قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا

قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا

مصطفى ثابت

تُثار في الغرب مزاعم كثيرة ضد التحدي القرآني القائل بأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله. ويُقال أيضا بأنه ليس بالضرورة من وحي الله تعالى، بل إن محمدًا كان طفرة من بين البشر. إذ يقولون إنه حسب قانون الطفرة يُمكن أن يُؤتى فرد من الأفراد موهبة فائقة أو قدرة خارقة، لا يماثله فيها أحد من البشر.

وعلى هذا.. فإن كان القرآن كتابا فريدا لم يستطع أحد أن يأتي بمثله، فلا يدل هذا بالضرورة على أن ذلك الكتاب من وحي الله تعالى، بل يمكن القول بأن محمدا كان رجلا عبقريا.. وإنه كان طفرة من بين البشر.

اقرأ الرد على هذا البهتان وافحص الدلائل على أن القرآن نزل من عند الله، من خلال كتاب: القرآن معجزة الإسلام الذي سننشره عبر حلقات في هذه الزاوية.   «التقوى»

إن موضوع نزول القرآن من عند الله تعالى من أهم المواضيع التي تُثبت قدسية القرآن. وكما أشرنا سابقا.. إن كل الكتب التي نزلت من عند الله هي كتب مقدسة، ولكن ليست كل الكتب التي يُقال عنها إنها مقدسة قد نزلت من عند الله. والدليل القاطع الذي يُثبت قدسية كتاب من الكتب هو أن الكتاب نفسه يجب أن يُعلن ويؤكد تكرارا على أنه قد نزل من عند الله، وأن الذي يدّعي أن الله تعالى قد أنزل عليه ذلك الكتاب لا بد أن يكون نبيًّا صادقًا.

ومن معاني كلمة النـزول ومشتقاتها أيضا هو الإيجاد فضلا ورحمة من الله للعباد. فإن النـزول إذا وُصِف به شيء لم ينـزل من مكان عال وكان الفاعل الذي أنزله هو الله تعالى، فإن هذا معناه أن الله تبارك وتعالى بفضله وخالص رحمته قد أوجد ذلك الشيء.

وحيث إن بعض الكتب التي يعتقد أتباعها أنها كتب مقدّسة تفتقد هذا الدليل الحاسم، أراد بعض المستشرقين.. أو قل إن شئت بعض الحاقدين من أمثال ذلك الذي نشر كتابه باللغة العربية في النمسا ضد القرآن.. أراد أمثال هؤلاء أن يُقللوا من قيمة هذا الدليل، ويُهَوّنوا من شأنه. بل أرادوا أن يتخذوه دليلا على حقارة شأن الكتاب الذي يقول أنه منـزّل، فإن النـزول يتضمن في رأيهم الهبوط من مكان عال، وعلى ذلك فإن الشيء المنـزّل هو الشيء الذي فقد قدسيته وصار وضيعا، فتنـزلت قيمـته وهبطت مكانته وانحط قدره، وصار خليقا بالأرض لا بالسماء. أما الكتب المقدسة في زعمهم فهي تلك التي أوحاها الروح القدس إلى عباده الأبرار.

وإن دل هذا الرأي على شيء فإنه حتما يدل على غباوة هؤلاء وجهلهم الفاضح بأساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، فهم يفهمون معنى النـزول والتنـزل كما جاء في اللغات التي يزعمون أن كتبهم المقدسة قد أوحيت فيها، وقد اندثرت تلك اللغات ولم يبق منها غير تراجم في لغات أخرى، فيريدون أن يُطبّقوا معاني كلمة النـزول والتنـزيل.. التي جاءت في تلك اللغات الأعجمية.. على القرآن الذي جاء في لسان عربي مبين!

نعم.. إن من معاني النـزول في اللغة العربية هو الهبوط من مكان عال، كنـزول الأمطار من السحاب، وقد ذكر القرآن الحكيم هذا المعنى في قوله تعالى:

وَهُوَ الَّذِي يُرسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلِدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ (الأعراف:57)

غير أن هذا المعنى ليس هو كل ما تتضمنه كلمة النـزول. فإن النـزول معناه أيضا الانتقال من مكان إلى مكان آخر، ولا يتضمن بالضرورة الهبوط من مكان عال. يُقال: نزل لدينا ضيف، ومعناه أنه قد حلّ علينا ضيف أو زارنا ضيف. وفي هذه الأيام.. يسكن الناس في عمارات عالية تتكون من عدة طوابق، وقد يسكن المرء في الطابق العاشر، ومع ذلك لا يقول صعد لدينا ضيف، بل يقول نزل لدينا ضيف. والمسافر يقول: انتقلتُ من تلك البلدة ونزلت في ذلك البلد، مع أن البلدة التي انتقل منها قد تكون على ساحل البحر، بينما البلد الذي نزل فيه قد يكون على ارتفاع آلاف الأقدام فوق سطح البحر. ومعنى السفر والانتقال هذا لكلمة النـزول قد جاء في القرآن المجيد في قوله تعالى:

وَقُل رَّبِّ أَنْزِلْنيِ مُنْزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ   (المؤمنون:30)

ومن معاني كلمة النـزول ومشتقاتها أيضا هو الإيجاد فضلا ورحمة من الله للعباد. فإن النـزول إذا وُصِف به شيء لم ينـزل من مكان عال وكان الفاعل الذي أنزله هو الله تعالى، فإن هذا معناه أن الله تبارك وتعالى بفضله وخالص رحمته قد أوجد ذلك الشيء. وقد جاء النـزول بهذا المعنى في القرآن الكريم في آيات كثيرة. ولكن أولئك الجهلة، أو المتجاهلون، لا يلتفتون إلى تلك المعاني، ويريدون أن يُفسروا القرآن حسب منطقهم المعوج، ويفهمونه تبعا للغاتهم المندثرة ومعانيها القاصرة.

يقول تعالى في كتابه العزيز:

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ (الحديد:27)

هنا يُبين سبحانه أنه أنزل الكتاب وأنه أنزل أيضا الحديد، وليس معنى النـزول هنا هو الهبوط من مكان عال، وإنما معناه الإيجاد فضلا ورحمة من الله للعباد، أي أنه تعالى قد علّم الكتاب لرسله ليتعلم الناس الحق والعدل والقسط، وأنزل أيضا الحديد بأن خلقه للناس وجعل فيه منافع كثيرة  لهم.

كذلك يقول سبحانه:

يَا بَنيِ آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ، ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (الأعراف:26)

هنا يُبين سبحانه أنه أنزل الألبسة والثياب التي يرتديها الإنسان فتقيه حر الشمس وبرد الشتاء، كما أنه أنزل الهدْيَ الرباني ووسائل التقوى والصلاح التي يتزين بها الإنسان، فتغطي عيوبه وتستر ما يُشينه، حتى لكأنها قد صارت لباسا يرتديه.. وذلك هو لباس التقوى. ثم يؤكّد سبحانه على أن إنزاله للألبسة المادية أي الثياب، أو الألبسة الروحانية أي وسائل الهدَى والتقوى، إنما هو خير من عند الله.. أوجده سبحانه لفائدة الإنسان بخالص فضله ورحمته، وأنه من آيات الله لعلهم يذّكرون.

كذلك يقول تعالى في سورة الزمر:

خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فيِ بُطُونِ أُمَّه َاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فيِ ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ، ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (الزمر:7)

ومن الواضح هنا أن الله تبارك وتعالى يحدثنا عن خلق الناس وخلق الأنعام، ومعنى قوله:

وَأَنْزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ

أي أنه خلق لكم بفضله ورحمته ثمانية أزواج من الأنعام.

وأيضا يقول تعالى:

ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ (آل عمران:155)

وهنا يشير الله تعالى إلى أنه أنزل الأمن والنعاس على المؤمنين، وذلك بعد أن أصابهم الهم والغم بسبب أخطار الحرب التي شنها عليهم الكفار. أي أنه بفضله تعالى أوجد في قلوبهم الأمن والاحساس بالاطمئنان، مما جعل النعاس والنوم يغشاهم فتستريح أجسادهم حتى يعاودهم النشاط والحيوية. وفي مناسبة أخرى يذكر سبحانه أنه أنزل عليهم السكينة بعد أن أصابهم الخوف بسبب هزيمتهم أمام أعدائهم فاستطاعوا أن ينتصروا عليهم:

ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (التوبة:27)

ومن الواضح أن السكينة والأمن والنعاس والأنعام والثياب والحديد كلها أمور يعطيها الله تعالى الناسَ بفضله ورحمته، وهي لا تهبط من مكان عال، ولا تنتقل من أعلى إلى أسفل. وفي حقيقة الأمر.. فإن الله يشير إلى أنه ما من شيء إلا وهو سبحانه الذي يملكه ويتصرف فيه، وأنه يوجده بفضله وخالص رحمته. يقول تعالى:

وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (الحجر:22)

كما يشير تعالى إلى أنه قد أنزل الرسول أيضا بهذا المعنى، أي خلقه وأوجده وبعثه وأرسله من فضله رحمة بالناس، فيقول سبحانه:

قَدْ أَنْزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (الطلاق:11-12)

إن هذا المعنى لكلمة نزل وأنزل ومشتقاتها كان غائبا عن أذهان أولئك الذين حاولوا الإساءة إلى القرآن بادعاء أنه بنـزوله قد انتقل من مكان عال إلى مكان سُفلي، وعلى ذلك فإن هذا النـزول في رأيهم يحط من قدره وينتقص من مكانته. ولعل هذا المعنى كان غائبا أيضا عن أذهان أولئك الذين زعموا أن عيسى عليه السلام قد صعد إلى السماء بجسده وروحه، وأنه يعيش فيها منذ ما يقرب من ألفي عام، لأن رسول الله قد أشار في بعض أحاديثه الشريفة إلى نزول المسيح ابن مريم في آخر الزمان. وهؤلاء حينما قرأوا في أحاديث الرسول قوله: “كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم…” (البخاري)، ظنوا أن النـزول هو الانتقال من أعلى إلى أسفل، ولذلك فقد زعموا أنه لم يمت كما يموت بقية البشر، وكما مات من سبقه ولحقه من الأنبياء الكرام بما فيهم سيد البشر أجمعين، بل ظنوا أنه يعيش في السماء، وأنه سوف ينـزل منها في آخر الزمان.

ولعل هذا المعنى كان غائبا أيضا عن أذهان أولئك الذين زعموا أن عيسى عليه السلام قد صعد إلى السماء بجسده وروحه، وأنه يعيش فيها منذ ما يقرب من ألفي عام، لأن رسول الله  قد أشار في بعض أحاديثه الشريفة إلى نزول المسيح ابن مريم في آخر الزمان.

لقد انتشرت هذه الإسرائيليات بين المسلمين انتشارا واسعا، ولا عجب في ذلك.. فإن أعدادا كبيرة من بين النصارى قد دخلوا في الإسلام. وربما لم يستطع الكثير من هؤلاء أن يتخلوا عن أفكارهم وعقائدهم التي نشأوا عليها وتعلموها. ولعل أهم ما أخذوه من الإسلام كان توحيد الله تعالى وعدم تأليه المسيح، ولكن الكثير من أفكارهم الأخرى ظل قابعا في قلوبهم وعقولهم. لذلك فقد تسرب إلى المفاهيم الإسلامية على مر الأزمان الكثير من العقائد والعادات المسيحية واليهودية، وهذه ما يُطلق عليها اسم الإسرائيليات. وقد كان من بينها فكرة صعود المسيح عليه السلام بجسده إلى السماء ونزوله منها إلى الأرض في آخر الزمان.. رغم أن القرآن الكريم يُقرر بأن الله تعالى هو الذي توفاه، وأنه لم يُقتل ولم يُصلب بيد أعدائه، وأنه تعالى قد رفعه إليه.. أي أنه قرّبه إليه ورفع قدره ومكانته، وأنه لن يعود مرة أخرى إلى هذه الحياة الدنيا حيث إن الله تعالى كتب على الإنسان موتة واحدة، وقدّر الله في القرآن الكريم أن يمسك النفس التي قضى عليها الموت. وعلى ذلك فإن المقصود من الأحاديث الشريفة التي تذكر “نزول” المسيح عيسى ابن مريم هو أن الله تعالى.. بخالص فضله ورحمته.. سوف يخلق من يُماثل المسيح عيسى ابن مريم. ولا يعني نزوله هو انتقاله من السماء إلى الأرض أو نزوله من مكان عال، بل يعني تماما ما بينته الآيات السابقة عن نزول الأمن والنعاس والسكينة والثياب والأنعام والحديد ونزول رسول الله وكل ما ينـزله الله تعالى من لدنه بقَدَر معلوم. وأما استخدام اسم “المسيح عيسى ابن مريم” فإن هذا يدل على المشابهة والمماثلة، وهو أسلوب معروف في اللغة العربية.. إذ من الجائز إطلاق اسم الشيء على ما شابهه، كما ذكر ذلك القرآن الكريم نقلا عن النسوة اللاتي قلن عن يوسف عليه السلام إنه ليس بشرا بل هو ملاك كريم:

وَقُلْن حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيم (يوسف:32)

وأيضا كما أطلق القرآن لفظ الشياطين على الناس في قوله تعالى:

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا (الأنعام:113)

وكما سميـت المرأة حـرثا لزوجها:

نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ (البقرة:224)،

وشُبِّه الأزواج باللباس:

هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ (البقرة:188)،

وأيضا سُمِّي الليل لباسا:

وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا (النبأ:11).

وعلى هذا فإن المقصود من اسم “المسيح عيسى ابن مريم” الذي ورد في الأحاديث الشريفة هو مجيء رجل يشابه المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، ولكنه يكون من بين المسلمين الطائعين لله ورسوله، فيجتبيه الله تعالى ويجعله مثيلا للمسيح. وهذا ما قالت به أيضا طائفة من المسلمين الأقدمين الذين توغلوا في استنباط الحقائق ودقائق القرآن الكريم والحديث الشريف، فقالوا إن المراد من نزول ابن مريم مجيء رجل يشبه عيسى ابن مريم في الفضل والشرف. وقد جاء هذا في كتاب: (خريدة العجائب وفريدة الغرائب لابن الوردى) ما نصه:

“قالت فرقة: نزول عيسى.. خروج رجل يشبه عيسى في الفضل، كما يُقال للخَيِّرِ مَلَكٌ وللشرير شيطان، تشبيها بهما ولا يُراد بهما الأعيان” (ص205)

أي إن المقصود من ذكر اسم “المسيح عيسى ابن مريم” في الأحاديث الشريفة التي ذكرت نزوله في آخر الزمان هو خروج رجل يشبه المسيح عيسى بن مريم في الفضل، فيُطلق عليه اسمه من باب المشابهة والمماثلة، كما يُطلق في اللغة على الرجل الطيب الخَيِّر أنه مَلَك، ولا يُقصد أنه قد تحول إلى ملاك بالفعل، وكما يُقال للإنسان الشرير الذي يحض على المعصية والفساد إنه شيطان، ولا يُقصد بالطبع أن ذلك الإنسان هو عين الشيطان الذي لعنه الله تعالى.

وخلاصة القول.. إن نزول أمر ما أو شيء ما أو شخص ما قد يعني أن الله يوجده من فضله تعالى رحمة بالناس، وعلى ذلك فإن النـزول يتضمن الفضل والرحمة. وبهذا فإن قدسية القرآن الكريم تقتضي أن يكون منـزّلا، لأنه رحمة وفضل من الله تعالى.

يقول سبحانه مشيرا إلى هذا الفضل العظيم:

وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (النساء:114) قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِمَا فيِ الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ *  قُل بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون (يونس:58-59)

وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ في كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فيِ قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْـلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ   (الحجرات:8)

هذا هو فضل الله تعالى الذي أنزله على المؤمنين، وهذه نعمته التي أنعم بها على عباده، وهذه رحمته التي آتاها الناس، ولكن الكافرين لا يودون أن يُنَزَّلَ هذا الخير والفضل على المؤمنين. يقول تعالى:

مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَالله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ   (البقرة:106)

إن أولئك الذين ينكرون قدسية القرآن بإنكار نزوله، أو يزعمون أن في نزوله انحطاطا لشأنه، إنما يعبّرون بذلك عن كراهتهم لما أنزل الله تعالى. وهذه الكراهة التي يجعلها الإنسان في قلبه تجاه فضل الله تعالى الذي أنزله لخيره وهدايته، هي التي تعمي بصيرته حتى لا يرى ذلك الخير، وهي التي تضع غشاوة على عينيه فلا يبصر ذلك الفضل، وهي التي تصم أذنيه فلا يسمع آيات الله المنـزلة. ولذلك فهم لا يؤمنون ولا يبصرون ولا يسمعون إلاّ إذا تخلوا عن تلك الكراهية التي تملأ قلوبهم. وبسبب هذه الكراهية فإنهم يحاولون أن يطمسوا الحقائق ويطفئوا نور الله بأفواههم، ولكن كل أعمالهم هذه مقضيٌّ عليها بالفشل، ولن يصيبهم إلاّ الضلال والإحباط كما يقول تعالى:

وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَآ أَنْزَلَ الله فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (محمد:9- 10)

ولعل هذا يأخذنا إلى الدليل الثاني الذي يـدل بدلالة واضحة على أن القرآن كتاب من وحي الله تعالى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك