في عالم التفسير
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (البقرة: 42)

 شرح الكلمات:

آمِنوا: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (الذين يؤمنون بالغيب…) وقوله تعالى (وإذا قيل لهم آمِنوا كما آمن الناس…).

مُصدِّقًا: صدّقه: ضدُّ كذّبه. التصديق: نِسبةُ الصدق بالقلب أو اللسان إلى القائل؛ وقيل: هو أن تنسب باختيارك الصدقَ إلى المخبِر. المصدِّق: الذي يصدِّقك في حديثك (الأقرب).

كافر: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم…) وقوله تعالى (… فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعدّتْ للكافرين).

ولا تشتروا: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى).

آياتي: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار).

ثمنًا: الثمن: ما قدّره العاقدانِ عِوَضًا للمبيع (الأقرب).

الثمن اسمٌ لما يأخذه البائع في مقابلة الـمَـبيعِ، عينًا كان أو سِلعةً، وكلُّ ما يحصل عِوضًا عن شيء فهو ثمنه (المفردات).

والثمن: ما تستحق به الشيءَ؛ والثمن ثمن البيع؛ وثمنُ كلّ شيء قيمته، (أي قد تكون قيمة الشيء أكثر مما يُباع به، فالسعر الذي يباع به يسمى ثمنًا). قال الفرّاء في قوله عز وجل: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا : كلُّ ما كان في القرآن مِن هذا الذي قد نُصب فيه الثمن، وأُدخلت الباء في المبيع أو المشترى، فإن ذلك أكثر ما يأتي في الشيئين لا يكونان ثمنًا معلومًا… فمِن ذلك: اشتريتُ ثوبًا بكساءٍ، أيّهما شئتَ تجعله ثمنًا لصاحبه، لأنه ليس من الأثمان، وما كان ليس من الأثمان مثل الرقيق والدور وجميع العروض فهو على هذا، فإذا جئت إلى الدراهم والدنانير وضعتَ الباء في الثمن، كما قال في سورة يوسف وشروه بثمن بخس دراهم ، لأن الدراهم ثمن أبدًا (لسان العرب).

اتقونِ: أصله: اتّقوني. راجعْ أيضا شرح كلمات قول الله تعالى (هدى للمتقين).

التفسير:

تبين هذه الآية أن معنى قوله أَوْفُوا بِعَهْدِي هو التصديق بالنبي الموعود به في نبأ سفر التثنية 18:18، لأن الله تعالى قال بعدها: وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ ، ليشير إلى أن الوفاء بالعهد وخشيةَ الله والإيمانَ بما نزل على محمد ، كلها وثيقة الصلة بتكميل النعم الموعودة لبني إسرائيل.

هناك ضمير للغائب محذوف بعد بما أنزلت وهو راجعٌ إلى (ما)، والمعنى: آمنوا بما أنزلتُه.

أما قوله تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ، فهي حال لضمير الغائب في بِمَا أَنْزَلْتُ ، والمراد: آمِنوا بما أنزلته من الكلام الذي هو مصدِّق لما معكم من الكتاب، أي أن هذا الكلام يحقّق نبأَ موسى الوارد في سفر التثنية 18:18، وأيضا أنباءَ الأنبياء الإسرائيليين الآخرين، فتصديقكم لهذا الكلام وللشخص الذي نزل عليه يعني تصديقًا لأسفاركم السابقة وعملاً بها؛ وتكذيبكم له يكون تكذيبًا ورفضًا لها. فكأن الذي يؤمن من بني إسرائيل بما يقدمه محمد رسول الله من وحي القرآن، يؤمن بموسى وغيرِه من أنبياء بني إسرائيل، لأنهم الذين أنبأوا بمجيئه ، فمن رفض محمدا والكلامَ المنـزل عليه فكـأنما رفض موسى وغيرَه من أنبياء بني إسرائيل، لأنه يرفض تصديق كلامهم في الواقع، فلا يستحق النعمة المترتبة على التصديق والإيمان بهم.

ويمكن أن يسأل هنا بعض غير المسلمين: هل في الواقع أنبأ موسى ومَن بعده مِن الأنبياء بنبوءة عن مجيء نبي تحقّقَت ببعثة محمد رسول الله ؟

والجواب أن كل أمة من الدنيا قد أُخبرت بمجيء نبي في آخر الزمان، مع بيان بعض علاماته التي تحققت في شخص محمد رسول الله تحققًا كاملاً، ولا سيما أنباء أنبياء بني إسرائيل التي تواترت بكثرة بحيث يمكن أن يؤلف المرء كتابًا ضخمًا عنها.

وحيث إن الآية القرآنية قيد التفسير لم تتحدث عن نبوءات جميع الأنبياء والأديان، فلن أتناول تلك النبوءات كلها أيضا، ولكن لا بد من ذكر نبوءات أنبياء بني إسرائيل هنا في ضوء قوله تعالى: مصدقا لما معكم ، فأكتفي بذكرها فقط بإيجاز.

التصديق الأول

إن القرآن الكريم ومحمدا رسول الله يمثّلان تصديقًا لإبراهيم الذي أنبأ بازدهار بني إسماعيل، فلو لم يُبعث سيدنا محمد ولم يأت بما نزل عليه من الوحي القرآني لعُدَّ إبراهيم كاذبًا. لقد أخبر إبراهيم أن الله تعالى قال له:

{وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًّا. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً} (التكوين 17: 20)

يتبين من هذا النبأ أنه كما كان هناك وعد بحقّ بني إسحاق بأن الله تعالى سوف يكثّرهم ويباركهم ويجعلهم أمة كبيرة، كذلك كان الوعد نفسه في حق بني إسماعيل.

إذا كانت التوراة تقول أن عهد الكثرة والبركة هذا سيتحقق عن طريق بني إسحاق فقط، فسبب ذلك أن القلم كان في أيديهم، فقالوا كما شاءوا، وإلا فإن كل ما قيل في إسحاق قيل بعينه في إسماعيل؛ فلا مبرر لتخصيص إسحاق بهذا أبدًا.

تخبر التوراة أن كلام الله نزل على السيدة هاجر أيضًا، وكان فيه نبأٌ بحق إسماعيل كالآتي: }وقَالَ لَهَا مَلاَكُ الرَّبِّ:

«تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ نَسْلَكِ فَلاَ يُعَدُّ مِنَ الْكَثْرَةِ». وَقَالَ لَهَا مَلاَكُ الرَّبِّ: «هَا أَنْتِ حُبْلَى، فَتَلِدِينَ ابْنًا وَتَدْعِينَ اسْمَهُ إِسْمَاعِيلَ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ سَمِعَ لِمَذَلَّتِكِ. وَإِنَّهُ يَكُونُ إِنْسَانًا وَحْشِيًّا، يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ، وَأَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ»} (التكوين 16: 10-12).

ومع أن هذا الوحي قد نزل على السيدة هاجر إلا أنه قد وُضع في سِفرٍ من كتاب موسى ، مما يؤكد أنه وحي من الله تعالى، لذلك فهو حجة على بني إسرائيل، كما أن نبأ إبراهيم حجة عليهم.

وإن هذا الوحي يتضمن الأمور التالية:

  1. أن نسل إسماعيل سيكثرون كنسل إسحاق كثرةً تفوقُ العدَّ والإحصاء.
  2. أنهم يحرزون مجدًا عظيما حتى يحسدهم كل العالم.
  3. أنهم لن تلين قناتهم أمام العالم رغم عدائه لهم؛ بل يعيشون بعز وشرف.

وعندما جاء رسولنا محمد أعلن أنه سيحقق المجد حتى يحسده عليه العالمُ، وخاصة بنو إسحاق، وأن الله تعالى سيكتب له الغلبة على الدنيا كلها. وكأنه قد أعلن بذلك أنه مُصدِّقٌ لأنباء إبراهيم وهاجر، ولو لم يُبعث ما تحقق نبأ إبراهيم ولا نبأ هاجر المتعلقان بنسل إسماعيل، ولكن بعثته حققت النبوءتين، وصار القرآن مصدِّقًا للتوراة، أي محقِّقًا لأنبائها.

وأما ما ورد في الكتاب المقدس أن إسحاق هو الذي سيحقق الوعد الإبراهيمي، فالجواب (أولاً) قد سبق الرد عليه بأن هذا الكتاب لم يكن مصونًا من عبث المحرفين. كان بنو إسحاق يعادون بني إسماعيل عداءً شديدا، وكان الكتاب المقدس في أيديهم أيام عصر الجاهلية لزمن طويل، والله أعلمُ كم أدخلوا فيه من تحريفات. وبدون الذهاب بعيدا فإن نسخ التوراة المكتوبة في زمن النبي عزرا، وهو عصر التأريخ، تختلف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا. فهناك اختلافات كبيرة بين نسخ اليهود ونسخ السامريين ونسخ النصارى، رغم اتفاقها في الأساس. فإذا كان هذا هو الحال في عصر التأريخ، فالله أعلم بتحريف اليهود لكتبهم قبل هذا العصر.

و(ثانيًا) حتى ولو تغاضينا عن هذا العبث والتحريف، فإنه يوجد في الكتاب المقدس حتى اليوم أنباء بحق إسماعيل، وعليه فيحقّ لنا تمامًا أن نقول إن النبأ الوارد في التوراة بحق إسحاق: {وَلكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ الَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هذَا الْوَقْتِ فِي السَّنَةِ الآتِيَةِ».} (التكوين 17: 21)، إنما يعني أن بداية تحقُّق هذا الوعد ستكون بنسل إسحاق. وهذا هو ما حدث فعلاً، إذ لم يزل هذا الوعد يتحقق عن طريق بني إسحاق لمدة طويلة في البداية، ثم نقله الله تعالى إلى بني إسماعيل.

أما السؤال: لماذا تحقق الوعد ببني إسحاق أولاً مع أنه الأخ الأصغر لإسماعيل؟ فالجواب: كان من المقدَّر لنسل إسماعيل أن ينالوا النبوة التي لن تُنسخ أبدا، فلو بدأ تحقُّق الوعد الإبراهيمي بواسطة بني إسماعيل لحُرم بنو إسحاق من نعمة النبوة كلية. ومن أجل ذلك أعطى الله تعالى بني إسحاق نعمة النبوة لمدة طويلة أولاً، ثم بعث في بني إسماعيل نبيًّا كان خاتم النبيين ، الذي لن تُنسخ شريعته بشريعة أخرى، بل ستبقى إلى يوم القيامة.

ومما يدل قطعًا على أن بني إسماعيل كانوا شركاء في العهد الذي أوتيَهُ إبراهيم بحق أولاده أن علامة هذا العهد الظاهرية من جانب العباد هي الختان، وعلامة هذا العهد الظاهرية من طرف الله تعالى هي إعطاء أرض كنعان، وقد سبق أن سجلتُ الفقرة التوراتية المتعلقة بهذه العلامة، غير أني أسجلها ثانية للتأكيد والتوضيح وهي:

{وَأُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ، عَهْدًا أَبَدِيًّا، لأَكُونَ إِلهًا لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ. وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا. وَأَكُونُ إِلهَهُمْ». وَقَالَ اللهُ لإِبْرَاهِيم: «وَأَمَّا أَنْتَ فَتَحْفَظُ عَهْدِي، أَنْتَ وَنَسْلُكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ. هذَا هُوَ عَهْدِي الَّذِي تَحْفَظُونَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ: يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ، فَتُخْتَنُونَ فِي لَحْمِ غُرْلَتِكُمْ، فَيَكُونُ عَلاَمَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.} (التكوين 17 :7 -11)

لقد تبين من هنا أن هذا العهد الإلهي كان له شِقّانِ ظاهريان: شقٌّ يتعلق بالله تعالى وهو أنه سيعطي مُلك كنعان لنسل إبراهيم؛ وشقٌّ آخر يتعلق بنسل إبراهيم وهو أنهم سيختتنون. وقد وفّى الله عهده وأعطاهم أرض كنعان، ثم جاء زمنٌ نزع الله فيه أرضَ كنعان من اليهود وأعطاها للنصارى، وحيث إن عيسى ابن مريم نبيٌّ إسرائيلي، فالعهد ظلّ قائمًا بحاله في فترة حكم النصارى على كنعان، أعني بقيتْ أرض كنعان في قبضة آل إبراهيم . ولكن بدايةً من وفاة النبي محمد مباشرةً وحتى سنة 1918م -أي لحوالي 13 قرنًا- بقيت هذه الأرض تحت حكم المسلمين الذين ينتمون إلى بني إسماعيل. وبقاء الأرض المقدسة تحت حكم بني إسماعيل لثلاثة عشر قرنًا، رغم كونهم غيرَ مشاركين في العهد الإبراهيمي، يعني بطلان نبأ إبراهيم تمامًا! ولكن كلام الله تعالى لا يمكن أن يكون باطلا أبدًا، فثبت أن بني إسماعيل كانوا شركاءَ بني إسحاق على قدم المساواة في العهد الإبراهيمي.

وجدير بالذكر أن هذه الشهادة الإلهية الواقعية إذا أثبتت أن بني إسماعيل كانوا شركاء في العهد الإبراهيمي ولذلك بقيت كنعان تحت حكمهم تحقيقًا لهذا العهد، فلا بد من التسليم أيضًا بأن الجانب الروحاني للعهد، أي إعطاء النبوة من قبل الله تعالى واختتان القلب من قبل العبد، كان تحقُّقُه لزامًا في حق بني إسماعيل أيضًا. وقد تم هذا بالفعل في شخص الرسول محمد . وإلا فليقدِّموا لنا شخصًا واحدًا من بني إسماعيل تحقق فيه هذا الوعد بحسب النبأ.

التصديق الثاني

لقد قام القرآن الكريم ومحمد رسول الله بتصديق نبأ موسى التالي:

{أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلاَمِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ لِكَلاَمِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ. وَأَمَّا النَّبِيُّ الَّذِي يُطْغِي، فَيَتَكَلَّمُ بِاسْمِي كَلاَمًا لَمْ أُوصِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِ آلِهَةٍ أُخْرَى، فَيَمُوتُ ذلِكَ النَّبِيُّ.} (التثنية 18: 18-20).

يتضمن هذا النبأ الأمور التالية:

  1. أنه سيقام نبي من بني إسماعيل، إخوةِ بني إسرائيل.
  2. أن هذا النبي سيكون مثيلاً لموسى، أي صاحبَ شريعة، وتكون أحواله مشابهة لأحوال موسى.
  3. أن كلام الله سيجري على لسانه، بمعنى أنّ وحيَه كلَّه سيكون بكلماتٍ إلهية، وليس أنه يتلو أحكامَ الله تعالى بكلمات من عنده.
  4. أنه سيبلّغ الناسَ كلام الله تعالى غيرَ خائفٍ ولا وَجِلٍ، ويقرأ عليهم كلام الله كلَّه.
  5. أن هذا النبي سيتلو باسم الله تعالى ما ينزل عليه من وحيه تعالى، وسيكون هذا النبي حربًا على الشرك.
  6. أن مكذِّبيه سيتعرضون لعذاب الله تعالى.
  7. أنه إذا ادعى أحد بسبيل الافتراء أنه مصداقُ هذا النبأ الموسوي فإن الله تعالى قد قدّر إهلاكه.[1]

وتحقيقًا لكل هذه الأمور الواردة في النبأ كان سيدنا محمد رسول الله متصفًا بما يلي:

  1. لقد ظهر من بني إسماعيل إخوةِ بني إسحاق.
  2. أعلن أنه مثيل لموسى، كما قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (المزمل:16). فكان النبي صاحبَ شريعة مثلَ موسى ، وكانت أحواله مشابهةً بأحواله جِدًّا، حيث أُعطيَ شريعة كاملة، ووُعد مثلَ موسى بظهور المجددين في أمته على التوالي والتواتر، وكما أن عيسى بن مريم كان آخرَ خلفاءِ موسى عليهما السلام، كذلك وَعَدَ النبيُّ بظهور خليفةٍ له على نفس الفترة الزمنية، وسمّاه مسيحا، وقد ظهر هذا المسيح الموعود فعلاً في شخص مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية، وبعد الفاصل الزمني نفسه تماما.
  3. أعلن أن كلام الله تعالى يجري على لسانه، أي أن كل كلمات وحيه التي يتلوها على الناس هي عين الكلمات التي تتنزل على قلبه وحيًا من الله تعالى. لو قرأتم كتب الأنبياء السابقين جميعًا لوجدتم أن كلام الله فيها أقل من كلام البشر، وربما لا تجدون في الأناجيل كلها أكثرَ من جملتين أو ثلاثة من كلام الله الخالص، أما الباقي فكله كلام المسيح أو قصص كتَّاب الأناجيل. أما القرآن المجيد فهو الكتاب الوحيد الذي هو كلام الله تعالى من أوله إلى آخره.

باختصار، إن عبارة }أجعلُ كلامي في فمه{ تعني أن كلام الوحي الذي كان ينزل على الأنبياء السابقين لم يكن كلُّه وحيًا لفظيًّا، بل كان أكثره ينزل على قلوبهم معنًى، أو كانوا يرون كشوفًا فيعبّرون عنها بألفاظهم، بينما يذكر هذا النبأ خصوصية للرسول بأنه لن يبين مراد الله تعالى بكلمات من عنده، بل يبلغ مراد الله تعالى بكلمات الله عز وجل، والكلمات التي يتفوه بها لبيان مراد الله تعالى ستكون كلمات الله نفسِه.

باختصار؛ إن كلمات “أجعل كلامي في فمه” تعني أن الوحي الإلهي كان ينزل على قلوب الأنبياء السابقين، فإذا وصل من قلوبهم إلى ألسنتهم خرج بقالب ألفاظهم هم، أما محمد رسول الله فينزل وحي الله على قلبه ثم يخرج من فمه أيضًا بكلمات الله نفسها، وإلى هذا الأمر تشير الآية القرآنية: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (النجم 4-5)، أي أن هذا النبي لا يقدّم مشيئة الله تعالى في قالب ألفاظ من عنده، بل ينطق بوحي الله تعالى في قالب كلمات أنزله بها على قلبه .

  1. أنه بلَّغ وحي الله تعالى غيرَ هيّابٍ ولا وَجِلٍ، وأبلغَ الناس كلَّ حرف منه. والقرآن الكريم خير شاهد على هذه الحقيقة. لقد واجه النبي معارضة شديدة، وحاول الكفار إغراءه بكل طريق ليحذف أو يخفف من وحي القرآن ما يعيب به آلهتَهم، ولكن النبي لم يبال بهم مطلقًا، وبلّغهم كلام الله كلَّه، وفي صورته الأصلية. وقد ذكر القرآن الكريم هذا الأمر بقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (هود:13)، أي يطمع المعارضون أن تضيق ذرعًا بسبب ظلمهم، فتترك شيئًا مما أوحينا به إليك، أو ربما يضيق صدرك بسبب اعتراضهم أنه لم ينزل معك من السماء كنزٌ أو ملَكٌ يؤيدك، فتترك شيئًا مما يوحى إليك، ولكن هذا لن يحدث لأنك نذير، وكيف يخاف النذير من قوم أخبرَه الله بهلاكهم، والله تعالى وكيل على كل شيء، فأَنَّى لأحدٍ أن يخرج من نطاق حكمه وسلطانه. (للمزيد راجعْ تفسير الآية المذكورة أعلاه في تفسير سورة هود)

لقد شهد النبي بنفسه وأشهد الناس على أنه قد بلّغهم كلام الله تعالى كلَّه، ففي حجة الوداع لما نزل عليه قول الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (المائدة:4)، قام بين المسلمين خطيبًا وذكّرهم بواجباتهم، ثم قال: اللّهم هل بلّغتُ؟ أي أيها الناس أستحلفكم بالله أن تشهدوا: هل بلّغت الناس كلَّ ما أوحى به الله إليّ حقّ البلاغ أم لا؟ فقال الصحابة بلسان واحد: اللهم، نعم! فقال : اللهم، فاشهدْ! (السيرة النبوية لابن هشام، خطبة الرسول في حجة الوداع).

كما يمكن أن يكون لهذا النبأ التوراتي معنى آخر، وبيانه أنه كان من المقدر أن يكون النبي الموعود خاتَمَ النبيين، فاقتضى ذلك أن يبلّغ الناسَ كلَّ ما ينزل عليه من الوحي الديني، لكي لا يبقى شيء من الدين ناقصا، أما الأنبياء السابقون فلم يكن حالهم هكذا، إذ كان ينكشف عليهم من أسرار الدين ما لم يكن مسموحًا لهم بكشفه للناس، لأن عقلية الناس في عصورهم لم تكن قادرة على استيعاب تلك الأسرار، وإن استوعبَها عقولُ أولئك الأنبياء المتطورةُ، إذن، فالنبأ التوراتي بأن النبي الموعود يُبَلِّغ الناس كل ما يوحى إليه يعني أن العقل البشري في زمنه يكون قد اكتمل ونضج، ولذلك يُعطَى هذا النبي الموعود آخرَ الشرائع وأكملها، التي تشتمل كل الأسرار الروحانية، وسيؤمَر أن يُعلّم أمته تلك الأسرار كلها، لأنهم أهلٌ لتعلُّمها واستيعابها.

ونجد في الإنجيل إشارةً لهذا المعنى، حيث قال المسيح : }إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روحُ الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق{ (يوحنا 16: 12-13).

لقد تبين من هذه العبارة أن المسيح لم يبلّغ الناس كل ما أوحيَ إليه، لأن بعض وحيه كان خاصا به فحسب، ولم تكن أمته قادرة على استيعابه، ولكنه أخبرهم بأنه سيأتي بعده “روحُ الحق”، فيخبر الناس بكل شيء، لكونهم قادرين على استيعابه. وكأنه يقول إن روح الحق هذا سيتبوأ مقام “خاتم النبيين”.

  1. أما النبأ التوراتي الوارد في عبارة “كلامي الذي يتكلم به باسمي”، فقد تحقّقَ بابتداء كلّ سورة من سور القرآن الكريم بقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ، الذي معناه: أقرأ عليكم هذا الكلام باسم الله الرحمن الرحيم.
  2. أما النبأ الخاص بهلاك منكري هذا النبي الموعود، فقد تحقق لنبيّنا محمد تحققًا اعترف به المعارضون أيضًا، وإن كانوا يعْزون هلاك أعدائه إلى أسباب مادية، ولكن الحق أن قولهم هذا خلاف للعقل والواقع.
  3. أما النبأ بأن الله تعالى سيُهلك كلَّ مَن يدعي على سبيل الافتراء أنه مصداقٌ لهذا النبأ، فقد تحقق أيضًا بأروع صورة. كان محمد رسول الله وحيدا، ولم يألُ أعداؤه جهدًا للقضاء عليه، مع ذلك خرج فائزًا في كل موطن، ولم يستطع أحد أن يصيبه بضرر. ويستحيل أن يكون هذا كله مجرد صدفة، بل كان الله تعالى قد أخبر رسوله بذلك سلفًا وأمَره أن يعلن أمام العالم: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (المائدة:68). وإن عِصْمَة النبي من مؤامرات الأعداء بشكل خارق لآيةٌ كانت وحدها سببًا في اهتداء كثير من أعدائه. فمن أحداث التاريخ الشهيرة أن هند زوجة أبي سفيان جاءت يوم فتح مكة ضمن النساء لبيعة النبي على الإسلام، فلما أخذ الرسول عليهن ألا يشركن بالله شيئًا، فلم تملك هند نفسها من شدة الحماس وقالت: أبعْدَ كل ما رأينا بأم أعيننا نشرك بالله؟ كنتَ وحيدا وكنا عصبة قوية، وبذلنا كل ما في وسعنا للقضاء عليك، فلم نفلح في ذلك. فلو كانت أصنامنا تملك أي قدرة لقضينا عليك، ولكننا هلكْنا وخرجت فائزا (الروض الأُنف للسهيلي).

فكِّروا يا قوم، فلو لم يُبعث من بني إسماعيل نبيٌّ صاحبُ شريعة كمثل موسى، ولو لم يُلْقِ الله كلامَه في فمه، ولو لم يبلِّغ الناسَ كلامَ الله، ولو لم يبلّغهم كلام الله كلَّه رغم المعارضة الشديدة، ولو لم يُهلك الله أعداءه، ولو لم يحالفه النجاح رغم قوة الأعداء وشدة المعارضة، فكيف يتحقق نبأ موسى هذا، وكيف يتبين صدقه؟ فالوحي النازل على رسول الله برَّأ موسى من تهمة الكذب، بل وصدَّقه أيضاً.

التصديق الثالث

هناك نبأ آخر لموسى يقول فيه: }جاء الربُّ مِن سيناء، وأشرقَ لهم مِن سعير، وتلألأَ مِن جبل فاران، وأتى مع عشرة آلاف قُدُّوسيٍّä، وعن يمينه نار شريعة لهم.{ (التثنية 33: 2)

يذكر هذا النبأ ثلاثَ آيات سماوية: الآية الأولى تتعلق بالتجلي الإلهي في سيناء، وهو إشارة إلى ازدهار موسى ورقيّه، والثانية تخص التجلي الإلهي من سعير، وهو خبر بظهور عيسى من منطقة سعير، والثالثة تخص التجلّي الإلهي من منطقة جبل فاران.

والملاحظ أن التجلي الثالث قد ورد بتفصيل أكثر من سابقَيْه، مما يدل على أن هذا التجلي هو المقصود الحقيقي هنا. لقد قيل في هذا النبأ (أولاً) أن مقام ظهور هذا التجلي هو فاران، و(ثانيا) أن مَظْهَرَ هذا التجلي الإلهي يأتي بصحبة عشرة آلاف من القدوسيين، و(ثالثا) أنه سيكون في يمينه شريعة نارية.

وهذه العلامات الثلاث بتمامها وكمالها متوفرة في شخص محمد رسول الله .

فعندما انتصر الرسول على كفار مكة ودخلها حسب أنباء قرآنية واضحة، دخَلها من جهة “فاران”. ووادي “فاران” هذا يقع بين مكة والمدينة (معجم البلدان، لياقوت الحموي، كلمة: فاران).

وعندما فتح النبي مكة كان معه جيش قوامه عشرة آلاف من أصحابه القدوسيين.

كما أنه أتى الدنيا بشريعة نارية، أنها تحرق بخلق نار الحب الإلهي في الناس آثامَهم ومعاصيهم، كما أن هذه الشريعة لا تَعِد المؤمنين بالأجر والثواب فقط، بل هي تنذر المكفرين والأشرار بالعقوبات.

فلو لم يظهر محمد رسول الله ، ولم يهاجر إلى المدينة المنورة، ولم ينصره ربُّه على أعدائه، ولم تُفتَح مكة على يده، ولم يكن معه عندها عشرة آلاف من الصحابة القدوسيين، ولم تكن معه شريعة كاملة تبشّر المؤمنين بالفلاح والازدهار، وتنذر أعداء الحق بشتى العقوبات، فكيف يا ترى، يتحقق هذا النبأ من سفر التثنية (33: 2)؟ وكيف يُصدَّق وحيُ موسى ؟ إذن، فكان الوحي النازل على محمد رسول الله محقِّقًا لهذا النبأ ومصدِّقًا له، وفق قوله تعالى: مصدِّقا لما معكم .

التصديق الرابع

هناك وحي لسليمان يقول:

{حَبِيبِي أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ. مُعْلَمٌ بَيْنَ رَبْوَةٍ *. رَأْسُهُ ذَهَبٌ إِبْرِيزٌ. قُصَصُهُ مُسْتَرْسِلَةٌ حَالِكَةٌ كَالْغُرَابِ. عَيْنَاهُ كَالْحَمَامِ عَلَى مَجَارِي الْمِيَاهِ، مَغْسُولَتَانِ بِاللَّبَنِ، جَالِسَتَانِ فِي وَقْبَيْهِمَا. خَدَّاهُ كَخَمِيلَةِ الطِّيبِ وَأَتْلامِ رَيَاحِينَ ذَكِيَّةٍ. شَفَتَاهُ سُوْسَنٌ تَقْطُرَانِ مُرًّا مَائِعًا. يَدَاهُ حَلْقَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، مُرَصَّعَتَانِ بِالزَّبَرْجَدِ. بَطْنُهُ عَاجٌ أَبْيَضُ مُغَلَّفٌ بِالْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ. سَاقَاهُ عَمُودَا رُخَامٍ، مُؤَسَّسَتَانِ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ مِنْ إِبْرِيزٍ. طَلْعَتُهُ كَلُبْنَانَ. فَتًى كَالأَرْزِ. حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ وَكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ. هذَا حَبِيبِي، وَهذَا خَلِيلِي، يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ} (نَشِيدُ الأَنْشَادِ 5: 10-16).

لقد أخبر سليمان في هذا النبأ عن لون النبي بأنه أحمر أبيض، وهذا ما يثبته التاريخ.

ثم صوَّر مشهدًا لفتح مكة بأنه يرجع لوطنه منتصرًا في صحبة عشرة آلاف من الناس، وهم صحابته القدوسيون الوارد ذكرهم في نبأ التثنية 33: 2.

وفي آخر هذا النبأ ذكر سليمان اسم محبوبه : محمد. ومن أجل إخفاء هذا الاسم من النبأ قام مترجمو التوراة في العصر الحديث بتحريف كلمة “محمديم” الواردة في النبأ حيث استبدلوا بها كلمةَ “مشتهيات”. ولكن الكلمة الأصلية في العبرية هي “محمديم”. علمًا أن “يم” قد أضيف إلى كلمة “محمد” بالعبرية من أجل الاحترام، مثلما يفعلون بكلمة “ألوه” التي تعني الرب، فيكتبونها “ألوهيم”. فـ”محمديم” يعني: “محمد الموقر”.

وبسبب ورود اسم محمد في هذا النبأ، كان الناس في ذلك العصر عندما رأوا علامات قرب ظهور النبي الموعود بدأوا يسمّون أولادهم باسم “محمد”، فكان في المدينة عدة أشخاص سماهم آباؤهم محمدًا، ومنهم محمد بن أحيحة الصحابي (أُسْد الغابة).

فلقد حقّق الوحيُ النازل على محمد رسول الله هذا النبأَ أيضًا، ولولا ذلك لصار نبأ سليمان باطلا.

التصديق الخامس

وورد في الكتاب المقدس: {لِمَنْ يُعَلِّمُ مَعْرِفَةً، وَلِمَنْ يُفْهِمُ تَعْلِيمًا؟ أَلِلْمَفْطُومِينَ عَنِ اللَّبَنِ، لِلْمَفْصُولِينَ عَنِ الثُّدِيِّ؟ لأَنَّهُ أَمْرٌ عَلَى أَمْرٍ، أَمْرٌ عَلَى أَمْرٍ، فَرْضٌ عَلَى فَرْضٍ، فَرْضٌ عَلَى فَرْضٍ، هُنَا قَلِيلٌ هُنَاكَ قَلِيلٌ. إِنَّهُ بِشَفَةٍ لَكْنَاءَ وَبِلِسَانٍ آخَرَ يُكَلِّمُ هذَا الشَّعْبَ، الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ: «هذِهِ هِيَ الرَّاحَةُ. أَرِيحُوا الرَّازِحَ، وَهذَا هُوَ السُّكُونُ». وَلكِنْ لَمْ يَشَاءُوا أَنْ يَسْمَعُوا، فَكَانَ لَهُمْ قَوْلُ الرَّبِّ: أَمْرًا عَلَى أَمْرٍ، أَمْرًا عَلَى أَمْرٍ، فَرْضًا عَلَى فَرْضٍ، فَرْضًا عَلَى فَرْضٍ، هُنَا قَلِيلاً هُنَاكَ قَلِيلاً، لِكَيْ يَذْهَبُوا وَيَسْقُطُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَيَنْكَسِرُوا وَيُصَادُوا فَيُؤْخَذُوا.} (إِشَعْيَاءَ 28: 9-13)

وينكشف من النبأ الأمور التالية:

أولا: أن كلام الله تعالى سوف ينزل في زمن من الأزمان لقوم حُرموا من لبن الوحي، وفُصلوا عن أمهم، أي من النبوة بعد أن كانت فيهم. وقد ظهر محمد رسول الله في زمن كانت النبوة منقطعة لزمن طويل، وخاطب أيضًا بني إسرائيل المحرومين من لبن الوحي المفصولين عن ثدي النبوة. قال القرآن الكريم: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (المائدة:20). فقوله تعالى: عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ يشير إلى ما جاء في هذا النبأ: “لِمَنْ يُعَلِّمُ مَعْرِفَةً، وَلِمَنْ يُفْهِمُ تَعْلِيمًا؟ أَلِلْمَفْطُومِينَ عَنِ اللَّبَنِ، لِلْمَفْصُولِينَ عَنِ الثُّدِيِّ؟”

وثانيًا: الكلام الذي سوف ينزل لتلك الأمة لن ينزل دفعة واحدة، ولا في بلد واحد؛ بل يكون نزوله أمرًا على أمر، وفرضًا على فرض، هنا قليلا وهناك قليلا. وهكذا بالضبط نزل القرآن المجيد شيئا فشيئا؛ بعضه في مكة وبعضه في المدينة وبعضه في الأسفار، حتى قال الكفار معترضين: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (الفرقان:33)، ولا يزال المسيحيون يكررون نفس الاعتراض حتى اليوم رغم وجود هذا النبأ في كتابهم سِفرِ إشعياء، وهكذا يقدّمون بأقلامهم دليلاً على كون محمد رسول الله مصداقا لهذا النبأ.

وثالثا: أن هذا الوحي سوف يتلى عليهم بلسان شخص عربي، وبلغة أجنبية أي عربية؛ ذلك لأنه في بعض الترجمات كالأردية مثلا، قد وردت العبارة “بشفةِ وحشيٍّ” بدلاً من }شفةٍ لَكْناءَ{. وكلمة الوحشي تدل على العرب كما سبق أن ذكرنا أن الله تعالى عندما بشّر السيدة هاجرَ بإسماعيل عليهما السلام قال لها: }إنه يكون إنسانًا وحشيًّا{ (التكوين 16: 12). والحق أن اسم “الوحشي” الذي أُطلق على إسماعيل في الكتاب المقدس هو ترجمة لكلمة “العرب” بسبب ما كان يكنّه بنو إسرائيل من كراهية لبني إسماعيل. ومادة “ع ر ب” في العربية تعني البيان، والعرب سُمّوا عربًا لعيشهم في الخيام، وولوعهم بالشعر والأدب، وكلامهم الفصيح البليغ، بسبب عيشهم في الخيام والبادية كان أعداؤهم يسمّونهم “وحشيين”، بدلًا من أن يسموهم أهل الخيام والبادية. وقد اختار الكتاب المقدس الأسلوب نفسه، فكلما ذكر إسماعيل سماه “وحشيا”، وكلما ذكَر النبيَّ المبعوث في أولاده قال إنه سيتكلم بشفةِ وحشيٍّ، بدلاً من أن يقول إنه من أولاد إسماعيل. إن القرآن نزل باللسان العربي، وهو أمر معروف لا حاجة لذكره، ومع ذلك قال الله تعالى من أجل الإشارة إلى نبأ إشعياء هذا: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (الأحقاف:13)، أي قد جاء قبل القرآن الكريم كتاب موسى، والقرآن يحقق ما ورد في ذلك الكتاب من نبوءات، وتحقيقًا لتلك الأنباء قد نزل القرآن بلسان عربي، كي ينذر الظالمين ويبشر المحسنين.

فهذه الآية القرآنية تعلن أن نزول القرآن بلسان عربي تصديقٌ لصحف موسى ، أي أنه تصديق لنبأ (التكوين 16: 12)، حيث سُمي إسماعيل وحشيًا، أي من العرب، وأيضًا تصديقٌ لنبأ (التثنية 18:18)، حيث جاء أن وحي الشريعة لن ينزل في المستقبل على أحد من بني إسحاق، بل سينزل على إخوتهم بني إسماعيل. وكذلك تشير هذه الآية القرآنية ضمنيًّا إلى نبأ إشعياء الذي نحن بصدده، والذي هو مزيد من التوضيح لنبأ موسى .

ورابعا: سيقول النبي الموعود لليهود إن دار إقامته هي دار أمن وراحة وسكون، فأريحوا المتعَبين المجهَدين تجدوا الراحة والسكون، ولكن اليهود لن يسمعوا لقوله ولن يدَعوا ذلك المكان مكانَ أمن وراحة، بل سوف يؤذون المجهدين المتعبين.

وهذا أيضًا يصدُق على محمد رسول الله ، فإنه أعلن أنّ المدينة المنورة -التي كان اليهود يعيشون فيها معه- دارُ أمنٍ وحرمة مثلَ مكة المكرمة، وعقد معهم معاهدة لإقرار الأمن في المدينة (السيرة الحلبية)، ولكنهم لم يدَعوا المتعَبين أي المهاجرين، الذين جاءوا من سفر بعيد شاق، يعيشون في راحة هناك، فلم يجد اليهود أيضا الراحة هنالك حسب هذه النبوءة.

وخامسا: ورد في هذا النبأ أنه سينزل عليهم “أمرٌ على أمر، لكي يذهبوا ويسقطوا إلى الوراء وينكسروا ويُصادوا فيؤخذوا”. وقد تحقق هذا الأمر أيضًا على يد الرسول تماما، فإن اليهود عندما أبوا إلا حرمان المتعبين “المهاجرين” من الراحة، فإنهم أنفسهم راحوا وذهبوا، أي أُجلِيَ بعضهم من المدينة، وقُتل بعضهم، وهُزموا وألقوا السلاح أمام الرسول وصِيدوا وقِيدوا، وأُخذ بعضهم عبيدًا (سيرة ابن هشام، أمر إجلاء بني النضير وغزوة بني قريظة).

ما أشدَّ جلاءً هذا النبأَ الذي تحقق على يد النبي محمد ! فلو لم ينزل عليه هذا الكتاب العربي المبين لما أمكن تصديق نبأ إشعياء النبي وعُدَّ من الكاذبين، ولكنه تحقق بالقرآن الكريم وتم تصديقه.

التصديق السادس

قال النبي إشعياء:

{يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ: «هأَنَذَا أُؤَسِّسُ فِي صِهْيَوْنَ حَجَرًا، حَجَرَ امْتِحَانٍ، حَجَرَ زَاوِيَةٍ كَرِيمًا، أَسَاسًا مُؤَسَّسًا: مَنْ آمَنَ لا يَهْرُبُ.} (إِشَعْيَاءَ 28 : 16)

وقال النبي داود :

{الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا.} (اَلْمَزَامِيرُ 118 : 22-23)

وقال داود أيضًا:

{مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ. بَارَكْنَاكُمْ مِنْ بَيْتِ الرَّبِّ.} (اَلْمَزَامِيرُ 118 : 26)

ثم هنالك وحيٌ للنبي دانيال بهذا الشأن يفيد أن الملك الفارسي نبوخذ نصر رأى حلمًا فنسيه، فذكر ذلك للمنجمين، ولكنهم اعتذروا عن تفسيرِ حلمٍ مَنسيٍّ، فأمَر الملك بقتلهم. وكان النبي دانيال مِن أسرى السبي الذين أتى بهم الملك من أورشليم إلى بلده، فلما سمع بذلك ابتهل إلى الله تعالى ليطلعه على حلم الملك وتعبيره، فاستجاب الله له. ثم إن دانيال استأذن الملكَ ليدلّه على الحلم وتعبيره، فقال:

{أَنْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنْتَ تَنْظُرُ وَإِذَا بِتِمْثَال عَظِيمٍ. هذَا التِّمْثَالُ الْعَظِيمُ الْبَهِيُّ جِدًّا وَقَفَ قُبَالَتَكَ، وَمَنْظَرُهُ هَائِلٌ. رَأْسُ هذَا التِّمْثَالِ مِنْ ذَهَبٍ جَيِّدٍ. صَدْرُهُ وَذِرَاعَاهُ مِنْ فِضَّةٍ. بَطْنُهُ وَفَخْذَاهُ مِنْ نُحَاسٍ. سَاقَاهُ مِنْ حَدِيدٍ. قَدَمَاهُ بَعْضُهُمَا مِنْ حَدِيدٍ وَالْبَعْضُ مِنْ خَزَفٍ. كُنْتَ تَنْظُرُ إِلَى أَنْ قُطِعَ حَجَرٌ بِغَيْرِ يَدَيْنِ، فَضَرَبَ التِّمْثَالَ عَلَى قَدَمَيْهِ اللَّتَيْنِ مِنْ حَدِيدٍ وَخَزَفٍ فَسَحَقَهُمَا. فَانْسَحَقَ حِينَئِذٍ الْحَدِيدُ وَالْخَزَفُ وَالنُّحَاسُ وَالْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ مَعًا، وَصَارَتْ كَعُصَافَةِ الْبَيْدَرِ في الصَّيْفِ، فَحَمَلَتْهَا الرِّيحُ فَلَمْ يُوجَدْ لَهَا مَكَانٌ. أَمَّا الْحَجَرُ الَّذِي ضَرَبَ التِّمْثَالَ، فَصَارَ جَبَلاً كَبِيرًا وَمَلأَ الأَرْضَ كُلَّهَا. هذَا هُوَ الْحُلْمُ. فَنُخْبِرُ بِتَعْبِيرِهِ قُدَّامَ الْمَلِكِ.أَنْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ مَلِكُ مُلُوكٍ، لأَنَّ إِلهَ السَّمَاوَاتِ أَعْطَاكَ مَمْلَكَةً وَاقْتِدَارًا وَسُلْطَانًا وَفَخْرًا. وَحَيْثُمَا يَسْكُنُ بَنُو الْبَشَرِ وَوُحُوشُ الْبَرِّ وَطُيُورُ السَّمَاءِ دَفَعَهَا لِيَدِكَ وَسَلَّطَكَ عَلَيْهَا جَمِيعِهَا. فَأَنْتَ هذَا الرَّأْسُ مِنْ ذَهَبٍ. وَبَعْدَكَ تَقُومُ مَمْلَكَةٌ أُخْرَى أَصْغَرُ مِنْكَ، وَمَمْلَكَةٌ ثَالِثَةٌ أُخْرَى مِنْ نُحَاسٍ فَتَتَسَلَّطُ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ. وَتَكُونُ مَمْلَكَةٌ رَابِعَةٌ صَلْبَةٌ كَالْحَدِيدِ، لأَنَّ الْحَدِيدَ يَدُقُّ وَيَسْحَقُ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَالْحَدِيدِ الَّذِي يُكَسِّرُ تَسْحَقُ وَتُكَسِّرُ كُلَّ هؤُلاَءِ. وَبِمَا رَأَيْتَ الْقَدَمَيْنِ وَالأَصَابِعَ بَعْضُهَا مِنْ خَزَفٍ وَالْبَعْضُ مِنْ حَدِيدٍ، فَالْمَمْلَكَةُ تَكُونُ مُنْقَسِمَةً، وَيَكُونُ فِيهَا قُوَّةُ الْحَدِيدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّكَ رَأَيْتَ الْحَدِيدَ مُخْتَلِطًا بِخَزَفِ الطِّينِ. وَأَصَابِعُ الْقَدَمَيْنِ بَعْضُهَا مِنْ حَدِيدٍ وَالْبَعْضُ مِنْ خَزَفٍ، فَبَعْضُ الْمَمْلَكَةِ يَكُونُ قَوِيًّا وَالْبَعْضُ قَصِمًا. وَبِمَا رَأَيْتَ الْحَدِيدَ مُخْتَلِطًا بِخَزَفِ الطِّينِ، فَإِنَّهُمْ يَخْتَلِطُونَ بِنَسْلِ النَّاسِ، وَلكِنْ لا يَتَلاصَقُ هذَا بِذَاكَ، كَمَا أَنَّ الْحَدِيدَ لاَ يَخْتَلِطُ بِالْخَزَفِ. وَفِي أَيَّامِ هؤُلاَءِ الْمُلُوكِ، يُقِيمُ إِلهُ السَّمَاوَاتِ مَمْلَكَةً لَنْ تَنْقَرِضَ أَبَدًا، وَمُلْكُهَا لا يُتْرَكُ لِشَعْبٍ آخَرَ، وَتَسْحَقُ وَتُفْنِي كُلَّ هذِهِ الْمَمَالِكِ، وَهِيَ تَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ. لأَنَّكَ رَأَيْتَ أَنَّهُ قَدْ قُطِعَ حَجَرٌ مِنْ جَبَل لا بِيَدَيْنِ، فَسَحَقَ الْحَدِيدَ وَالنُّحَاسَ وَالْخَزَفَ وَالْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ. اَللهُ الْعَظِيمُ قَدْ عَرَّفَ الْمَلِكَ مَا سَيَأْتِي بَعْدَ هذَا. اَلْحُلْمُ حَقٌّ وَتَعْبِيرُهُ يَقِينٌ.}(دَانِيآل 2: 31-45)

لقد تبين من أنباء هؤلاء النبيين الثلاثة أنه كان من المقدر ظهورُ مَلِكٍ روحاني يكون بمثابة حجر الزاوية، أي يكون حلقةً أخيرة من السلسلة الروحانية، وسيكون ذلك الحجر ثمينًا جدًّا وقويًّا، ومن آمن به كان وقورًا جلدًا صبورًا، وهو حجر رفضه البناءون، ولسوف يسحق الملوكَ الشِداد، حجر لم تنحته يدُ إنسان.

وقد ذكر المسيح أيضًا هذا النبأ فقال: {اِسْمَعُوا مَثَلاً آخَرَ: كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْمًا، وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفَرَ فِيهِ مَعْصَرَةً، وَبَنَى بُرْجًا، وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. وَلَمَّا قَرُبَ وَقْتُ الأَثْمَارِ أَرْسَلَ عَبِيدَهُ إِلَى الْكَرَّامِينَ لِيَأْخُذَ أَثْمَارَهُ. فَأَخَذَ الْكَرَّامُونَ عَبِيدَهُ وَجَلَدُوا بَعْضًا وَقَتَلُوا بَعْضًا وَرَجَمُوا بَعْضًا. ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضًا عَبِيدًا آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنَ الأَوَّلِينَ، فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذلِكَ. فَأَخِيرًا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَهُ قَائِلاً: يَهَابُونَ ابْنِي! وَأَمَّا الْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوْا الابْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ! هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ! فَأَخَذُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُ الْكَرْمِ، مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْكَرَّامِينَ؟» قَالُوا لَهُ: «أُولئِكَ الأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلاكًا رَدِيًّا، وَيُسَلِّمُ الْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ الأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا! لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ. وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هذَا الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ!} (إِنْجِيلُ مَتَّى 21 : 33-44).

لقد ضرب المسيح في هذه الفقرة مثلاً، وبيّن أن بني إسرائيل قد رفضوا أنبياء كثيرين، فأرسل الله تعالى أخيرًا نبيًّا سُمي ابن الله، أي المسيح نفسه، ولكن بني إسرائيل رفضوه أيضًا، وقتلوه، (أي يحاولون قتله كما سنثبت ذلك في مكانه بالأدلة والبراهين)، فسيرسل الله نبيًّا يُسمَّى تجليًّا لله تعالى، ويكون حجرَ الزاوية، وعند مجيئه يُعاقَب بنو إسرائيل عقابًا تامًّا، ويُسلَّم ملكوتُ الله لقومٍ يعطون الله تعالى أثمارَه في وقتها، أي يؤدّون واجبات الله حق الأداء، ويكون ذلك الحجر من العظمة بحيث يسحق كلَّ من يصطدمُ به، ويتمزق كلُّ مَن يقع عليه.

هذه الأنباء من أربعة أنبياء: داود، إشعياء، دانيال، والمسيح عليهم السلام، تنطبق كلها على الرسول بجلاء بحيث لا ينكر ذلك إلا من أعماه التعصب. كان النبي من بني إسماعيل، الذين رفضهم بنو إسحاق باستمرار، وحاولوا حرمانهم من البركات الإبراهيمية دائمًا. وقد أعلن النبي بنفسه أنه حجر الزاوية فقال: {مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُطِيفُونَ بِهِ يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا بُنْيَانًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِلَّا هَذِهِ اللَّبِنَةَ، فَكُنْتُ أَنَا تِلْكَ اللَّبِنَةَ} (مسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه خاتم النبيين).

كان النبي درة يتيمة لا تقدّر بثمن. وكان أساسه متينًا، حيث لم يزعزعه أحد من مكانه رغم معارضة العالم الشديدة الممتدة لثلاث عشرة سنة كما تشهد على ذلك الأحداثُ. ولم يكن صحابته مستعجلين قليلي الصبر كحواريي المسيح ، بل كانوا ذوي وقار وثبات وأناة. لقد تبرأ حواريو المسيح منه وتخلوا عنه هاربين عندما ألقى جنود الرومان القبض عليه. (متى26: 56 و70-84)، لكن صحابة الرسول قالوا له في أحلك الظروف: يا رسول الله، سنقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك ولن يخلص إليك العدو إلا على جثثنا الهامدة (البخاري، كتاب المغازي، باب قول الله تعالى إذ تستغيثون ربكم…). ووصفهم القرآن الكريم بقوله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاما (الفرقان: 64)، أي أن عباد الله المؤمنين بمحمد رسول الله يمشون على الأرض بكل سكينة ووقار، ولا يستعجلون في أمورهم، وعندما يتعرضون لسبٍّ من الجاهلين لا يردّون على السبّ بالسبّ غيظًا وغضبًا، بل يقولون لهم إنما نريد لكم السلام. وقال الله تعالى في صفتهم: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (الفرقان: 73)، أي أنهم إذا مرّوا بأماكن اللهو واللعب لا يشتركون فيه ميلاً إلى ملذات الدنيا، كما فعلت أمة المسيح حيث نسيتْ ذِكر الله تعالى وانشغلت بالرقص والغناء والموسيقى. إن صحابة محمد يملكون نفوسهم ويمرّون معرضين عن متع الدنيا الفارغة إلى ما ينفعهم في أُخراهم التي لا تنقطع ثمارها.

ووُصف حجر الزاوية هذا في نبوءة الكتاب المقدس أن قدومه بمنزلة قدوم الله تعالى، وأنه سيأتي باسمه تعالى. وقد زاد المسيح هذا الأمر وضوحًا وقال إن هذا القادم باسم الله سوف يجيء بعد مَن يُسمَّى ابنَ الله. فجاء محمد رسول الله بعد المسيح ، وكان قدومه بمثابة قدوم الله تعالى. وقد أشار القرآن الكريم إلى صفة النبي هذه فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ . (الفتح:11)

وكون قدومه بمثابة قدوم الله تعالى، يشير إلى أمر آخر أيضا، وهو أن النبي سيأتي مثيلاً لموسى، إذ ورد عن موسى أنه هو الله: }فقال الرب لموسى انظرْ أنا جعلتُك إلهًا لفرعون{ (الخروج 7: 1). فتمثيل قدوم النبي الموعود بقدوم الله تعالى يعني أنه يأتي مثيلاً لموسى . وكأن هذا النبأ إشارة إلى نبأ موسى الوارد في سفر التثنية 18:18.

ثم ذكر هذا النبأ أن هذا الحجر سيسحق مَن يسقط عليه، وأن مَن سقط عليه يترضض. وهذا ما حدث مع الرسول ، فرغم فقره وضعفه الشديدين خاض الحرب ضد الأمم كلها وانتصر عليها.

الحق أن المسيح قد صوَّر غزوات الرسول أروعَ تصوير في قوله: “مَن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه”، أي أن الأعداء سيهاجمونه أولاً، فتلحقهم أضرار فادحة؛ ثم إذا كرّ هو عليهم قضى عليهم. وهذا ما حدث تماما، فلم يزل أعداؤه يهاجمونه ويتضررون وينكسرون، ولما هاجمهم كسر شوكتهم تمامًا.

وكان النبي دانيال أيضا أخبر أن حروب النبي الموعود لن تكون ضد قومه فقط، بل سيشتبك مع الحكومات القوية في عصره، فيقضي عليها. وطبقًا لهذا النبأ قُضي على إمبراطورية قيصر الرومي على يد النبي .

وكان النبي دانيال قد أشار إلى دين هذه الإمبراطورية وقال: }وبما رأيت الحديد مختلطًا بخزف الطين فإنهم يختلطون بنسل الناس، ولكن لا يتلاصق هذا بذاك، كما أن الحديد لا يختلط بالخزف{ (دانيال 2: 43). وهذه إشارة إلى أن أهل تلك الإمبراطورية يحاولون الانتساب إلى ديانة لا حقَّ لهم في الدخول فيها أساسًا. فعبارة “يختلطون بنسل الناس” لا تعني طبعًا أنهم ليسوا أناسًا كسائر البشر، لذا فلا بد من تفسيرها تفسيرًا معقولًا، وهو أنهم سيحاولون الانتماء إلى ابن الإنسان، أي المسيح عيسى ، ولكن دعواهم هذه باطلة لأن ابن الإنسان هذا لم يأت إلا “لخراف بني إسرائيل الضالة” فقط، ولا يؤذَن للأقوام الأخرى بالدخول في دينه. قال المسيح : }لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة{ (متى 15: 24). وكذلك عندما بعث المسيح الحواريين مبشرين أمَرهم: }إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا{ (متى 10: 5). فالرومان الذين ادّعوا انتماءهم إلى المسيحية إنما مَثَلُهم كَمَثَل الذي ينسب نفسه إلى قوم لا يحقّ له الانتساب إليهم.

وأما ما قلتُ بأن المسيح هو المراد من “نسل الناس” أو بعبارة أخرى “ابن الإنسان”، فدليله أن هذا الاسم للمسيح مذكور في الإنجيل بكثرة، فمثلا قيل: }لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر من المغارب، هكذا يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان{ (متى 24: 27).

ثم وُصف هذا الحجر في النبوءة بأنه }قُطع من جبل ولم تقطعه أو تنحته يد إنسان{، ومعناه أن النبي الموعود سيكون أُمِّيًّا لم يتعلّم على يد بشر. وكان الرسول أمّيًّا، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الجزئية من النبأ في قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ (الأعراف:158).

تعلن هذه الآية أن التوراة والإنجيل قد وَصَفا محمدا رسول الله بثلاثة أسماء: الرسول، النبي، الأمّيّ. ولقد وصف الكتاب المقدس النبيَّ الموعود بأنه حجر لم تنحته يد إنسان، وقد صدّق الإنجيل هذا النبأ، وكأنه أخبر أن النبي يكون أمّيًّا.

لقد حاول البعض بسبب جهلهم تطبيقَ هذا النبأ على المسيح الناصري ، ولكنهم لا يدركون أن المسيح لم يكن أُمِّيًّا، بل كان له معلّمون من البشر، حيث ورد: }حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمِدَ منه{ (متى 3: 13). وجاء أيضًا: }فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء{ (متى 3: 16). فالمسيح لم يتلقّ التعليم المادي فقط، بل تتلمذ على يد النبي يحيى من أجل التعليم الروحاني أيضًا. فلا يمكن، والحال هذه، أن يسمَّى أمّيًّا.

ثم إن المسيح لم تكن صفته: “مَن سقط عليه يترضض، ومَن يسقط هو عليه يسحقه”، بل سقط الناس عليه وآذوه إيذاء شديدا، ولم يجد فرصة للسقوط على الآخرين.

فلو لم تتحقق هذه الأنباء بوجود النبي لعُدَّ كلٌّ من داود وإشعياء ودانيال والمسيح عليهم السلام من الكاذبين، والعياذ بالله. فالقرآن الكريم قد صدَّق كلام هؤلاء الأنبياء جميعًا بتحقيق أنبائهم.

التصديق السابع

جاء في الإنجيل: {فَتُوبُوا وَارْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ، لِكَيْ تَأْتِيَ أَوْقَاتُ الْفَرَجِ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ. وَيُرْسِلَ يَسُوعَ الْمَسِيحَ الْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ، الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ السَّمَاءَ تَقْبَلُهُ إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ، الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا اللهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ. فَإِنَّ مُوسَى قَالَ لِلآبَاءِ: إِنَّ نَبِيًّا مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لا تَسْمَعُ لِذلِكَ النَّبِيِّ تُبَادُ مِنَ الشَّعْبِ. وَجَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ أَيْضًا مِنْ صَمُوئِيلَ فَمَا بَعْدَهُ، جَمِيعُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا، سَبَقُوا وَأَنْبَأُوا بِهذِهِ الأَيَّامِ. أَنْتُمْ أَبْنَاءُ الأَنْبِيَاءِ وَالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ بِهِ اللهُ آبَاءَنَا قَائِلاً لإِبْراهِيمَ: وَبِنَسْلِكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ. إِلَيْكُمْ أَوَّلاً، إِذْ أَقَامَ اللهُ فَتَاهُ يَسُوعَ، أَرْسَلَهُ يُبَارِكُكُمْ بِرَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَنْ شُرُورِهِ.} (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 3 : 19-26)

ومع أنَّ هذا النبأ قد ورد في سِفر أعمال الرسل، ولكن لا بد أن يكون المسيح نفسه قد تنبأ به، لأن الحواريين كانوا ينقلون أقواله، ويعتقد النصارى أن كل ما قاله الحواريون قالوه تحت تأثير روحي للمسيح، ومن أجل ذلك سجلوا أعمال وأقوال الحواريين في كتبهم المقدسة، واعتبروها أسفارًا من الكتاب المقدس. كما أن هذا النبأ قد أدلى به المسيح بكلمات أخرى سبق أن ذكرناها في “التصديق السادس”. وعليه، فإن بِوُسعنا أن نجزم بأن هذا النبأ الوارد في سفر الأعمال هو من أقوال المسيح .

ويتضمن هذا النبأ ما يلي:

  1. لن ينزل المسيح إلى الدنيا مرة أخرى ما لم يتحقق ما أنبأ به موسى ، أي أن الله تعالى سوف يبعث نبيًّا مثله من إخوة بني إسرائيل.
  2. ليس موسى وحده الذي تنبّأ بمجيء هذا النبي الموعود، بل قد تنبأ به أيضًا كل الأنبياء من بعده بدءًا من النبي صموئيل.
  3. كان المجيء الأول للمسيح بمنزلة البشارة بمجيء ذلك النبي الموعود، لأن المسيح قال: لقد أرسل الله فتاه يسوع إليكم أولاً ليردّ كلّ واحد منكم عن شروره.

ولقد أثبتُّ من قبل أن نبينا محمدا كان هو النبي المثيل لموسى، أو “ذلك النبي” بحسب تعبير الإنجيل، فثبت أن هذا النبأ الذي يؤكد بقاء المسيح في السماء إلى “أزمنة ردِّ كل شيء” -أي إلى تحقُّقِ كل الأنباء، سيّما نبأ ظهور مثيل لموسى- يبشّر ببعث نبينا محمد . كما يبين هذا النبأ أن البعثَ الأول للمسيح الناصري كان تمهيدًا لمجيء ذلك النبي الموعود، لكي يطهّر قلوب الناس من الشرور، ويزيل ما ران على قلوب اليهود من جفاء وتحجر، لكي يكونوا أهلاً للإيمان بهذا الموعود عند مبعثه. وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في قوله: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (المائدة: 83-84).

فالقرآن أيضًا يصدّق بهذا النبأ الذي أدلى به المسيح ، أي أنه قد جاء قبل النبي محمد ليطهّر قلوب الكثيرين من الذنوب، ويباركهم، حتى يكونوا أهلاً لتصديق النبي المثيل لموسى.

فجاء نبينا محمد رسول الله تحقيقًا لهذا النبأ المذكور آنفًا، وهكذا صار مصدِّقًا للمسيح وللأنبياء الآخرين منذ صموئيل، ولو لم يأت لعُدَّ كلُّهم من الكاذبين.

كثيرةٌ الأنباء التي تحققت في شخص الرسول ، فصار مصدِّقًا لكلام كثير من الأنبياء السابقين، غير أني أكتفي بهذا القدر منها، إذ يستطيع كلُّ منصفٍ خالٍ من التعصب أن يتبيّن بهذه الأمثلة مدى صدق القرآن الكريم في قوله لبني إسرائيل: [RB]وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم . إن القرآن الكريم تحقيقٌ للأنباء الواردة في كتب بني إسرائيل، فالذي يكفر منهم بالقرآن فإنه لا يكفر به فحسب، بل يكفر بكتبه التي أنبأت بنزوله.

لقد أساء بعض كتَّاب النصارى فهم هذه الآية، فظنوا أنها إعلان من القرآن بأنه يصدّق كلّ ما جاء في كتبهم من غثّ وسمين، وبناءً على فهمهم الخاطئ هذا يقولون: ما دام كتابهم المقدس صحيحًا بحسب اعتراف القرآن، فقد ثبت بطلان القرآن، لأن مضامينه تخالف الكتابَ المقدس.

إنني لا أفهم أبدًا هذه العقلية، أعني أن يقال: ما دام زيد يصدّق بكرًا، فلا بد أن يكون زيد على الباطل! هل الظلم جزاء الإحسان؟! الحق أن هذه الآية لا تعني أبدًا ما حاول هؤلاء القساوسة استنتاجه منها، كما هو واضح مما ذكرت آنفًا. لقد انخدع هؤلاء بكلمة مُصَدِّقًا ، مع أن التصديق له مدلولان: الأول نسبةُ الصدق إلى القائل، والثاني: تحقيقُ ما قال القائل، والمعنى الثاني هو المراد هنا. قال القرآن الكريم في موضع آخر: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (آل عمران: 82-83).

والظاهر من هذه الآية أن القرآن الكريم يعلن أن جميع الأنبياء أخبروا بمجيء نبيٍّ يصدِّق كتبهم جميعًا، ويكون الإيمان به ضروريًّا لكل الأمم.

ونقرأ في القرآن الكريم أنه يقول عن الأنبياء: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ (فاطر:25). ويقول أيضًا: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (فاطر:32). أي أن الكتاب الذي أنزله الله عليك كله حقٌ ويصدّق كل وحي نزل على الأنبياء من قبل.

إذا قرأنا هاتين الآيتين معًا توصلنا إلى أن الأنبياء بُعثوا في كل قطر وفي كل شعب؛ وأن النبي الموعود في هذه الآية يُصدِّق كتابَ كلّ نبي، ولا بد أن يؤمن به أتباعُ كل نبي؛ بعبارة أخرى إن تصديق القرآن الكريم للتوراة والإنجيل هو كتصديقه للكتب الأخرى مثل “الفيدا” و”الزندأفستا” وسائر كتب الأنبياء حيثما بُعثوا في مختلف أقطار الأرض. ولكننا نجد أن هذه الكتب كلها في شكلها الحالي تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرا. ولو قبلنا بصحتها بشكلها الحالي، مع كونها يكذِّب بعضُها بعضا، لانهارَ صرحُ الدين تمامًا ولم يبق منه شيء. ولو سمّيناها كتب الله بشكلها الحالي لكذّبْنا الأنبياء الذين تُنسَب إليهم. فمثلاً، هل يمكن القول بأن كل التوراة في شكلها الحالي هي الوحي الإلهي الذي نزل على سيدنا موسى ، مع أنه قد ورد فيها: {فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مُوآب حسب قول الرب، ودفَنه في الجِواء في أرض مُوآب، مقابل بيت فَغُور، ولم يعرف إنسانٌ قبرَه إلى هذا اليوم.} (التثنية 34: 5 – 6)

وكذلك ورد فيها: {وَيَشُوعُ بْنُ نُونٍ كَانَ قَدِ امْتَلأَ رُوحَ حِكْمَةٍ، إِذْ وَضَعَ مُوسَى عَلَيْهِ يَدَيْهِ، فَسَمِعَ لَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَعَمِلُوا كَمَا أَوْصَى الرَّبُّ مُوسَى. وَلَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى الَّذِي عَرَفَهُ الرَّبُّ وَجْهًا لِوَجْهٍ}(التَّثْنِيَة 34: 9-10)

يتضح من هذه الفقرات جليًّا أنها كتبت بعد وفاة سيدنا موسى بفترة طويلة، بل في وقت انمحى فيه أثر قبره وجاء بعده كثير من الأنبياء في بني إسرائيل، لأن العبارة تقول: “ولم يقُمْ بعدُ نبي في إسرائيل مثل موسى”. فهل من عاقل يسلِّم بأن موسى عاد إلى الدنيا بعد وفاته بمئات السنين وأضاف هذه العبارة إلى كتابه؟ وإذا كان هذا غير صحيح، وكانت يدٌ أخرى أضافت هذه العبارة إلى كتاب موسى بعد قرون من وفاته، فمَن يدري ما أضيف إليه خلاف ذلك؟ فأيَّ الفقرات يصدّقها القرآن وأيَّها لا يصدّق؟ وكيف نميّز -في هذا الكتاب المحرَّف الذي يعترف علماؤه أنفسهم أنه قد أُلِّف بأيدٍ كثيرة وفي أزمنة مختلفة- بينَ كلام الله حتى نصدّقه، وبين كلام البشر حتى نرفضه؟

كذلك ورد في الإنجيل أن المسيح [AAS] قال للحواريين: }الحقّ أقول لكم إن مِن القيام ههنا قومًا لا يذوقون الموت حتى يروا ابنَ الإنسان آتيًا في ملكوته{ (متى 16: 28)، بينما الأمر الواقع أنهم جميعًا ماتوا، وماتت بعدهم أجيال وأجيال، ولم ير أحدٌ حتى اليوم ابنَ الإنسان آتيًا في ملكوته بحسب اعتقاد المسيحيين أنفسهم.

ولو قيل أن مجيء المسيح يعني ازدهار أمته، فهذا أيضا تأويل خاطئ، لأن المسيحيين إنما حققوا الازدهار والرقي بعد حادثة الصليب بثلاثة قرون، ولم يكن عندها أحدٌ ممن عاصر المسيح حيًّا حتى يرى هذا الازدهار.

فليخبرنا القساوسة المحترمون الذين يقولون بأن تصديق القرآن لكتبهم يعني أنه يقرّ بصحّتها، كيف يمكن للقرآن أن يصدق هذه الأمور؟

إن أكبر ما يعتقده النصارى أن الأناجيل تعلِّم ألوهية المسيح والأقانيم الثلاثة، ولكن القرآن الكريم يقول: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (المائدة: 74). فهذه الآية وكثير مثلها تبيّن بكل جلاء أن القرآن لا يصدِّق أبدًا ذلك الإنجيل الذي يقدِّمه المسيحيون اليوم. والأكبر من ذلك أن القرآن لا يصدّق مطلقًا ما يقدّمه المسيحيون المعاصرون من مفهوم لما ورد في الإنجيل. فماذا عسى أن يغنيهم هذا التأويل لمعنى التصديق؟

الحق أن تصديق البشر يتم بطريقين: أولاً أن نقول عن شخص إنه صادق فيما يقول، وثانيًا أن نثْبت صدقَ قوله سواء بلساننا أو بفعلنا، فمثلا نقول: فلان صادق فيما يقول، أو نصدق بفعلنا ما قاله، كأن يخبر زيد عن عمرو أنه سيسافر إلى بلد ما، فإذا سافر عمرو فقد صدّق بفعله زيدًا.

أما تصديق الكتب السماوية فيكون بثلاث طرق:

  1. القول بأن الكتاب كله حق.
  2. القول بأن بعض أجزائه حق.
  3. القول بأنه كان في أول أمره حقًّا، أي أنه كان قد نزل من عند الله تعالى، وأن مَن جاء به كان صادقًا لا كاذبًا، ولكن الناس حرفوه فيما بعد.

وقد أثبتُّ سلفًا أن التصديق التام للكتب السماوية السابقة محالٌ،كما أنه ما كان للقرآن الكريم أن يفعل ذلك أبداً. إنه محال، لأن معظم تلك الكتب لا توجد اليوم، وإنه أمرٌ ما كان القرآن ليفعله، لأنه يبيّن أخطاءها، فأنّى له أن يصدّقها التصديق التام. فلم يبق أمام القرآن إلا طريقتان لتصديقها: إما أن يصدّق ببعض أجزائها، أو يصدّق بحالتها الابتدائية. وبالفعل يصدق القرآن الكتب السابقة بهاتين الطريقتين: (1) فإنه يصدق الكتب الموجودة اليوم في الدنيا بالطريقتين كلتيهما: أي أنه يصدق بعض ما ورد فيها من قضايا ومسائل، وبعض ما ورد فيها من أنباء بتحقيقها في وجوده؛ (2) كما يعلن أن كل الكتب السماوية كانت حقًا مئة بالمئة عند نزولها في أول الأمر، فهو يعلن صدْق الوحي الذي نزل على آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وكرشنا ورام شندر وزرادشت وغيرهم من أنبياء الله عليهم السلام، الذين بعثوا في شتى العصور وفي مختلف الأقطار وإلى شتى الشعوب، سواء عرفنا أسماءهم أم لا. لقد أعلن القرآن الكريم: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (غافر:79). فقد بين الله تعالى هنا أن الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم ليسوا وحدهم أنبياء الله تعالى؛ بل هناك أنبياء آخرون أيضا بعثهم الله تعالى.

ثم أثار القرآن الكريم هنا سؤالاً: كيف نعرف صِدْق الأنبياء الذين لم تَرِدْ أسماؤهم فيه؟ فبيّن الله تعالى أن علامة صدقهم أنهم يأتون بالآيات، ولا يمكن لأحد أن يأتي بالآيات بدون إذن الله وعونه تعالى، فمن أتى منهم بآية فهو نبي صادق يقيناً.

ثم إن كثيرًا من الآيات تتطلب شهود عيان وعلمًا تفصيليًّا للواقعات، ولا علم لنا بالأحوال التفصيلية للكثيرين الذين تقدمهم بعض الأمم كأنبياء لهم؛ فكيف نعرف صدقهم؟ فأجاب القرآن الكريم على ذلك بأن هناك آية مشتركة بين جميع الأنبياء، وملازمة لكل نبي دائمًا، ألا وهي: (1) هلاك أعداء النبي في نهاية المطاف، (2) وبقاء اسمه في الدنيا وغلبة أتباعه. فإذا رأيتم هذه الآية في مُدّعٍ للوحي، فاستيقنوا أن الله تعالى معه وليس كاذبًا.

لقد تبين من هذه الآية أن القرآن الكريم لا يصدّق الأنبياء المذكورين فيه فقط، بل يصدق أيضًا مَن لم يَذكُر أسماءهم، وإذا كان القرآن مصدّقًا لهم فهو مصدّق لوحيهم أيضًا، ولا سبيل لتصديق هذا الوحي الغائب أو غير المذكور إلا أن نؤمن بصدقهم إيمانًا إجماليًّا.

فالمعنى الآخر للتصديق هو الإيمان الإجمالي بها، أي أن الكتب السابقة قد نزلت من الله تعالى في البداية، وهذا هو التصديق الذي يصدّق به القرآن الكريم كتب اليهود والنصارى أيضا. إذن، فمن الظلم العظيم أن يستنتج أحدٌ من قوله تعالى مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ أن القرآن الكريم يعلن بذلك صحة كتبهم في صورتها الراهنة. ثم إن آيات القرآن الكريم الأخرى، والواقعات، والشهادات الداخلية للكتب الأخرى تبطل هذا الزعم.

وهناك أمر لطيف جدير بالذكر، وهو أن هذه الآية لا تقول أن القرآن مصدّقٌ للتوراة والإنجيل، بل تقول: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ، فلو فُسّر قوله تعالى لِمَا مَعَكُمْ بمعناه الواسع لصار المراد أن القرآن الكريم يصدِّق أساطيرهم وأباطيلهم أيضًا، وهو باطل بالبداهة. فلا بدّ من تقيد معناه بشروط معقولة، فمثلاً نقول:

أولاً: إن القرآن الكريم مصدّقٌ لكتبهم في مسألة معينة مذكورة في سياق تلك الآيات القرآنية، أي أن التعاليم التي يقدمها القرآن الكريم في مسألة معينة هي نفس التعاليم الموجودة في كتبكم. أي التصديق خاصّ ليس بمطلق. وبهذا المفهوم نفسه فسّرت هنا قوله تعالى: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ، وقلت إن القرآن الكريم يصدّق الأنباء الواردة في كتبكم، أي يحققها بنزوله.

ثانياً: إن القرآن الكريم مصدّق لِمَا مَعَكُمْ مِن وحي الله الخالص. ولا اعتراض على هذا المعنى أيضا، فأي شك في أن مِن واجب كلّ وحي سماويّ أن يصدِّق ما في الكتب السابقة من كلام إلهي خالص. ومثل هذا التصديق لا يعني أبدًا أن كل ما في كتبهم هو وحي الله تعالى حتمًا.

وهناك أمر آخر بصدد هذا الاعترض جدير بالاهتمام، وهو أن الله تعالى كلما ذكر في القرآن الكريم تصديقه للكتب السابقة استعمل صلة “اللام”، ما عدا موضعين، بينما كلما ذكر تصديق القرآن الكريم لنفسه وللرسول استعمل صلة “الباء”. والمعروف في اللغة أن دخول حرف الباء على الفعل صدَّق[LB] كان المراد أن هذا الشيء حقٌّ. فهذا الفرق في استخدام حرفيْ اللام والباء يؤكد أن تصديق القرآن الكريم للكتب السابقة له معنىً آخر؛ وهو أن القرآن الكريم بنزوله يحقق ما في تلك الكتب من أنباء، وليس أنه يعدّها صحيحة جملةً وتفصيلاً بما فيها من رطب ويابس. وهناك آيات قرآنية تؤكد هذا الاستدلال أيضًا، فقد جاء: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (الأحقاف: 11إلى 13). علمًا أن الخطاب في الآيات السابقة لهذه الآية الأخيرة موجه إلى كفار مكة لا إلى اليهود، حيث قيل لهم إن موسى قد شهد وأخبر بمجيء نبي مثيل له يُبعَث من بني إسماعيل، أفليس غريبًا أن يؤمن به موسى الذي هو من بني إسحاق (إسرائيل)، بينما أنتم تستكبرون عن الإيمان به مع أنه نبي منكم، ومبعثه مدعاة شرف لقومكم بني إسماعيل؟

ثم يخبر الله تعالى هنا أن الكفار يقولون بأنهم رفضوا هذا النبي لكذبه، ودليلهم على ذلك أنه لم يسبقهم إلى الإيمان به سوى أراذل القوم، أما أكابرهم فهم معارضون له، فلو كان صادقًا لكان صناديدهم سباقين إلى الإيمان به. فردّ الله على قولهم هذا وقال إن كتاب موسى كان قبل القرآن الكريم وقد تأكد صدق كتابه بما فيه من الهداية والنفع، ويوجد فيه أنباء عن نزول القرآن الكريم، وقد حققها بالفعل وحيُ القرآن، ومن تلك الأنباء أن الكتاب الذي ينزل بعد موسى سيكون بلسان عربي، وأن قومه سوف يعارضونه؛ فما دام القرآن يحقق تلك الأنباء الصادرة قبل مئات السنين، فكيف يجوز لكم رفضه؟

ونبأُ نزول الشريعة القادمة بلسانٍ عربيٍّ مستنبَطٌ مِن سفر (التثنية 18: 18)، حيث ورد أن النبي الموعود سيُبعَث من إخوة بني إسرائيل، أي من بني إسماعيل الذين هم العرب. ونبأُ معارضة النبي الموعود من قبل قومه مستنبَطٌ من سِفر (التثنية 33: 2)، حيث ورد أنه سيأتي في صحبة عشرة آلاف من القدوسيين، وأن في يده اليمنى نارَ شريعة، أي أنه سيأذن بالقتال ويحارب عند الضرورة. والواضح أن الإنسان يضطر للحرب عندما يعارضه قومه ويكونون ذوي قوة ومنعة. فقولُ قريش بأنهم عِلية القوم ولم يؤمنوا به، فليس هو بدليل على صدقهم، بل هو دليل على صدق القرآن الكريم والنبي ، لأنهم بقولهم هذا يحقّقون ما سبق أن تنبأ به موسى. فهذا الأمر تصديق لمحمد رسول الله من جهة، ومن جهة أخرى يبين صدق موسى .

فهذه الآية من سورة الأحقاف تكشف معنى التصديق جليًا، لأن تصديق التوراة باللسان والقول فقط ما كان حجةً مقنعة للكفار، إذ كان القرآن والتوراة كلاهما باطل عندهم، إنما كانت الحجة المقنعة لهم أن يحقق القرآنُ بنزوله أنباءَ التوراة، لأن تحقيق نبوءةِ أيّ نبي سابق تكون حجة على كل إنسان، لأنها تشتمل على أخبار الغيب. إذًا، فليس معنى التصديق في هذه الآية من سورة الأعراف إلا تحقيق نبأ ما، وهذا ما تعنيه الآية: مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وغيرُها من الآيات المماثلة.

أما قول الله تعالى: وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ فيتضمن مسألة لغوية تحتاج إلى توضيح، حيث قيل أولاً: وَلَا تَكُونُوا وهي بصيغة الجمع، ثم قيل: أَوَّلَ كَافِرٍ وهي بصيغة المفرد، فكيف هذا؟

وقد أجاب علماء اللغة على هذه المسألة بأجوبة شتى منها:

إذا كانت صيغة أفعل التفضيل -مثل (أوَّلَ) هنا- مضافةً إلى صفة نكرة جاز ورود الصفة مفردةً  أو جمعًا، وقد قدّم الفرّاء مثالاً على الاستعمالين قولَ الشاعر:

وإذا هُمُ طَعِموا فأَلأَمُ طاعمٍوإذا هُمُ جاعوا فَشرُّ جِياعِ

فجاء لفظ (طاعم) هنا مفردا كما ورد لفظ (كافر) في قوله تعالى أَوَّلَ كافِرٍ به مفردًا، بينما وردت كلمة (جياع) جمعًا. فاستخدم الشاعر الأسلوبين في بيتٍ واحد.

وقال الفرّاء أيضًا: إذا كان أفعل التفضيل مضافًا إلى نكرة أوّلوها، فمثلا تقديرُ طَاعِمٍ هو: مَنْ طَعِمَ، فكلمة كافر في قوله أَوَّلَ كَافِرٍ هي بمعنى: أوّلُ مَن كَفَرَ، والتقدير: لا تكونوا أولَّ فريقٍ كافرٍ به.

وقال آخرون: تقديره: لا يكن كلُّ واحد منكم أوّلَ كافرٍ به.

وقال اللغوي سيبويه: تقديره: لا تكونوا أوّلَ كافرين به (البحر المحيط، والزمخشري).

وليس المراد أنه لا تكونوا أوّلَ كافر به، ويمكنكم أن تكونوا آخر كافر به، وإنما هذا أسلوب عربي حيث يستحسنون حذف بعض الكلام، والمعنى: لا تكونوا أولَّ كافر به، ولا تكونوا آخرَ كافر به، أي لا تتعجلوا في الكفر أول الأمر ولا تكفروا فيما بعد أيضا. ومثاله عند المفسرين قول الشاعر:

مِن أناس ليس في أخلاقهمعاجلُ الفحش ولا سوءُ جَزَعْ

 (البحر المحيط)

إذ ليس المراد أنهم لا يتفحشون عاجلين، بل يتفحشون آجلين، وإنما المراد لا يتفحشون أبدًا.

وعندي أنه يمكن تفسير هذه المعضلة بغير ذلك، وهو: أن الله تعالى قال هنا لبني إسرائيل إن القرآن الكريم ما دام مصدّقًا لأنباء كتبكم فكفركم به يصبح كفرًا من الدرجة الأولى، إذ يمكن غض الطرف عن كفر الجاهلين بحقيقة الأمر ويُلتمس لهم العذر، أما أنتم فلا عذر لكم. فليس المراد أنه يجوز الكفر من الدرجة الأدنى، أو يجوز الكفرُ في وقت لاحقٍ؛ بل المراد أن الكفر بالقرآن لا يجوز بأي حال، أما كفركم به فهو من الدرجة الأولى، أي هو من أشد أنواع الكفر وأخطره، ويجعلكم في مقدمة الكافرين. ونجد نظير هذا التعبير في قول الله تعالى: وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (ق:30)، فـكلمة (ظَلَّامٍ) صيغة المبالغة، ومع ذلك ليس المراد أن الله تعالى لا يبالغ في الظلم، غير أنه يظلم ظلمًا قليلا، وإنما المراد أنه تعالى يبدو ظالما كبيرا -والعياذ بالله- ببادي النظر إلى الأمور المذكورة في الآيات السابقة، ولكنه تعالى ليس كذلك أبدًا. وفي لغتنا الأردية أيضًا نقول: لماذا تظلمه لهذه الدرجة، وليس معناه أنه يمكنك أن تظلمه ظلمًا قليلًا، بل المراد أن الظلم لا يجوز مطلقًا فلماذا تظلم هذا الظلم العظيم. أو نقول: لا تكذب لهذه الدرجة، والمعنى أن الكذب مذموم وشنيع، فلا تكذب.

وضمير الغائب في قوله تعالى كَافِرٍ بِهِ يمكن أن يكون عائدًا على (ما) الواردة في قوله بِمَا أَنْزَلْتُ ، والمراد: لا تكونوا كافرين بما أنزلتُه من وحي جديد، أي القرآن الكريم. كما يمكن أن يرجع ضمير الغائب هذا إلى (ما) في قوله تعالى: لِمَا مَعَكُمْ ، والمراد: إن هذا القرآن يحقق أنباء كتبكم، فإذا كفر بها غيركم فليكفر، ولكن لماذا تتعجلون أنتم في تكذيب كتبكم بأنفسكم؟

ثم يقول الله تعالى: وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا . ومن سوء حظ المسلمين أنه يوجد بينهم في هذا العصر مَن يحرفون معاني القرآن الكريم، فهناك من المشايخ الذين يبيعون لأهل القرى مصاحف ذات طبعة رخيصة بثمنٍ غالٍ جدًّا، وإذا اعترض أحد على ذلك قالوا: قال الله تعالى: لَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا . أو يقرأون القرآن الكريم بالأجرة بعد وفاة أحد بأيام معينة، زاعمين إيصال ثوابَ قراءتهم للميت، ويحتجون على صحّة تصرّفهم هذا بهذه الآية نفسها. والحق أن مثل هذه الأفكار والتصرفات سخيفة وباطلة تمامًا، إذ ليس هذا هو معنى هذه الآية، وإلا لكانت العبارة كالآتي: “ولا تشتروا آياتي بثمن قليل”، ذلك أن الشِّراء هنا ليس بمعناه المعروف، وإنما بمعنى الاستبدال (البحر المحيط)، وسبق أن بينّا لدى شرح كلمات قول الله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى أن من معاني الشراء هو أخذ الشيء بدل الآخر، حيث ورد: “كلُّ مَن ترك شيئًا وتمسَّكَ بغيره فقد اشتراه” (الأقرب). وعليه فمفهوم هذه الآية: لا تتركوا آياتي لتأخذوا المتاع القليل. والمتاع القليل بحسب القرآن هو الدنيا حيث قال الله تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنيا قَلِيلٌ (النساء: 78). فالمراد: لا تُؤْثروا الدنيا على الدين.

والآية زجْرٌ لبني إسرائيل أنكم ترفضون رسالة محمد ، مع أن كتبكم تخبركم عن بعثته، وما تفعلون ذلك إلا خشيةَ ضياع زعامتكم ومركزكم الدنيوي. ويشقّ عليكم نيل القرب الإلهي بطاعة محمد رسول الله ، وتأبون إلا الحفاظ على زعامتكم القومية بمعارضته ، فكأنكم ترمون أنباء كتبكم وراء ظهوركم طمعًا في العز المادي والمتاع القليل.

ورد في الحديث أن عالِميْنِ يهوديين لقيا النبي ، فقالا فيما بينهما: هذا هو النبي المذكور مجيئُه في كتبنا، ولكننا لن نقبله وإلا قتلَنا قومُنا (مسند أحمد، أول مسند الكوفيين، حديث صفوان بن عسال المرادي).

وهذه هي العقلية التي تحرم أكثر الناس من قبول الحق.

ثم يقول الله تعالى: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ، وهذه العبارة تماثل قول الله تعالى من قبل: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ، والتقدير: واتقوا إياي، تنبّهوا، فاتقونِ.

لقد أشار الله بذلك إلى أن الإنسان يؤْثر الدنيا على الدين مخافة المصاعب في الحياة، ولكن خوفه عبث، لأن الراحة والتعب من الله تعالى، ولا ينعم الإنسان براحة الدنيا أيضًا إلا بإرضاء ربه، لا بدون ذلك.

1 علمًا أنه ورد في الطبعة العربية والإنجليزية سيموت، ولكن ورد في الطبعة الأردية: سيُقتل. (المترجم)ä الكلمات التي تحتها الخط هي ترجمة ما ورد في الطبعة الأردية، إذ قد حرّفوها في بعض الطبعات الحديثة وترجموها في الطبعة العربية كالآتي: “وأتى من ربوات القدس”. (المترجم)* “مُعلَم” يعني: مميز بارز أو قائد. وربوة تعني: عشرة آلاف. والمرّ: طيّبُ الرائحةِ ومفيد. وحلقه حلاوة يعني: أن كل أقواله وأفعاله عذبة جميلة. (المترجم)

Share via
تابعونا على الفايس بوك