غيرةُ شعيب عليه السلام على حرمات الله
  • سلوك الأنبياء مع قومهم.
  • التوبة ومراحلها ومدارجها.
  • الحمية لله وحده سمة الأنبياء.
__
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإصلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (هود: 89)

شرح الكلمـات:

أخالف: خالَفني إلى كذا: قَصَده وأنت مُوَلٍّ عنه (الأقرب)

التفسـير:

هناك كلام محذوف، والمراد: ليست صلاتي التي تأمرني بهذا وإنما هو ربي الذي يأمرني به.  فأخبروني يا قوم، لو كنت في الواقع أتلقى وحيًا مِن الله مقرونًا بأدلة على صدقه، ورزقًا حسنًا من فضله ورحمته، أفلا يحق لي إذًا أن أعظكم وأنهاكم عما أثبتُّ بطلانه بأدلة دامغة؟

أما قولهم: لماذا تنهانا عن التصرف بحرية مطلقة في أموالنا، فقد ردّ قائلا: انظروا إلى سلوكي وسيرتي أنا؛ ألا ترون أنني أعمل بما أنصحكم به، وما دام الأمر كذلك فلا شك أنني مخلص فيما أعظكم به. وإذا كنتم تظنون أنني أريد بذلك سلطة وحكمًا عليكم فهو أيضا ظن باطل، لأن الإنسان يمكن أن يُسدي النصح لأحد دون أن يكون سيدًا وحاكما عليه، وما دام هذا حقًا مشروعًا لي فسوف أستعمله ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. أما النتائج فليست بيدي، وإنما هي في يد الله تعالى، وما عليّ إلا البلاغ.

إن شعيبًا لا يكترث حين يُعرب عن الحمية والغيرة في سبيل الله تعالى.. بأن عشيرته سوف يعتبرون قوله هذا إهانة لهم وقد يسخطون عليه ويتخلون عنه…

ما أروَعَه وما ألطَفَه مِن شرحٍ لمقام النبوة! فكل مأمور من عند الله تعالى بل كل مبلغ وداعية يواجه نفس المشاكل. في البداية يتبرّم الناس من نصحه ووعظه، إذ يعتبرون نصحه نوعًا من الجبر والإكراه. ثم يهدأون قليلاً ويتنازلون ويعتبرونه مساويًا لهم في الدرجة، ويأذنون له أن يقول ما عنده، دون أن يصدقوا قوله. ولكن النبي لا يبدي أي سخط عليهم لا في المرة الأولى ولا في المرة الثانية، وإنما يهتم بأداء واجب التبليغ في الحالتين على سواء، ولا ينظر إلا إلى الله غير مكترث بكل من سواه.

وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (هود: 90)

شرح الكلمـات:

لا يجرمنّكم: جَرَمَ لأهله: كَسَبَ، ومنه في القرآن: ولا يجرمنّكمُ شَنَئانُ قومٍ على ألاّ تعدِلوا ، أي لا يكسبنّكم، وقيل أيضاً: لا يحملنّكم (الأقرب). وأصلُ الجرم: قطعُ الثمرة عن الشجر، واستُعير ذلك لكل اكتسابٍ مكروه، ومعنى جَرَمَ: كَسَبَ أو جنى (المفردات).

التفسـير:

يتضح من الآية أن شعيبًا بُعث بعد نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط ولكن قبل موسى عليهم السلام، إذ لا نجد هنا أي ذكر لأمة موسى، مع أن موسى هاجَرَ مع قومه وأقام بعض الوقت في نفس هذه المنطقة التي كان يسكنها قوم شعيب.

وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (هود: 91)

شرح الكلمـات:

ودود: الودود: الكثيرُ الحب، فعول بمعنى فاعل، يقال: هو ودود وهي ودود. الودود في الأسماء الحسنى معناه: المحب أو المحبوب من أوليائه، فيكون بمعنى مفعول (الأقرب).

التفسـير:

كان ولا يزال أعداء الإسلام يطعنون فيه بأنه قد فتح باب الإثم على مصراعيه بالسماح بالتوبة ظانين أن التوبة في الإسلام تعني ترديد الإنسان بضعَ كلمات باللسان فقط، وهذا يكفيه لغفران معاصيه (ستيارث بركاش ص 669).

والحق أن الإسلام لا يعلّم ذلك أبدًا، وإنما التوبة في الإسلام شيء آخر تماما. لأنه يرى أن رجوع المرء عن المعصية إلى الحسنة ثم تقدّمه إلى درجات روحانية عليا لا يتأتى دفعةً واحدة، وإنما يتم على مراحل عديدة. فعلى المذنب – إذا أراد الرجوع إلى ربه- أن يبدأ أولا في محاسبة نفسه بمعنى أن يدرس أحوال نفسه ويتنبّه إلى ما فيه من عيوب وأخطاء، وهذا سيولد فيه الندامة. ثم يقوم بالاستعاذة أي يسعى لتدارك أخطائه مستعينا بالله تعالى. ثم تأتي مرحلة الاستغفار أي يدعو ربه أن يحفظه من تأثيرات وعواقب ما تقدم من ذنبه في الماضي. ثم تأتي مرحلة التوبة أي يبدأ في إنشاء علاقة حب مع الله تعالى بكل ما أُوتي من قوة وطاقة.

إذن فليست التوبة الإسلامية أبدًا ثرثرة باللسان وحده، وإنما هي مرحلة من مراحل عديدة لا بد للعبد من اجتيازها حتى يستطيع العودة من الحالة السيئة إلى الحالة الحسنة أو يتقدم من درجة روحانية متدنية إلى درجة أخرى أعلى منها. ولن يطعن في مثل هذه التوبة إلا الذي هو جاهل تمامًا بحلات النفس البشرية.

مع العلم أن ما ذكرناه هنا من مدارج روحانية كلها مذكورة في القرآن الكريم، بل فيه أكثر من ذلك، ولكنّا لم نفصلها بغية الاختصار.

قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز* قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (هود: 92 – 93)

شرح الكلمـات:

رهط: الرهط: قوم الرجل وقبيلته؛ وعددٌ يُجمع من الثلاثة إلى العشرة وليس فيهم امرأة، ولا واحد من لفظه، وجمعه أرهُطَ وأرهاط. ومنه في القرآن: (وكان في المدينة تسعةُ رهط) أي تِسع أنفسٍ (الأقرب)

عزيز: العزيز: الشريفُ؛ القويُ؛ القليلُ النادر لا يكاد يوجد؛ المكرّمُ، وجمعه: عِزاز وأعزة وأعزاء. والعزيز أيضا من أسمائه تعالى، وهو المنيع الذي لا يُنال ولا يغالَب، ولا يُعجزه شيء، ولا مثلَ له. والعزيز الملِكُ لغلبته على أهل مملكته؛ والعزيز لقبُ مَن مَلَكَ مصر مع الإسكندرية (الأقرب).

ويتبين من القرآن الكريم أن العزيز، كانت تُطلق أيضًا على وزير المال في زمن الفراعنة.

ظِهريًّا: الظِهري: الذي تجعله وراء ظهرك وتنساه وتغفل عنه (الأقرب)

التفسـير:

انظروا إلى ما يكنه النبي من حمية وغيرة في سبيل الله تعالى. لو كان هناك أحد غير شعيب لسُرَّ بكلام هؤلاء ولقال في نفسه: ما أكثر ما في قبيلتي من القوة والمنعة حتى ليهابها القوم فلا يتعرضون لي بسوء، ولربما استغل ذلك وهدد المعارضين بقوله: تعالوا إلى ساحة النـزال لتعرفوا ماذا سيصنع بكم قومي. ولكن سيدنا شعيبًا لا يُبدي إلا أسفًا وسخطاً على قولهم هذا ويقول بكل حماسٍ وغيرة: هل عشيرتي أكبر وأعز عندكم من الله تعالى، فتهابونها ولا تخافون الله القهار. والعجيب أنكم لا تمسونني بالسوء خوفًا من قومي، بينما لا تردعكم خشية الله عن خداع الناس ونهب أموالهم بالباطل. إن شعيبًا لا يكترث حين يُعرب عن الحمية والغيرة في سبيل الله تعالى.. بأن عشيرته سوف يعتبرون قوله هذا إهانة لهم وقد يسخطون عليه ويتخلون عنه. كلا، بل تستولي عليه عندئذ فكرة واحدة هي النظر إلى عظمة الله والدفاع عن اسمه العلي الشأن عزّ وعلا.

وقد تعرض نبينا محمد لعديدٍ من المواقف المماثلة لذلك، وعبّر فيها عن حبِّه وحميته لله تعالى، بما يليق بمقامه السامي. ومثال ذلك ما حدث في غزوة أُحد لما تشتَّتَ الجيش المسلم ولم يبقَ حول النبي إلا حفنة من أصحابه الفدائيين، وأُشيع بين القوم أن الرسول قد قُتل. فصاح أبو سفيان قائد جيش المشركين: أيها المسلمون قد قتلنا رسولكم. إلاّ أنّ الرسول منع أصحابه من الردّ عليه لخطورة الموقف، حتى لا ينتهز العدو تشرّد المسلمين، فيحمل عليهم حملة أخرى. ثم صاح زعيم المشركين: أفي القوم أبو بكر؟ فكفّ النبي أصحابه عن الرد عليه. فقال: ها قد قتلناه أيضًا. ثم صاح: أفي القوم عمر؟ فلم يملِك عمر نفسه لشدة الحماس والغيرة فردَّ عليه: نعم، يا عدو الله، إن عمر لموجود لضرب رأسك؛ ولكن النبي كفّه عن الكلام. فهتف أبو سفيان مرتجزًا: اُعْلُ هُبُل، اُعْلُ هُبُل.. أي العظمةُ لِهُبُل صَنمنا. فلم يملك النبي نفسه وقال لأصحابه: لم لا تردون عليه الآن؟ قولوا: الله أعلى وأجلّ، الله أعلى وأجلّ (البخاري، الجهاد).

فانظروا كيف أنه كان محاصرًا بين الأعداء، وكان أصحابه مشتّتين مشرّدين، ولكن غيرته الشديدة على اسم الله تثور لدى سماع هذه الكلمات التي تمسّ بعظمة الله عزّ وجل، فيبدي حميته وغيرته وعلى هذا النحو العجيب.

وقد تعرض نبيـنا محـمد لـعديدٍ من المواقف المماثلة لذلك، وعبّر فيها عن حبِّه وحميته لله تعالى، بما يليق بمقامه السامي.

أما قوله إن ربي بما تعملون محيط فيحذّر به شعيبٌ قومه بأنكم تثيرون غضب الله عليكم، عندما تعتبرون رهطي أعزّ من الله تعالى فأخاف أن يسحقكم بعذابه ويدمّر تجارتكم، ويضيع جهودكم ولا يُبقي في أيديكم شيئًا.

وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُود (هود: 94 – 96).

شرح الكلمـات:

مكانة: المكانة: المنـزلة؛ والمكان.

رقيب: رقبَه وارتقبه: انتظره. والرقيب: الحافظُ؛ المنتظرُ؛ الحارسُ؛ ابنُ العم. والرقيب: من صفات الله تعالى. ورقيب الجيش: طليعتهم (الأقرب).

التفسـير:

أي اعملوا ما يحلو لكم، ولسوف أستمر في العمل بما يليق بمقامي ومنـزلتـي، وسوف تُبدي النتائج أيُّ الفريقين منا كان عاملاً برضى الله تعالى، وأيُّنا كان يأتي بما يتنافى مع مشيئته عزّ وجل.

إن أنبياء الله تعالى في كل زمان ما فتئوا يلتمسون من أقوامهم أن يفوِّضوا الأمر لله تعالى منتظرين حكمه، ولكن الناس دائمًا وأبدًا يأخذون الأمر بيدهم ولا ينتظرون حكم الله، فيعاقَبون.

والمراد من قوله إني معكم رقيب أي أنا الذي يجب أن يُصيبَه القلق لتأخر حكم الله فينا، وذلك لكوني أنا وأصحابي هدفًا لتعذيبكم واضطهادكم، ولكن الغريب أننا صابرون رغم العذاب، وأنتم على ظلمكم قد نفِد صبركم. أفلا ينبغي أن تصبروا معنا حتى يقضي الله بيننا وبينكم؟

وقوله تعالى وأخذتِ الذين ظلموا الصيحةُ فأصبحوا في ديارهم جاثمين .. اعلمْ أن موطن قوم شعيب كان منطقةً تكثر فيها الزلازل. فمن الممكن أن يكونوا قد أُهلكوا بعذاب الزلزال كما يدلّ على ذلك ظاهر الكلمات. أو قد تكون كلمتا (الصيحة وجاثمين) مجازًا، والمراد أنه حل بهم عذابٌ قَصَم ظهورهم وكسر شوكتهم، فأصبحوا في بلادهم أذلةً مهانين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك