في رحاب القرآن
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (130)

شرح الكلمات:

آياتك –جمع آية ولها معان عديدة:

1.آية من الإيواء. آواه: هيأ له ملاذا.

2.كل كلام ينتهي بفاصل لفظي مثل الآيات التي يكون في آخرها علامة انتهائها.

3.العبرة.

4.عين الشيء وشخصه.

5.الجماعة. يقال خرج القوم بآيتهم ولم يَدَعوا وراءهم شيئا (الأقرب).

6.العلامة الظاهرة للشيء، فمثلا كلمات الكتاب آيته لأنها تدل على الموضوع وبالجملة فكل شيء ظاهري يدل على شيء خفي فهو آية.

ويقول بعض النحويين إن أصل الآية من تأيَّا، والتأيِّي هو التثبت والإقامة على الشيء. فإذا كان كل شيء قائما وثابتا في مكان سُمي آية.. مثل الأحجار التي تكون علامة لمرحلة في الطريق كعلامة الميل أو الكيلو متر.

7.البناء العالي.. كقوله تعالى (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) (الشعراء:129) أي تجعلون على الجبال بنايات على سبيل العبث. ويدل هذا على أن البناء على رؤوس الجبال عادة قديمة وليست من بدع أوروبا.

8.الجملة من القرآن الكريم الدالة على حُكم: سورة كانت أو فصلا منها.

9.العذاب-كما في قوله تعالى (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) (الإسراء:60).

الكتاب – لهذه الكلمة عدة معان منها:

  1. الصحيفة، وهي ما يسمى في عرف العالم كتابا؛

2.الحكم؛

  1. الفرض؛

4.الشيء الذي يُجمَع مثل الكتيبة.. وهو جند كبير يجمع ألوية وأمتعة وجنودا. فكلمة الكتاب في الأصل تحمل معنى الجمع والوصل. قالوا كتب القِربة: أغلق فاها. وكتب الحيوانَ: جمع مشفريه بحلقة حتى لا يخرب الزرع مثلا، ومن هنا استخدموا لربط الحروف بالحروف كلمة الكتابة.

ولفظ الكتاب يستخدم على الأكثر للدلالة على الشيء المكتوب، وإن كان يستخدم لكلام معين يمكن أن يُحفظ (الأقرب).

ويستشهد أهل اللغة على هذا المعنى بقول الله تعالى (الـم *ذلك الكتاب)، فيقولون، قد أشير إلى “الـم “بكلمة “ذلك الكتاب”، مع أنه لم ينـزل ولم يكن مكتوبا، مما يدل على أن الكلام غير المكتوب يمكن تسميته كتابا.

ولكن استدلال اللغويين هذا خطأ، لأن “ذلك” ليست إشارة إلى “الـم”، بل إلى سورة الفاتحة التي قد نزلت وكُتبت من قبل. وعلى أي حال، سواء كانت إشارة إلى “الـم” أم إلى سائر سورة البقرة أم إلى القرآن كله.. فلا يُستنتج من هذا المثال أن الكلام غير المكتوب يسمى كتابا، لأن بعض الأمور التي تكون قد قُررت مسبقا تسمى بحسب هذا القرار، وإن كانت لم تقع في ذلك الوقت، مثل الأب الذي يسمى ابنه عبد الرحمان.. فهل يعني ذلك أن ابنه قد وُلد حاملا صفة الرحمن وهو جنين في بطن أمه؟ كلا، وإنما معنى هذه التسمية أنه عندما يكبُر سوف يعمل أعمالا تعكس صفة الرحمان. كذلك ورد في القرآن الكريم عن سيدنا نوح (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) (الشعراء:120)، وليس معنى ذلك أن الله أركب نوحا ومن معه سفينة مكتظة بالركاب من قبل، لأنه كيف يمكن أن تسع السفينة المشحونة نوحا ومن معه؟ فالمعنى أن الله أركبه في سفينة كانت ستمتلئ بركوب نوح وأصحابه فيها. إذن، قد يطلقون اسما على أحد بسبب فعل سيقع منه في المستقبل، وكذلك الحال بالنسبة لقوله ” ذلك الكتاب “،فالإشارة ليست إلى “الـم” ولا يستدل بذلك على أن كلمة “كتاب” استخدمت لشيء غير مكتوب بل هو إشارة إلى أن هذا القرآن سوف يصبح كتابا كاملا لأن الله تعالى قد قرر ذلك.

ويُطلق الكتاب على صحيفة يكون فيه كلام مكتوب كما ورد في القرآن الكريم (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس)(الأنعام:8).

ومن معاني كَتب: قضى، كما في آية (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) (التوبة:51) (المفردات).

فللكتاب عدة معان نستخلص منها ما يلي: الشيء الذي يقيمونه أو يقدرونه أو يوجبونه أو يفرضونه أو يقررونه. كل هذه المعاني تتضمنها كلمة كتاب.

الحكمة – لها عدة معان منها العدل؛ العلم؛ الحلم؛ ما يمنع من الجهل؛ وضع الشيء في موضعه؛ صواب الأمر وسداده (الأقرب).

يزكّيهم –زكّاه: زاده وأنماه. والإنماء على نوعين: أنماه في ذاته أو زوّده بأشياء. والزكاة التطهير (الأقرب). فيعني قوله تعالى (يزكيهم) أنه ينميهم، ويزوّدهم، ويطهرهم. ثم إن التطهير نوعان: ظاهري وباطني.

التفسير:

ثم يدعو إبراهيم قائلا: يا رب، أرْسِل بين القاطنين هنا رسولا عظيما منهم. وتبين كلمة (منهم) أن إبراهيم يريد أن يقول: يا رب، ببعث الرسول سوف يتعلمون كيف ينشئون صلتهم بالكعبة المشرفة ويصبحون عبادك المخلصين الصادقين. ولكن يا رب، لقد أسكنت هنا أولادي لهدفين: الأول أن يعلو اسمك، والثاني أن تكون رفعة اسمك عن طريق أولادي. إننا لم نبنِ بيتك فقط بل أيضا أسكنا أولادنا عنده، كأننا سعينا لرفع اسمك، ولكن في ذلك مصلحة شخصية لنا أيضا، وهي أن يُبعث من بينهم الرسول الموعود. .وليس من خارجهم.

قوله تعالى (يتلو عليهم آياتك).. يقرأ هذا الرسول آياتك عليهم، ويجدد إيمانهم بمعجزاتك، ويبين لهم البراهين والسبل لإنشاء علاقة بالله تعالى.

و(يعلمهم الكتاب).. وتنـزل عليه شريعتك التي لا يطْهر الباطن بدونها، والتي تجعل الإنسان نموذجا كاملا للآخرين، ويعلم الناس هذه الشريعة بنفسه.

و(الحكمة).. وعندما يُبعث هذا الرسول الموعود يا رب.. يكون العقل الإنساني قد بلغ النضج، فلا يكون الإنسان بعقلية طفل يقال له كُن وافْعل، فإذا سأل لماذا.. قيل له لا تسأل، بل افعل ما تؤمر. لقد حدث هذا في زمن عيسى وموسى، ولكن عندما يكون العقل الإنساني قد ارتقى لا يطيع الإنسان بدون معرفة الحكمة من أي أمر. فلا تنـزل عليه صحفًا كنوح، أو شريعة كموسى، أو أحكاما كداود فقط، بل نرجوك أن تبين معها الحكمة والفلسفة وراء أحكامها حتى لا يطيعوك بأجسامهم فقط، بل أيضا بعقولهم وقلوبهم.. أي يعرفوا أن ما يقال لهم وراءه فلسفة ومنطق ومصالح ومنافع. (ويزكيهم).. أي لا يطهر عقولهم فقط، بل بتعليمهم الحكمة يملأ قلوبهم بحبك حتى يتفانوا في ذات الله وتنعكس فيهم الصفات الإلهية، فلا يكونوا مجرد أناس فقط.. بل مرايا ينعكس فيها وجود الله تعالى. وليتبع هذا الرسول طرُقًا وأساليب تؤدي إلى ازدهار أمته.

(إنك أنت العزيز الحكيم).. يا رب، نحن ندرك أن ما سألناك يبدو مستحيلا بعيد المنال في الظاهر، ولم يحدث هذا قط منذ أن خلقت الدنيا، ولكننا نعرف جيدا أنك إله عزيز، ما شئتَ كان ولا ريب، هذا هو شأن ألوهيتك. فأنت القادر على فعل ذلك وإن لم يكن قد وقع من قبل. لذا نسألك أن تبعث هذا الرسول الذي تتحقق على يده كل هذه الأمور.

من الممكن أن يعترض أحد: ما دام الله لم يرسل مثل هذا الرسول من قبل، فلماذا يبعثه الآن؟ ولو كان بعْثُ رسول كهذا ضروريًّا من قبل فلماذا ظلم الله الإنسانية بعدم بعثه؟ لقد دحض ذلك بقوله تعالى (العزيز الحكيم).. أي أنه يعرف أن مثل هذا الرسول لم يكن ليُبعث من قبل.. لأن الناس لم يكونوا ليتحملوا تعاليم محمد . فبقول (أنت العزيز الحكيم) استثار إبراهيم غيْرة الله تعالى، وقال إن مسألتنا معقولة لأننا ندرك أنك قادر على تحقيقها، كما لا نقول إنك ضننت بذلك على الناس بخلا –معاذ الله، بل نعرف أن حكمتك اقتضت ذلك، لأن بعثه لم يكن يناسب الحال. نرى في هذا الدعاء أمرا عجيبا آخر.. ذلك أن إبراهيم قال (ابعث فيهم رسولا) ولم يقل (رُسلا).. مع أنه تلقى عن ذريته نبأ واضحًا يعرف منه أنه سوف يُبعث بينهم عديد من الرسل.. فلماذا يدعو الله ببعث رسول واحد من أبناء إسماعيل؟ ويتبين من ذلك بجلاء أنه كان قد انكشف بالوحي لإبراهيم تماما أن النبي الذي يكون خاتم النبيين، والذي تنتهي بكتابه وحده كل الشرائع. .سوف يبعث من بني إسماعيل.

لقد رأيت أن المنشقين عن جماعتنا عندما يسمعون مني كلمات كهذه يقولون: انظروا إنهم أيضا يؤمنون بأن هناك رسولا واحدا فقط.

إننا لم نرفض قط أن محمدا رسول الله هو الرسول الوحيد الذي لا تنقطع نبوته إلى يوم القيامة.. بل إنما نعتبر نبوة مؤسس جماعتنا – الإمام المهدي والمسيح الموعود – نبوة تابعة لمحمد ، وظلاً لها، والظل لا يكون شيئا مستقلا عن أصله. فليس هنا الآن حكم جديد ولا تعليم جديد ولا أمر جديد ولا هدى جديد، تعليمه هو هو، وهدايته هي هي ، والأحكام التي جاء بها هي هي كما جاء بها وكما وردت في القرآن الكريم تماما. لو كنا نعتبر المسيح الموعود نبيا مستقلا لاقتضى ذلك أن يكون كل شيء جديدا، ولكن الأمر الواقع أن كل ما عندنا هو نفس ما أعطاناه سيدنا محمد . وكل ما حدث هو أن الناس كانوا قد نسوا تعاليم المصطفى ولم يكونوا عاملين بها، لذلك أرسل الله بروزا لمحمد . فنبوته ليست نبوة مستقلة، وإنما في الحقيقة نبوة محمد . ولو دعت الحاجة إلى بعث العديد من النبيين من هذا النوع فلا حرج في ذلك، لأنهم لن يأتوا بدين جديد، وإنما يعملون لإحياء دين محمد رسول الله .

وهنا ينشأ سؤال: ما دام إبراهيم قد أدرك أن نبيا سوف يبعث بينهم، فلماذا دعا مثل هذا الدعاء؟

وكما ذكرت فيما سبق أن السعي لتحقيق أنباء الله في حد ذاته عمل حسن، وأول شيء يقوم به الإنسان لتحقيق نبأ هو أن يتجه إلى الدعاء، ثم يبذل سعيه الدنيوي لتحقيقه. الحمقى يظنون أن على الإنسان الكفَّ عن بذل المجهود بعد وعد من الله، مع أن الإنسان مطبوع على أن يبذل قصارى جهده لتحقيق ما يريده حبيبه. ولما كان أنبياء الله على علاقة حب عميقة معه عز وجل، فإنهم يبذلون كل جهد لتحقيق كلامه، لكي تظهر آيته. فلا محل للاعتراض على دعاء إبراهيم بعد أن تلقى هذا النبأ من الله تعالى، بل إن دعاءه هذا دليل على أنه عاشق صادق لربه. فبغض النظر عن أن الله قادر مطلق القدرة على تحقيق ما يريده بنفسه.. دعا: يا رب، ابعث منهم رسولا عظيمًا. أقول عظيمًا لأن التنوين هنا للتعظيم؛ فالتنوين يأتي أحيانا للتعظيم وأحيانا للتحقير. وهذا الدعاء في رأيي يبين أن إبراهيم وإن كان يدرك أن كثيرا من الأنبياء سوف يبعثون من ذريته، ولكنه كان يتمنى أن يبعث الرسول الأخير الذي يكون سبب نجاة العالم من بني إسماعيل وليس من بني إسحاق، لأن بني إسحاق يكونون قد نالوا من النبوة إلى ذلك الوقت نصيبا كافيا.

إن الكتاب المسيحيين يعترضون عموما على هذا الجانب من دعاء إبراهيم قائلين إنه لا يوجد أي ذكر في التوراة أن الله قطع وعدا مع إبراهيم في حق ذرية إسماعيل، ولو ثبت وجود وعد كهذا، فأي دليل أن محمدا من ذرية إسماعيل؟

فلنتذكر أن دراسة التوراة تكشف أن بني إسحاق كانوا يُكِنون كراهية شديدة تجاه إسماعيل وذريته. ويقال إن سبب ذلك أن جدة بني إسرائيل –السيدة سارة –كانت تكره السيدة هاجر وإسماعيل؛ وليس ببعيد أن ينتقل أثر هذه الكراهية في نسلها، ولذلك أخذ إبراهيم زوجته هاجر وابنهما إسماعيل إلى مكان ناءٍ وتركهما هناك. تقول التوراة:

(ورأت سارة ابنَ هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح. فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها. لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق)(تكوين9:21، 10). وشقَّ هذا القول على إبراهيم أول الأمر، ولكن الله قال له (لا يقبُح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها). (المرجع السابق:12).. أي لا يشق عليك قولها، بل نفِّذ ما طلبته منك.

وتتبين كراهية بني إسحاق وبني إسماعيل من هذا النبأ التوراتي بشأن إسماعيل:(يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه) (تكوين 12:16).

فسبب هذه الكراهية بين بني إسحاق وبني إسماعيل، وبسبب التحريف الذي تعرضت له التوراة.. إذا لم يوجد أي نبأ واضح في حق إسماعيل وذريته.. فليس من العدل أن نرفض شهادة قرآنية على هذا السبب وحده. وكما نستطيع القول –بناء على شهادة التوراة –إنه كان هناك وعد مع بني إسحاق، كذلك نستطيع القول –بناء على شهادة القرآن الكريم – إنه كان هناك وعد مع بني إسماعيل أيضا.

ولو لم يسلّموا بذلك فإننا نجد في التوراة إشارات تبين أن نسل إسماعيل أيضا سوف يرثون نِعَمًا خاصة. ونرى أن الكلمات التي وردت في التوراة في حق بني إسحاق نفسها وردت في حق بني إسماعيل، حيث قيل (وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا. اثني عشر رئيسا يلِد، وأجعله أمة كبيرة) (تكوين:20:17).وقيل عن إسحاق ابن سارة: (فتكون أمما وملوكُ شعوبٍ منها يكونون) (تكوين 16:17). فلا بد لنا إذن من التسليم أنه كما اعتبر بنو إسحاق ورثة لنعم الله كذلك كان بنو إسماعيل ورثة لمثل تلك النعم.

ولو قيل إن إسحاق ورد في حقه: (ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية) (تكوين 21:17)، وأن هذا معناه أن الأنبياء يُبعثون من بني إسرائيل فقط.. فهذا لا يصلح كدليل معقول، لأنه حتى قبل ولادة إسحاق كان الله قد قطع عهدا مع إبراهيم واشترط أن تكون علامة هذا العهد هي الاختتان. (تكوين 17:11)، ونرى أن إبراهيم ختَن إسماعيل أيضا (تكوين 25:17). فلو كان هذا العهد في حق إسحاق وذريته فقد لاكْتفى إبراهيم بختنه لأن العهد كان مقطوعا معه، واكتفى بختن عبيده لأنه أُمر بذلك، أو اكتفى بختن إسحاق. لماذا ختن ابنه إسماعيل البالغ ثلاثة عشر سنة؟ هناك سبب واحد لذلك وهو أن هذا الوعد كان ليتحقق في ذريته أيضا. فاختتان إسماعيل دليل واضح على أنه أيضا كان من أولاد إبراهيم، وكان من المقدر أن يتم هذا الوعد في حقه أيضا. ونجد عادة الختان موجودة على الدوام في بني إسماعيل، وهذا دليل على أن الاختتان لم يكن لإسماعيل وحده، وإنما أيضا لذريته. إذن، فهذا العهد الذي قُطع في حق بني إسحاق كان أيضا في حق بني إسماعيل.

أما عن قول (عهدي أقيمه مع إسحاق) فإنه- نظرا إلى الظروف والقرائن الأخرى –يعني أن بداية هذا العهد الأبدي سوف تكون ببني إسحاق. وبالفعل نرى أن العهد الذي قطع مع إبراهيم في ذريته بدأ تحقيقه في بني إسحاق.

لكن نجد في التوراة عهدا في حق إسماعيل أيضا، لأنه أُمر أيضا بالاختتان كما يتبين من فقرة (وكان إسماعيل ابنه ابن ثلاث عشرة سنة حين خُتن في لحم غرلته)(تكوين 25:17).كما كان هناك في حق إسماعيل وعد بالبركة أيضا (وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. هاأنا أباركه وأكثِّره كثيرا جدا) (تكوين20:17) (…سأجعله أمة عظيمة) (تكوين 18:21). فكان من الضروري أن يشترك إسماعيل أيضا في هذه البركة، وإن لم يكن مشتركا في الوعد الخاص بوقوع أرض كنعان في يد بني إبراهيم، لأن ذلك الوعد كان سيتحقق مع بني إسحاق فقط.

إلا أن اليهود والنصارى يظنون خطأ أن عهد البركة كان خاصا ببني إسحاق وحدهم، مع أن العهد الإبراهيمي كان له جانبان: جانب مُجْمل وجانب مفصَّل. فالعهد المجمل أنني سوف أبارك ذريتك، والمراد من الذرية إسحاق و إسماعيل كليهما. والعهد المفصل أيضا ذو شقين: عهد لإسحاق وعهد لإسماعيل. والعهد لإسحاق أنه سوف يحكم كنعان نسلا بعد نسل. أما إسماعيل فتقول التوراة فقط إن الله وعد في حقه أنه سوف يباركه ويثمره ويكثِّره كثيرا جدا. كيف تحقق وعد البركة هذا في حق إسماعيل؟ لا تجيب التوراة على هذا السؤال، ولكن الجواب موجود في القرآن الكريم الذي يقول إن الله وعد إبراهيم أنه سوف يعطي إسماعيل وذريته الحكم على مكة وما حولها، وأنه تعالى سوف يحمي بلدهم المركزي من هجوم الأعداء دائما، وأنهم سوف يحكمون على تلك المنطقة كلها ماديا وروحيا، وأنه سوف يبعث من ذريته رسولا عظيما يكون سبب هداية للعالم كله.

فمن الخطأ القول إنه لم يكن أي وعد بالبركة في حق بني إسماعيل. إن الشهادة الداخلية للتوراة نفسها تبين أنه كان هناك وعد بالرقي لبني إسماعيل، وكان من الضروري أن يتم في حق بني إسماعيل كما تحقق في حق بني إسحاق.

أما سؤالهم: افترضنا أنه كان هناك وعد في ذرية إسماعيل. ..فأي دليل على أن محمدا كان حقا من ذرية إسماعيل؟ فجوابه الأول أنه ليس ثمة دليل على انتماء شخص كبير إلى شعب معين إلا الروايات المتداولة بينهم جيلا بعد جيل. هل هناك أي دليل على أن شخصا فلانا هو من شعب كذا إلا روايات هذا الشعب بأنه منه؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الداعي لرفض بيان العرب في هذا الشأن؟ كانت قريش تدعي قبل بعث النبي أنهم من بني إسماعيل. وكان العرب كلهم يسلِّمون بذلك، بل كانوا صنعوا تمثالا لإسماعيل ووضعوه في الكعبة. فأي شك بعد ذلك في أن قريشا من بني إسماعيل؟لم يكن لإسماعيل أي صيت دنيوي حتى يُظن أن بعض القبائل العربية انتمت إليه لتنال حظا من هذا الصيت. فكيف يمكن أن نرفض دعوى قوم استمرت فيهم منذ القرون.. وخاصة أنه ليس لديهم أي دافع ليدّعوا بهذا الادعاء؟

والجواب الثاني على كون قريش من بني إسماعيل هو أنه لو كان هذا الادعاء من اختلاقهم. .فأين بنو إسماعيل الحقيقيون ليردوا ادعاءهم ويرفضوه؟ لا نجد أي قوم رفضوا دعوى قريش هذه.

والجواب الثالث: ورد في التوراة أن الله وعد أن يجعل من إسماعيل شعبا كبيرا (تكوين 20:17).. فأين ذلك الشعب الكبير الذي وعد في نسل إسماعيل. هذا النبأ يتطلب أن يُعرف ذلك الشعب، وإلا فلا دليل على تحقق هذا النبأ. فما دامت قريش تدعي بكونها بني إسماعيل فلا بد من قبول دعواها.

فكلا الاعتراضين خطأ، والحق أن الله تعالى وعد بوعود كبيرة لذرية إسماعيل أيضا. وما دام بنو إسحاق قد صاروا فساقا فكان من حق بني إسماعيل خاصة أن يبعث منهم ذلك النبي الذي دعا من أجله إبراهيم.

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك