حجارة من سجيل.. زلزال عنيف مدمر كعقاب لقوم لوط عليه السلام
  • بيان حقيقة الواقعة بين نبي الله لوط وقومه والعذاب الذي حل عليهم.
  • تفصيل العلاقة بين أنبياء الله شعيب وموسى عليهما السلام بناء على الترتيب الزمني ومقارنة مع التوراة.
__
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (هود: 80)

التفسـير:

عندما قال لهم لوط عليه السلام إن بناتي اللاتي هن تحتكم لضمانٌ كافٍ لبراءتي، فكأنما اعتبرهن رهائن عند القوم، ولكن كانت العادة الشائعة لدى هؤلاء الناس أنهم ما كانوا يرضون برهائن إناث بل بالرهائن الذكور من أولاد العدو، ولذلك ردوا عليه: لا نقبل الرهائن الإناث، وأنت تعلم جيدا أن قصدنا من ذلك أن تمتنع عن إحضار الضيوف الأجانب إلى القرية، فقولك، احتجزوا بناتي بينكم ولا تؤذوا ضيوفي قول مرفوض.

يقول بعض المفسرين بأن قولهم ما لنا في بناتك من حق أيضا يشكل دليلاً على أن لوطاً عرض عليهم بناته للفاحشة أو الزواج.

ولكن الحقيقة أن هذه الآية تبطل زعمهم، إذ كيف يتوقع من قوم بلغوا هذا الحد في ارتكاب الفاحشة أن يفرقوا بين ما يحق لهم وما لا يحق في الأمور الجنسية الشهوانية، فقولهم (ما لنا في بناتك من حق) إنما يشير إلى عادتهم من أخذ الرهائن الذكور، وليس إلى ما ذهب إليه هؤلاء المفسرون.

كانت العادة الشائعة لدى هؤلاء الناس أنهم ما كانوا يرضون برهائن إناث بل بالرهائن الذكور من أولاد العدو، ولذلك ردوا عليه: لا نقبل الرهائن الإناث، وأنت تعلم جيدا أن قصدنا من ذلك أن تمتنع عن إحضار الضيوف الأجانب إلى القرية…

قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْـعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِـتْ مِنْكُمْ أَحَـدٌ إِلاَّ امْرَأَتَـكَ إِنَّهُ مُصِيـبُهَا مَا أَصَابَهُـمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَـيْسَ الصُّبْـحُ بِقَرِيـبٍ   (هود: 81 و82)

شرح الكلمـات:

ركن: الركن: الجانبُ الأقوى من الشيء؛ الأمرُ العظيم؛ ما يقوّى به مِن ملكٍ وجندٍ وغيره؛ العزُّ والمنعة (الأقرب)

التفسـير:

ورد في الحديث الشريف: “عن أبي هريرة قال، قال رسول الله : “يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد” (البخاري، الأنبياء). ويقصد سيدنا لوط من قوله هذا: يا ليت كانت بي قوة حتى أمنعكم من ارتكاب المعاصي، ولكن ليس لي عليكم سلطان، اللهم إلا أن ألوذ بربي وأطلب منه أن ينزل بكم العذاب، ولكني أؤجل هذا حتى يهتدي منكم من كان الهدى من نصيبه. غير أنّ القوم عندما لم يرضوا بالتماسه الحار المخلص دعا عليهم بإذن من الله تعالى، كما يصرّح بذلك الحديث المذكور آنفًا.

ولما علم الرسل أن لوطاً يريد أن يبتهل إلى الله لهلاك القوم كشفوا له غرض قدومهم الذي كانوا يخفونه عنه، وأخبروه بأنهم قد أتوا من عند الله لنفس الغرض أي لنخبرك أن الله تعالى قد قضى بهلاك هؤلاء القوم، ولقد أُرسلنا لنخرجك وأهلك – عدا زوجتك – من بين القوم، قبل العذاب الذي سيحـل بهم في الصباح ويهلكهـم عن بكرة أبيهم.

فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (هود: 83 – 84)

شرح الكلمـات:

سِجّيل: السجّيل: حجرٌ وطين مختلط. (المفردات). السجيل: حِجارة كالمدر (الأقرب).

منضود: نَضَد المتاعَ ينضِد نَضْداً: جعل بعضه فوق بعض (الأقرب)

مُسوَّمة: المسومة: المرسَلة؛ المُعْلَمة (الأقرب)

التفسـير:

يبدو أن القوم أُهلكوا بزلزالٍ عنيفٍ مدمِّر، لأن الزلزال الشديد يؤدي إلى قلب سطح الأرض، وتطايُرِ الأحجار التي تتساقط على الأرض كالمطر.

والمراد من قوله (مُسَوَّمَة) أي أنه تعالى كان قد قدّر منذ الأزل أن تتسبب هذه الأحجار في دمار هذا القوم.

واسم والد سيدنا لوط هو حاران الذي كان أخًا لإبراهيم عليهما السلام، بحسب بيان التوراة. كان لوط قد هاجر مع إبراهيم إلى كنعان أي فلسطين من‘‘ أُور’’ الواقعة في العراق، ثم انفصل عنه وأقام في قرية باسم سدوم (التكوين 11 و 13).

وهناك عدة اختلافات بين القرآن الكريم والتوراة فيما يتعلق بقصة لوط، ففي حين تَصِمُه التوراة بعادة الشجار والحسد (التكوين 13)، يصفه القرآن الكريم بصفة الطيب والصلاح.

كما يبدو من التوراة أن الرسل الثلاثة تناولوا الطعام الذي قدّمه لهم إبراهيم (التكوين 18)، ولكن القرآن ينكر ذلك. والأعجب من ذلك أنها تقول بأن أحد هؤلاء الثلاثة هو الله والآخرين مَلَكان (التكوين 18)، ومن ناحية أخرى تزعم أنهم أكلوا الطعام. ونترك للقارئ أن يحكم بنفسه أيُّ المصدرين أقرب إلى الحق والصواب.

كما تقول التوراة بأن لوطا عرض على القوم بناته ليُشبعوا بهنّ رغبتهم الجنسية (التكوين 19)، بينما يُعلن القرآن الكريم أنه لَم يقدمهُنَّ إليهم لارتكاب الفاحشة وإنما كضمانٍ لبراءته من التآمر.

كما تقول التوراة بأن زوجته صارت عمودا من الملح عِقابا من الله تعالى (التكوين 19)، بينما لا يذكر القرآن الكريم من هذه القصة الخرافية شيئًا.

أرى أن هذه الأمثلة من الخرافات تكفي لإظهار فضل القرآن الكريم على التوراة.

وبيّن بقوله تعالى وما هي من الظالمين ببعيد أن هذا البيان ليس مجرد قصة مسلِّية، بل فيه نبأٌ بأن هذا سيحدث أيضا مع محمد رسول الله ، حيث قدر الله تعالى أن يدمِّر بعضًا من معارضيه كما دمَّر قوم لوط .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (هود: 85 و86)

شرح الكلمـات:

المكيال: ما يكال به (الأقرب) كانت الأشياء تُعرف مقاديرها في القديم بطريقين: بالإناء أي بالكيل أو بالثقل أي بالوزن. وكان الكيل عندئذ أكثر استخدامًا من الوزن. أما اليوم فالوزن هو الأكثر شيوعًا، وإن كانت السوائل يُعرف مقدارها بالكيل.

الميزان: آلة ذات كفتين يوزن بها الشيء ويعرف مقداره من الثقل. والميزان: المقدار (الأقرب)

التفسـير:

قوله (إني أراكم بخير) يعني أراكم في ثراء ورخاء. والمراد أن الغش من الفقير أيضًا عمل مشين، ولكن غشّ الغني أكثر سوءاً وأشد قبحًا.

وقوله (إني أخاف عليكم عذابَ يوم محيط).. أحاط بالشيء يعني: أهلكه. لقد وصف (اليوم) بكونه محيطاً على سبيل المجاز للمبالغة كقولهم: نهاره صائم، والمراد أن عذاب ذلك اليوم سيكون مدمِّراً للغاية.

وقد تعني كلمة (يوم محيط) أن ذلك اليوم لن ينقضي ما لم يستأصل شأفة القوم كلهم.

لقد بُعث سيدنا شعيب إلى قوم مدْيَن. ومَدْين أو مِدْيان كان ابنًا لإبراهيم من زوجته قتورة، وقد ورد ذكره في التوراة (التكوين: 25). مع العلم أن الأولاد كانوا يُدعَون في القديم باسم أبيهم، ولذلك سُميّ أولاده أيضا بمدين. أو ربما كانوا يسمَّون في البداية (بنو مدين)، فاختُصر الاسم لكثرة الاستعمال. وكانت مدينتهم المركزية أيضا تسمى مدين. وربما كان اسمها في البداية ديار مدين، فصار مدين فقط بمرور الوقت.

أما عن موقع منطقة مدين فاعلم أن البحر الأحمر ينقسم في الشمال إلى فرعين، أحدهما ُيتاخِم مصر، والثاني يتاخم شبه الجزيرة العربية، وهذا الأخير يسمى خليج العقبة. وكانت مدين تقع قريبًا من خليج العقبة على ستة أو سبعة أميال إلى جانب الجزيرة العربية. وبسبب قربها من الساحل قد اعتبرها بعض الجغرافيين القدامى مرفأً، بينما يرى الآخرون أنها لم تكن مرفأً بل كانت على بعد من الساحل. (دائرة المعارف الإسلامية باللغة الأردية، مدين شعيب).

كانت القوافل التجارية من العرب تمر بمدين في طريقها إلى مصر. ولا تزال هناك إلى اليوم قرى عديدة باسم مدين، ولكن مدين الأصلية قد اندثرت  ولا يوجد لها من آثار الآن. كان بنو مدين يسكنون في شمال الحجاز، وكانت هذه المدينة عاصمتهم.

كما تقول التوراة بأن لوطا عرض على القوم بناته ليُشبعوا بهنّ رغبتهم الجنسية (التكوين 19)، بينما يُعلن القرآن الكريم أنه لَم يقدمهُنَّ إليهم لارتكاب الفاحشة وإنما كضمانٍ لبراءته من التآمر.

لقد هاجَرَ سيدنا موسى إلى مدين عندما فرّ هاربًا من الفرعونيين بعد حادثٍ قَتَلَ فيه أحداً منهم (الخروج 2). وعندما هاجَر ببني إسرائيل أقام قريبا مِن مدين (الخروج 18). وهذه إحدى المشابهات التي كانت بين موسى وبين نبينا محمد عليهما السلام، إذ أقام النبي بعد الهجرة في المدينة، كما أقام موسى بعد الهجرة في مكان باسم مدين. مع العلم أن المدينة المنورة كانت تسمّى “يثرب” قبل الهجرة لتفشّي الأمراض والأوبئة فيها بكثرة، ولكن الله تعالى طهّرها من الأوبئة بعد هجرة النبي إليها، فسماها المدينة. وهكذا تمت هذه المشابهة الظاهرة بين النبيين الكريمين عليهما السلام.

يتبين من دراسة أحوال سيدنا شعيب في القرآن الكريم ما يلي:

  1. كان معظم معارضيه من سكان مدينته كما حدث مع النبي الكريم عليهما السلام، فقد ورد في القرآن الكريم قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنُخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودُنَّ في ملتنا قال أوَلو كنا كارهين (الأعراف: 89)
  2. كان قومه يقومون بالغش والخداع في المعاملات اليومية، إلى جانب أعمالهم الوثنية، ولأجل ذلك نصحهم خاصة ولا تنقصوا المكيال والميزان .
  3. كانوا ينعمون بالثراء والرخاء ولذلك يقول لهم سيدنا شعيب (إني أراكم بخير).
  4. كانوا يقومون بقطع الطرق على الناس ولذلك نصحهم قائلا ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها (الأعراف86) ولا تعثوا في الأرض مفسدين (هود: 86). هذه الكلمات إما تدل على عادتهم قتلَ الناس وشن الغارات أو على كونهم صعاليك يقطعون الطرق. لقد كانوا يسكنون في منطقة كانت مفترق الطرق بين الشام ومصر وشبه الجزيرة. ويبدو أنهم كانوا ينهبون المسافرين المارين بأراضيهم.

ومما يؤكد ذلك أنه كانت لأهل مدين غابة واقعة قريبًا من مدينتهم، وكان يسكنها قوم باسم “ودان”، وودان هذا كان ابن أخ لمدين. وقد سمّى القرآن أهل هذه الغابة (أصحاب الأيكة)، وقد نصحهم شعيب أيضًا بنفس ما وُعظ به أصحاب مدين حيث جاء فيه كذّب أصحابُ الأيكة المرسَلين. إذ قال لهم شعيب ألا تتقون. إني لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعونِ. وما أسألكم عليه من أجر إن أجريَ إلا على رب العالمين. أوفوا الكيل ولاتكونوا من المخسرين. وزِنوا بالقسطاس المستقيم. ولا تبخَسُوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (الشعراء: 177 – 184).

والأيكة غابة بها أشجار السِدْر والأَثْل، وهذه الأشجار تهيّئ كميناً سهلاً لقطّاع الطرق، لأن فروعها كثيرة ومائلة إلى الأرض يختفي فيها الإنسان بسهولة. وفي موضع آخر قال القرآن الكريم في وصفهم وإن كان أصحاب الأيكة لظلمين. فانتقمنا منهم. وإنهما لَبِإمام مبين (الحِجر79و80). والمراد من (وإنهما لبإمام مبين) أي أن قوم لوط وأصحاب الأيكة كانوا يقطنون منطقة يمر بها طريق عام.

يقول المفسرون بأن سيدنا شعيبا كان قد بُعث في زمن موسى عليهما السلام، وهو الذي زوَّج ابنته من موسى عندما جاءه هاربًا من الفرعونيين بعد حادث القتل (التفسير الحقاني). ولكن التوراة تقول بأن الذي أقام عنده موسى في مدين وتزوج من ابنته اسمُه حوباب أو يثرون (العدد 10 والخروج 3). ولقد أيد صاحب “أرض القرآن” رأيَ المفسرين سائقًا الأدلة التالية على صحة موقفه:

أولا: يتضح من التوراة أن موسى لدى هجرته ببني إسرائيل من مظالم الفرعونيين أقام في مدين أولاً، ولكن نسوة المدينة حاولن سَلْبَ إيمانهم واستمالَتهم إلى الشرك حيث كنَّ يأخذنهم إلى معابدهن الوثنية، فقام موسى بشن غارة على أهل مدين وقتلهم بما فيهم النساء والأطفال.

ثانيا: سجّل القرآن الكريم قول شعيب لقومه بقيةُ الله خيرٌ لكم وهو إشارة إلى نفس الغارة التي شنَّها موسى على أهل مدين، والتي انتصر فيها، فقسم جزءاً من أراضي القوم بين الإسرائيليين وترك جزءاً منها لأهل مدين. فقال سيدنا شعيب عندئذ مهدِّئاً قومه: مضى ما مضى، وعليكم الآن أن ترضوا بالقضاء الذي أصدره موسى وأن تقنعوا بما بقي في أيديكم. وإن قوله ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها أيضا إشارة إلى ما فعل بهم موسى حيث نصحهم أن يكتفوا بالبقية الباقية في أيديهم، ولا يحاربوا الإسرائيليين بعد الصلح. (أرض القرآن ج5 ص464).

إنني أتفق مع صاحب “أرض القرآن” فيما ذكره من معلومات عن أحوال مدين وموطنهم وأشيد بجهوده المشكورة، ولكني أختلف معه فيما يقول عن شخصية سيدنا شعيب . وإليكم أدلتي:

  1. صحيح أن القرآن يحكي قولهم لشعيب (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) بمعنى أن يَدَعهم لينفقوا أموالهم بحرية ويتصرفوا فيها كما يشاءون، ولكننا لا نجد في القرآن الكريم ولا في التوراة أي ذكر لحادث قتال كهذا بين أهل مدين والإسرائيليين حتى نطبق عليه هذه الآية.
  2. وقول شعيب لهم (لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) أيضا لا يعني ألا يثيروا فتنة الحرب بعد عقد الصلح مع الإسرائيليين، إذ لم ينعقد أي صلح بين الأمتين بحسب بيان التوراة نفسها، بل إنها تقول إن الإسرائيليين استولوا على أملاك أهل مدين. إذاً فلا مناص من أن نأخذ كلمة “الإصلاح” هنا بمعناها العام أي الصلاح والتقوى وليس بمعنى الصلح بعد الحرب. والمراد من قوله هذا أن لا يدمّروا بأعمالهم الفاسدة ما نالوه من صلاح وتقوى نتيجةَ تربية الأنبياء المبعوثين إليهم من قبل.
  3. تذكر التوراة أن حوباب هذا هاجر بعد دمار مدين إلى موسى ووجد هناك أرضا صالحة للزراعة. ولا نجد له أي ذكر بعد ذلك (العدد 10). وهذا يتنافى مع العقل والمنطق تماما، إذ كيف يمكن لنبي أن يترك مهمته الأساسية ويعرض عن قومه مهاجرًا إلى منطقة أخرى، ليشتغل هناك بالأعمال الزراعية متناسيًا غاية بعثته.
  4. لا تذكر التوراة حوباب كنبي أبدا، مع أنه لو كان هو حمْواً لموسى ونبيًا لَلَزِمَ أن تتحدث عن نبوته.
  5. لقد تحدث القرآن الكريم في عدة مواضع فيه عن سيدنا شعيب النبي وعن هذا الشيخ الذي كان حموًا لموسى عليهما السلام، ولكنه لم يذكر في أي موضع – ولو بالإشارة والتلميح – أن الاثنين شخصية واحدة.كما لم يقل القرآن الكريم أن حمْوَ موسى كان نبيا.
  6. انه لمما يخالف العقل أن تُدَمَّر أمة نبي بيد نبي آخر وهما على قيد الحياة. الواقع أنه على افتراض أن حربًا نشبت بين الأمتين كان من اللازم أن ينضم شعيب والذين آمنوا معه إلى صفوف موسى عليهما السلام. ولكن التوراة أيضا خالية من أي ذكر كهذا، بل لا تذكر أي شخص آمن بحوباب، بل ورد فيها على النقيض أنه لم يكن معه إلا أولاده فقط (العدد 10). بينما يؤكد القرآن الكريم وجود جماعة من المؤمنين مع النبي شعيب (هود: 93).
  7. ومما يشكل أسطع دليل وأعظم برهان على كون شعيب وحوباب شخصيتين مختلفتين هو قولُ القرآن الكريم بعد الحديث عن هلاك قوم شعيب: ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها (الأعراف: 104). فما دام القرآن الكريم صريحاً في أن موسى جاء بعد هلاك قوم شعيب فكيف يسوغ لنا الظن أن شعيبا وحوباب كانا شخصية واحدة، وأن قوم شعيب أُهلكوا على يد موسى وأصحابه.
  8. ولو اعتبرنا شعيبًا حمْواً لموسى للزم علينا القول بأن الأول لم يُبعث في قومه رسولا إلا بعد هجرة موسى بالإسرائيليين إلى مدين، وأن مهمته انحصرت فقط في أن ينصح قومه بالتصالح مع المهاجرين. مع أننا نجد أن موسى وأصحابه واجهوا أثناء هجرتهم أمماً أخرى أقوى مثل العمالقة وغيرهم، ولكن الله لم يرسل إليهم أي رسول ينصحهم بالتصالح مع موسى وأصحابه!
  9. لقد سجّل القرآن الكريم في نفس هذه السورة قول شعيب لقومه لا يَجْرِمَنَّكُم شقاقي أن يصيبَكم مثلُ ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قومُ لوط منكم ببعيد (الآية: 90)، مما يوضح أن شعيبًا جاء بعد لوط بزمن قريب. إذن فلا يصح القول بأنه بُعث في زمن موسى عليهما السلام.
  10. لو كان شعيب حمْوًا لموسى فلماذا لم ينذر قومه بعذاب أنزله الله قبل قليل من الزمان على أعداء موسى الفرعونيين، خاصة وأنه كان يريد تأييد موسى وتعزيزه؟ فكيف يُعقل أن يتغافل شعيب عن ذكر ما فعل الله لأجل موسى ضد أعدائه في مصر؟.

وبالاختصار، فإني أرى أن المفسرين قد أخطأوا في زعمهم أن شعيبًا كان حمْواً لموسى عليهما السلام. والحق أن حوباب الذي كان حمْوًا له شخص وأن شعيبا شخص آخر كلية، وأنه قد شَمَلَ الهلاكُ قوم شعيب قبل بعثة موسى، ولم يبقَ من ذراريهم عندئذ إلا قليل، بعد أن آلت قوتهم  وشوكتهم إلى الأفول تمامًا.

وأما ما تذكره التوراة مِن أن حوباب وضع نظاماً لقوم موسى فيبدو أنه كان قد استقاه من تعاليم شعيب. ذلك أن أتباع كل نبي يحققون الرقي، ولا بد أن يكون المؤمنون بشعيب قد ازدهروا، وبما أنهم كانوا قريبي العَهد من موسى، فمن الممكن تمامًا أن تكون آثار تعاليمهم وحضارتهم لا تزال باقية، فقام حوباب – الذي يبدو أنه من أمة شعيب – باقتباسها، واقترح بموجبها نظامًا لأمة موسى عليهما السلام.

بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (هود: 87)

شرح الكلمات:

بقية الله: البقية: اسمٌ لما بَقِيَ؛ مَثَلٌ في الجودة والفضل، يقال: فلانٌ بقية القوم أي مِن خيارهم، ويقال: في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا. وأولو بقيةٍ أي أولو الرأي والعقل (الأقرب)

التفسـير:

المراد من قوله بقية الله خير لكم أن ما تكسبونه بطرق مشروعة من عند الله تعالى هو خير لكم ويجب أن تروا فيه الكفاية. ويمكن أن يعني أيضا أنكم لو أحسنتم استخدام ما وهب لكم الله من قدرات وملكات لكان أدعى لرقيكم، من أن تلجأوا إلى أنواع الغش والخداع.

وبالاختصار، فإني أرى أن المفسرين قد أخطأوا في زعمهم أن شعيبًا كان حمْواً لموسى عليهما السلام. والحق أن حوباب الذي كان حمْوًا له شخص وأن شعيبا شخص آخر كلية،

ووضّح بقوله وما أنا عليكم بحفيظ أن لا تظنوا أنكم سوف تنجون من العذاب بسببـي.كلا، بل إذا لم تنتصحوا بنصحي فلا بد أن يحيطكم العذاب. وفي هذا إشارة إلى أن الناس- رغم عداوتهم الظاهرة لأنبيائهم – يكنّون لهم احترامًا بالغًا ويعتبرونهم مصدر خير وبركة لهم، لِما رأوا منهم قبل دعواهم من سيرة طاهرة وأخلاق فاضلة.

قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (هود: 88)

شرح الكلمـات:

الحليم: حَلُمَ: صَفَحَ وسَتَرَ. والحِلمُ: الأناةُ؛ العقلُ (الأقرب)

الرشيد: ذو الرشد؛ الذي حَسُنَ رُشدُه فيما قدّر؛ والرشيد في صفات الله: الهادي إلى سواء الصراط. (الأقرب)

التفسـير:

أرى أن قولهم هذا أيضا استهزاء منهم وسخرية، والمراد: ليس لك علينا من فضل ولا فرق بيننا وبينك إلا الصلاة التي تضيع فيها وقتك، وأما الجد والكد في التجارة أو الزراعة وغيرهما فلا تعرف منها شيئا. فهل تريد منا أن نضيع ما حققناه من عز وشرف ببقائنا عاطلين مثلك؟

فقولهم أصلاتك تأمرك… تشنيعٌ منهم بشعيب بأنه قد أُصيب بالخبل والخرف من كثرة سجوده وصلاته، وصار يظنّ أن الصلاة هي كل شيء. ما له وعبادتنا وأموالنا. سنعبد ما نشاء، وننفق كما نشاء.

العجيب أن شعيبًا يعظهم أن لا يأكلوا أموال الآخرين بالباطل، ولكنهم يردون عليه بقولهم: ما لك وما نفعل، نحن أحرار في أن نتصرف في أموالنا كما يحلو لنا. وكأنهم لِما تأَصّل فيهم أكلُ أموال الآخرين كانوا قد فقدوا التمييز بين الحلال والحرام لدرجة أنهم لم يدركوا أنهم لا يأكلون أموالهم هم وإنما  يمدون أيديهم إلى أموال الآخرين بالباطل.

Share via
تابعونا على الفايس بوك