آية العذاب لا تنفع طالبها شيئا
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (يونس: 49)

التفـسير:

قاتَلَ الله العناد والتعنت. لقد ذكر الله في الآية السابقة – عرضًا – أن رفضَ النبي مهلكةٌ للأمم، وعند سماع هذا التحذير الضمني ما لبث الكافرون أن سألوا من فورهم: حسنًا، متى يأتي هذا العذاب إذن، متناسين كل ما ذكر الله من قبل من شروط العذاب وأسباب تأخره ذكرًا مفصلاً. وكأنهم لن يُشفى غليلُهم إلا بآية العذاب. ومما يؤسَف له أن مسلمي اليوم قد سلكوا المسلك نفسه إزاء سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام، حيث كانوا يطالبونه دائما بالعذاب كآية على صدقه.

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاءَ الله لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (يونس: 50)

التفسـير:

هذه الآية تشتمل على رد لطيف آخر على ما طالبوا به النبي ، حيث يقول الله تعالى لنبيه أن قُلْ لهم أما أنا فلا أملك النفع ولا الضر حتى لنفسي، فكيف أحقق مطلبكم.

القرآن إنما هو توطيد وحدانية الله عز وجل. إنه لا يقدم أحدًا – كائنًا من كان حتى ولو كان خاتم النبيين محمداً رسول الله – كندٍّ ومماثل لذات الله سبحانه وتعالى.

إن الأمة المذكورة في قوله تعالى لكل أمة أجل هي جماعة معارضي الأنبياء، وليست الأمّة المذكورة في قوله ولكل أمّةٍ رسول ، والمراد من الجملة: لا مناص من أن يأتي على كل شعب كافر زمان يُطوى فيه صفّهم ببعث نبيٍّ إليهم ليأخذ مكانهم شعب آخر.

وكأن الرسول يقول هنا: إنني لا أملك أي خيار في أمر العذاب، ولكني أستطيع أن أؤكد لكم أن من سنة الله التي لا تبديل فيها، أن كل أمة تزدهر إلى حد معين ولفترة محدّدة، وحينما تتعرّى من المحاسن تؤول إلى الهلاك والدمار. لذلك إنني أعلم بالتأكيد أنكم لن تتمتعوا بهذه الحالة طويلاً، بل ستهلكون حتمًا، ليبدأ دور جديد من أهل الحق والصدق.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (يونس: 51)

شرح الكلمات:

أرأيتم: كلمة مركّبة من “أ” الاستفهامية و “رأيتم”، ومعناها: أخبروني. (الأقرب)

بياتًا: اسمٌ مِن بيَّتَ العدوَّ كالكلام مِن كلّم. وبيّت الأمرَ: عَمِله أو دَبَّره ليلاً. وبيّت القومَ والعدو: أوقع بهم ليلاً من دون أن يعلموا (الأقرب)

التفسـير:

تذكر هذه الآية أمرًا رائعًا للغاية، حيث يقول الله تعالى لرسوله الكريم أن قل لهم: لا ينبغي لكم أن تسألوا متى يأتي العذاب غدًا أو بعد غد، بل يجب أن تنظروا ما إذا كنتم تستوجبون العذاب أم لا. فإذا كنتم تستوجبونه فلا جرم أنه سيفاجئكم غدًا إن لم يصبكم اليوم. فعليكم – والحال هذه – بإصلاح أعمالكم لتنجوا من العذاب. أما إذا كنتم ترون أنكم لا تستحقونه فعليكم – بدلاً من السؤال عن موعده – أن تبرهنوا على صحة أعمالكم وسلامة حالكم، ولا مجال لنـزول العذاب عليكم أبدًا.

وبقوله تعالى بياتًا أو نهارًا أشار إشارةً لطيفة إلى هلاك مشركي مكة، إذ كان مقدّرًا لهم أن يعذّبوا ليلاً ونهارًا. فقد عُذّبوا وقت النهار في معركة بدر إذ كانت هي المعركة الحقيقية الأولى بين الطرفين، كما أُهلكوا وقت الليل في معركة الأحزاب وكانت  هي المعركة الأخيرة في الواقع.

وقد ذكر عذاب الليل قبل عذاب النهار، لأن العذاب الذي حل بهم بالليل كان أشدَّ وطأةً إذ كان يمثّل الضربة القاضية عليهم.

وضمير الغائب في (منه) في قوله تعالى ماذا يستعجل منه المجرمون يمكن إرجاعه إما إلى الله سبحانه وتعالى، أو إلى العذاب.

أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ أآَلآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ   (يونس:52)

التفسير:

أي.. إن غاية ظهور الآية الإلهية أن ينتفع أحدٌ برؤيتها ويؤمن، فما هي نيّتكم أيها المطالبون بآية العذاب؟ هل ستؤمنون عند رؤيتها؟ كلا. لا ينفع نفسًا إيمانها عند رؤية العذاب، وإنما يقال لها عندئذ: لا جدوى من الإيمان الآن، بل تذوَّقِي الآن العذاب الذي كنت تطالبين بنـزوله عاجلاً.

ما أعظَمَه دليلاً وأقواه برهانًا لإفحام الذين يطالبون بالعذاب. إذ يقول إنما  جُعلت الآيات لينتفع بها الناس، ولكن آية العذاب لا تنفع طالبها شيئًا، وإنما تنفع غيره. والذي يهلك بالعذاب ويبقى محرومًا من قرب الله تعالى لا يستفيد  من إيمان الآخرين، إضافةً إلى أن إيمانهم أيضًا ليس بالأمر المضمون.

ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (يونس: 53)

شرح الكلمات:

الخُلد: البقاء والدوام. خَلَدَ يخلد خلودًا: دام وبقي. خلد الرجل خَلدًا وخلودًا: أبطأ عنه المشيبُ وقد أسنّ. وخلد بالمكان وإلى المكان: أقام به. خلد إلى الأرض: لصق بها واطمأن إليها. (الأقرب)

التفسـير:

المراد من قوله تعالى ذوقوا عذاب الخلد أنه سيصيبكم عذاب مقيم فيكم لاصق بكم. ولكن ذلك لا يعني أنه عذاب غير زائل أبدًا، وإنما هذا أسلوب لبيان شدة العذاب، والمراد أنه إذا أصابكم فلن تستطيعوا ردّه عنكم. مثلما إذا جاء صاحب البيت فلا يمكن لمن هو فيه أن يردّه عن الدخول فيه قائلا: اذهب، لا مكان لك هنا، كذلك العذاب إذا حل بكم فلن تقدروا على رده ومنعه.

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (يونس: 54)

شرح الكلمات:

إيْ: حرفُ جوابٍ بمعنى نَعم، ولا تقع إلا قبل القَسم (الأقرب)

التفسـير:

إن الشرير الذي لا يملك جوابًا يلجأ إلى الاستهزاء والسخرية. يقول الله تعالى لرسوله الكريم: إن هؤلاء الأشرار -لعجزهم عن دحض هذه البراهين- سوف يأخذون  بالاستهزاء بك وسوف يسألونك بوجوه تعلوها الجِدّية في الظاهر: هل نبأ العذاب هذا حق فعلاً؟ فلا تكترث بسخريتهم ورُدَّ عليهم: نعم، أُقسم بربي إنه لحق وإنه لاحق بكم لا محالة.

والمراد من نبأ العذاب هنا عذاب قومي، كما ذُكر ذلك في موضع آخر من القرآن: عَمَّ يتساءلون. عن النبأ العظيم (النبأ: 2 و3)

وباستخدام لفظة (ربي) عرض الله حالة النبي في ذلك الوقت كدليل على صدق دعواه، ونبّه الكفار قائلا: انظروا كيف أن الله تعالى بعث رسولاً، ثم لم يزل يدرّجه في منازل الرقي شيئًا فشيئًا، ويزيده قوة على قوته؛ ومن جهة أخرى ما زال يكسر شوكتكم، ويضعف قوتكم بالتدريج. وبإمكانكم أن تدركوا من ذلك بكل سهولة أن الوقت قادم حينما يكون الانتصار الشامل حليفه وتكون الهزيمة القاضية نصيبكم. فاستهزاؤكم بهذا  النبأ، إن دَلَّ على شيء فإنما يدل على غبائكم، وإلا لـما شككتم  في صحة موقفه أبـدًا إن كنتم عاقلين.

آية العذاب لا تنفع طالبها شيئًا، وإنما تنفع غيره. والذي يهلك بالعذاب ويبقى محرومًا من قرب الله تعالى لا يستفيد  من إيمان الآخرين، إضافةً إلى أن إيمانهم أيضًا ليس بالأمر المضمون.

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (يونس:55)

شرح الكلمات:

أسرّوا: أسرّ  السِرَّ: كَتَمه؛ أظهَرَه. (الأقرب)

التفسـير:

من طبيعة الفطرة البشرية أنها تُبدي نوعين من رد الفعل عند حلول العقاب. فالبعض يتمردون وينبرون للمقاومة؛ والبعض الآخر ينهارون تمامًا. ويقول الله تعالى هنا: إن لعذابنا تأثيرًا غير مشكوك فيه وإن له وقعًا كبيرًا ويقينيًا في نفس البشر، يعجز عن احتماله كائنًا من كان، فلا يُبقي في نفسه من الغطرسة والكبرياء شيئًا. ذلك لأن ما يُنـزل الناس بغيرهم من عقوبة لا يعدو تأثيرها الأجسامَ حتى يقهر القلوبَ، اللهم إلا الجبناء الذين يصيبهم الهلع والرعب لضعفٍ فطريٍ فيهم. ولكن الله يملك سلطانًا كاملاً على القلوب، فيكون تأثير عذابه على الأجسام والقلوب معًا، وهكذا يتم تطهير القلوب مما فيها من رِجس. فقال: عندما نُنـزل عقابنا بأحد يمتلئ قلبه هلعًا وخوفًا، فيستعد لتضحية كل غالٍ ورخيصٍ ليفوز بالنجاة.

وهناك أيضًا سبب ظاهري لامتلاء القلوب خوفًا من العذاب الإلهي. ذلك أن عذابه يأتي دائما في محله وفي موعد ملائم تمامًا، ولذا تضطر القلوب للاعتراف بصحته وعدالته، وتبدي ندمًا على ما أسلَفَتْ. وعندما تتولد الندامة في الإنسان يحاول أن يتدارك خطأه. وأما عقوبات البشر فقد يخطئون فيها، ولذلك تصمد لها النفوس وتتمرد عليها إذا رأت فيها ظلمًا وتعسفًا.

كما تعني الآية  أن عذاب الله إنما ينـزل بالظالمين الذين يهبّون لمحاربة تعاليمه الحقة. والذي يعارض الحق لا يكون له في الواقع أيّ هدف سامٍ يسعى إليه أو مُثل عليا يضحّي من أجلها، وإنما هي أهواؤه الدنيّة التي تدفعه لمعارضة رسل الله تعالى. والقاعدة أن الذي لا يَتَطَلَّعُ إلى غايةٍ سامية لا يستطيع بذل تضحية كبيرة، وإنما يكون قلبه مصابًا بالخِسّة واللؤم، لذلك عندما يصيبهم  الله بالعقاب لا يستطيعون عليه صبرًا، لكونهم فريسة للأهواء الدنية والرغبات الخسيسة، وإنما يحاولون النجاة بنفوسهم ببذل أي شيءٍ ولو كان غاليًا عزيزًا مما يحميه الإنسان الشريف من كرامة قومية  أو غيرها ولو على حساب حياته. وهذا دليل على خطأ موقفهم، لأنهم لو كانوا على حق لما أقدموا على هذه الخطة الخسيسة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك