تلاؤم الوليد مع البيئة الخارجية "فتبارك الله أحسن الخالقين"

تلاؤم الوليد مع البيئة الخارجية “فتبارك الله أحسن الخالقين”

وسام علي البراقي

كاتب
  • حديث نبوي شريف في معمل العلم
  • أجهزة الجنين المختلفة وما يطرأ عليها أثناء وبعد الولادة.

__

يقول رسـول الله في حديث إعجازي عن تخلق الإنسان في ظلمات رحم أمه:

“إن أحدَكم يجمَعُ خَلْقُه في بطن أمه أربعين يوما. ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك. ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك. ثم يُرسل الملكُ فينُفخ فيه الروح. ويُؤمر بأربع كلمات: بِكَتْبِ رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. فوالذي لا إله غيره! إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع. فَيَسْبِقُ عليه الكتاب. فيعمل بعمل أهل النار. فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع. فَيَسبِقُ عليه الكتاب. فيعمل بعمل أهل الجنة. فيدخلها” (صحيح مسلم، كتاب البر والصلة)

في الحياة الرحمية يكون الجنين معتمدا على أمه في التغذية والتزود بالأوكسجين وفي طرح فضلاته؛ فهو يستمد الغذاء عن طريق المشيمة ويطرح جزءا من المواد المستقلبة عبرها وجزءا آخر يطرحه مباشرة بالسائل الأمينوسي المحيط به عن طريق التبول به. والسائل الأمينوسي له دور أيضا في حفظ الجنين من الصدمات وفي المحافظة على حرارة جسمه ثابتة. إن أجهزة الجنين تقوم ببعض الوظائف أثناء الحياة الرحمية لكن العبء الأعظم يقع على الأم والمشيمة، وبمجرد خروج الجنين من الرحم وربط سرره تبدأ تبدلات وظيفية وعضوية بالحدوث هدفها التلاؤم مع الحياة خارج الرحم وتأمين استقلال الوليد عن أمه ليكون فردا منفصلا ثم ليكون من الأشقياء أو السعداء كما ورد في حديث رسول الله ؛ وفيما يلي أذكر بعض هذه التحولات حسب الأجهزة المختلفة:

جهاز التنفس

إذا تأملنا الجنين في بطن أمه عن طريق التصوير بالأمواج فوق الصوتية (echography) فسوف نلاحظ حركات في جدار الصدر، لكن هذه الحركات ليست وظيفية أي لا تؤدي إلى الوظيفة التنفسية من تبادل للأوكسجين وثاني أكسيد الكربون عبر جدر الأسناخ التي هي الوحدات الوظيفية التي يتم على مستواها التبادل الغازي بين الهواء والدم، ويدخل بهذه الحركات الجنينية القليل من السائل الأمينوسي إلى القصبات والأسناخ فتجعلها مندَّاة.

ولكن عند خروج الجنين من الرحم، يأخذ شهيقا عميقا يساعد على فتح الأسناخ المنداة والمنخمص بعضها. ويجدر التنويه إلى أن التنفس الأول الذي يأخذه الوليد يكون بضغط شديد يعادل ثلاثة إلى أربعة أضعاف التنفس الطبيعي بعد ذلك. كما يساعد على حدوث انفتاح الأسناخ والمحافظة عليها مفتوحة مادةٌ تدعى surfactant أو العامل الفعال بالسطح وهي مادة فوسوفوليبيدية تكون بمستويات وظيفية في رئتي الجنين بعد الأسبوع 35 من الحمل، وعوز هذه المادة يؤدي لإصابة تنفسية عند الخديج خاصة تدعى داء الأغشية الهلامية التي تتظاهر بضائقة تنفسية.

إذاً، مع بدء التنفس وانفتاح الأسناخ يندفع الدم إلى الرئتين بعد أن كان لا يمر بها إلا مرور الكرام، فتستلم الرئتان الوظيفة التنفسية عن المشيمة ويبدأ التبادل الغازي بأخذ الأوكسجين وطرح ثاني أكسيد الكربون عن طريق حركات التنفس. وتكون حركات التنفس عند الوليد غير منتظمة من حيث السرعة. فقد يتسارع التنفس وقد يتباطأ ومن حيث العمق أيضا؛ فقد يكون التنفس سطحيا وقد يكون عميقا، ويتراوح عدد الحركات التنفسية عند الوليد الطبيعي بين 30 إلى 40 حركة بالدقيقة. وما يتميز به التنفس في هذه المرحلة من العمر أنه يكون بطنيا؛ فيلاحظ تبارز البطن مع كل شهيق بينما تكون حركات الأضلاع سطحية.

لا بد هنا من التأكيد أن تنبيه التنفس عند الوليد بعد الولادة يكون بالتنبيه الجلدي بتمرير يد الطبيب أو القابلة المتكرر على الظهر حتى يحدث الصراخ الأول والتنفس أو بتنبيه القدم بنقرات خفيفة على الأخمص أو الاثنين معا، والخطأ الذي يجب تجنبه حتما أن يوضع رأس الوليد إلى الأسفل وأن تضرب قدماه بقوة بكفّ المولد مما قد يسبب نزفا دماغيا.

جهاز الدوران

يتألف القلب من قسمين هما القلب الأيمن والقلب الأيسر. وفي الحياة خارج الرحم، يأتي الدم غير المؤكسج بالأوردة من مختلف أنحاء الجسم ليصب في القلب الأيمن (أذينة يمنى ثم بطين أيمن) الذي يدفعه إلى الرئتين حيث يتم التبادل الغازي فيُطرح ثاني أكسيد الكربون إلى الأسناخ الرئوية ويتشبع الدم بالأكسجين ثم يعود الدم المؤكسج إلى القلب الأيسر الذي يدفعه بدوره عبر الشريان الأبهر إلى أنحاء الجسم المختلفة لتزويد النسج بالأوكسجين.

أما عند الجنين فتقوم المشيمة مقام الرئة التي لا يمر بها الدم إلا مرور الكرام، ويأتي من المشيمة عبر الوريد السري الدم المؤكسج ويعود إليها الدم الفقير بالأوكسجين (الوريدي) عبر الشريانين السريين. ويكون الدم الجنيني مختلَطا أي لا يكون شريانيا معزولا ووريديا معزولا، ويحدث الاختلاط بين الدورانين الوريدي والشرياني في القلب (عبر الأذينين وعبر القناة الشريانية التي تصل الدوران الرئوي بالأبهر) ولكن من تقدير الله عز وجل أن يكون الدم الواصل إلى الرأس والدماغ شريانيا نسبيا أي محملا بمقدار أكبر من الأوكسجين بينما تتغذى بقية أعضاء الجنين بدم مزيج من دم شرياني ووريدي.

وبمجرد ربط الحبل السري بعد الولادة يحدث تبدلات تشريحية ووظيفية في الدوران الجنيني؛ فيتوقف التبادل عبر المشيمة والدوران عبر الأوعية السرية لتصبح الرئة هي مركز التبادل الغازي الفعال، ويتدفق الدم من القلب الأيمن إلى الرئتين ليعود إلى القلب الأيسر بدم نقي غني بالأوكسجين ويخف الاختـلاط والامـتزاج الشرياني الوريدي – إن لم يتوقف نهائيا- وذلك بانغلاق القناة الشريانية وظيفيا خلال الأسبوع الأول عند معظم الولدان والانغلاق الوظيفي للثقبة البيضية بين الأذينتين. وبذلك التبدل تصبح كل أعضاء الوليد تتغذى بدم شرياني صرف. إن هذه التبدلات يلاحِظ انعكاساتها الظاهرية من يراقب ولادة المولود فيرى تحول لون جلده من لون مزرق داكن قليلا إلى اللون الوردي الجميل بعد الصراخ.

يكون عدد ضربات القلب عند الوليد ما بين 120 و170 ضربة بالدقيقة ويتباطأ عن ذلك قليلا عند النوم بينما يتسرع عن ذلك بالبكاء والحركة. ويكون الضغط الشرياني الانقباضي ما بين 70 و80 ملمترا زئبقيا أما الضغط الشرياني الوسطي فيقارب 60-65 ملم زئبقيا وهي قيم تزداد قليلا مع تقدم الوليد بالعمر وتنقص عن ذلك عند الخديج.

لا بد من ذكر أن الأوعية السرية تبقى سالكة لبضعة أيام بعد الولادة قبل أن تتليف نهائيا وتنسد، وهذا أمر مهم في طب حديثي الولادة إذ يمكن استخدام هذه الأوعية بسهولة عند الوليد الذي أدخل المستشفى لسحب الدم منها وإجراء التحاليل الدموية أو إعطاء الأدوية والمحاليل المغذية وبذلك يُتَجَنَب وخز الوليد وإيلامه بحثا عن أوردة أو شرايين، ولكن لا تستخدم الأوعية السرية عادة أكثر من 4 أو 5 أيام خشية حدوث الانتانات التي قد تكون خطيرة في هذا العمر ثم إن اقتضت الضرورة لا بد من وضع قثاطر مركزية تدوم أكثر.

جهاز الهضم

يقوم الجنين بحركات بلع وهو في رحم أمه ويبتلع بذلك السائل الأمينوسي وما فيه فيتم امتصاص ما ابتلعه في أمعائه، أما فضلات المواد المبتلعة خلال الحياة الجنينية بالإضافة لمفرزات الأمعاء وخلاياها المتوسفة فتدعى “العقي”. ومن المفروض ألا يفرغ محتوى الأمعاء من العقي قبل ولادة الجنين ولكن قد يحدث ذلك في حال تألم الجنين وتعسر ولادته؛ وفي حال حدوث ذلك فيكون السائل الأمينوسي مصطبغا بلون أخضر ويقال عندها أن السائل الأمينوسي “مُعقى” وهذا قد يحدث مشكلة تنفسية وعسرة تنفسية في حال استنشقه الجنين أثناء ولادته.

يكون الجهاز الهضمي عند الوليد جاهزا للعمل بعيد الولادة ليصبح الوليد مستعدا لهضم السكريات والبروتينـات والدسـم الواردة له في حليب الأم ولكن امتصاص الدسم يكون ضعيفا.

تمتلئ الأمعاء الدقيقة بالهواء خلال الساعات الست الأولى بعد الولادة ويصل الهواء للمستقيم الذي هو آخر جزء من الجهاز الهضمي بعد اثنتي عشرة ساعة من الولادة، وتأخر وصول الهواء إلى نهاية الجهاز الهضمي يشير إلى وجود خلل تشريحي قد يحتاج إلى تداخل جراحي.

يحدث التبرز الأول خلال اليوم الأول من الولادة وقد يتأخر إلى اليوم الثاني دون أن يكون ذلك مرضيا، والتأخر عن ذلك فغالبا ما يدل على انسداد في الجهاز الهضمي أو تشوه فيه والجراحة هنا هي الحل أيضا. يدعى التبرز الأول بالعقي وهو لزج أسود مخضر قاتم، ويخف اللون القاتم خلال 4-5 أيام ليأخذ لون البراز الطبيعي في نهاية الأسبوع الأول من العمر. ويدعى البراز بين العقي والبراز الطبيعي بالبراز الانتقالي الذي قد يكون نصف سائل ومخضرا يخرجه الطفل 4-5 مرات وهو لا يدل على حالة مرضية.

جهاز البول

يبول الجنين في الحياة الرحميـة في السـائل الأمينوسي، ويشكل بول الجنين جزءا مهما من هذا السائل. ويبول الوليد خلال الـ 24 ساعة الأولى من الولادة ونادرا ما يتأخر التبول إلى اليوم الثاني من الولادة. تختلف كمية البول المطروحة حسب كمية الحليب المتناولة وحرارة البيئة المحيطة بالوليد.

قد تلاحظ الأمهات في الأسبوع الأول من الولادة اصطباغ فوط الأطفال بلون أحمر آجري وذلك لاحتواء البول على كمية كبيرة من بلورات حمض البول التي تترسب في الفوط معطية هذا اللون والذي يزول بعد الأسبوع الأول من الولادة.

لا بد من التأكد عند الوليد من مكان تدفق البول وعدم الاكتفاء بأنه يبلل فوطه وذلك للكشف المبكر عن أي تشوه في توضع فوهة التبول وذلك سواء عند الذكور والإناث. ومن المهم جدا في حال وجود أي شك بخلل توضع فوهة البول عند الذكور (كالإحليل التحتي مثلا؛ حيث تتوضع فوهة البول بمكان أخفض من مكانها الطبيعي على القضيب إلى منطقة الصفن) ألا يتم ختان الطفل قبل عرضه على طبيب الأطفال وذلك لأن الجزء المستأصل في الختان قد يفيد في إصلاح التشوه الموجود عند إجراء الجراحة.

الغدد الصم Endocrine

معظم الغدد الصم تكون مكتملة النضج نسبيا عدا الكبد. فالغدة الدرقية تعمل خلال الحياة الجنينية وتؤثر في نموه وتطوره. وجارات الدرق (المسئولة عن تنظيم الكلس في الجسم) تكون ناضجة مع بعض الكسل المؤقت بعد الولادة مما قد يسبب نقصا في كلس الدم عند الوليد. وإفراز الأنسولين (المسئول عن تنظيم سكر الدم) من البنكرياس يكون جيدا وقد يكون زائدا إن كانت الأم سكرية فيتعرض الوليد حينها لنقص السكر. أما الكبد فهو مخزن للسكريات على شكل غليكوجين ومصفاة لإتلاف السموم ومصنع لبعض الفيتامينات كالفيتامين k؛ فإن كان المخزون من الغليكوجين ضعيفا أثناء فترة الحمل بسبب خلل في وظيفة المشيمة وضعف التغذية فقد يتعرض الوليد بعد الولادة -إن لم تعط المحاليل السكرية بشكل مبكر عن طريق الفم- لنقص السكر، وتكون قدرة الكبد على تصفية البيليروبين (المسئول عن اليرقان واصفرار الوليد) ضعيفة مما يعرض الوليد لليرقان، وكذلك تكون قدرته على إتلاف السموم ضعيفة مما يوجب الحذر في حال استخدام بعض الأدوية، وقد يتعرض الوليد للنـزف بسبب نقص الفيتامين k، ولذلك فإنه يعطى لكل المواليد بعد الولادة.

الجهاز المناعي

يكون الجهاز المناعي ضعيفا عند الوليد، وتؤمن الغلوبولينات المناعية IgG المنتقلة من الأم أثناء الحياة الرحمية عبر المشيمة حماية فعالة حتى نهاية الشهر الثاني حيث تنخفض بشدة.

الجملة العصبية

يكون حجم الدماغ كبيرا بالنسبة لجسم الوليد وهو سريع النمو. يأخذ الوليد وضعية نصف الانعطاف في الأطراف ويميل للاضطجاع الجانبي بسبب فرط المقوية التي تخف مع تقدم العمر، ويستطيع الوليد إن وضع على بطنه أن يحافظ على رأسه مرفوعا بعض الشيء.

يكون الوليد مزودا ببعض المنعكسات الخاصة التي تدعى المنعكسات الذاتية وهي تزول في أزمنة تختلف من منعكس لآخر مع تقدم عمر الوليد، وعدم وجودها عند الوليد يدل على حالة مرضية في الجملة العصبية. ومن هذه المنعكسات على سبيل المثال منعكس الإطباق grasp reflex الذي يكون بأن يطبق الوليد بشدة على أي شيء يوضع في راحة يده ويحدث ما يشبه ذلك عند ملامسة أخمص القدم ويزول هذا المنعكس في الشهر الرابع في اليدين وفي الشهر التاسع في القدمين، ومنعكس المص والبلع؛ فعند ملامسة الإصبع أو الحلمة لباطن فم الوليد فإنه يباشر المص ويتلوه البلع، ويغيب هذا المنعكس في نهاية السنة الأولى، أما منعكس الجذر Rooting Reflex فيحدث عند ملامسة زاوية فم الوليد بأن يدير وجهه لتلك الجهة محاولا التقاط الشيء الملامس لفمه ويخف هذا المنعكس بعد عمر الشهر ويشبه هذا المنعكس ما تفعله جذور النباتات بحثا عن الماء فتوجه نموها إلى أماكن وجوده لتحافظ على وجودها. وهناك منعكس يدعى منعكس المظلة Parachute وهو منعكس يبدأ في الشهر السابع أو الثامن من العمر أي قبل بدء المشي عند الطفل ويكون بأن يبسط ويمد الطرفين العلويين عند السقوط أو الشعور بالسقوط لحماية نفسه، وهذا المنعكس يبقى طوال الحياة ونلاحظه على أنفسنا عند التعرض للسقوط أو الانزلاق.

الحس والحواس

* اللمس: أكثر الحواس تطورا والشفاه عند الوليد أكثر المناطق حسا.

* الألم: يكون ضعيفا، والوليد أقل تأثرا بالألم من بقية مراحل حياته.

* الشم: موجود ولكنه ضعيف.

* الذوق: موجود ولكنه ضعيف.

* السمع: موجود منذ الحياة الجنينية وعلى ذلك أجريت دراسات عديدة.

* البصر: موجودة منذ الولادة، ويغلق الوليد جفنيه عند التعرض للنور الشديد ولكن لا تكون حركة العينين متوافقة ولا يثبت الوليد نظره وعند بلوغه الشهر الثالث من العمر يلاحق الأشياء بنظره إذا وضعت على مسافة قريبة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك