وفاة المسيح عليه السلام

وفاة المسيح عليه السلام

مصطفى ثابت

السيرة الطاهرة (9)

لقد أوضح القرآن الكريم.. تمام الوضوح.. أن عيسى لم يُقتل ولم يُصلب، وأن الله تعالى قد توفاه، أي أنه لم يمت بيد أعدائه، بل مات موتة طبيعية. كذلك يؤكد الكتاب الحكيم بأدلته القرآنية.. على أن البشر لا يستطيع أن يصعد إلى السماء ويعيش فيها بجسده العنصري. فمثلا يقول تعالى:

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ $ إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُـوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَـرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَـةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (آل عمران: 55-56)

وتدل هذه الآية بكل وضوح.. على أن المسيح قد مات، وتوفاه الله تعالى وفاة طبيعية، كما يتوفى سائر البشر، وكما توفى سيد الخلق أجمعين . وأنه تعالى قد حفظه من موت اللعنة على الصليب كما خطط ودبر أعداؤه، وأنه سبحانه قد رفعه إليه كما يرفع إليه العباد الصالحين والمقربين.

إن هذه الآية تُظهر بطلان الفرية الكبرى.. والبهتان العظيم.. الذي ألصقه النصارى بعيسى بن مريم ، أنه قد مات على الصليب ليحمل اللعنة من على البشر، وعلى ذلك.. فإنه (والعياذ بالله) قد صار ملعونا حسب القانون الإلهي المذكور في التوراة. فالتوراة تنص في سفر التثنية والإصحاح 21:

“وَإِذَا كَانَ عَلَى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا الْمَوْتُ، فَقُتِلَ وَعَلَّقْتَهُ عَلَى خَشَبَةٍ، فَلاَ تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلَى الْخَشَبَةِ، بَلْ تَدْفِنُهُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، لأَنَّ الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ اللهِ. (اَلتَّثْنِيَة 21: 22-23)“.

وقد استدل بولس الرسول بهذا النص لكي يثبت اللعنة على المسيح ، فقال في رسالته إلى أهل غلاطية التي تعتبر جزءا من الكتب المقدسة عند المسيحيين:

“اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ. (رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ 3: 13)

وهكذا.. بإثبات أن المسيح قد مات على الصليب.. يَثبت أنه (حاشا لله) قد صار ملعونا في نظر اليهود وفي نظر المسيحيين. فقد صار ملعونا عند اليهود لأنه -من وجهة نظرهم- افترى على الله كذبا، وادّعى أنه المسيح الموعود لهم، فارتكب بذلك خطية حقها الموت، وكان جزاؤه الصلب على خشبة، ومات بالفعل مصلوبا، فهو بذلك.. وحسب نص التوراة.. قد صار ملعونا.

وأما من وجهة نظر أتباعه المسيحيين.. الذين لم يستطيعوا أن يدفعوا عن المسيح تلك الفرية البشعة.. فراحوا يفلسفونها ويبررونها بأنه قد مات فعلا على الصليب، وأنه قد صار فعلا من الملعونين، ولكنه فعل ذلك تطوّعا ورحمة بالناس، لكي يرفع عنهم لعنة الخطية التي عقوبتها الموت، والتي ورثوها من أبيهم آدم.

وفي الآية القرآنية المذكورة في سورة آل عمران.. يشير الله تعالى إلى تدبير اليهود، وإلى مكرهم لإلصاق اللعنة بالمسيح ، ويُبيّن أن مكرهم قد خاب، وأن تدبيرهم قد فسد، لأنه تعالى لم يقبض روح المسيح نتيجة لمحاولتهم قتله بتعليقه على الصليب، بل أبقاه حيا وشَبّه لهم أنه مات.. أي جعلهم يتخيلون أنه قد مات على الصليب، فأنزلوه وأعطوا جسده لتلاميذه الذين تولوا علاج جروحه، حتى استعاد قوته وهاجر من تلك المنطقة، وبذلك نجّاه الله تعالى من موت اللعنة، وعاش حتى نهاية عمره الذي قدره الله له، ثم توفاه الله وفاة طبيعية. وفي ذلك يقول الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، الذي كان رئيس هيئة كبار العلماء في مصر.. وشيخ الجامع الأزهر.. في كتابه الشهير “الفتاوى”:

“والمعنى أن الله توفى عيسى ورفعه إليه وطهره من الذين كفروا. وقد فسر الألوسي قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ بوجوه منها -وهو أظهرها- إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك وهو كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به ، لأنه يلزم من استيفاء الله أجله وموته حتف أنفه ذلك.”

ثم يقول في ص 64 ما نصه:

“ولست أدري كيف يكون إنقاذ عيسى بطريق انتزاعه من بينهم، ورفعه بجسده إلى السماء مكرا؟ وكيف يوصف بأنه خير من مكرهم مع أنه شيء ليس في استطاعتهم أن يقاوموه، شيء ليس في قدرة البشر؟ألا إنه لا يتحقق مكر في مقابلة مكر إلا إذا كان جاريا على أسلوبه، غير خارج عن مقتضى العادة فيه. وقد جاء مثل هذا في شأن محمد وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ “. (الأنفال: 31) (نقلا عن كتاب الفتاوى)

ولم يستطع الكثير من العلماء إنكار أن معنى قوله تعالى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ هو الوفاة الطبيعية التي تحدث لسائر البشر. ولكن.. لما كان بعض هؤلاء يريدون أن يثبتوا صعود المسيح بجسده إلى السماء فإنهم راحوا يزعمون أن المقصود من قوله إِنِّي مُتَوَفِّيكَ هو الوفاة الطبيعية التي سوف تحدث بعد أن ينـزل عيسى من السماء في آخر الزمان. وهم بذلك يغيرون سياق كلام الله، وكأن الله تعالى في زعمهم كان يقصد أن يقول: يا عيسى إني رافعك إليَّ، ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ومتوفيك. وفي هذا افتراء عظيم على كتاب الله العزيز.. الذي أنزله بنفسه.. وهو سبحانه الذي رتب سياقه. نعم يمكن أن يكون في الأسلوب العربي تقديم وتأخير، ولكن إذا حتم الأسلوب اقتضاء ذلك. أما إذا كان الأمر سرد وقائع معينة، فلا يصح التقديم والتأخير فيها حتى لا يتغير سياق تلك الوقائع. وحتى على افتراض التجرؤ على تغيير سياق كلام الله تعالى، فإن ذلك لا يفيد في إثبات أن المقصود بقوله تعالى: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ هو رفعه إلى السماء، وإنما هو الرفع التقريبي الذي يُقرِّب الله به عباده الصالحين. فقد ذكر في حديث له أن من تواضع لله رفعه، وفي حديث آخر أن من تواضع لله رفعه الله إلى السماء السابعة، وكل تلك الأقوال تدل على التكريم والتقريب، وليس على رفع الجسد العنصري إلى السماء. وفي ذلك يقول الشيخ محمود شلتوت:

“وظاهر أن الرفع -الذي يكون بعد التوفية- هو رفع المكانة لا رفع الجسد، خصوصا وقد جاء بجانبه قوله: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مما يدل على أن الأمر أمر تشريف وتكريم. وقـد جـاء الرفـع في القرآن كثيرا بهـذا المعنى: في بُيُوتٍ أّذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ . نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّنْ نَشَاءُ . وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ . وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا . يَرْفَعُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا …الخ. وإذن فالتعبير بقوله وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وقوله بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ كالتعبير في قولهم لحق فلان بالرفيق الأعلى وفي إِنَّ اللهَ مَعَنَا وفي عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ وكلها لا يُفهم منها سوى معنى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس. فمن أين تـؤخذ كلمة السماء من كلمة إِلَيْهِ ؟ اللهم إن هذا لظلم للتعبير القرآني الواضح، خضوعا لقصص وروايات، لم يقم على الظن بها -فضلا عن اليقين- برهان ولا شبه برهان.” (الفتاوى ص 62)

هذا.. وقد حسم القرآن المجيد مسألة صعود بشر إلى السماء، فاستبعدها كلية على أنها أمر يتعارض مع ما فطر الله عليه البشر، فقد حدث أن طالب مشركو مكة الرسول أن يرقَى إلى السماء ويأتيهم بكتاب يقرأونه، وأبدوا استعدادهم للإيمان به إذا صعد إلى السماء. أما الكتاب فإن الله تعالى كان ينـزله عليه، وهم يعلمون ذلك، وأما الصعود إلى السماء، فما كان لبشر أن يكون له ذلك. ولهذا.. فقد أمره الله تعالى أن يرد على مطالبهم بقوله:

قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً (الإسراء:94)

أما حجة من يقول إن رسول الله قد صعد إلى السماء.. وقابل الأنبياء الذين خلوا من قبل.. فمن المعروف عند جمهور العلماء أن هذا اللقاء كان لقاء روحيا وليس جسمانيا، ويرد الإمام الشيخ محمود شلتوت على هذا الاعتراض فيقول:

“…. ما جاء في حديث المعراج من أن محمدا – – حينما صعد إلى السماء، وأخذ يستفتحها واحدة بعد واحدة فتفتح له ويدخل، رأى عيسى هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية. ويكفينا في توهين هذا المستند ما قرره كثير من شراح الحديث في شأن المعراج وفي شأن اجتماع محمد بالأنبياء، وأنه كان اجتماعا روحيا لا جسمانيا “انظر فتح الباري وزاد المعاد وغيرهما”.

ومن الطريف أنهم يستدلون على أن معنى الرفع في الآية هو رفع عيسى بجسده إلى السماء بحديث المعراج، بينما نرى فريقا منهم يستدل على أن اجتماع محمد بعيسى في المعراج كان اجتماعا جسديا بقوله بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وهكذا يتخذون الآية دليلا على ما يفهمونه من الحديث حين يكونون في تفسير الحديث، ويتخذون الحديث دليلا على ما يفهمونه من الآية حين يكونون في تفسير الآية.” (الفتاوى ص62)

وليس الأمر بطبيعة الحال هو الإقلال من قدرة الله تعالى في أن يرفع من يشاء إلى السماء أو إلى أي مكان يراه، فإن الله على كل شيء قدير.. ولكنه أيضا هو الحكيم الذي لا يتعارض قوله مع فعله. وهو حينما لا يسمح لبشر أن يصعد إلى السماء.. ويعيش فيها ما يقرب من ألفي سنة.. لا يفعل ذلك لأنه.. حاشا لله.. لا يستطيع أن يفعل ذلك، أو لأنه تتضاءل قدرته عن هذا الأمر، فالموضوع لا يتعلق بقدرة الله بتاتا، لأنه سبحانه القادر الذي إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.. وإنما هو لا يأخذ إنسانا بجسده إلى السماء.. لأنه قد قضى وقدّر أن تكون الأرض هي المكان الذي يعيش فيه البشر فقال:

وَلَكُمْ في الأَرْضِ مُسْتَقَرٌ وَمَتَاعُ إِلَى حِينٍ (البقرة:37)

وكذلك قال:

قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تَخْرُجُونَ (الأعراف:26)

 وتقديم الظرف فِيهَا يدل على الحصر.. أي أنكم جميعا.. وبغير استثناء.. تحيون فيها، وتموتون فيها، وتخرجون منها.

كذلك قال تعالى:

أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا  أَحْيَآءً وَأَمْوَاتًا (المرسلات: 26-27)

أي أن الله تعالى خلق الأرض واسعة وكافية للأحياء والأموات، وعلى ذلك فلا مجال لبشر أن يعيش في السماء بجسده العنصري المادي. هكذا قرر الله سبحانه وهكذا قدَّر، وما دام الله تعالى قد قدَّر أمرا فإنه لا يفعل شيئا خلافا لما قدَّره، ولا يأتي في كلامه شيء يخالف قَدَره، لأنه هو الإله الحكيم، وليس للمخلوق أن يعترض على ما قدَّره الله تعالى، أو ينسب لبشر أنه قد خرج من قدر الله، وأنه استثناء خاص من دون بقية البشر.

إن الالتباس قد وقع في أذهان بعض الناس بسبب المعنى الذي تحمله كلمة “السماء” والتعبير القرآني: عِنْدَ اللهِ ، وتصور بعض الناس أن السماء هي مقر الله تعالى. ولكن الله تعالى ليس كائنا ماديا يتحيز في مكان ما، بل هو في كل مكان دون أن يكون له جسد عنصري، وهو في السماء كما أنه أيضا في الأرض، كما يقول سبحانه:

وَهُوَ الَّذِي في السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (الزخرف:85)ويقول أيضا: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ (الحديد: 5)

ويقول عن الإنسان: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (ق:17)

وتدل كل هذه الآيات على أن الله موجود في كل مكان. ولكن هناك آيات تدل على المقام الروحي الذي وصفه التعبير القرآني: عِنْدَ رَبِّهِمْ كما في قوله تعالى:

وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران:170).

وعلى ذلك.. فإن جميع الأنبياء وجميع الشهداء.. هم عند الله تعالى.. وهم أحياء، ليس بأجسادهم التي كانوا يعيشون بها في الدنيا، وإنما تعني حياتهم عند ربهم أنه تعالى قد قربهم إليه، وشملهم بكنفه ورحمته ورضاه.

ولولا الروايات والإسرائيليات، والأفكار المسيحية التي تسربت إلى عقول المسلمين، لما انتشرت فيهم تلك الأفكار الفاسدة عن حياة عيسى في السماء. إذ أن المسلمين الأوائل كانوا يؤمنون بوفاة جميع الأنبياء وانتقالهم إلى الرفيق الأعلى، وعدم عودة أحد منهم إلى الدنيا مرة أخرى. فقد حدث حين توفي رسول الله أن كذّب بعض الناس الخبر، ورفض البعض أن يُصدق أن سيد البشر قد مات كما يموت سائر البشر، وزعم البعض أنه قد ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى.. وأنه سيعود مرة أخرى، وشهر عمر بن الخطاب سيفه، وتوعد بقطع عنق من يقول إن رسول الله قد مات. وفي تلك الأثناء.. جاء أبو بكر.. وألقى كلمته المشهورة: “أيها الناس.. من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”، ثم تلا قوله تعالى:

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَائِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (آل عمران:145)

فلما سمع المسلمون تلك الآية أدركوا أن جميع الرسل قبل محمد قد خلوا وماتوا، ولن يعود منهم أحد إلى الحياة. وعلى ذلك.. لم يكن هناك مفر من تقبل الحقيقة.. بأن سيدهم ومولاهم قد لحق هو الآخر بالرفيق الأعلى. ولو كان من بينهم أحد يظن أو يعتقد، كما كان يظن أولئك المشايخ في زمن سيدنا أحمد .. بأن عيسى حي بجسده في السماء، وأنه سينـزل منها في آخر الزمان، لعارض أبا بكر وذكّره بتلك الحقيقة، ولكن الجميع سكتوا، واقتنع جميع الصحابة باستدلال أبي بكر، خاصة وأنهم كانوا قد سمعوا رسول الله يقول كما ذكره ابن كثير:

“لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي.”

وكما ذكرنا من قبل.. حينما ظهر سيدنا أحمد على مسرح الأحداث، كان عامة المسلمين يعتقدون اعتقادا راسخا بأن المسيح قد صعد حيا إلى السماء، فلما بيّن في كتبه ما يخالف تلك العقيدة.. ثار المسلمون ضده وكفروه هو وجماعته، ولكنه لم يعبأ بذلك، وراح يُبين الحق كما علّمه الله تعالى. واليوم.. قَلَّ أن تجد بين علماء الدين المتنورين، أو من بين فئات المسلمين المثقفين ثقافة دينية صحيحة، من يتمسك بخرافة حياة المسيح في السماء أو نزوله منها بشخصه في آخر الزمان. ونقتبس فيما يلي جزءا من كتاب “مقارنة الأديان” للأستاذ الدكتور أحمد شلبي.. أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بكلية دار العلوم-جامعة القاهرة (الطبعة الثامنة عام 1984) يقول فيه:

ثانيا: إلى أين ذهب عيسى بعد النجاة من المؤامرة؟

لم تتحدث المراجع التاريخية عن المكان الذي ذهب إليه عيسى عقب نجاته من المؤامرة، والذي يرشد له العقل أن عيسى بعد ذلك ترك فلسطين لأن بقاءه فيها كان معناه أن يعثر عليه اليهود والسلطة الحاكمة في يوم من الأيام، وأن ينفذوا فيه الحكم الذي صدر عليه.

وعلى كل حال فقد اختفى السيد المسيح عقب نجاته. واختفت معه أخباره، على أن هناك قولا يرى أن المسيح هاجر إلى بلاد الهند ومات هناك في لاهور، وهو قول ينقصه التأكيد والوثائق.”

(تعقيب: يشير الدكتور أحمد شلبي إلى الرأي الذي كان سيدنا أحمد قد أعلنه وذكر فيه أن المسيح قد هاجر إلى الشرق وانتهى به المقام في كشمير بشمال الهند، وليس في لاهور، ولعل الأمر قد اختلط على فضيلة الدكتور أحمد شلبي)

ثالثا: ماذا كانت نهاية عيسى بعد النجاة:

هل رفع إلى السماء حيا بجسمه وروحه؟

هل استوفى أجله على الأرض وهو مختفٍ ثم مات ودفن جسمه ورفعت روحه إلى بارئها؟

كان هناك اتجاه شاع بين الناس بأن عيسى عندما نجا من المؤامرة رُفع بجسمه وروحه إلى السماء، وكان هذا الرأي يصوّر اختفاءه الذي تحدثنا عنه، ولكن هذا الاتجاه واجه دراسة واسعة قام بها المفكرون في العصر الحديث، واعتمدوا في كلامهم على نصوص قديمة ودراسات موَثقة، وأوشك هذا الاتجاه الجديد أن يقضي على المزاعم القديمة التي كانت تقول برفع السيد المسيح بجسمه وروحه.

وعلى كل حال فينبغي أن نورد دعائم الرأي القديم، وأن نناقش هذه الدعائم لنسهم في تأصيل الرأي الجديد الذي نرتضيه.”

(تعقيب: لم يذكر الأستاذ الدكتور أحمد شلبي أن هذا الرأي الجديد كان قد نادى به الإمام المهدي والمسيح الموعود سيدنا أحمد ، وأنه عانى بسبب ذلك شديد الاضطهاد هو وجماعته من علماء وقته. غير أننا نحيي شجاعة الأستاذ الدكتور أحمد شلبي لقبوله الحق، ومساهمته “في تأصيل الرأي الجديد الذي نرتضيه” على حد قوله).

” بُني الرأي القديم على فهم غير دقيق للآيات والأحاديث التالية:

  • قوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا $ بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ (النساء: 158-159).
  • وقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (آل عمران:56)
  • ما ورد في البخاري ومسلم من أن رسول الله قال: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينْزل فيكم ابن مريم حاكما عادلا مقسطا، يكسر الصليب ويقتل الخنْزير….
  • ما ورد في مسلم من أن عيسى سينْزل في آخر الزمان فيقتل المسيح الدجال.

مناقشة هذه الأدلة وردها:

ويناقش جمهور المفكرين المسلمين هذه الأدلة فيقولون إن عيسى بعد أن نجا من اليهود عاش زمنا حتى استوفى أجله، ثم مات ميتة عادية ورُفعت روحه إلى السماء مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء، وقد ورد النص برفع عيسى -مع أن روحه سترفع بطبيعة الحال لأنه نبي- تكريما لمكانته بعد التحدي الذي واجهه من اليهود، فذكر الله نجاته، ثم مكانته التي استلزمت رفع روحه.

ويقولون عن الآية الأولى بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ إنها تحقيق الوعد الذي تضمنته الآية الثانية إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فإذا كان قوله تعالى بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ خلا من ذكر الوفاة والتطهير واقتصر على ذكر الرفع فإنه يجب أن يُلاحظ فيها ما ذُكر في قوله إِنِّي مُتَوَفِّيكَ… جمعًا بين الآيتين.

ويرى هؤلاء العلماء أن الرفع معناه رفع المكانة وقد جاء الرفع في القرآن بهذا المعنى كثيرا، قال تعالى:

في بُيُوتٍ أّذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ (سورة النور: 37) نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّنْ نَّشَآءُ (سورة الأنعام: 84)

وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (سورة الشرح: 5)

وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (سورة مريم: 58)

يَرْفَعُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (سورة المجادلة: 12)

وإذن فالتعبير بقوله وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وقوله بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ كالتعبير في قولهم: لحق فلان بالرفيق الأعلى، وفي إِنَّ اللهَ مَعَنَا (سورة التوبة: 40) وفي عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (سورة القمر: 56)، وكلها لا يُفهم منها سوى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس (الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت: الفتاوى ص56).

وهناك آية كريمة أقوى دلالة من آيات الرفع، ولكنها مع هذا لا تعني سوى خلود الروح لا الجسم، وهي قوله تعالى:

وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ $ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ (سورة آل عمران: 170-171)

فمع أن الآية قررت أنهم أحياء فليس معنى هذا حياة الجسم، فجسم الشهـيد قد وُوري التراب، ومـع أنها قـررت أنهم عِنْدَ رَبِّهِمْ وأنهم يُرْزَقُونَ … فليس المقصود هو العندية المكانية، ولا الرزق المادي، وإنما المقصود تكريم الروح بقربها من الله قرب مكانة والاستمتاع باللذائذ استمتاعا روحيا لا جسمانيا.

وعن الحديثين يجيب الباحثون بإجابتين:

أولا: هما من أحاديث الآحاد وهي لا توجب الاعتقاد، والمسألة هنا اعتقادية كما سبق.

ثانيا: الحديثان ليس فيهما كلمة واحدة عن رفع عيسى بجسمه، وقد فُهِمَ الرفع من نزول عيسى، فاعتقد بعض الناس أن نزول عيسى معناه أنه رُفِعَ وسينْزل، وهكذا قرر هؤلاء أن عيسى رُفِعَ لمجرد أن في الحديثين كلمة ينْزل، مع أن اللغة العربية لا تجعل الرفع ضرورة للنّزول. فإذا قلت نزلت ضيفا على فلان، فليس معنى هذا أنك كنت مرتفعا ونزلت. وإذا رجعنا إلى مدلول هذه الكلمة (نزل – وأنزل) في القرآن الكريم، وجدنا أنه لا يتحتم أن يكون معناها النّزول من ارتفاع، بل قد يكون معناها: جعل، أو قدَّر، أو وقع، أو منح، قال تعالى:

وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ (سورة الحديد: 26) أي جعلنا في الحديد قوة وبأسا.

وقال: وَقُل رَّبِّي أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (سورة المؤمنون: 30) أي قدِّر لي مكانا طيبا.

وقال: فإِذّا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ (سورة الصافات: 178) أي وقع.

وقال: وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ (سورة الزمر: 7) أي منحكم وأعطاكم.

وهكذا يتبين لنا أن كلمة ينْزل في الحديثين -لو صح هذان الحديثان- ليست إلا بمعنى يجيء، ومن الممكن أن يحيي الله عيسى ويرسله على شريعة محمد قبل قيام القيامة، وليس ذلك بمستبعد قط على الله، والاستنتاج الذي قال به هؤلاء خروج بالكلمات عن مدلولها، فالرفع ليس من كلمات الحديث الشريف بل من تفكير بعض قارئي الحديث وليس من حقهم أن يضيفوا إلى الحديث ما ليس منه وما لا تستدعيه ألفاظه.

(تعقيب: لقد خان التوفيق الأستاذ الدكتور في قوله: “ومن الممكن أن يُحيي الله عيسى ويرسله على شريعة محمد قبل قيام القيامة”، ليس لأن هذا الإحياء مستبعد على الله، ولكن لأنه يتعارض مع كلام الله تعالى في كتابه العزيز. فهو الذي قال:

فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ (الزمر:43)

وقال: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (الأنبياء:96)

وقال: وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (المؤمنون:101)

وقال عن أهل الجنة: لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى (الدخان:57)

فرجوع الميت إلى هذه الحياة.. رجوعا جسديا حقيقيا بحيث يستأنف الميت حياته في هذه الدنيا ويتزوج ويولد له.. أمر يتعارض مع ما قرره وما قدّره الله تعالى. أما ما كان يبدو في الماضي قبل نزول القرآن أنه رجوع لتحقيق معجزة يريد الله تعالى أن يحققها على يد بعض أنبيائه، فهذا أمر يختلف لأنه يمكن أن يتم عن طريق الكشف والرؤيا، فلا يُعد رجوعا حقيقيا، وقد أوضح القرآن الأمر ومنع رجوع الموتى ليستأنفوا حياتهم في الدنيا. ولو كان من الممكن أن يعود أحد إلى الحياة لكان من الأوْلى أن يعود سيد البشر الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين).

ثم نستأنف الآن كلام الدكتور أحمد شلبي:

“وهناك آيتان اختلف المفسرون في تفسيرهما، وجاء في بعض ما قيل عنهما أنهما تدلان على نزول عيسى في آخر الزمان، وهاتان الآيتان هما:

وَإِن مِّنْ أَهْلِ الَكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلِ مَوْتِهِ (النساء: 160). وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا (الزخرف: 62).

فعن الآية الأولى يرى بعض المفسرين أن الضمير في بِهِ وفي مَوْتِهِ عائد على عيسى ويكون المعنى على ذلك عندهم أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بعيسى قبل أن يموت عيسى أي سيؤمنون به عند عودته آخر الزمان، ولكن هذا مردود بما ذكره مفسرون آخرون من أن الضمير في بِهِ لعيسى وفي مَوْتِهِ لأهل الكتاب، والمعنى أنه ما من أحد من أهل الكتاب يدركه الموت حتى تنكشف له الحقيقة عند حشرجة الروح فيرى أن عيسى رسول ورسالته حق، فيؤمن بذلك، ولكن حيث لا ينفعه إيمان (الشهيد سيد قطب: في ظلال القرآن ج6ص14).

وأما عن الآية الثانية: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ… فيرى بعض المفسرين أن الضمير في إِنَّهُ راجع إلى محمد أو إلى القرآن، على أنه من الممكن أن يكون راجعا -كما يقول مفسرون آخرون- إلى عيسى لأن الحديث في الآيات السابقة كان عنه. فالمعنى وإن عيسى لعلم للساعة، ولكن ليس معنى هذا أن عيسى سيعود للنّزول بل المعنى أن وجود عيسى في آخر الزمان (نسبيا) دليل على قرب الساعة وشرط من أشراطها، أو أنه بخلقه بدون أب، أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث.

وعلى كل حال فنُزول عيسى في آخر الزمان على فرض حدوثه ليس معناه رفعه حيا بجسمه كما سبق القول، ثم إن الدليل إذا تطرق له الاحتمال سقط به الاستدلال كما يقول علماء الأصول، وفي هذه الأدلة أكثر من الاحتمال، بل فيها اليقين عند الأكثرين.” (ص56-61)

ثم يستطرد الأستاذ الدكتور أحمد شلبي في نفس المرجع السابق فيقول:

رفع روح عيسى لا جسمه:

ونجيء الآن لإيراد بعض التفاصيل والأدلة التي ترى أن عيسى مات كما مات كل الأنبياء والصالحين وغيرهم، وأن جسمه قد دفن كما دفنت أجسام الأنبياء وغيرهم، وأن الذي رُفع هو روحه:

وبادئ ذي بدء أذكر أن ندوة كبيرة أقامتها مجلة “لواء الإسلام” في أبريل سنة 1963 عن هذا الموضوع، وقد اشترك فيها مجموعة من العلماء الأفذاذ، واتفق الجميع على مبدأين مهمين هما:

1- ليس في القرآن الكريم نص يلزم باعتقاد أن المسيح قد رفع بجسمه إلى السماء.

2- عودة عيسى جاءت بها أحاديث صحاح، ولكنها أحاديث آحاد، وأحاديث الآحاد لا توجب الاعتقاد، والمسألة هنا اعتقادية فلا تثبت بهذه الأحاديث (عدد ذي الحجة 1380هـ أبريل1963 ص263).

وسنقتبس مما قاله هؤلاء العلماء بعد قليل عن موت عيسى ودفنه وصعود روحه إلى بارئها مع أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء.

وعلى كل حال فالعلماء الذين يرون أن الذي رفع هو روح عيسى لا جسمه يعتمدون أساسا على الآيات القرآنية التالية:

3- إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ (آل عمران: 56).

فهذه الآية تذكر بوضوح ما سبق أن ذكرناه، أي وفاة عيسى وتطهيره وحمايته من أعدائه، وتجعل عيسى ضمن أتباعه إلى الله مرجعهم.

4- مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (المائدة: 118).

وواضح من الآية وفاة عيسى ونهاية رقابته على أتباعه بعد موته وترك الرقابة لله.

5- وقوله تعالى حكاية عن عيسى:

وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا

والآية واضحة الدلالة على أن عيسى ككل البشر يولد ويموت ويبعث، وكل ما يخالف ذلك تحميل للفظ فوق ما يحتمل.

وقد اشترك في هذا الرأي كثير من العلماء في العصور الماضية وفي العصر الحديث، وفيما يلي نسوق بعض تفاسير لهذه الآيات الكريمة كما نسوق آراء العلماء الأجلاء.

يقـول الإمام الرازي (التفسير الكبير للرازي) في تفسير الآية الأولى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي مُنهي أجلك، وَرَافِعُك أي رافع مرتبتك ورافع روحك إليّ، وَمُطَهِّرُكَ أي مخرجك من بينهم، ومفرِّق بينك وبينهم، وكما عظَّم شأنه بلفظ الرفع إليه خبَّر عن التخليص بلفظ التطهير، وكل هذا يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منْزلته، ويقول في معنى قوله تعالى: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا المراد بالفوقية، الفوقية بالحجة والبرهان. ثم يقول: واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله: وَرَافِعُك هو رفع الدرجة والمنقبة لا المكان والجهة، كما أن الفوقية في هذه الآية ليست بالمكان بل بالدرجة والمكانة.

ويقول الألوسي (انظر روح المعاني للألوسي) أن قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ معناها على الأوفق أني مستوف أجلك، ومميتك موتا طبيعيا، لا أسلط عليك من يقتلك، والرفع الذي كان بعد الوفاة هو رفع المكانة لا رفع الجسد خصوصا وقد جاء بجانبه قوله تعالى: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مما يدل على أن الأمر تشريف وتكريم.

ويرى ابن حزم (الفصل في الأهواء والملل والنحل -عند الكلام عن المسيحية) وهو من فقهاء الظاهر: إن الوفاة في الآيات تعني الموت الحقيقي، وإن صرف الظاهر عن حقيقته لا معنى له، وإن عيسى بناء على هذا قد مات.

وقد تعرّض الأستاذ الإمام محمد عبده إلى آيات الرفع وأحاديث النّزول، فقرر الآية على ظاهرها، وأن التوفي هو الإماتة العادية، وأن الرفع يكون بعد ذلك وهو رفع الروح (إقرأ تفسير المنار عند شرح الآيات السابقة).

ويقول الأستاذ الشيخ محمود شلتوت (الفتاوى ص2 وما بعدها) أن كلمة “توفى” قد وردت في القرآن كثيرا بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلا بجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر، ثم يسوق عددا كبيرا من الآيات استُعمِلت فيه هذه الكلمة بمعنى الموت الحقيقي، ويرى أن المفسرين الذين يلجأون إلى القول بأن الوفاة هي النوم أو أن في قوله تعالى: مُتَوَفِّيك وَرَافِعُك تقديما وتأخيرا، يرى أن هؤلاء المفسرين يحمِّلون السياق ما لا يحتمل، تأثرا بالآية: بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وبالأحاديث التي تفيد نزول عيسى ويرى على ذلك بأنه لا داعي لهذا التفكير، فالرفع رفع مكانة، والأحاديث لا تقرر الرفع على الإطلاق.

ويقول فضيلته إنه إذا استدل البعض بقوله تعالى: وَجِيهًا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (سورة آل عمران: 46)، على أن عيسى رفع إلى محل الملائكة المقربين، أجبناه بأن كلمة الْمُقَرَّبِينَ وردت في غير موضع من القرآن الكريم دون أن تفيد معنى رفع الجسم. قال تعالى:

  وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (سورة الواقعة: 11-12). فَأَمَّا إِن كَانَ مِن الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (سورة الواقعة: 89-90).

عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (سورة المطففين: 29).

أما السيد محمد رشيد رضا، فقد أضاف إلى هذه الدراسة نقطة جديدة هي أن مسألة الرفع بالجسم والروح هي في الحقيقة عقيدة النصارى، وقد استطاعوا بحيلة أو بأخرى دفعها تجاه الفكر الإسلامي كما استطاعوا إدخال كثير من الإسرائيليات والخرافات، وفيما يلي نص كلام هذا الباحث الكبير: ليس في القرآن نص صريح على أن عيسى رُفع بروحه وجسده إلى السماء، وليس فيه نص صريح بأنه ينْزل من السماء، وإنما هي عقيدة النصارى، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الإسلام بثَّها في المسلمين (تفسير المنار ج10 من المجلد الثاني والعشرين).

ويضيف هذا الباحث قوله: وإذا أراد الله أن يصلح العالم فمن السهل أن يصلحه عل يد أي مصلح ولا ضرورة إطلاقا لنُزول عيسى أو واحد من الأنبياء (تفسير المنار الجزء الثالث).

(تعقيب: وهذا بالضبط هو ما قال به سيدنا أحمد ، فليس الله تعالى بعاجز عن أن يخلق نبيا حتى يضطر إلى الابقاء على حياة واحد من الأنبياء القدماء، ولم تخلُ أمة سيد الخلق وأتباع المصطفى من أن يكون بينهم من يليق بمهمة إصلاح العالم حتى يستلزم الأمر نزول نبي كان قد بُعث إلى قوم آخرين).

ثم نستأنف الجزء المقتبس من كتاب د. أحمد شلبي:

“ويقول الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي: ليس في القرآن نص قاطع على أن عيسى رفع بجسمه وروحه وعلى أنه حيٌ الآن بجسمه وروحه، والظاهر من الرفع أنه رفع درجات عند الله، كما قال تعالى في إدريس: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ، فحياة عيسى حياة روحية كحياة الشهداء وحياة غيره من الأنبياء (نقلا عن كتاب الفتاوى للشيخ شلتوت ص74).

ويقول الأستاذ عبد الوهاب النجّار (قصص الأنبياء ص511): إنه لا حجة لمن يقول بأن عيسى رُفع إلى السماء لأنه لا يوجد ذكر للسماء بإزاء قوله تعالى: وَرَافِعُك إِلَيَّ وكل ما تدل عليه هذه العبارة أن الله مبعده عنهم إلى مكان لا سُلطة لهم فيه، وإنما السلطان فيه ظاهرا وباطنا لله تعالى، فقوله تعالى: إِلَيَّ هو كقول الله عن لوط: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي (سورة العنكبوت: 27) فليس معناه إني مهاجر إلى السماء بل هو على حد قوله تعالى: وَمَن يَّخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلى اللهِ وِرَسُولِهِ.. (سورة النساء: 101).

ويقول الأستاذ الشهيد سيد قطب (في ظلال القرآن الجزء الثالث ص87) عند تفسير الآية الأولى من الآيات الثلاث السابقة:

لقد أرادوا قتل عيسى وصلبه، وأراد الله أن يتوفاه وفاة عادية ففعل، ورفع روحه كما رفع أرواح الصالحين من عباده، وطهره من مخالطة الذين كفروا، ومن البقاء بينهم وهم رجس ودنس.

ونجيء الآن إلى الباحث الأستاذ محمد الغزالي وله في هذا الموضوع دراسة مستفيضة نقتبس منها بعض فقرات بنصوصها:

أميل إلى أن عيسى مات، وأنه كسائر الأنبياء مات ورُفع بروحه فقط، وأن جسمه في مصيره كأجساد الأنبياء كلها: وتنطبق عليه الآيـة: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (سورة الزمر: 31) والآيـة: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ (آل عمران: 145) وبهذا يتحقق أن عيسى مات (لواء الإسلام العدد السابق ص 254).

ومن رأيي أنه خير لنا نحن المسلمين وكتابنا (القرآن الكريم) لم يقل قولا حاسما أبدا أن عيسى حي بجسده، خير لنا منعا للاشتباه من أنه وُلد من غير أب، وأنه باق على الدوام مما يُرَوّج لفكرة شائبة الألوهية فيه، خير لنا أن نرى الرأي الذي يقول إن عيسى مات، وإنه انتهى، وإنه كغيره من الأنبياء لا يحيا إلا بروحه فقط، حياة كرامة وحياة رفعة الدرجة.

وأنتهي من هذا الكلام إلى أني أرى من الآيات التي أقرؤها في الكتاب أن عيسى مات، وأن موته حق، وأن موته كسائر النبيين (المرجع السابق ص 255).

ويثير الأستاذ صلاح أبو اسماعيل نقاطا دقيقة تتصل بالرفع فيقول: إن الله ليس له مكان حِسّي محدود حتى يكون الرفع حسّيا، وعلى هذا ينبغي تفسير الرفع على أنه رفع القدر وإعلاء المكانة، ثم إن رفع الجسد قد يستلزم أن هذا الجسد يمكن أن يُرى الآن وأنه يحتاج إلى ما تحتاج إليه الأجسام من طعام وشراب ومن خواص الأجسام على العموم، وهو ما لا يتناسب في هذا المجال (المرجع السابق ص258).

وأحب أن أجيب على من قال إن في مقدور الله أن يوقف خواص الجسم في عيسى، بأن إيقاف خواص الجسم بحيث لا يُرى ولا يأكل ولا يشرب ولا يهرم…. معناه العودة إلى الروحانية أو شيء قريب منها، وذلك قريب أو متفق مع الرأي الذي يعارض رفع عيسى بجسمه.

وبعض الناس يقولون إن عيسى رُفع بجسمه وروحه، فإذا سئلوا: إلى أين؟ وما العمل في خواص الجسم؟ قالوا لا نتعرض لهذا. وهو رد ليس -فيما نرى- شافيا.

ونعود إلى الأستاذ صلاح أبو اسماعيل الذي يتساءل قائلا:

إذا كان رفع عيسى رفعا حسّيا معجزة، فما فائدة وقوعها غير واضحة أمام معاندي المسيـح وجاحدي رسالته؟ وأنا أعتقد أن كلمة مُتَوَفِّيكَ تعني وعدا من الله بنجاة عيسى من الصلب ومن القتل كما وعد محمدا عليه الصلاة والسلام بأن يعصمه من الناس (المرجع السابق ص259).

وبعد.. لقد أثيرت هذه المسألة منذ سنين في فتوى أجاب عليها الأستاذ المراغي والأستاذ شلتوت كما رأينا، وقد قامت ضجة على إثر إذاعة هذه الفتوى، شأن كل جديد يخرج للناس. ومرّ الزمن ورجحت هذه الفكرة وأصبحت شيئا عاديا يدين بها الغالبية العظمى من المثقفين، وطالما وقف كاتب هذه السطور يرفع صوته بها في قاعات المحاضرات بأعرق جامعة إسلامية في العالم وهي جامعة الأزهر وبغيرها من الجامعات وقاعات المحاضرات، وكان الناس يتقبلون هذه الآراء قبولا حسنا، والذي أرجوه أن يرفق المعارضون في تلقي الآراء الجديدة، وأن يفحصوها بروح هادئة.

والله يهدينا سواء السبيل.

Share via
تابعونا على الفايس بوك