دعائم الإيمان الكامل
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(152)

شرح الكلمات:

كما –تأتي للمشابهة، وأيضا للسببية، كما قال الشاعر “لا تشتم الناس كما لا تُشتم” أي لما لا تشتم (البحر المحيط) بمعنى لا تشتم الناس لأنك لا تشتم من قبل الناس.

التفسير:

إذا كانت “كما” للمشابهة فتعني الآية أن النعمة التي ذكرناها سوف نتمها عليكم مثلما أرسلنا فيكم رسولا بحسب الدعاء الإبراهيمي، وأكملنا عليكم مِنَّتنا من قبل.

الحق أن الدعاء الإبراهيمي له شقان: الأول –أن يبعث الله فيهم رسولا، والثاني –أن يُعِدَّ هذا الرسول جماعة طاهرة: فلم يكن إبراهيم يريد أن يبعث رسول ويبقى القوم كما هم ضالين، أو يأتي رسول ولا يطهرون. فمن مقتضى دعاء سيدنا إبراهيم أن يبعث رسول ويتم الجانب الآخر المترتب على البعث.. وهو إعداد جماعة طاهرة مستعدة للتضحية في كل غال ورخيص في سبيل دين الله.

ولو كانت “كما” بمعنى “لما”.. فالمعنى أننا أمرناكم بهذا لأننا قد مننا عليكم إذ بعثنا إليكم رسولا منكم، ويتلو عليكم آياتي، ويطهركم ويرفعكم إلى المدارج العليا من الروحانية، ويعلمكم الشريعة، ويطلعكم على ما وراءها من حِكم دقيقة وأسرار خفية، ولا يعلمكم ما جاء في الصحف القديمة فحسب، بل يزيد عليها ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.. فعليكم أن تذكروني كي أمنحكم حظوة عندي، واشكروني على النعم التي تنـزلت مني عليكم بطريق هذا الرسول، ولا تكفروني.

ومما لا شك فيه أن بداية كل دين كانت من ذات النبي نفسه، ولكن ليس هناك دين يقدم نبيه على أنه مكلف ببيان كل الحكم لجميع الأمور الدينية، وإنه أسوة حسنة لجميع الإنسانية. فالمسيحية –وهي أقرب الديانات زمنا قبل الإسلام –تعتبر المسيح ابن الله، وبالتالي لا تترك للإنسان فرصة لاتباع خطواته، لأن الإنسان لا يستطيع أن يكون مثل الإله. أما موسى فلا تقدمه التوراة كأسوة حسنة. أما بيان حِكم الأوامر الإلهية..فلا التوراة ولا الإنجيل يقدمان شيئًا يفيد أن موسى أو عيسى جاءا لهذا الغرض. ولكن القرآن يقول عن محمد رسول الله (يعلمهم الكتاب والحكمة).

فالإسلام يمتاز عن سائر الأديان بأن نبيه قد جاء أسوة حسنة للعالم كله، وأنه لا يفرض أحكامه بالجبر والإكراه، وإنما يقوي إيمان أتباعه ويلهب فيهم الحماس ببيان ما يكمن في هذه الأحكام الإلهية من مصالح الأفراد وللملة وللإنسانية جمعاء. هذه الآية تشبه الدعاء الإبراهيمي المذكور من قبل، ولكن هناك فرقان جديران بالملاحظة بينهما: فدعاء إبراهيم يقول (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) (البقرة: 130). وفيه ذكر إبراهيم تلاوة الآيات أولا، ثم تعليم الكتاب، والحكمة، والتزكية. ولكن هنا جعل الله الترتيب هكذا: تلاوة الآيات، ثم التزكية، وتعليم الكتاب، والحكمة. وينشأ سؤال منطقي طبيعي: لماذا غير الله الترتيب هنا؟

يجب أن نتذكر أن الدهاء الإبراهيمي مبني على مبدأ أنه كلما يبعث الله نبيا إلى الناس فإنه –أولا وقبل كل شيء –يتلوا آيات الله تعالى، أي يقدم الوحي النازل عليه، ويرى الآيات المؤيدة له والمعجزات الدالة على صدقه، وبعد ذلك تنـزل الأحكام والأوامر شيئا فشيئا مع حكمتها التي تبين الهدف منها، ثم في نهاية المطاف.. بعد رؤية الآيات والمعجزات والتدبر في الأدلة والبراهين، وفهم الحكمة من هذه الأوامر.. يهب الله لجماعة النبي تلك القداسة والطهارة التي بسببها يتغلبون على الآخرين.

أما هنا فقد اختار الله تعالى ترتيبا آخر، فذكر أولا ما يتعلق بالإيمانيات والروحانيات، فالتزكية تتعلق بالقلب، وتلاوة الآيات تتعلق بالإيمان. ثم ذكر ما يتعلق بالعلوم الظاهرة.

ولو تدبرنا لوجدنا أن الأهم والأولى من حيث المعرفة هو أن يوهب الإنسان عيونا يستطيع بها مشاهدة آيات الله تعالى، وثانيا –أن تزكِّيه مشاهدة آيات الله تزكيةً تجعل قلبه عرشا لله تعالى، حتى تنعكس في مرآة قلبه الصفات الإلهية. عندما يصقل نورُ المعرفة القلبَ الإنساني صقلا لا يبقى معه أي كدورة نفسية ولا شائبة مادية في قلبه، عندئذ يصبح مظهرًا لصفات الله، وهذا هو الهدف والغاية من الحياة الإنسانية. لذلك قدم الله تزكية النفس على الأمور الأخرى بعد ذكر تلاوة الآيات. وبعد التزكية ذكر تعليم الكتاب وتعليم الحكمة، وهي علوم ظاهرة، وبتأخيرها أشار إلى الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها من الأحكام والعبادات وحِكَمَها ليست مقصودا حقيقيا أصيلا، وإنما المقصود الحقيقي هو تزكية النفس، والاتصاف بصفات الله جل علاه، ولذلك لو دعا نبي الله أحدا وهو يصلي فمن واجبه أن يترك الصلاة ويلبي نداء نبي الله، لأنه مظهر كامل لصفات الله، وكأن صوته صوت الله تعالى، إنني أتذكر أنه مرة نادى سيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام) شخصا كان يصلي فترك الصلاة وجاءه. فاعترض بعض الناس على ذلك، فقال سيدنا المهدي: لو كان أحد يصلي وناداه نبي الله تعالى فيجوز له ترك الصلاة في ذلك الوقت (مرزا بشير أحمد، سيرة المهدي، ج1 الرواية 157).كذلك نادى سيدنا المهدي ذات مرة سيدنا الحكيم نور الدين وهو في صلاته فانصرف من الصلاة وحضر إليه. ويبدو أن سيدنا المهدي قد استند إلى قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسو إذا دعاكم لما يحيكم)(الأنفال: 25).

إذن ليست الصلاة والصوم والحج والزكاة وغيرها المقصود الأصلي وإنما هي أسباب للوصول إلى الله تعالى، وذرائع لتزكية النفس البشرية من كل أنواع الشوائب الروحانية. فمهما قال الإنسان أنه مؤمن بكتاب الله تعالى فدعواه هذه لا تساوي حبة خردل إذا لم يكن قلبه نقيا.

وبعد ذكر التزكية قدم تعليم الكتاب على تعليم الحكمة، ذلك لأن صاحب الإيمان الأعلى إنما يرى هل هذا الأمر من حبيبه أم لا، فإذا كان الأمر من حبيبه فإنه يبادر إلى عمله بدون تردد، ولكن من كان إيمانه دون ذلك فإنه أولا يسأل عن الهدف والحكمة من الأمر، ومن دون ذلك لا يعمل. المؤمن المخلص الصادق يكفيه أن هذا الأمر من الله تعالى. فيلبي صوت الله ويسرع إليه، ولكن الفلسفي يبحث عن حكمة الأمر، وما لم يطمئن عقله لا يطمئن قلبه. فلو أن الإنسان حضّ الأم على الاعتناء بطفلها محاولا إقناعها عن طريق الأدلة، وقال لها: لو لم تعتني به فسوف يختل نظام البيت ويقع الفساد كذا وكذا.. فإن هذه الأدلة لن تؤثر فيها أدنى تأثير، وإنما هي تقوم برعاية الطفل بسبب عاطفة الحب الموجودة في قلبها. لذلك قال سيدنا المهدي: إن إيمان العجائز هو الذي يحمي ويقي الإنسان من العثار، أما الذين يقعون في البحث والحجة ويتوقفون عند كل خطوة، ويقولون لماذا أمرنا بكذا وكذا، فإنهم في كثير من الأحيان يتعثرون ويضيع ما بقي عندهم من إيمان قليل. ولكن صاحب الإيمان الكامل يؤسس إيمانه على المشاهدة والرؤية. إنه يسمع لأدلة الآخرين، ولكنه لا يتأثر باعتراضاتهم؛ لأنه يكون قد رأى الله تعالى بعيونه الروحانية. ويحضرني بهذه المناسبة حدث طريف وقع مع المنشي أرُورَيْ خان –أحد صحابة سيدنا المهدي عليه السلام. كان يقول لي: قال لي بعض الناس..لو سمعت المولوي ثناء الله الأمرتسري مرة لأدركت هل المرزا [أي سيدنا المهدي]صادق أو كاذب. فسمعت لخطابه مرة. فسألني الناس: أخبرنا الآن.. هل بعد سماع كل هذه الأدلة من المولوي تظن أن المرزا صادق؟ فقلت: إنني رأيت وجه المرزا، وبعد ذلك لو أن المولوي الأمرتسري ألقي خطابه طوال سنتين أمامي ما أثر خطابه أي تأثير، ولن أستطيع القول بأن هذا الوجه كاذب. وإن لم أجد ردا على اعتراضاته فلسوف أستمر في قولي إن المرزا صادق.

لو خرجت روحي قبل وصولي إلى المسجد فماذا يكون جوابي بين يدي الله حين يسألني: ألم يأتك نداء رسولي؟ فلماذا لم تعمل به؟ إن عمله هذا يبدو في الظاهر مخالفا للحكمة، ولكن العشق له لونه الخاص. العشاق لا يبحثون عن الحِكم، وإنما هم مستعدون لما يقوله الحبيب.

فمعرفة الحكمة ليست ضرورية للمؤمن الكامل، لأنه إيمانه ليس مبنيا على العقل وإنما على المشاهدة؛ لذلك فهو لا يحتاج إلى معرفة وتفهم الحكمة من أمر الله تعالى. أما صاحب الإيمان الضعيف الذي يتحدد إيمانه في دائرة الأدلة فهو محتاج إلى معرفة الحِكم. والإيمان الكامل يتأسس على المشاهدة. أما الإيمان الناقص فعلى الحِكمة. فأصحاب الإيمان الكامل يكفيهم أن يتلو عليهم النبي آيات الله ويزكيهم. إنهم لا يرون حاجة إلى تفهم الحكم لآيات الله وأهدافها، وإنما يكتفون بسماع صوت النبي، وينهمكون في العمل كالمجانين للوصول إلى معرفة الله تعالى. مرة كان النبي يخطب وقال أثناء خطابه للواقفين حول المجلس: اجلسوا. وكان عبد الله بن رواحة[1] قادما في الطريق إلى المسجد، فما أن سمع صوت النبي حتى جلس في مكانه على الفور (الإصابة في تمييز الصحابة، حرف العين). ثم تحرك إلى المسجد في وضع الجلوس. فقال أحد الصغار: لماذا تفعل هذا؟ إنك تفعل شيئا عجيبا. إن الرسول لم يقصد هذا، وإنما قال اجلسوا للواقفين حول المجلس، ولم يقله للسائرين في الطريق. فقال عبد لله: لو خرجت روحي قبل وصولي إلى المسجد فماذا يكون جوابي بين يدي الله حين يسألني: ألم يأتك نداء رسولي؟ فلماذا لم تعمل به؟

إن عمله هذا يبدو في الظاهر مخالفا للحكمة، ولكن العشق له لونه الخاص. العشاق لا يبحثون عن الحِكم، وإنما هم مستعدون لما يقوله الحبيب.

فيجب أن نتذكر أن الحكمة تابعة للتعليم، والتعليم تابع للتزكية، والتزكية تابعة لآيات الله. الأصل هو ذات الله تعالى. ثم يأتي في المقام الثاني الوجود الذي هو مظهر لله تعالى، ثم تليه درجةً الذرائعُ التي تجعل الإنسان مظهرا لله تعالى، ثم تدفع الإنسان وترغبه في العمل. فهذا الترتيب الذي في الآية هو بحسب درجات هذه الأمور، ولكن في الدعاء الإبراهيمي، لوحظ الترتيب الذي بحسبه يترقى الإنسان ويتقدم. فأولا تقدَّم له الدلائل. ثم يُخبر بالفرائض والواجبات عليه، ثم تُبين له الحكم لهذه الفرائض والواجبات، ثم يخبر أن الذين يعملون بهذه الأمور ينالون التزكية.

والفرق الثاني بين الدعاء الإبراهيمي وما ورد في هذه الآية أنه انتهى بقوله (إنك أنت العزيز الحكيم) أما هذه الآية فتختتم بقوله تعالى (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون).. وذلك لأن إبراهيم كان دعا ربه متوسلا بصفتي (العزيز والحكيم)، فقال: يا رب، كل ما أسألك بناء على أفكاري، ولكني لا أدري ما هي حاجات ذلك الزمن، فأتوسل إليك أن تهب لهم ما يحتاجونه بناء على قدرتك وحكمتك. أما قوله تعالى (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) فبين الله فيه أن دعاء إبراهيم ربه بصفتي العزيز والحكيم قد تحقق واستجيب. فهذا النبي لا ينجز فقط ما دعا له إبراهيم من أعمال، بل يُنجزها بطريقة لم يَرْقَ إليها أي نبي. لأن حاجات ذلك العصر تفرض أن يكون تعليمه من الدرجة الرفيعة.

كما يشير قوله تعالى (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) أن تعليم هذا الرسول لا يقتصر على ما ورد في الكتب السابقة من أحكام حسنة، بل يزيد عليها ما لم يكن يعرفه العلم من قبل. وقد عبر القرآن عن ذلك في موضع آخر بكلمتي المحكمات والمتشابهات في قوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) (آل عمران: 8).. أي بعض ما أنزل عليك من الكتاب آيات هن أساس هذا الكتاب، وبعضه آيات متشابهات وهي الأحكام التي تتشابه مع الأحكام السابقة الواردة في الكتب القديمة مثل حكم الصوم، فالصوم قد ورد في تعاليم الأوّلين، وكذلك الأمر بتقديم الأضحية أمر متشابه كما قال تعالى (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) (الحج: 35). ففي القرآن من الأحكام ما يتشابه ويتماثل مع الأحكام التي وردت في الكتب القديمة، وكان هذا ضروريا. مثلا قال الأنبياء الأوائل: قولوا الحق والصدق، فهل كان يتوقع من القرآن ألا يأمر بقول الحق بل الكذب؟ فكان حتما أن تكون بعض التعاليم في القرآن الكريم تشابه تعاليم الكتب السابقة، وهذه هي المتشابهات، ولكن هناك من الأحكام ما يتميز به الإسلام عن سائر الأديان، وهذه هي المحكمات. ولو كان تعليم موسى وعيسى (عليهما السلام)من المحكمات ما كانت هناك حاجة لنـزول القرآن. فقوله تعالى (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) يشير إلى هذه الفضيلة القرآنية.

[1] ورد في التفسير اسم عبد الله بن مسعود، ولكن لم نعثر على رواية فيها اسمه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك