الانــتــــقاد

الانــتــــقاد

ابداعات أدبية خالدة

 

سألني بعض الأصدقاء عن رأيي في الانتقاد وشروطه وحدوده؛ وآدابه وواجباته؛ ورأيي فيه ألا شروط له ولا حدود؛ ولا آداب ولا واجبات، وأن لكل كاتب أو قائلٍ الحقَّ في انتقاد ما يشاء من الكلام، مصيبًا كان أم مخطئًا محقًا أم مبطلاً، صادقًا أم كاذبًا، مخلصًا أم غير مخلص؛ لأن الانتقاد نوع من أنواع الاستحسان والاستهجان. وهما حالتان طبيعيتان للإنسان لا تفارقانه من صرخة الوضع، إلى أَنَّةِ النزع، وكل ما هو طبيعي فهو حق لا ريبة فيه، ولا مراء. فإن أصاب الناقد في نقده فقد أحسن إلى نفسه وإلى الناس، وإن أخطأ فسيجد من الناس من يدله على موضع الخطأ فيه ويرشده إلى مكان الصواب منه، فلا يزال يتعثر بين الصواب والخطأ، حتى يستقيم له الصواب كله.

فإن أبينا عليه أن ينتقد إلا إذا كان كفؤًا في علمه ومخلصًا في عمله كما يشترط عليه ذلك أكثر الناس، فقد أبينا عليه أن يخطَّ سطرًا واحدًا في الانتقاد؛ وقضينا على ذهنه بالجمود والموت، لأننا لا نعرف لهاتين الصفتين حدودًا معينة واضحة، فكل منتقد يزعمها لنفسه، وكل منتقد عليه يجرد منتقده منهما، ومتى سمح الدهر لعامل من العاملين بالإخلاص الكامل في عمله، فيسمح به لجماعة المنتقدين!

على أن المنتقد الناقم لا تمنعه نقمته من أن يكون مصيبًا في بعض ما يقول لأنه لم يأخذ على نفسه عهدًا أن يختلق جميع المآخذ التي يأخذها؛ وألا يكتب إلا الباطل والمحال، وإنما هو رجل عيَّابٌ بالحق وبالباطل، فهو يفتش عن السيئات الموجودة حتى يفرغ منها فيلجأ إلى السيئات المختلقة.

ولقد كُتِب أول انتقاد في التاريخ بمداد الضغينة والحقد؛ فقد كانت توجد في عصور اليونان القديمة طائفة من الشعراء يجوبون البلاد، ويتغنون بالقصائد الحماسية والأناشيد الوطنية في الأسواق والمجتمعات، وبين أيدي الأمراء والعظماء، فيكرمهم الناس ويجلونهم إجلالاً عظيمًا، ويجزلون لهم العطايا والهبات. فَنَفَسَ عليهم مكانَتَهم هذه جماعةٌ من معاصريهم من الذين لا يطوفون طوافهم، ولا يَحْظَون عند الملوك العظماء حَظْوتَهم، فأخذوا يعيبونهم؛ ويكتبون الكتب في انتقاد حركاتهم وأصواتهم، ومعاني أشعارهم، وأساليبهم، وكان هذا أول عهد العالم بالانتقاد، والفضل في ذلك للضغينة والحقد، فلرذيلة الحقد الفضل الأول في وجود الانتقاد وبزوغ شمسه المنيرة.

كذلك لا يمنع الجاهل جهله من أن يكون رأيه في استحسان الكلام واستهجانه رأيًا صائبًا. لا، بل ربما كان شعوره بحسن الكلام وقبحه -متى رزق حظًا من سلامة الذوق، واستقامة الفهم- أصحّ من رأي الأديب المتكلف الذي يتعمَّلُ الانتقاد تعملاً، ويتعمق تعمقًا كثيرًا في التفتيش عن حسنات الكلام وسيئاته حتى يضل عنهما. ورُبَّ ابتسامة أو تقطيبة يمرّان بوجه السامع العاميّ عفوًا أنفع للأديب حين يراهما، وأعون له على معرفة مكان الحسنة والسيئة من كلامه من مجلد ضخم يكتبه عالم متضلع بالأدب واللغة في نقد شعره أو نثره.

وإذا كان من الواجب على كل شاعر أو كاتب أن ينظم أو يكتب للأمة جميعها، أو خاصتها أو عامتها، فلم لا يكون من حق كل فرد من أفرادها متعلمًا كان أو جاهلاً، أن يدلي برأيه في استحسان ما يستحسن من كلامه، واستهجان من يستهجن منه.

وهل رفع العظماء من رجال الأدب إلى مواقف عظمتهم وسجل لهم أسماءهم في صحائف المجد، إلا منزلتهم التي نزلوها من نفوس السواد الأعظم من الأمة، والمكانة التي نالوها بين عامتها ودهمائها؟

وبعد، فلا يتبرم بالانتقاد ولا يضيق به ذرعًا إلا الغبي الأبله الذي لا يبالي أن يقف الناس على سيئاته فيما بينهم وبين أنفسهم، ويزعجه كل الانزعاج أن يتحدثوا بها في مجامعهم، ولا فرق بين وقوفهم عليها وحديثهم عنها، أو الجبان المستطار الذي يخاف من الوهم، ويفرق من رؤية الأشباح، ولو رجع إلى أَنَاته ورويَّته لعلم أن النقد إن كان صوابًا فقد دله على عيوب نفسه فاتقاها، أو خطأ فلا خوف على سمعته ومكانته منه، لأن الناس ليسوا عبيد الناقدين ولا أسراهم، يأمرونهم بالباطل فيذعنون، ويدعونهم إلى المحال فيتبعون، ولئن استطاع أحد أن يخدع أحدًا في كل شأن من الشؤون فإنه لا يستطيع أن يخدعه في شعور نفسه بجمال الكلام أو قبحه، ولو أن الأصمعي وأبا عبيدة وأبا زيد والمبرد والجاحظ والقالي وقدامة وابن قتيبة والآمدي وأبا هلال والجرجاني بُعِثوا في هذا العصر من مراقدهم وتكلفوا أن يذموا قصيدة يحبها الناس من شعر شوقي مثلاً لما كرهوها، أو يمدحوا مقالة يستثقلها الناس من نثر “فلان” لما أحبوها، فالحقيقة موجودة ثابتة لا سبيل للباطل إليها، فهي تختفي حينًا، أو تتراءى في ثوبٍ غير ثوبها، ولكنها لا تنمحي ولا تزول.

فلتنطق ألسنة الناقدين بما شاءت، ولتتسع لها صدور المنتقدين ما استطاعت. فلقد حرمنا الحرية في كل شأن من شؤون حياتنا، فلا أقل من أن نتمتع بحرية النظر والتفكير.

مصطفى لطفي المنفلوطي

النظرات، الجزء الثالث

Share via
تابعونا على الفايس بوك