السنة الكونية الإلهية .. البقاء للأصلح
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (146)

التفسير:

يقول الله تعالى أنكم لو أريتم أهل الكتاب كل صنوف الآيات لم يتبعوا قبلتكم. وأي شك في هذا؟ إن التسليم بقبلة المسلمين يعني إقرارهم بأن سلسلة النبوة قد انقطعت عن بني إسحاق، وأن الدين اليهودي باطل، وأن الدين الإسلامي حق.. ولكن اليهود لم يكونوا مستعدين لذلك. إن فسوقهم وخضوعهم للأعراف الدينة والشعبية حال دون اتجاههم إلى هذه القبلة الجديدة. فظلوا مصرّين على الرفض.

وتبين هذه الآية أنه لا يمكن أبدا أن تؤمن أمة بكل أفرادها، بل لا بد أن يهلك بعضهم. ولما كان الله تعالى يريد أن يُعز النبي عزة غير عادية.. لذلك جعله في نضال مستمر لمدة ثلاث وعشرين سنة، وفي هذه الفترة أهلك الله الطائفة الخبيثة، ثم وفق العرب للإيمان به. وباختصار، فإن سلسلة الاختلافات مستمرة منذ الأزل إلى الأبد. فالذي يخاف المعارضة شديد الحمق.

ثم يقول الله (وما أنت بتابع قبلتهم). لاحظوا هنا جمال الأسلوب القرآني. وكيف أنه صد على العدو سبيل الاعتراض. كان من الممكن أن تمضي الجملة على هذا النحو: “ولن تتبع قبلتهم”. ولكن استخدام الاسم “تابع” هنا غيّر صورة الجملة. ذلك لأن الجزء الأول من الآية يبين أنهم لن يتبعوا قبلتك رغم كل آية تأتي بها لهم، ولو كانت العبارة بعدها “ولن تتبع قبلتهم”، لكان معنى ذلك أنك أيضا لن تتبع قبلتهم ولو جاءك هؤلاء بكل دليل وبرهان.. وهذا يعرِّض الرسول للاعتراض. فجاء بالجملة الاسمية ليدفع عنه الاعتراض، وليبين أن هذا الرسول يرفض قبلتهم بناء على أدلة لديه من الله تعالى.

والسؤال الآن: لماذا قال الله تعالى (وما أنت بتابع قبلتهم).. مما قد يفهم منه موقف العناد؟ يجب أن نتذكر أن هذا ليس عنادا لأن الرسول توجه إلى بيت الله الحرام بأمر منه عز وجل، ولم يكن لدى النبي أي عناد تجاه اليهود. ولو كان الأمر كذلك لم يتوجه النبي إلى بيت المقدس في صلواته قبل الهجرة لسنوات ثم بعدها لمدة سبعة عشر شهرا. هذا الفعل منه يدل على أنه لم يكن يعاند اليهود، ولكن فعل اليهود أثبت وأكد أنهم كانوا يعاندونه، لأنهم رغم اطلاعهم على نبوءات واضحة في كتبهم عن تغيير القبلة لم يقبلوا التسليم بها. فهناك دليلان واضحان يدحضان تهمة العناد عن الرسول .

أولا- أنه توجه في صلواته لسنين إلى بيت المقدس.

ثانيا –أن توجه الرسول إلى بيت الله الحرام كان بأمر إلهي. أما رفض اليهود التوجه إلى هذا البيت فلم يكن بناء على إلهام إلهي، وإنما بدافع العناد. فشتان بين فعل الرسول وبين فعل اليهود!

قوله تعالى (وما بعضهم بتابع قبلة بعض). هنا أتى الله بما يوضح عنادهم أكثر، فقال: إن هؤلاء لا يتبعون قبلة بعضهم البعض. الحقيقة أن قبلة اليهود مختلفة عن قبلة النصارى. قبلة اليهود هي أورشليم..كما هو واضح من سفر الملوك الأول (22:8-30) ودانيال(10:6). ولكن الفرق السامرية منهم كانت تتجه في عبادتها إلى جبل في أورشليم، كما هو واضح مما جاء في إنجيل يوحنا أن امرأة من السامريين كانت تحاور يسوع فقالت: آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه. قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للأب. (يوحنا4: 20-21). يتبين من ذلك أنه كان هناك على الأقل فرقتان من اليهود إلى زمن المسيح: فرقة تتجه في العبادة إلى جبل في أورشليم، وفرقة تتجه إلى أورشليم.

أما النصارى فكانوا في زمن الرسول يتجهون عند العبادة إلى الشرق، واليهود يتجهون إلى بيت المقدس. وقد ورد في الأحاديث أن وفدا من نصارى نجران جاء النبي ، ولما حانت عبادتهم أدوها في المسجد النبوي “فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم” ( شرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني، فصل 10 الوفد 14).

والسبب في توجههم في الصلاة إلى الشرق –كما يقول القسيس أكبر مسيح الهندي – هو أن النجمة الدالة على ظهور الإله المسيح ظهرت في الشرق، وكذلك تمت ولادة وحياة وموت وقيامة الإله كلها في الأرض المقدسة، لذلك كان يجب التوجه إلى الشرق وإلى هذا البلد (سِلْك مَرْواريد، ج1 ص45) [لمزيد من التفصيل عن هذا الموضوع يرجع إلى التفسير الكبير –سورة مريم – آية: واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ].

يقول الله تعالى: كيف يمكن لهؤلاء أن يقبلوا قولكم وهم متعصبون لدرجة أنهم يختلفون في قبلتهم مع أنهم ينتمون إلى كتاب واحد، وإذا كانوا يعاندون بعضهم البعض رغم أن شريعتهم واحدة، ويشوّهون وجه الدين..فكيف يمكن أن يميلوا إليكم.

قوله تعالى (ولئن اتبعت أهواءهم). يعترض بعض الناس على هذه الجملة ويقولون: هل كان من الممكن للرسول أن يتبع أهواءهم ويصبح ظالما؟

والجواب على ذلك أولا – يتبين من القرآن الكريم أنه يستخدم بعض الأحيان صيغة الخطاب الموجه إلى الرسول في الظاهر، ولكن المراد منه كل إنسان وليس الرسول، كقوله تعالى (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما) (الإسراء: 24)..فالخطاب موجه للنبي في الظاهر مع أن أبويه الكريمين قد توفيا وهو صغير. وهذا يوضح أن الرسول ليس مقصودا بهذا الخطاب وإنما هو موجه لكل إنسان. وهكذا الحال بالنسبة لآيتنا الحالية، فيقول الله تعالى: يا من تقرأ القرآن.. إذا اتبعت الأهواء الفاسدة لأعداء الإسلام فستصبح من الظالمين.. لأننا قد أنزلنا علما يقينيا عن طريق هذا الرسول، فإن لم تنتفع به واتبعت سبيل الآخرين لألحقت بنفسك ضررا بليغا. أما الرسول فقد قال الله عنه في هذه الآية نفسها وبكل صراحة (وما أنت بتابع قبلتهم)..فكيف يمكن أن يعارض ما قاله في الفقرة التالية..فيقول له: إذا اتبعت أهواءهم أصبحت من الظالمين؟ فليس المراد هنا الرسول وإنما كل مسلم. وبالفعل ترك المسلمون اليوم القرآن الكريم واتبعوا العلوم الأخرى التي تتغير وتتبدل كل يوم، معرضين عن العلم اليقيني النازل في القرآن الكريم.

وثانيا – يُصدر القاضي أحيانا قراره ويمليه على كاتبه موجها حكمه إلى المجرم فيقول مثلا: “إنك تُعاقَب على هذه الجريمة بالسجن لمدة كذا “. فلا يقف كاتب المحكمة صارخا ويقول: لماذا تعاقبني بهذه العقوبة؟ كذلك يعلن الله عن قراره. وليس المراد منه إلا الذي يخالف القانون.

وثالثا –يمكن بعض الأحيان أن يخاطبَ صاحبُ القرار أحد أقاربه بينما يكون الكلام في الحقيقة موجها إلى الآخرين، وفي هذا تهديد وتحذير بأنه إذا فعل أحد أقاربه هذا لعاقبه، وليس المراد أن قربيه هذا سوف يفعل ذلك، وإنما المراد هو تشنيع الجريمة وتحذير الآخرين. وكذلك الحال هنا، فلا يمكن أن يفعل الرسول ذلك..بل خوطب لتحذير الآخرين وتنبيههم إلى أن كل من يخالف هذا الأمر سوف يعاقب مهما كانت مكانته. مثلما فعل الرسول عندما قال: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (البخاري، الحدود)، ولا يعني ذلك أن السيدة فاطمة – عليها السلام –يمكن أن تسرق، ولكن المراد هو أن يحذر الآخرين ويعرفوا أنه لن يفرق بين صغير وكبير في تطبيق الحدود.

وتبين هذه الآية أنه لا يمكن أبدا أن تؤمن أمة بكل أفرادها، بل لا بد أن يهلك بعضهم. ولما كان الله تعالى يريد أن يُعز النبي عزة غير عادية.. لذلك جعله في نضال مستمر لمدة ثلاث وعشرين سنة، وفي هذه الفترة أهلك الله الطائفة الخبيثة، ثم وفق العرب للإيمان به. وباختصار، فإن سلسلة الاختلافات مستمرة منذ الأزل إلى الأبد. فالذي يخاف المعارضة شديد الحمق.

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (147)

التفسير:

في هذه الآية يبين الله تعالى أن أهل الكتاب يعرفون صدق محمد كما يعرفون أبناءهم. ومعرفة الابن دائما تتم بشهادة الأم. عندما يرى الزوج أن زوجته عفيفة صالحة فلا يقع في شك أو شبهة بشأن أولاد تلدهم، بل يراهم نسله بصورة شرعية. هذه الصورة ذاتها يقدمها الله تعالى ويقول إن الذين آتيناهم الكتاب يعرفون صدق محمد كما يعرفون أبناءهم. فكما أن الإنسان الذي يعرف عفة زوجته ويعتبر الأولاد الذين تحملهم وتضعهم أولادا له ولا يقع في شك أنهم أولاد لغيره… كذلك الحال لأولئك الذين رأوا صدق محمد وسداده، فأكبر دليل عندهم على صدق محمد هو وجوده هو. فعندما أوحى الله إلى النبي (وأنذر عشيرتك الأقربين)، جمع الناس في مكة وقال لهم (أريتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقيّ)قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد (البخاري، التفسير، سورة الشعراء). فمع أن هذا الأمر كان مستحيلا، لأن ما وراء هذا التلّ هو ميدان صغير لا يختفي فيه خمسون أو ستون شخصا، دعك من جيش جرار، ومع ذلك أجاب هؤلاء: إننا نصدقك في كل ما تقول لأننا لم نجرب عليك الكذب إلى اليوم، وكأنهم كانوا مستعدين لقبول المستحيل لو قاله محمد، ولكنهم مع ذلك رموه بالكذب والخداع ورجعوا.

إذن كان النبي معروفا مشهورا بينهم بالأمانة والصدق لدرجة أن العدو كان يقول أن ليس هناك في مكة من هو أكثر منه صلاحا وأمانة.

فما دام الإنسان لا يشك في صحة نسب أولاده ويقبل شهادة الزوجة العفيفة على الرغم مما تقع فيه زوجته من أنواع الكذب عموما..فما باله لا يصدق شخصا لا يقول إلا الصدق وهو مبرأ من الكذب؟ يقول الله تعالى: عليكم أن تعاملوه على الأقل كما تعاملون أبناءكم. أما الزوجات فليس ثمة شاهدان على صدقهن، بينما يقف كل أهل مكة شهداء على صدق هذا الرسول حتى أن أعداءه لا يستطيعون نكران صلاحه وأمانته. فكيف يصح إنكاره ورفضه.

وفي قوله تعالى (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون)يبين الله تعالى أن منهم من يخفون الحق عمدا، فهم يعرفون صلاح محمد وأمانته، ويعرفون جيدا أنه شخص لم يقترب من الكذب والخداع أبدا.. ومع ذلك يخفون الحق ويتعمدون تكذيبه .

عندما ادعى رسول الله النبوة كان أبو بكر خارج مكة في سفر، وعندما رجع أبلغته إحدى إمائه: أن صاحبك قد جن ويقول قولا عجيبا..يقول إن ملائكة السماء تنزل عليه. فقام أبو بكر من فوره وجاء النبي في بيته وطرق الباب، فقابله النبي. فقال له: جئت أسألك في أمر. هل قلت إن ملائكة من السماء تنـزل عليك وتحدثك؟ ومخافة أن يتعثر أبو بكر ويزل قدمه أراد النبي أن يشرح له الأمر أولا، ولكن أبا بكر أصر وقال: لا أريد شرحا، حسبك أن تخبرني: هل قلت هذا؟ ومرة أخرى أراد النبي أن يمهد له الأمر خشية أن يسأل أبو بكر عن شكل الملائكة وكيف تنـزل، ولكن أبو بكر أصر على أن يعرف: هل صحيح ما يقال عنك؟ فقال النبي : نعم. فقال أبو بكر: إني أؤمن بك وأصدق كل ما تقول. ثم أضاف: يا رسول الله، إنني منعتك من بيان أدلة صدقك لأنني أردت أن يكون إيماني مبنيا على المشاهدة لا على الأدلة..لأنني إذ أعتبرك صالحا وصادقا فلا يبقى بعد ذلك حاجة إلى دليل. فالأمر الذي أراد أهل مكة إخفاءه أظهره سيدنا أبو بكر بعمله (رضي الله عنه).

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (148)

شرح الكلمات:

الممترين –الامتراء: الجدال؛ الشك (المنجد).

التفسير:

يقول الله تعالى إن هذا حقٌّ من عنده، ولا بد أن ينتشر في العالم يوما ما. إن الإنسان عندنا يتشكك في وقوع ما يقول فإنه يلجأ إلى أنواع الأعذار خوفا من ألا يتحقق قوله. ولكن ما يقوله رسولنا حق واقع لا محالة. ولماذا لا يتحقق ما دام هو من عند ربكم الذي خلقكم وطوركم درجة فدرجة، وعلا بكم إلى هذا المقام السامي؟ هل يمكن أن يتخلف كلام من يقوم بهذه الربوبية العظيمة؟ فما الفائدة من رفض كلامه؟ وسواء رفضتموه أم لا..فإن الأمر سوف ينتشر بلا شك؛ فرفضكم إياه لن يجديكم شيئا، وإنما أنفسكم تضرون.

كنت صغيرا عندما رأيت في المنام أن هناك مباراة في لعبة هندية شبيهة بالمصارعة تسمى (كبدي)، تجري في الطريق المؤدي إلى دار الضيافة بالقرب من المدرسة الأحمدية بـ”قاديان”، وأن هناك خطا يفصل بين الفريقين المتبارين، وجماعتنا في جانب، وغير الأحمديين في الجانب الآخر. وكل من يأتي إلى جانبنا يمسكه رجالنا ويجلسونه عندهم …حتى أمسك فريقنا بكل رجالهم هكذا، وبقي المولوي محمد حسين البطالوي –أحد خصوم الجماعة الألداء –في الجانب الآخر. بعد ذلك رأيت أنه توجه إلى الجدار وبدأ يسير نحونا، ولما وصل إلى الخط الفاصل بين الفريقين قال: ما دام الجميع قد جاءوا إليكم فأنا أيضا آتي إليكم. ثم جاء إلى جانبنا.

هذا ما يقول الله: إن هذا الحق سوف يتغلب في الدنيا، وسوف تؤمنون في آخر الأمر، فلماذا لا تؤمنون اليوم؟ انظروا كيف أن المشركين يوم فتح مكة جاءوه وتوسلوا إليه ليصفح عنهم فقال: اذهبوا، لا تثريب عليكم اليوم.

ولقد قال سيدنا المهدي والمسيح الموعود ما معناه: هذا قدر السماء، ولا بد أن يتم في كل حال..فلماذا ترفضونه وتفسدون عاقبتكم (مرآت كمالات الإسلام ص 2).

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك