في عالم التفسير
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (البقرة:59)

 شرح الكلمات:

القرية: الضَّيعةُ؛ المِصْرُ الجامع (أي المدينة الكبيرة)؛ وقيل: كلُّ مكان اتصلتْ به الأبنية واتُّخذ قرارًا؛ جمعُ الناس مِن قولهم: قريْتُ الماء في الحوض، إذا جمعتَه فيه؛ وتقعُ على المدن وغيرها، وقيل: المدينةُ ما حولها سور بخلاف القرية (الأقرب).

رغدا: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (وكُلا منها رغدا حيث شئتما).

الباب: المدخل؛ أو ما يُسَدّ به المدخل (الأقرب).

سُجّدًا: السُجَّدُ جمع الساجد. للمزيد راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس).

حِطَّة: الاسم مِن استحطَّ فلانًا وِزْرَه: سأَله أن يحطَّه عنه… و(حِطّةٌ): خبرٌ لمبتدأ محذوف وتقديره: “أمرُك أو مسألتُنا حِطّةٌ” (الأقرب).

وقوله تعالى: قُولُوا حِطّةٌ أي: حُطَّ عنا ذنوبَنا (المفردات).

نغفر: غَفر الشيء غفرًا: ستَره. غفر الله له ذنْبَه: غطّى عليه وعفا عنه. غفر الله الأمرَ بغُفرته: أصلحَه بما ينبغي أن يصلح به (الأقرب).

خطايا: جمعُ خطيئة. والخطيئةُ الذنبُ، وقيل المتعمَّدُ منه. والخطيئة أعمُّ من الإثم، لأنه قد تكون عن غير تعمُّدٍ، والإثمُ لا يكون إلا عمدًا (الأقرب).

نزيد: زاد الشيءُ: نما، وزاده الله خيرًا فزاد، لازمٌ ومتعدٍّ. وزاد فلان: أعطى الزيادةَ. (الأقرب)

فمعنى سَنَزِيْدُ : سننمّي؛ سنعطي المزيد.

المحسنين: أحسن إليه وبه: عمِل حَسَنًا وأعطاه الحسنةَ. وأحسن: أتى بالحسَن. أحسنَ الشيء: جعله حَسَنًا. وأحسنَ الشيءَ: علِمه، يقال فلان يُحسِن القراءةَ، أي يعلمها (الأقرب).

التفسير:

قوله تعالى: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا يعني ادخلوا باب المدينة مطيعين متخلقين بأخلاق تليق بأمّة نبيٍّ لكي تتركوا في أهلها أثرًا طيبًا.

وقوله تعالى: قُولُوا حِطّةٌ يعني ادعوا الله تعالى أن يعفو عنكم تقصيراتكم كيلا تؤثر الحياةُ المدَنيةُ فيكم تأثيرا سلبيًا.

لقد مرَّ بنو إسرائيل أثناء عبورهم بريةَ سيناء إلى أرض كنعان بقبائل تقطن القرى والمدن (موسوعة الكتاب المقدس)، وسُمح لهم أن يدخلوا هذه القرى لبعض الوقت ترويحًا لأنفسهم. وقد أشير هنا إلى إحدى هذه القرى أو المدن بدون أن يصرّح القرآن الكريم باسمها، إذ ليس هناك داع لذلك، لأنه لا يسرد لنا تاريخ خروج بني إسرائيل وإنما يشير إلى بعض الأحداث الهامة تكميلاً لبيان ما يريد ذكره من المواضيع. إنما القرآن الكريم يهتمّ بما في القصة من عبرة وليس بالأسماء والتواريخ. لقد قال الله تعالى لهم ادخلوا هذه القرية وتمتعوا بأطايب حياة المدنية بعض الوقت، وليكنْ سلوكهم أمام أهلها سلوك المؤمنين المطيعين، وداوِموا على الدعاء والاستغفار حتى لا تتأثروا من مساوئ أهل القرية، ولو فعلتم هذا فلسوف نكبح جموح قلوبكم إلى الذنوب، ونعينها على الخير.

وقوله تعالى وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ يعني أن ما ذكرنا من النِّعَم ليس كل ما لدينا، بل لو أحسنتم وعملتم بوصايانا كما ينبغي فسوف ننعم عليكم أكثر، أي عندها لن تقاوم قلوبكم نزعات الشر فقط، بل ستوفَّقون لأحسن أعمال البر وأفضلها.

والزيادة تعني النماء والإنماء الذي يمكن أن يتضمن أيضًا البركة في الأولاد والأموال، وعليه فيمكن أن تعني هذه الآية: إذا عملتم بوصايانا حقًا، باركنا في ذريتكم، فتكثرون وتعمرون القرى والبلاد الكبيرة.

وقد تعني الآية: لا تمدّوا أعينكم إلى ما عند أهل هذه المدينة من زينة الدنيا وأموالها، بل استمروا في الطاعة والاستغفار، ولو فعلتم ذلك فسوف نعطيكم أحسن مما عندهم.

يقول القسيس (ريفرند ويري) معلِّقًا على هذه الآية بأن القرآن قد خلط هنا بين الأحداث؛ حيث وقعت بعضها في برية سيناء، وبعضها في الأرض المقدسة، وبعضها لم تحدث أصلاً في أي مكان، كما سَرَدَها القرآن بترتيب يخالف الترتيب الواقعي كلية، وهذا دليلٌ على أن نبي العرب كان -معاذ الله- يجهل أحداث التوراة جهلاً تامًا.

إني دائمًا أنظر إلى هذا القسيس نظرة إشفاق، فقد أضاع عمره كليةً. كان من واجبه كقسيس أن يدرس كتابه المقدس أكثر من أي كتاب آخر، ولكنه للأسف لم يدرسه إلا قليلاً. ولو أنه درس كتابه بإمعان لم يتصور للحظة واحدة أنه مرجع تاريخي موثوق به، يسرد الأحداث سردًا صحيحًا منطقيًا. إن بيانات كتابه المقدس متعارضة تعارضًا يستحيل أن يكتب أي إنسان على ضوئها تاريخَ خروج بني إسرائيل من مصر. بل إن الكُتَّاب النصارى أنفسهم يعترفون بأن تاريخ الخروج المذكور في الكتاب المقدس لا يستحق الاعتبار وأن ترتيب أحداثه غير سليم.

فقد كتب البروفسور ستاننج J.F.Stanning، من جامعة أكسفورد: لقد سُجّلت في بداية سِفر الخروج أحداثٌ وقعتْ في الواقع في آخر أيام هجرة موسى. كما أن حادثتي تحلية موسى لمياه بحيرة (مارا) ونزول المن والسلوى لم تَرِدا في الكتاب المقدس في مكانهما الحقيقي، إذ وقع حادث المنّ بعد الذهاب من سيناء، ولا علاقة له بحادث طيور السمانى. كذلك ذُكر في سِفر العدد حادث الطيور في آخر أيام الهجرة، بينما ذُكر في سِفر الخروج في بداية الهجرة (الموسوعة البريطانية مجلد 8 ص 970 عمود 1 ملاحظة 5).

وقد سبق أن ذكرتُ قبل قليل أن الكتاب المقدس يقول في سِفر الخروج 16: 11-12 أن الله تعالى بشَّر موسى بأنكم ستأكلون طيور السمانى قبل حلول المساء نعمةً من الله تعالى، ولكن الكتاب المقدس يعارض نفسه بنفسه فيقول في سِفر العدد 11: 33 أن عقاب الله تعالى نزل ببني إسرائيل لجمعهم هذه الطيور، وأهلكَ منهم الآلافَ قبل أن يمضغوا لحمها. فسِفر الخروج يخبر أنهم بشروا من عند الله تعالى بأنهم سيأكلون لحم السمانى ويعُدُّها نعمةً، ولكن سِفر العدد يقول أنهم لم يأكلوا لحمها، بل حلّ بهم عذاب الله قبل أكله؛ وكلا السِفْرين عند أهل الكتاب وحيٌ نزل على موسى !

هل يستطيع أحد التوفيق بين هذين البيانين؟ فلو صدّق القرآن الكريم بيان سِفر الخروج لقال القسيسون إن صاحب القرآن جاهل بالتاريخ إذ يعارض ما ورد في سِفر العدد! ولو صدق القرآن الكريم ما ورد في سِفر العدد لقالوا إن صاحب القرآن لا يعرف تاريخ الكتاب المقدس إذ يخالف ما ورد في سفر الخروج! ولو أن القرآن صدّق الاثنين معًا لصار التاريخ الذي يقدمه القرآن غيرَ معقول وغير منطقي كما هو حال التاريخ الذي يقدمه الكتاب المقدس. ومن أجل ذلك لم ير القرآن الكريم حاجة للخوض فيما ورد في سِفريْ الخروج والعدد، وإنما سرد الله تعالى فيه الأحداث بحسب علمه تعالى، وهكذا صدّق القرآن الكريم ما كان حقًا من أحداث الكتاب المقدس، ونفى ما كان فيه من أحداث غير حقيقية، وزاد وبيّن ما سكت عنه الكتاب المقدس، وكان فيه عبرة. فالله تعالى ليس بحاجة لأن يتّبع ما كتبه مؤلِّفو الكتاب المقدس.

 

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (البقرة:60)

 شرح الكلمات:

رِجْزًا: الرِجز: القَذَرُ؛ عبادةُ الأوثان؛ العذابُ؛ الشركُ (الأقرب).

أصلُ الرجز الاضطرابُ وتواتُرُ الحركةِ، ولذلك سُمّي عذاب الزلزلة رجزًا. وقد سُمي الشركُ وعبادةُ الأوثان رجزًا لأن اعتقاد المشرك يشوبه الاضطرابُ.

يفسقون: راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (وما يُضِلّ به إلا الفاسقين).

التفسير:

يقول الله تعالى لبني إسرائيل: لقد كفرتم بنعمنا. أردنا أن تروّحوا عن أنفسكم وتستمتعوا بطيبات القرية لفترة من الزمن لكي يزول عنكم التعب والملل، ولكنكم استهزأتم بأوامرنا ونِعَمِنا وقلتم كلمة لم تؤمَروا بها. أُمرتم بأن تقولوا حِطَّةٌ ، أي أن تدْعوا لمغفرتكم وستْرِ ضعفكم، ولكنكم استبدلتم بها (حِنْطَة)، أي نريد القمح.

هذا لا يعني أنهم استخدموا كلمة الحنطة بعينها، بل استخدموا ما يعني الحنطة في العبرية، سواء كلمة الحنطة نفسها أو غيرها.

يبدو أنهم لما دخلوا القرية فكّروا في أرغفة ساخنة من الخبز فاستولى عليهم الشوق إليها وانشغلوا بها عن وصية الاستغفار، فأخذوا يردّدون (حنطة) بدلاً من حطّة على سبيل السخرية، فعذّبهم الله تعالى بسبب هذا الاستهزاء والعصيان.

انظروا كيف أن هذا الخطأ الذي يبدو بسيطًا قد جلب عليهم غضب الله! وسبب ذلك أن الإنسان لا يستطيع التقدم في الخير إلا إذا كان جادًّا. مهما قام به المرء من عبادات أو قدّم من خدمات فإنه لا يستطيع الارتقاء الروحاني ولا يكون نافعًا للقوم حقًا، بل إن أمثال هؤلاء الهازلين يدفعون قومهم إلى هوة الدمار الرهيب أحيانًا. إن التفوه بــ (حنطة) مكان حطّة أمرٌ هيٌّن في بادئ الأمر، لكن التدبر سيكشف لكم أنه أمر خطير جدا، وليس بهيّنٍ، لأنه استهزاءٌ بكلام الله تعالى، ولا يفعل ذلك إلا من كان قلبه خاليًا من الجدية، ومن خلا قلبه من الجدية فلا خير فيه لا من حيث الدين ولا من حيث الدنيا، وحقيق به أن يغدر بقومه أو ملّته عند أدنى دافع للتهييج والإغراء. وللأسف إن المسلمين مصابون بهذه الآفة اليوم. فإن المتدينين منهم كالمشايخ والمتصوفين -دَعْ عنك العلمانيين الذين لا يهتمون بالدين- يستهزئون بالدين، فمثلاً يتلون آية قرآنية في غير محلّها، أو يذكرون حديثًا شريفًا على سبيل المزاح والاستهزاء، مع أن كلام الله تعالى ورسوله أسمى من أن يُستهزأ به ويُتخذ ذريعة للنكات الفكاهية. إن الاستهزاء بهما جد خطير. إنه يسوِّد القلب، ويميت الروحانية، ويدمّر التقوى. والتغلب على هذا الإثم لا يتطلب من الإنسان جهدًا كبيرًا أو كبْتَ إغراء، وإنما يكفيه قدرٌ من أخذ الحذر والحيطة. وبهذا الجهد البسيط يستطيع إصلاح قلبه إصلاحًا يساعد على القيام بمهمات جسيمة.

فأقلِعوا عن الاستهزاء والسخرية بآيات الله وكلام رسوله نهائيا. إنها معصية لا متعة فيها، وهي تميت قلب الإنسان كليةً. يجب أن تتولد الخشية في قلوبكم بسماع اسم الله تعالى ورسوله. إن ذكر المحبوب لا بد أن يستلفت انتباه الإنسان. هل يسخر المرء من أبيه وأمه؟ فإذا كانوا لا يسخرون بآبائهم وأمهاتهم فكيف يستسيغون السخرية من اسم الله ورسوله ومن كلام الله ورسوله، ويضيعون في لحظة واحدة ما كسبوه في عبادة العمر كله؟ فالحذرَ ثم الحذر!

ثم قال الله تعالى: فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ . العذاب الذي أصابهم إنما أتاهم من الأرض، ولكن الله تعالى يقول إنه أُنزل من السماء، وإن هذه الكلمات أقوى بكثير من الكلمات الواردة في الأحاديث النبوية عن نزول المسيح المنتظر، إذ لم يرد في أي حديث صحيح أنه سينزل من السماء، إنما ورد فقط أنه سينزل، أما هنا فورد بصريح العبارة أن الله تعالى أنزل عليهم العذاب من السماء. وقال الصحابة والأئمة أن الرجز يعني العذاب عمومًا، أو عذاب الطاعونِ أو البَرَدِ. قال الشعبي: الرجز إما الطاعون وإما البَرَد. وقال سعيد بن جبير المفسر الشهير: هو الطاعون. وذكر ابن أبي حاتم عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت الصحابيين عن رسول الله أن الطاعون رِجزٌ. ونقل ابن جرير عن أسامة بن زيد أن رسول الله قال: إن هذا الوجعَ والسقمَ رِجزٌ عُذِّب به بعضُ الأمم قبلكم (تفسير ابن كثير). ومعلوم أن الطاعون مرض مادي، حيث يظهر في جسم الإنسان ورم ويصاب بالحمى، وأسباب الطاعون تتهيأ على هذه الأرض كغيره من الأمراض، ومع ذلك قال الله تعالى إننا أنزلنا من السماء هذا العذاب على بني إسرائيل.

وإن قيل أن الله تعالى يصدر الأمر بتفشي الطاعون من السماء، ولذلك قال أنزلناه من السماء؛ فأقول: نفس الحال بالنسبة للمسيح، فهل ينزل الأمر بتفشي الطاعون من السماء، ولكن أمر بعثة أحد من الله تعالى لا ينزل من السماء؟ فإذا جاز لنا أن نقول إن الطاعون نزل من السماء، فلماذا لا يجوز القول إن أنبياء الله ينزلون من السماء رغم ولادتهم في الأرض؟

 

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (البقرة:61)

 شرح الكلمات:

استسقى: استفعالٌ مِن سقى يسقي. استسقى الرجلُ مِن فلان استسقاءً: طلَب السقيَ وإعطاءَ ما يشربه (الأقرب).

قوم: القَوْمُ: الجماعَةُ من الرجالِ خاصّةً، أو تَدْخُلُهُ النِّساءُ على تَبَعِيّةٍ، سُمّوا بذلك لقيامهم بالعظائم والمهمّات، يُذكَّر ويؤنَّث فيقال: قام القوم وقامت القوم، والجمعُ أقوام وأقاوم وأقاويم وأقائم (الأقرب).

وورد في اللسان: القَوْمُ الجماعة من الرجال والنساء جميعا. وقيل هو للرجال خاصة دون النساء، ويُقوِّي ذلك قوله تعالى لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ … فلو كانت النساء من القوم لم يقل ولا نساءٌ من نساء… أما الذين قالوا إن القوم يُطلَق على جماعة من الرجال والنساء جميعًا فقالوا: قومُ النبيِّ مَنْ يُبعث إليهم رجالاً ونساءً.وقومُ كلُّ رجلٍ شيعتُه وعشيرته. (اللسان).

قلنا: أي أوحينا. (للمزيد راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسجدوا لآدم…).

فانفجرت: فَجَر الماءَ يفجُر: بَجَسَه وفتَح له طريقًا فجرى. فجَر القناةَ: شقَّها، وقيل: شقَّها شقًّا واسعًا. انفجر الماء تفجّرَ: أي سال وجرى (الأقرب). معنى انفجرت: تدفقت؛ سالت وجرت.

أناس: الأناس: جمعُ الإنس، وهم: البشرُ، أو غيرُ الجنِّ والملاكِ. (الأقرب)

وقال صاحب تاج العروس: الأناس تعني أحيانا القبيلة والطائفة.

مشربهم: المشرب: الماءُ؛ الوجهُ الذي يُشرَب منه؛ شريعةُ النهر، والجمع مشاربُ (الأقرب).

لا تعثَوا: عَثِيَ يَعْثَى: أفسدَ؛ بالَغَ في الفساد أو الكِبر أو الكفر (الأقرب).

عثِيَ: أفسدَ أشدَّ الفساد. والعثوُّ: أشدُّ الفسادِ (اللسان).

وقال الإمام الراغب: العيث أكثرُ ما يقال في الفساد الذي يُدرَك حِسًّا، والعِثِيُّ فيما يُدرَك حُكمًا (المفردات).

فمعنى لا تعثوا: لا تفسدوا أشدَّ الفساد؛ لا تتمادوا في الفساد والكِبْر والكفر.

مفسدين: أفسدَ الشيءَ ضد أصلحَه. أفسد بين القوم: أَلْقَى الشَّرَّ والإِغْراءَ بينهم. الفسادُ: الجدالُ؛ نقيض الصلاح؛ الخراب؛ أخذُ المال ظلمًا بغير حق؛ الجدب والقحطُ. (الأقرب والتاج)

التفسير:

تتحدث هذه الآية عن نكران بني إسرائيل لنعمة أخرى. كانوا بحاجة إلى الماء في موضع كان نزول المطر فيه شحيحًا، إذ كانوا قد خرجوا من المنطقة التي تنزل فيها الأمطار، فدعا موسى للسقيا، فأمره الله تعالى أن يضرب حجرًا معينًا، وعندما ضربه تفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، ووجدت كل جماعة منهم ماءً وعيَّنت لها موردًا.

يعترض القساوسة على هذه الآية قائلين: لم يذكر الكتاب المقدس مثل هذا الحدث! ولكن كما أسلفتُ، لا اعتبار بورود حدثٍ في الكتاب المقدس أو عدم وروده فيه. لا شك أن المؤرخ مضطر للتقيد بسرد أحداث عن بني إسرائيل كما ذُكرت في الكتاب المقدس أو في المصادر التاريخية الأخرى، ولكن القرآن الكريم يعلن أنه وحي الله تعالى، فلا حاجة له للالتزام فقط بما جاء في تلك المصادر. أفلم تقع في الدنيا أحداث سوى ما ذكره الكتاب المقدس وكتب التاريخ؟ وهل محظور على الله جلَّ وعلا ذكر مثل هذه الأحداث؟ إن القرآن المجيد كلام الله تعالى، وأَنَّى لعلم المؤرخين أن يبلغ شَأْوَ العلم الإلهي؟ مِن حق المنكِر للقرآن الكريم أن يطالبنا بإثبات أنه كلام الله تعالى حقًا، فإذا أثبتنا له ذلك فلا بد من اعتبار شهادة القرآن هي الأوثق والأقوى من شهادةِ أي مؤرخٍ أو كتابٍ منسوخٍ أو ممسوخٍ.

غير أنه لا يجوز لنا أيضا أن نُلبس كلمات القرآن الكريم معاني تعارض القرآنَ نفسه، أو العقلَ الذي خلقه الله تعالى، أو اللغةَ.

إذا كان القسس قد أخطأوا في اعتراضهم على هذه الآية بأن الحادث المذكور فيها لم يُذكَر في الكتاب المقدس فلا يمكن قبوله، فإن بعض المفسرين أيضًا قد أخطأوا في فهم هذه الآية، إذ ظنوا أن موسى كان يحمل معه حجرًا صغيرا، وكلما احتاج بنو إسرائيل للماء ضربه بالعصا، فكانت تنفجر منه اثنتا عشرة عينًا! إنها ليست معجزة إلهية وإنما هي مهزلة. فما دام الله تعالى قد هيأ لهم في بعض المناطق الماء بإنزال المطر من الغمام كمعجزة، فلابد أن تكون معجزة تدفق الماء من الحجر بضرب العصا أيضًا خاضعةً لسنن الله الكونية.

إن المفهوم الحقيقي لهذه الآية هو أن الله تعالى أمر موسى بضرب حجر بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا. والذين زاروا الأماكن الجبلية يعرفون أنه عندما يذوب الجليد فوق قمم الجبال يرتفع مستوى الماء الباطني الجاري تحت سطح الأرض، وفي بعض الأحيان يجري تحت الأرض قريبًا جدًّا من سطحها، ويمكن أن يخرج متدفقًا بمجرد ضرب الأرض بالعصا. ومثل هذه العيون لا توجد في الجبال فقط، بل توجد أيضًا في البراري أحيانًا وفق سنن كونية معروفة. وتكثر مثل هذه المواقع في صحراء الجزيرة العربية، حيث توجد عيون الماء والنخيل، وتسمى الواحات في اصطلاح الجغرافيين. فكان الله تعالى قد وجّه موسى بالوحي إلى موضع كهذا، حيث كان الماء قريبًا جدًا من سطح الأرض، وكان عليه حجر، فأمره الله تعالى أن يحرّكه بالعصا ليتدفق الماء من ورائه، ففعل.

فليست المعجزة أن الماء خرج من الحجر، كما ليست المعجزة أن الماء تولّدَ فجأةً في باطن الأرض هنالك وخرج، وإنما المعجزة أن الله تعالى دلّ موسى بالوحي على وجود الماء وراء حجر معين. فلا مبرر لنكران مثل هذه المعجزة، كما لا داعي أيضًا لتصويرها بصورة مخالفة لسنن الله الكونية. كان الماء موجودا هنالك بحسب السنن الطبيعية، ولكن الناس كانوا لا يعلمون بوجوده هنالك، وكان الله يعلم ذلك، فأخبر عبدَه موسى بذلك، فلما كسر موسى الحجر الذي كان يسدّ جريان الماء على سطح الأرض تدفّقَ الماء عليها. ويبدو أن الحجر لم يكن كبيرًا ولا عميقًا، فتشقّق بضرب العصا، وخرج الماء من اثني عشر موضعًا من هذه الشقوق. ومَن خَبَرَ هذه الجبال يعرف أن العديد من العيون تتدفق من موضع واحد أحيانًا. وقد شاهدت بنفسي في موضع جبلي بكشمير عيونًا كثيرة تفيض من مساحة لا تتجاوز أمتارًا، وربما كان عدد تلك العيون أيضا اثنتي عشرة، ويسمى هذا الموضع ككرناغ، وهو يبعد عن منبع نهر جِهْلُم قرابة ستة عشر ميلا، وعن مدينة إسلام آباد عشرة أميال تقريبا.

ويبدو أن الغرض من انفجار الماء اثنتي عشرة عينًا أن بني إسرائيل كانوا قبائل عديدة كثيرة الشجار فيما بينها، فهيأ الله تعالى بذلك موضع شرب لكل منها على حدة. وربما تدفّقَ الماء اثنتي عشرة عينًا بالصدفة، وليس نظرًا إلى اثنتي عشرة قبيلة لبني إسرائيل، وقد ذكر الله تعالى ذلك العدد ليبين فقط أنهم وجدوا الماء الوفير وشربوه بدون تعب.

وأرى لزامًا هنا أن أذكر أن المستشرق سيل (Sale) قد كتب في ملاحظاته في ترجمته للقرآن الكريم أن سائحًا من القرن الخامس عشر قد شهد على أنه وجد آثارًا لاثنتي عشرة عينًا في صخرة بجبل حوريب، وإن كانت بعضها قد جفّت. (ترجمة القرآن، سيل ص 8)

يتضح من هذه الشهادة أن اثنتي عشرة عينًا كانت تجري من بعض الصخور في تلك المنطقة في زمن من الأزمان.

نجد في الكتاب المقدس الأمرَ الإلهي لموسى بضرب صخرة في جبل حوريب ليخرج منها الماء، بدون ذكر اثنتي عشرة عينا (الخروج 6:17).

غير أننا نجد في موضع آخر في الكتاب المقدس ذكر وجود اثنتي عشرة عينًا في مكان يسمى إيليم، لكن لا ذكرَ هناك للضرب بالعصا (الخروج 27:15).

على كل حال، لا يمكن أن نعير شهادةَ الكتاب المقدس أهمية كبيرة بهذا الشأن كما أسلفتُ، غير أن شهادة سائح نصراني من القرن الخامس عشر على وجود اثنتي عشرة عينًا في جبل حوريب تكفي على الأقل لإفحام هؤلاء المعترضين المسيحيين الطاعنين.

وقوله تعالى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ لا يعني أن الله تعالى عيّن لكل قبيلة منهم موضع شرب، بل المراد أن القوم بأنفسهم اتخذوا مواقع شرب لهم، أي أن الماء كان يتدفق بوفرة ومن أماكن متفرقة فتيسّرَ لبني إسرائيل الحصولُ على كفايتهم من الماء بدون مشقة، وبدون أن يقع بينهم خصومة أو شجار.

و كُلُّ أُنَاسٍ يعني كل قوم وقبيلة، وليس كل إنسان.

وقوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يعني: لقد هيأ الله تعالى لكم في كل موطن ما يكفيكم من الطعام والشراب، فاشكروا صنيعه، وتوكلوا عليه ولا تتكالبوا على الأسباب. الحق أن كل فساد في الدنيا ينشأ نتيجة الاعتماد على الأسباب، فيظن الإنسان أنه إن لم يجد أرضًا كذا أو مسكنًا كذا أو دابةً كذا فسوف يتضرر ويخسر، فيخاصم أخاه، وتبدأ سلسلة لا تنتهي من الفساد والفتنة. يقول الله تعالى هنا لبني إسرائيل: انظروا كيف حرّرناكم من كل هذه المتاعب، فلا تتعبون في البحث عن الطعام ولا الشراب وغيرهما، فما دمنا نسدّ كل حاجاتكم فلا داعي للفساد والتباغض والشجار مع الجيران والإخوان. يجب ألا تفسدوا في هذه الأيام على الأقل، كما يجب أن تتجنبوا الفساد في المستقبل تذكُّرًا لنعم هذه الأيام.

لقد سبق أن ذكرنا أن العُثُوَّ هو أشدّ الفساد، وعليه فقوله تعالى وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يعني: لا تفسدوا في الأرض متعمدين. يتصرف المرء في بعض الأحيان تصرفًا يؤدي إلى الفساد بدون قصد منه، ومن واجب المؤمن أن يسعى لتجنب مثل هذه المواطن أيضا، أما الأعمال التي يعلم أنها تؤدي إلى الفساد فلا مناص له من تجنبها في كل حال، وهذا هو المراد من الآية.

وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (البقرة:62)

 شرح الكلمات:

لن نصبر: صبرتُ نفسي على كذا: حبستُها (الأقرب).

وفي البصائر: الصَّبْرُ في اللُغَةِ الحَبْسُ والكَفُّ في ضيقٍ، فالصَّبْرُ: حبْسُ النَّفْسِ عن الجَزَعِ، وحبسُ اللسان عن الشكوى، وحَبْسُ الجوارحِ عن التشويش (التاج).

للمزيد راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ .

طعام: اسمٌ لما يؤكَل كالشراب لما يُشرَب… وقد غلب الطعامُ على البُرِّ… وربما أُطلقَ على الحبوب كلها، وجمعُه أطعمةٌ، وجمعُ الجمع أطعماتٌ. (الأقرب)

بقْلها: البَقْلُ: ما نَبَت في بَزْرِه لا في أرُومةٍثابِتةٍ… وقال ابنُ فارِس: البَقْلُ: كلُّ ما اخضرَّتْ به الأرضُ… والفرقُ ما بينَ البَقْلِ ودِقِّ الشَّجَر أن البَقْلَ إذا رُعِيَ لم يَبقَ له ساقٌ، والشَّجرُ تَبقَى له سُوقٌ وإن دَقَّتْ. (التاج)

والبقل من النبات ما ليس بشجرٍ دِقٍّ ولا جِلٍّ (اللسان).

قثّائها: القثّاء نوع من الفاكهة يشبه الخيارَ، تسمّيه عوامُّنا بالمِقْتي (الأقرب).

فُومها: الفوم لغةٌ في الثوم. والفوم: الحنطةُ؛ الحمصُ؛ الخبزُ؛ سائرُ الحبوب التي تُخبَز. والفومةُ: السنبلة (الأقرب).

تستبدلون: استبدلَه واستبدل به: أخذ هذا مكان ذاك (الأقرب).

أدنى: مشتقّ من الدنوّ عند البعض بمعنى الأقرب أي أقلّ قيمة، وعند الآخرين من الدناءة أي الأخسّ والأرذل (اللسان).

ويعبَّر بالأدنى تارةً عن الأصغر فيقابَلُ بالأكبر، وتارةً عن الأرذل فيقابَل بالخير، وتارةً عن الأوّل فيقابَل بالآخر، وتارةً عن الأقرب فيقابَل بالأقصى. (المفردات).

اهبطوا: هبَط يهبِط ويهبُط من موضع إلى موضع آخر: انتقلَ (الأقرب).  للمزيد راجع شرح كلمات قول الله تعالى (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدوٌّ).

مِصْرًا: المصر: الحاجز بين الشيئين؛ الحدُّ بين الأرضين خاصة؛ وقيل الحدُّ في كلّ شيء؛ الكورةُ أي المدينة والصقع؛ وكلُّ كُورةٍ يُقسَم فيها الفيءُ والصدقات (الأقرب).

ضُربتْ عليهم الذلّةُ: ضرَبه بيده وبالعصا: أصابه وصدمه بها. وضرَب على يديه: أمسكَ. ضرب القاضي على يد فلان: حجَر عليه ومنَعه التصرّفَ. ضرَب عليهم الجزيةَ: وضَعها وأوجبها عليهم وألزمهم بها. ضربَ عليهم الذلّةَ: أذلَّهم (الأقرب).

ذَلَّ: هانَ ضدُّ عزَّ. وضربَ عليه الذلّةَ: أذلّه. (الأقرب)

ضُربت عليهم الذلّة: التَحَفتهم الذلّة (المفردات).

المسكنة: الفقر؛ الذلُّ (الأقرب).

باءوا بغضبٍ: باء: رجَع. باء به: أرجعَه (الأقرب).

باء بذنبه: احتمله وصار المذنبُ مأوى الذنبِ؛ كان عليه عقوبةُ ذنبه (اللسان).

غضب: الغضب: ثورانُ دمِ القلب إرادةَ الانتقام، وإذا وُصف الله تعالى به يراد به الانتقام دون غيره (المفردات).

(للمزيد راجع شرح كلمات قول الله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ .

وقال الإمام الراغب في مفرداته: باء بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ: أي حَلَّ مُبوّأً ومعه غضبُ الله، أي عقوبتُه. وقوله: بِغَضَبٍ في موضع حال… أي رجَع وجاء وحالُه أنه مغضوب… واستعمالُ (باء) تنبيهًا على أن مكانه الموافِقَ يلزمه فيه غضبُ الله، فكيف غيرُه من الأمكنة (المفردات).

فمعنى: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ : صاروا عرضةً لغضب الله؛ صارت بيوتهم محلاً لغضب الله.

يكفرون بآيات الله: أي يجحدون بها. للمزيد راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (إن الذين كفروا سواء عليهم…).

آيات: جمعُ آية. للمزيد راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار…).

يقتلون: راجع شرح كلمات قول الله تعالى (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم….).

ومن معاني قَتَلَه: أهلكه؛ قاطعَه؛ أذلَّه؛ أبطلَ عمله. وعلاوة على ذلك: يقال هو قاتلُ الشتواتِ (جمع شتاءٍ) أي يُطعم فيها ويُدفئ (اللسان).

وقَتَلَه: أصاب قَتالَه (تاج العروس)

فمعنى: يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ : يُهلكونهم؛ يقاطعونهم؛ يسعون إلى إبطال أعمالهم؛ يحاولون إذلالهم.

الحقّ: حقّه يحُقّه حقًّا: غلَبه على الحق. حقَّ الأمرَ: أثبتَه وأوجبَه؛ كان على يقين منه. وحقَّ الخبرَ: وقَف على حقيقته. وحقَّ الأمرُ: وَجَبَ وثَبَتَ (الأقرب).

الحقّ يقال في الفعل والقول والواقع بحسب ما يجب وفي الوقت الذي يجب (المفردات).

للمزيد راجعْ شرح كلمات قول الله تعالى (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون).

عصوا: عصاه يعصيه: خرَج عن طاعته وخالفَ أمره وعاندَه (المفردات).

يعتدون: اعتدى عليه: ظلَمه (الأقرب).

الاعتداء: مجاوزةُ الحقّ (المفردات).

الاعتداء والتعدي والعدوان هو الظلمُ. اعتدى فلان عن الحق واعتدى فوقَ الحق: جازَ عن الحق إِلى الظلم (اللسان).

فمعنى: يَعْتَدُونَ : يتجاوزون الحق؛ يظلمون.

التفسير:

تذكر هذه الآية نكرانًا آخر للجميل ارتكبه بنو إسرائيل، ويبدو أنه ذو صلة بنعمة المنّ والسلوى. لقد عاشوا على طعام المنّ والسلوى مدةً طويلة كانوا يذهبون خلالها إلى المدن ويمكثون فيها للتمتع بطعامها وشرابها من حين لآخر، ولكنهم لم يستطيعوا الصبر على طعام واحد في البراري، وإن لم يكن في الواقع طعامًا واحدًا بل كان متنوعًا. كانوا معتادين على العيشة المدَنيّة بحكم عيشهم في مصر، مولعين بالمشويات والمقليات وغيرها من لذائذ الأطعمة التي يأكلها أهل الحضر، فتبرّموا من أكل الأغذية البرية، ولم يُقدِّروا الحكمة من وراء هذه المعيشة والأغذية. وبلغ بهم الضيق أن قالوا لموسى لن نصبر عن طعام واحد، وإن كنتَ تصبر عليه ولا ترى الحاجة إلى استبداله، فادْعُ الله تعالى لأجلنا على الأقل لكي يُخرج لنا من الأرض أنواع الخضروات والبقول، أي يسمح لنا بالإقامة والاستقرار في مكان نستطيع فيه الزراعة وإنتاج هذه الغلال والبقول والخضار. فأجابهم الله تعالى: أتطلبون الطعام الأقل نفعًا لكم بدلاً من الأجود والأنسب لكم؟ يقال: استبدله به: أخذه مكانَه.

لقد اختلف المفسرون في معنى خَيْرٌ و أَدْنَى في قوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، فقال بعضهم: المراد من خَيْرٌ اللحم، ومن أَدْنَى الخضار. ولكن هذا المعنى خطأ. فالخضار خير واللحم أيضًا خير، ولم يأمر الله تعالى في الشرع أنه إذا وُجد طعام جيد فلا تأكلوا غيره، لأن النفس البشرية تشتهي أحيانًا العدس مع تيسُّر الأرز مع اللحم، وليس في هذا ما يجلب عذاب الله أو سخطه تعالى.

الحق أن في كلمتي (خَيْرٌ) و(أَدْنَى) مقارنةً بين ما كانوا يجدونه في البرية من أغذية بدون جهد وتعب، وبين ما يحصل عليه أهل الحضر بعد سعي ومشقة. لقد تركهم الله تعالى في تلك البراري لكي يزيل عنهم أثر العبودية ويخلّصهم من المعاصي المترسخة في نفوسهم نتيجة صحبة المصريين، ولكي لا تثور فيهم نزعات الشرك مرة بعد أخرى نتيجة مخالطتهم الأمم الأخرى، بل تترسخ فيهم عقيدة التوحيد ببركة بقائهم الدائم في صحبة موسى عليه السلام. وقد وفَّر الله لهم كل طعام يتوفر في البادية، أما الخضار والأطعمة الشهية فلا تتيسر إلا في المدن والقرى.

باختصار، لم يكن المراد من مطالبة بني إسرائيل أن يجدوا الخضار والخيار وغيرها، بل كانوا في الحقيقة يريدون أن يُسمح لهم بالعيش في المدن والقرى لأنهم تبرموا من حياة البداوة. وقوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ لا يعني لماذا تريدون الحنطة والخضار والبقول بدلاً من الكمأة والسمانى والعسل وغيرها، بل يعني لماذا ترغبون عن هذه العيشة المفيدة لكم التي تؤهلكم للحُكم والمـُلك وحياة العزة والكرامة وتحبون عيشة لن تبرحوا فيها مزارعين عاديين؟ فمطالبتكم هذه إما حمقٌ وغباء وعدمُ تقدير لتلك الحياة التي يريدها الله لكم، وإما عدمُ ثقةٍ وإيمانٍ بوعود الله تعالى وبشاراته. تظنون أن موسى يكذب عليكم، وتقولون في أنفسكم هيهات أن يكون لنا مُلكٌ وحُكم في يوم من الأيام، فلماذا لا نكون فلاحين على الأقل. ولما كان كلا الأمرين يدلّ على عدم الإيمان وفتور الهمة، فعنّفهم الله تعالى وسخط عليهم.

لقد ذُكر عدم صبرهم على طعام واحد في الكتاب المقدس حيث قال بنو إسرائيل: {قَدْ تَذَكَّرْنَا السَّمَكَ الَّذِي كُنَّا نَأْكُلُهُ فِي مِصْرَ مَجَّانًا، وَالْقِثَّاءَ وَالْبَطِّيخَ وَالْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ وَالثُّومَ.} (العدد 11: 5)

ثم يقول الله تعالى: اهْبِطُوا مِصْرًا . وقد ذهب بعض المفسرين -جهلاً منهم لقواعد اللغة العربية- أن مِصْرًا هنا تعني مدينة مصر، أي العاصمة المصرية، وأن بني إسرائيل أُمروا بالذهاب إليها. وقد هلّل الكتَّابُ المسيحيون لخطأ المفسرين هذا ورموا القرآن الكريم بالجهل ساخرين. والحق أن رأي هؤلاء المفسرين الجاهلين وكذلك اعتراض هؤلاء الطاعنين كلاهما باطل. فـ(مِصْرُ) العاصمة المصرية علَمٌ غير منصرف لا يقبل التنوين بحسب قواعد العربية، وقد وردت في القرآن الكريم غير منصرفة كما في قول يوسف لأهله: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (يوسف:100)، وفي قول فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ (الزخرف:52). بينما قال الله تعالى هنا مِصْرًا ، أي أيّ مدينة، لا “مِصْرُ”، العاصمة المصرية. فاعتراض هؤلاء المسيحيين إنما يدل على جهلهم بالعربية، لأن المراد أن الله تعالى قال لبني إسرائيل: ادخلوا أي بلدة أو مدينة تجدوا فيها الأشياء التي تطلبونها.

ثم قال الله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ، والمراد: لأنهم فضّلوا الزراعة على عيش يؤهلهم للحُكم والسلطان فألزمهم الله الذل والهوان. ومن عجيب قدرة الله تعالى أن بني إسرائيل قد نالوا المـُلك وفق البشارات الإلهية، إلا أن إخلافهم المتكرر لعهودهم مع الله تعالى صار وبالاً عليهم، حتى حُرموا من المـُلك لأكثر من عشرين قرنًا ولم يبق لهم حتى اليوم إلا أعمال التجارة والزراعة.[1]

ثم يقول الله تعالى وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ، وقد مرّ في شرح معاني الكلمات أن باء بالشيء يعني أنه صار محلاً دائمًا له، وعليه فالمراد: أنهم حلّوا بالبلاد حاملين معهم غضب الله، وكأنّ مأواهم ووطنهم -الذي يكون أدعى لأمن المرء وراحته- صار مصدرَ عذاب وشقاء لهم. وهذا ما أكدته الأحداث اللاحقة أيضا، إذ لم تزل أرض كنعان، وطن بني إسرائيل، بؤرةً للمصائب والآلام دائمًا.

أما قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ فيعني أن إنكارهم لآيات الله تعالى كان نتيجة لمعارضتهم لأنبيائهم. وحيث إنهم لم يحترموا أنبياءهم فضاع منهم بالتدريج احترامهم لكلام الله تعالى وإيمانهم به الذي أتى به أنبياؤهم. لقد عارضوا الأنبياء لأنهم كانوا عاصين آثمين. دعاهم أنبياؤهم إلى الهدى، فلم يعجبهم، فبدأوا في معارضتهم.

إن العارفين بقاعدة العلّة والمعلول سيُسعدهم أسلوب القرآن الكريم هذا، حيث يذكر هنا الخير والشر ثم يُتبِعه ببيان سببهما وأصلهما، لكي يعرف الإنسان مصدر الشر فيقطعه من جذوره كيلا يعود ثانية.

وقوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ لا يعني أن بني إسرائيل كانوا يقتلون أنبياءهم قتلاً جسديًا؛ فهُم لم يقتلوا إلى ذلك الوقت أيًا من أنبيائهم. فالقتل في اللغة يعني القتل غيرَ المادي أيضًا، ومن معانيه:

(1): اللعنةُ، يقال: قتله الله أي لعَنه،

(2): المقاطعةُ والإعراض، يقال: اقتلوا فلانا: أي أعرضوا عنه ولا تهتمّوا بقوله.

(3) المساسُ بالشيء، يقال: فلان قتَله، أي أصاب قَتالَه أي جسده.

(4) إزالةُ تأثيرِ الشيء؛ يقال: فلان قاتلُ الشتوات، أي يُطعم الفقراءَ ويكسوهم في أيام البرد، وهكذا يزيل عنهم أثر البرد.

(5) التخريبُ والإيذاء، يقال: فلان قتَله العشق. (لسان العرب وأقرب الموارد)

فليس معنى هذه الآية أن بني إسرائيل كانوا يقتلون الأنبياء بالسيف، إذ لم يكونوا قد قتلوا أيا من أنبيائهم حتى زمن موسى ، وعليه فالمراد أنهم كانوا يضربون أنبياءهم ويؤذونهم ويقاطعونهم أو يسعون لإفشال مهمتهم.

وقد ورد القتل في القرآن الكريم بمثل هذه المعاني، حيث قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (آل عمران:22). هذه الآية تتعلق بالرسول ، ولا يعني القتل هنا إلا أن الأعداء كانوا يهاجمونه أو يحاولون قتله، أو يعرقلون جهوده، لأنهم لم يقتلوا رسولنا وما كانوا ليقتلوه.

كذلك جاء في القرآن المجيد: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ (غافر:29). والحقّ أن فرعون وأصحابه لم يقتلوا موسى ، لذا فغاية ما يمكن أن نفسر به هذه الآية هو أنهم أرادوا قتل موسى .

إذًا، فالقتل في آيتنا هذه يمكن أن يعني إرادة القتل، أي أن بني إسرائيل كانوا ينكرون آيات الله وكانوا يريدون قتل موسى وهارون، أو كانوا يقاطعونهما ويُعرضون عنهما، أو يخاصمونهما، أو يعرقلون طريق نشر دعوتهما، ومن أجل ذلك كانوا يُحرَمون من الخير ويتمادون في الإثم. وكان سبب معارضتهم لأنبيائهم أنهم أصبحوا أهل طيش وغضب، وفقدت طبائعهم الاعتدال والاتزان، وتجاوزوا حدّ الاعتدال في كل شيء، وحري بمن كان هذا طبعه أن يُحرَم خيرا كثيرا، ويتجرأ على الكبائر.

1 لقد قال حضرة المفسِّر رضي الله عنه هذا قبل أن تتأسس دولة إسرائيل. (المترجم)

Share via
تابعونا على الفايس بوك