صوت صارخ في البرية

صوت صارخ في البرية

التحرير

  • موقف دول الشرق الإسلامية من الفكر والمفكرين.
  • “اللامبالاة” وأثرها على فناء الأمم.

__

في أماكن كثيرة من العالم  الإسلامي لا يحظى التفكير بالتشجيع المادي والمعنوي،  الأمر الذي يجعل العلماء والأدباء لا يحظون بالرعاية الكافية. وثمة تخوف لدى شرائح كثيرة من الناس من حرية الفكر حيث يعادونها ويقمعونها غير مبالين بالأضرار التي يلحقوها بالمجتمع ككل، الأمر الذي يضعف أو بالأحرى يزيل الميل إلى التفكير فيحبسه صاحبه في داخله إلى أن ينطفئ نوره تدريجيا ويتلاشى. ويتعرض المفكرون الناقدون ومستقلو الفكر الذين لديهم الجرأة على الإعراب بحرية عن نتاج فكرهم في أماكن كثيرة للمضايقة والملاحقة والأذى والحرمان.وقد ينشأ في الوطن الإسلامي أديب أو مفكر عظيم تكون له كتابات دالة على النبوغ والعبقرية والإبداع ويقضي حياته بين ظهرانينا في هذه الدنيا دون أن يحظى بالاهتمام الكافي أو التكريم الواجب أو الإقرار من جانب أصحاب السلطات وأفراد بلده بقيمة علمه وفكره وعبقريته.وتختلف هذه الحالة في البلدان الغربية وذلك بسبب كثرة مؤسسات المجتمع المدني، العلمية والثقافية والأدبية وغيرها التي تتمتع بالحرية والاستقلال، الأمر الذي يكفل لها الازدهار. ويبدو أن ظاهرة إغفال الشخص المفكر المبدع الفذ قد تكون أقل شيوعا في الغرب مما هي في أماكن أخرى تقل فيها هذه المؤسسات وتخضع للرقابة. وبالتالي يجب أن تنشأ في الوطن الإسلامي مؤسسات حكومية وغير حكومية،  تقوّي  وسائل الاتصال الجماهيري، التي يكون من مهامها تشجيع الإبداع والمبدعين في مجالات الأدب والعلم والفكر.

ومما لا شك فيه أنه بإشاعة اسم المبدع وتشجيعه المادي والمعنوي ينشأ لديه شعور قوي بالاعتزاز والثقة بالنفس، الأمر الذي يخلق تجاوبا بين عالم أفكاره والمجتمع الذي حوله مما يجعل المجتمع يكافئه معنويا وماديا على مجهوده الفكري والنقدي ويقدر عطاءه.وبسبب إهمال قدر لا بأس به من الإنتاجات العلمية والأدبية والنقدية المبدعة أو ملاحقة واضطهاد بعض مُنتِجيها أُصيب كثير من المفكرين والعلماء والأدباء بخيبة الأمل والإحباط وقلَّ اندفاعهم الإبداعي وأُصيب أيضا قسم من الذين كان يمكن أن يكونوا مبدعين بالإحباط والتردد في دخول ميادين الاستكشاف العلمي والفكري والفلسفي.

فاللامبالاة هي ما يعذبه العذاب الأشد، حينما يجد أنه «صوتٌ صارخٌ في البرية».. لسان حاله «لا حياة لمن تنادي»!!

ولا شك أن أهم ما تتميَّز به أمتنا هو حيويتها واستجابتها للأحداث حولها ولكن في عصرنا الحالي تفاعل قمع حرية الفكر مع غياب القدوة الفعالة وانتشار القدوات الفاسدة واختلال الموازين؛ حتى أصبح الحجاب يخضع للموضة، والصلاة تُؤَدَّى في أوقات الفراغ نقرا كنقر الدجاج بحجة أن العمل عبادة، الأمر الذي أدى إلى إفراز حالة غريبة من عدم التفاعل مع  الأحداث حتى أصبحت اللامبالاة السمة الأساسية في معظم تعاملاتنا وطبعت بخاتَمها على تصرفات الأفراد. فبمجرد أن يتولى أحد منصبا يحاول بكل السبل قطع رقاب من حوله والأخذ بثأره من كل من أساءوا الأدب معه. فتجده يريد للدين أن ينتصر ولكن ليس من خلاله وذلك بتقديم التضحيات وخدمة الإنسانية كما يعلمنا الكتاب الحكيم، بل تتسم تعاملاته بالغلظة ولا مجال للإخاء والرحمة.

ولا يفوتنا أن نذكر في هذا المقام أن من أهم أسباب عدم مبالاة الناس بما يحدث حولهم، هو أن همهم الشاغل هو الجري وراء لقمة العيش، بحيث أصبح انشغالهم بأي أمر آخر يُعد ترفا لا يطيقونه ولا يبالون به. وبالطبع ليست مشكلة الأمة اليوم – على عكس ما يشيع البعض – النقص المادي في الأموال والعتاد،  بل جُل المشكلة هي الضعف المعنوي الذي أصاب المسلمين. فالمسلمون اليوم منهزمون نفسيا منقادون لغيرهم، يعوزهم التمسك بتعاليم دينهم والاعتزاز بقيمهم. معلوم أنه لا يُخشى على الأمة من الفقر إذا طَهُرت نفوس أبنائها.. كما قال الصادق الأمين :

“فَوَ الله لا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ”.

إنه لمن الخطأ اعتبار السعادة مرتبطة على نحو جوهري بالحصول على المزيد من المال، لأن المطلوب من المال سيظل باستمرار أكثر من المعروض، ومن ثم فإن مشاعر الحرمان ستظل مسيطرة على أعداد هائلة منا على نحو ما نلمسه اليوم أينما اتجهنا.

وفي هذا الخضم نجد أن ما يزعزع كيان صاحب الموقف والرأي، و”الرسالة” عمومًا هي اللامبالاة.. خصوصًا من الناس الذين يستهدفهم برسالته، ويفترض أنهم معنيون بها. فاللامبالاة هي ما يعذبـه العذاب الأشد، حينـما يجد أنه “صـوتٌ صـارخٌ في البريـة” .. لسـان حالـه “لا حياة لمن تنادي”!!

ولا شك أن من درس التاريخ بتمعن يعرف أن اللامبالاة المُستحكمة كانت السبب في هزيمة أو تخلف أمم، قبل أن يداهمها عصف الغزاة. وكما هو معلوم فاللامبالاة حالة ذهنية  تتلبَّسُ الأفراد، أو الجماعات، أو الأمم، لفترة أو لحقبة طويلة..  فتصبح الطابع الأساسي لشخصية الفرد. وعندما تمرُّ الأممُ بأحوال وأوضاع تستوجب، ليس فقط “الانتباه و “اليقظة”، بل التعبير بالقول والفعل عن مواقفها وإراداتها تقف اللامبالاة سدًّا مانعًا بينها وبين هذا الهدف النبيل فتحكم الأمة على نفسها – قبل أن يحكم عليها غيرها- بالإعدام. الأمر الذي تدمي له الروح ويبكي له القلب..

Share via
تابعونا على الفايس بوك