخًّا مميتًا لقوم النبيِّ ؛ رجالاً ونساءً وأطفالاً. وحقًّا لو أتيح لهذه الخطة ولو نصيب محدود من النجاح، لكلفت المسلمين غاليًا، ولجعلت كل شيء صعبًا شديد التعقيد بالنسبة إليهم، فلن يكون لهم مخرج من هذه الورطة القاتلة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك