لسان الحال.. وسيلة لبيان القرآن
  • الأمر بسجود الملائكة لآدم
  • رفض إبليس السجود
  • حقيقة الشيطان

__

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29-30)

شرح الكلمات:

سوّيتُه: سوّى الشيءَ: جعله سَويًّا. وغلامٌ سويٌّ: أي مستوي الأخلاق.. لا داء به ولا عيب. ومنه الدعاء: رَزَقَك الله ولدًا سويًّا (الأقرب).

نفختُ: نفَخ بفمه ينفُخ نَفْخًا ونفيخًا: أخرجَ منه الريحَ. يقال نفَخ في النار ونفَخها. ونَفَخَ شِدْقَيْه: تكبَّرَ. ونفَخ الشيطان في أنفه: تطاوَلَ إلى ما ليس لـه (الأقرب).

روحي: الروحُ: ما به حياةُ الأنفس؛ الوحيُ؛ جبريلُ؛ النفخُ؛ أمرُ النبوة؛ حكمُ الله وأمره؛ وتُطلَق الأرواحُ على ما يقابل الأجسادَ؛ وعند أصحاب الكيمياء على المياه المقطَّرة من الأدوية (الأقرب).

وهذا القول الأخير خطأٌ وقع فيه صاحبُ قاموس “الأقرب” لجهله بهذا الفن، فإن الكيمائيين لا يطلقون الروح على هذا الشيء، وإنما على ما يطفو على المياه المقطرة من الأدوية التي فيها زيت، أو على ما يجمعونه من ماء مركز معطَّر بعد تقطير هذه المياه مرارًا وتكرارًا.

وقد ذكر صاحب “الأقرب” أن الروح يعني جبريل أيضًا، ولكنه ليس معنى حقيقيًّا، بل هو مجاز؛ فإن العرب يطلقون أحيانًا اسمَ المسبب على السبب نفسه، وهذا ما فعله القرآن الكريم أيضًا إذ سمّى جبريل بهذا الاسم المجازي، لأنه ينـزل بالروح أي الوحي الإلهي. الواقع أن الروح في الحقيقة ما ينال به الشيءُ حياةً مميزة لـه عن غيره. فالروح هو ما يميّز الحيوانَ من الأشياء الأخرى، أو ما يميز الإنسانَ عن الحيوانات، أو ما يجعل الإنسانَ ربانيًّا. وإذن فالوحي أيضًا روح، لأنه يهب للإنسان حياة جديدة.

ساجدين: السجود: التذلل. وقوله اسجدوا لآدمَ قيل: أُمِروا بالتذلل لـه والقيام بمصالحه ومصالح أولاده. وقوله: ادخُلوا البابَ سُجَّدًا أي متذللين منقادين (الأقرب).

التفسـير:

يضرب الله تعالى هنا مثالَ أولِ كائنٍ متكامل خُلق عند بداية النوع الإنساني، حيث يخبرنا أن هذا الكائن هو الآخر تلقى الوحيَ، وسُخِّرتِ الملائكة لإنجاز دعوته. مما يدل على أن ظاهرة الوحي وحمايته ليست بأمر جديد، بل ما زالت جارية منذ البداية.

علمًا أن الله تعالى قد أمر – في الظاهر – الملائكةَ بالسجود أي بالانقياد لآدم، ولكن هذا الأمر كان في الحقيقة موجَّهًا إلى كل مخلوق؛ ذلك أن الملائكة هي العلة الأولى لكل الأسباب، فلما أمرهم الله تعالى فكأنما أمر كلَّ من في الكون.

وكان هذا الأمر بمثابة إعلان رباني بأن آدم قد أُعطيَ السيادةَ على سائر المخلوقات الأخرى في الكون، فينبغي على الملائكة – وهي العلة الأولى في الكون – أن يرتبوا النتائج الطبيعية على أعمال الإنسان. فكأن الملائكة قد جُعلوا تابعين لجميع الناس فيما يخص ترتيب نتائج أعمالهم الحسنة أو السيئة وفق النواميس الطبيعية. وهذا قانون عامّ يشمل سائر البشر، ولكن هناك قانون آخر خاص يتبعه الملائكة بصدد البشر، وهو أن الله ينفّذ في زمن الأنبياء قدره الخاص، فمن واجب الملائكة أن يؤيدوا نبيه الذي يكون آدمَ عصرِه، ويحبطوا مكائد أعداءه.

فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31-32)

شرح الكلمات:

إبليس: أَبْلَسَ مِن رحمة الله: يَئِسَ. أبلس في أمره: تحيَّرَ. وإبليس قيل هو مِن أَبْلَسَ بمعنى يئِس وتحيَّر، جمعُه أباليسُ وأبالِسةٌ (الأقرب).

التفسـير:

ثمة سؤال يجب الرد عليه: كان الأمر الإلهي بالسجود لآدم موجَّهًا إلى الملائكة فقط، فلماذا وجه الله اللوم إلى إبليسَ حين لم يسجد لآدم؟ والجواب أن الأمر الذي يوجَّه إلى مدير مكتب مثلاً يكون في الواقع موجَّهًا إلى الموظفين التابعين لـه أيضًا. وعلى سبيل المثال إذا أمر الملِكُ قائدَ الجيش بالهجوم على منطقة ما فالأحرى بجنوده أن ينفّذوا الأمر الملكي، ولا يجوز لأي جندي أن يمتنع عن الهجوم بحجة أن الملِك لم يأمره بذلك. فلما أمر الله الملائكة بترتيب النتائج على أعمال الإنسان أو بتأييد آدم في دعوته اعتُبر الأمر الإلهي موجَّهًا – بشكل تلقائي – إلى الكائنات التي كانت أدنى من الملائكة.

ولقد أوضح الله هذا الأمر أكثر في آية أخرى حيث قال لإبليس صراحةً: ما منَعك ألا تسجدَ إذ أمرتُك (الأعراف: 13). مما يكشف أن الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم كان يشمل إبليس أيضًا، لأنه هو الآخر كان تابعًا للملائكة مثل الكائنات الأخرى.

لقد سبق أن شرحتُ قصة آدم وإبليس في مكانها الأصلي في سورة البقرة، فليرجع إليها من شاء، غير أني أود ذكر أمر من الأمور باختصار.

ليكنْ معلومًا أنه ليس ضروريًّا أن يكون الحوار بين الله وبين إبليس قد وقع هكذا فعلاً، لأن من أساليب لغة الدين وبالأخص اللغة العربية ذِكْرَ بعض الحقائق على شكل حوار أحيانًا، وإن لم يكن قد وقع أي حوار أصلاً. وعلى سبيل المثال تقول العرب: “امتلأَ الحوضُ وقال: قَطْني”.. أي حسبي وكفاني؛ ولا يعني ذلك أن الحوض تكلم فعلاً، وإنما تكلم بلسان حاله (انظر لسان العرب).

ليكنْ معلومًا أنه ليس ضروريًّا أن يكون الحوار بين الله وبين إبليس قد وقع هكذا فعلاً، لأن من أساليب لغة الدين وبالأخص اللغة العربية ذِكْرَ بعض الحقائق على شكل حوار أحيانًا

هذا، وهناك كلمات أخرى خاصة بذوي الأرواح والإرادة، ولكنها تُستخدم للجماد أيضًا على سبيل المجاز؛ فمثلاً ورد في القرآن في سياق الحديث عن سفر موسى مع فتاه إلى قرية من القرى: فوَجَدَا فيها جدارًا يريد أن ينقضَّ (الكهف:78). مع أن الجدار لا عقل له ولا إرادة. وقال أبو منصور الثعالبي الإمام الشهير في اللغة عن الأديب المشهور أبي فراس – الذي كان يُنكر صدق الإسلام وكان شغله الشاغل الطعن في القرآن الكريم – أنه قال لي* يومًا ونحن في دار الوزير العباسي أبي العباس أحمد بن الحسين ننتظر مجيئه: هل تعرف العربَ تنسب فِعلَ الإرادة إلى الجماد؟ فقلت: إن العرب تعبّر عن الجمادات بقولٍ، ولا قولَ لها في الحقيقة، كما قال الشاعر: “امتلأ الحوض فقال قَطْني”، وليس ثمة قولٌ. فردّ عليَّ: لم أسألك عن نسبة القول إلى غير عاقل، وإنما أسألك عن نسبة الإرادة إلى شيء غير عاقل. وكان في الواقع يقصد الطعن في قول الله تعالى فوَجَدَا فيها جدارًا يريد أن ينقضّ . فأيدني الله بأن تذكرتُ قولَ الراعي:

في مَهْـمَهٍ فُـلِقَتْ به هاماتُهافَلْقَ الفـئوس إذا أردنَ نُصولا

أي في فلاة كُسرتْ فيها رؤوس تلك القبيلة، كما تَكسر الفؤوسُ الخشبَ إذا أرادت كسرَها.

ويضيف الإمام الثعالبي وقال: فكأنني ألقمتُه الحجرَ، وسُرّ مَن كان صحيحَ النية، وسوَّد الله وجهَ أبي فراس. (فقه اللغة للثعالبي، القسم الثاني، الفصل السادس والخمسون: فصلٌ في إضافة الفعل إلى ما ليس بفاعل)

وينقل الثعالبي عن أبي محمد اليزيدي قوله: كنتُ والكسائي عند العباس بن الحسن العلوي، فجاء غلام له وقال: يا مولاي، كنتُ عند فلان فإذا هو يريد أن يموت. فضحِكنا. فقال العباس بن الحسن: مِمَّ ضحكتما؟ قلنا: مِن قوله: “يريد أن يموت”. وهل يريد الإنسان أن يموت؟ فقال العباس: قد قال الله تعالى فوجَدَا فيها جِدارًا يريد أن ينقضّ فأقامَه ، وإنما هذا بمعنى يكاد. ففهِمْنا المراد. (المرجع السابق)

وإذًا فتقدير الأمر والشيء بظاهر حاله أيضًا يسمى قولاً منه وإرادةً. والحق أن حادث آدم وإبليس أيضًا كان من هذا القبيل، فقد عبّر الله تعالى عن حال الملائكة على شكل حوار منهم، مع أنهم لم يقولوا شيئًا بلسانهم. وقد اختار الله تعالى هذا الأسلوب لأن هذا الحادث كان في الزمن القديم، وكانت عادة الناس في القديم أن يُكثروا في حديثهم مِن التشبيه والمجاز لاعتقادهم أن لغة التمثيل أشد تأثيرًا. ونجد شتى الكتب السماوية السابقة أيضًا تسرد قصة آدم على هذا المنوال نفسه، واتبع القرآنُ الكريم الأسلوبَ العربي القديم نفسه في بيان هذا الحادث ليستوعبه الناس بسهولة.

وقد كثر التشبيه والاستعارة في الأسفار القديمة حتى إنها بينت الصفاتِ الإلهية أيضًا بلغة تمثيلية. فمثلاً نجد فيها التعابير التالية: إن الله يجيد الرماية. إنه يصل إلى كل مكان على عربة سريعة. إنه يتندم على عقاب العباد. إن لـه أيادي وأرجلاً. (المزامير 16: 11، و18: 9، و18: 14، و21:8، و64:7، و77:17، وزكريا 9: 14، وتكوين 8: 21، 9: 10 -11). ولا جرم أن هذا الكلام كله من عند الله تعالى، ولكنه ليس حقيقة، بل هو مجاز؛ ذلك أن الإنسان إذ ذاك كان في بداية تطوره وغير ناضج عقليًّا، فاستخدم الله في تلك الكتب هذا الكلام المجازي ليسهل على الإنسان فهمُ تلك الأمور.

غير أن القرآن الكريم هو الوحيد بين سائر الكتب الذي غيّر هذا الأسلوب، فمع أنه استخدم المجاز والاستعارة والتمثيل بدون شك، ولكن في أماكن قليلة جدًّا، وبهدف تغيير الطعم فحسب، وإلا فإنه قد بيّن القضايا الحيوية كلها بلغة صريحة واضحة تمامًا. وإذا ذكر في مكان أمرًا من الأمور بلغة التمثيل فقد تحدث عنه في مكان آخر بكلام واضح جلي، صرفًا لأي لبس أو غموض.

وقصارى القول إن الحوار الذي سجّله القرآن الكريم في حادث آدم ليس حوارًا حقيقيًّا، وإنما هو من قبيل لسان الحال.

والكتب الهندوسية أيضًا تذكر قصة الصراع بين قُوى الخير والشر على شكل حوار، وقصة “هريش تشندرا” في التراث الهندوسي خير مثال على ذلك.

والتوراة أيضًا سردت قصة الصراع بين قوى الخير والشر على شكل حوار، حيث ذكرت أن الملائكة والشيطان مثلوا أمام الرب ذات يوم، وتحدثوا عن صلاح أيوب، فقال الشيطان لله تعالى: هل مجّانًا يتقي أيوبُ الربَّ؟ إنه يتقيك لأنك قد أعطيتَه كل شيء. فسمح الله له باختبار أيوب. (انظُرْ أيوب ا: 6 – 13)

وكان هذا الكلام المجازي أحد الموانع التي حالت دون إيمان أهل الكتاب بنبينا ، ذلك أن الوحي النازل عليه قد بيّن هذه الأمور الروحانية بعبارات صريحة واضحة مكتفيًا بشيء يسير من هذه التمثيلات، في حين كان أهل الكتاب قد أخطئوا فهم ما ورد في كتبهم من استعارات ومجازات حول صفات الله، والملائكة، والوحي والنبوة، واعتبروها حقيقة، فلما ذكرها القرآن بلغة واضحة صريحة، أُخذوا بالدهشة والحيرة، وظنّوا أن ما يذكره القرآن باطل ومخالف لما جاء في التوراة.

علمًا أنه بالرغم من أن القرآن الكريم قد ذكر قصةَ آدم وإبليس على شكل الحوار والتمثيل، إلا أنه قد أزال الكثير من سوء الفهم الناتج عن مضامين الكتب السابقة، أو الذي يمكن أن يحصل جراء اللغة المجازية. وعلى سبيل المثال تذكر التوراة أن آدم أُسكِنَ في الجنة الحقيقية (تكوين 2: 15)، وتزعم التوراة كذلك أن آدم ارتكب الإثم خلال إقامته في تلك الجنة! (تكوين 3: 17)، مع أن من صفات الجنة الحقيقية أنه من المستحيل أن يرتكب أحد فيها الإثم.

وأما القرآن الكريم فقد سمّى أحيانًا المكانَ الذي أُسكن فيه آدم بالجنة، ولكنه صرح أيضًا في موضع آخر أن هذه التسمية مجازية حيث قال الله للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً (البقرة:31). وهذا يعني أن آدم أُسكِنَ في هذه الأرض لا في الجنة الحقيقية.

هذا، وهناك عديد من الأمور الأخرى المتعلقة بقصة آدم التي قد ذكرها القرآن على سبيل الاستعارة والمجاز، ولكنه قام بشرح هذه الاستعارات في تلك الآيات نفسها أو في مواضع أخرى.

الحق أن الإنسان ما دام قد مُنح القدرة على عمل الخير والشر كليهما فكان لِزامًا أن يُخلَق أيضًا ما يحفزه عليهما، ولأجل ذلك خلق الله هذين الحافزين أي الملائكة والشيطان حتى قبل خلق الإنسان. فأمر الملائكة أن تحفز الإنسان على الخير وأن ترتب النتائج وفق أعماله، بينما سمح للشيطان أن يحاول دعوةَ الإنسان إلى الشر ما استطاع إليه سبيلاً.

ولما بعث الله آدمَ كان في هذه الدنيا – إلى جانب أتباع آدم – أناسٌ آخرون لم يخضعوا للنظام الذي أتى به، وقد سمى الله رئيسَ الفئة المتمردة على آدم بالشيطان أو إبليس لأن ذلك الرئيس ظلٌّ للشيطان الحقيقي. وما وقع بين آدم والرئيس المتمرد من أحداث في فترة طويلة ذكره الله على شكل حوار موجز.

وليكن معلومًا أن الشيطان – الذي خُلق كحافز على الشر والذي هو غير مرئي كالملائكة – لا يأتي الناسَ بنفسه في صورة متجسدة ليحدّثهم ويؤذيهم، بل الحق أن الذين تتسبَّب سيئاتهم في زلة أقدامهم عن درجة الصلاح هم الذين يصبحون أظلالاً للشيطان، وأعمالهم هي التي تُنسب إلى الشيطان. كذلك كل الحوافز الأخرى على المعصية أيضًا تسمَّى شيطانًا، حيث ورد في الحديث: “قال رسول الله : ليس منكم من أحد إلا وقد وُكّل به قرينه من الشياطين. قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم، ولكن الله أعانني عليه فأسلم” (مسند أحمد ج 1 مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب عن النبي ).. فلا يأمرني إلا بالخير. أي لقد أحرزت الكمال في التقوى لذلك فإن الأمور التي تدفع بالناس إلى المعصية تزيدني أنا صلاحًا. وليس المراد من قوله أن لكل إنسان شيطانًا مستقلا، وأن الشيطان الذي وكِّل به قد صار مسلمًا. لو كان هذا هو المعنى فلماذا كان النبي يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. مما يعني أن الشيطان الحقيقي كان على حالته لم يتغير منه شيء، ولكن ما ينوب عن الشيطان من أفكار ورغبات كان قد أسلم وأذعن للنبي ، وأما من كان يمثّل الشيطانَ من البشر كأبي جهل وغيره.. فلم يُسلموا بل ما برحوا على شرهم ومكرهم.

فقد عبّر الله تعالى عن حال الملائكة على شكل حوار منهم، مع أنهم لم يقولوا شيئًا بلسانهم. وقد اختار الله تعالى هذا الأسلوب لأن هذا الحادث كان في الزمن القديم، وكانت عادة الناس في القديم أن يُكثروا في حديثهم مِن التشبيه والمجاز لاعتقادهم أن لغة التمثيل أشد تأثيرًا.

أما قولـه تعالى فإذا سوّيتُه ونفَختُ فيه مِن روحي فقَعُوا لـه ساجدين فضمير الغائب في (له) يعود إلى البشر أجمعين، لأن الله قد سخّر الملائكة لمساعدة كل فرد من البشر، ولأن الروح يُنفَخ في الجميع، وإن كانت درجاتهم في ذلك متفاوتة، حيث يتم نفخها في سائر البشر عمومًا، وفي الأنبياء خصوصًا. ومما يدل على أن هذا الأمر يشمل البشر أجمعين قولُه تعالى: وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا (الجاثية: 14)، كما يخبرنا القرآن الكريم أن الملائكة هي العلة الأولى لجميع ما يحدث في الكون. وما دام كل ما في الكون مسخَّرًا لصالح الإنسان فثبت أن الملائكة يعملون على خدمة البشر كلهم أجمعين. غير أن بعض الأشياء تخرج عن خدمة الإنسان نتيجة خطأ منه، فتضرّه بدلاً من أن تنفعه، وكأنها تخرج عن حكم الملائكة، وتتبع الشيطان الذي يعمل جاهدًا لإلحاق الضرر بالبشر.

وأما الزعم أن ذلك الكائن غير المرئي الذي يسمى شيطانًا هو الذي خرج بنفسه متجسدًا لمعارضة آدم فهو زعم باطل بداهةً، ومخالف للواقع والتجربة. فإننا نعرف من القرآن الكريم أن الشيطان أتى آدمَ وزوجتَه وتحدَّث معهما لإغوائهـما (الأعـراف: 28). فلو كان ذلك الذي أتاهما هو نفس الكائن الذي يحث على المعصية فلم لا يستطيع الآن أبناءُ آدم رؤيةَ ذلك الشيطان بتلك العين التي رآه آدمُ بها؟ ولم لا يستطيعون الحديثَ مع الشيطان بذلك اللسان الذي تحدث به آدم معه؟ ولم لا يأتي ذلك الشيطان الناسَ لإغوائهم الآن أيضًا؟ خاصة وإن القرآن الكريم لا يقول أبدًا بأن جسد آدم كان مختلفًا عن أجساد أبنائه اليوم حتى يقال بأن آدم استطاع بذلك الجسد رؤيةَ الشيطان وحوارَه، ولكن أبناءه لا يستطيعون ذلك لاختلاف أجسادهم عن أبيهم. فما دام الأبناء أيضًا يملكون اليوم نفس الأجسادَ والقدراتِ التي تمتع بها أبوهم آدم، وما دام الشيطان هو هو لم يتغير.. فيجب أن يراه مئات الآلاف من البشر اليوم، ويجب أن يقابِل هو بجسده كلَّ الصالحين من بني آدم، سعيًا منه لإغوائهم. ولكن لا نجد بين البشر آلافًا ولا مئات بل ولا عشرات ممن يشهدون على أنهم مروا بمثل هذا الاختبار سواء في حالة الكشف أو الرؤيا، اللهم إلا ما نجد في القصص والأساطير التي لا ينهض على صدقها دليل ولا برهان. ولكن الشيطان الذي أتحدث عنه فإنه ما زال إلى اليوم يعرقل طريق كل نبي بنفس الطريقة التي لجأ إليها في زمن آدم، ويأبى ويستكبر كما أبى واستكبر أمام آدم، بل هذا هو دأبه مع كل الصالحين في كل زمان ومكان.

Share via
تابعونا على الفايس بوك