تجارة لن تبور
التاريخ: 1991-07-26

 تجارة لن تبور

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبة الجمعة لمولانا حضرة مرزا طاهر أحمد -أيده الله بنصره العزيز

الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود

ألقاها بإسلام آباد -مقاطعة سري- إنجلترا يوم 26 يوليو 1991.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آمين.

بدأتُ منذ فترة سلسلة من خطب الجمعة حول موضوع الصلاة، بدأتها لمساعدة أعضاء الجماعة الذين يحبون الصلاة ولكن لا يملكون المقدرة على الانتفاع منها، ولأبيِّن لهم كيف يتم الانتفاع من الصلوات الخمس المكتوبة إلى أقصى حد وكيف تحصل المتعة من حبنا للصلاة. فالحب الحقيقي هو ما يستمتع به المرء. والحب نوعان: حب العقيدة، الذي يستطيع به المرء أن يجبر نفسه على بعض الأفعال، ولكنه لن يجد متعة في القيام بها إلا بالحب الحقيقي. وبهذا الصدد ألقيت عدة خطب حول معاني سورة الفاتحة، والآن سوف أتحدث عن بقية الصلاة.

وأول ما يتطلب الانتباه أننا عُلِّمنا قول “الله أكبر” عند كل حركة في الصلاة فيما عدا حركتين: القيام من الركوع والخروج من الصلاة بالتسليم، وسيأتي الحديث عن هاتين الحركتين فيما بعد، إن شاء الله. ما هي العلاقة بين “الله أكبر” وبين الحركة في الصلاة؟ الواقع أنه كلما قام الإنسان بحركة فكرية أو جسدية في حياته.. من جانب لآخر، أو من حال لآخر.. فلذلك سببان دائما: الخوف أو الرجاء. فبسبب الخوف يتحرك الإنسان من ناحية إلى ناحية أخرى.. حتى أن حركته وتقلبه في نومه أيضا راجع إلى نفس السبب. إذا رقدتَ على جانب لفترة من الوقت أحسست بالألم فتتحرك إلى وضع آخر خوفًا وفرارًا من الألم. أما الذين ينامون نوما عميقًا جدًا لا يتقلبون لأنهم في نومهم العميق لا يشعرون بالألم الناجم عن الرقود على جانب واحد. على أية حال، لو نظرت إلى أي جانب من الحياة الإنسانية سواء كان صغيرًا أو كبيرًا لوجدت أنه إذا غير موضعه أو حالته فذلك إما تجنبا عن خوف وألم أو إشباعا لرغبة أو أمل.

ويخبرك إعلان “الله أكبر” عند كل حركة في الصلاة أن الله أكبر من الجميع، فلا تستطيع الفرار منه، وإذا أردتَ الانتقال من حال إلى حال ثانٍ فليكن انتقالك من الأدنى إلى الأعلى ومن الأصغر إلى ما هو أكبر، وينبغي أن تتم كل حركة من حياتك بحيث تقرّبك إلى الذات التي هي أكبر من كل أحد.

إنه موضوع واسع وعميق جدًا، ولا وقت للدخول في تفصيله، وأرى أن في هذا التلميح كفاية. ولو تفكر المصلي في هذا الموضوع لتفتحت أمامه نوافذ المعاني بلا انقطاع، وتحول حاله خارج الصلاة أيضا إلى عبادة مستمرة، لأن رسالة “الله أكبر” لا تعنيه وهو في الصلاة فحسب، بل هي رسالة لحياته كلها. فيها فلسفة الحركة والسكون جميعا. وبالتفكير في هذا الأمر أثناء الصلاة تنحل بفضل الله أيضا مشاكل الحياة الأخرى على ما يرام.

بعد ذلك تأتي حركة الركوع التي نردد فيها “سبحان ربي العظيم”، كثير من الناس يردّدون هذا التسبيح وهم في غفلة، فلا يدرون ماذا يقولون، فما معنى العظيم؟ وبأي مدلول هو عظيم. هناك فرق في المعنى بين “أكبر” و”عظيم”. “أكبر” يدل على العظمة النسبية، أما العظيم فيدل على الرهبة التي تتجلى في صاحب العظمة عند الاقتراب منه. لو اعتبرت أحدا عظيما لمشهده عن بعد، أو كانت هيبته قد وصلت إليك عن طريق السمع.. فلن تتوصل إلى إدراك عظمته، اللهم إلا إذا اقتربت منه. ما دمت لم تذهب إلى أسفل الجبل فن تستطيع إدراك معنى عظمته الحقيقية، طالما سمعنا عن جبال الهملايا، ولكن عندما سافرنا إليها واقتربنا منها ورأينا قممها الشاهقة عن كثب.. عندئذ أدركنا ما هي عظمة الجبل.

وبالمثل، أولئك الذين يوصفون بالعظمة، يعترف بعظمتهم من رآهم عن بعد، ولكنه لا يدرك عظمتهم حقا، لأن إدراك العظمة يتم دائما عن قرب. وهو السبب في أن عظمة سيدنا محمد تجلت في الحقيقة لمن كانوا بالقرب منه. أما الذين ولدوا في زمن بعيد عنه فقد وُضع لهم نظام من القرب الروحاني كي تتجلى عظمته عليهم، ولقد رآه سيدنا المهدي والمسيح الموعود عن قرب روحاني، وبفضل هذا القرب الذي بين حضرته وبين سيدنا محمد المصطفى مُنحنا أيضا القرب منه، ورأينا عن قرب أيضا تجليات عظمة سيدنا محمد المصطفى . هذا هو الموضوع الذي وضحه لنا القرآن الكريم في سورة الجمعة بقوله تعالى:

وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ (الجمعة: 4)

فهناك قوم آخرون سوف يوهبون القرب من سيدهم محمد . إنهم بعيدون عنه من حيث الزمن ولكن التقدير الإلهي سوف يقربهم إليه، ولسوف يلحق هؤلاء المولودين في الأيام الآخرة بالسابقين الأولين، وهنا أيضا ذُكر موضوع العظمة. وإذا لم تتجل عظمة أحد من خلال القرب منه فلن تحدث في الإنسان تلك التغييرات التي تنشأ نتيجة إدراكه لعظمته.

إذن فبإدراك موضوع (سبحان ربي العظيم) يعرف الإنسان أنه قد اقترب الآن من الله الذي كان قد شهد عظمته في آيات سورة الفاتحة. لقد صار على درجة من القرب منه دفعته إلى الركوع بين يديه حتى خضع له وأقر بطاعته. وإلا فإن الإله البعيد لا يكفي كي يخضع له المرء، وإنما يخضع لله خضوعًا حقيقيا إذا أدرك عظمته. وإدراك العظمة، كما قلت آنفا يتطلب القرب. وقد تمم الركوع هذا الموضوع، فهو حالة تعبر عن الخضوع والطاعة. ولقد وصف القرآن الكريم هذا الموضوع في قوله: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ . ولا يعني هذا أنك كلما شاهدت جماعة يركعون فاركع معهم بجسدك، وإنما يعني أنك كلما شاهدت جماعة من عباد الله مطيعين لله فَالْحَقْ بهم في طاعة له ، ذلك لأن موضوع الطاعة لله تعالى يشمل كل نواحي الحياة وجميع مواقفها.

وبهذا المعنى عندما نقول (سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم) فإن موضوع العظمة يتغير باستمرار، فالعظمة تتجلى في كل موقف بشكل مختلف. فعظمة الجبل تختلف عن عظمة الحيوان وعن عظمة الإنسان. وعظمة الرب ذي المجد والعلا شيء مختلف تماما. الرب الذي تبينت لنا عظمته في سورة الفاتحة، عندما تشاهد عظمته عن قرب تندفع الروح للركوع تلقائيا، ثم ينحني الجسم تبعا لها في الركوع. وانحناء الجسد لا يسبق انحناء الروح، عندما تتلو ما تتلو من موضوعات وأنت قائم في الصلاة وتتفهمه جيدا وبوضوح يجب أن تسيطر على قلبك حالة تندفع بسببها روحك للانحناء، وفي نفس الوقت يضطر الجسم تلقائيا للانحناء معها، هذه الحالة تسمَّى ركوعًا.

وفي حال الركوع هذا عندما تتفكر في معنى عظمة الله، سيبدو لك أن ترديد (سبحان ربي العظيم) ثلاث مرات لا يكفي. وهكذا هيأ الله لنا الفرصة للتدبر في عظمته أثناء ركوعات الصلوات في كل حياتنا. فكلمة (العظيم) و”سبحان ربي العظيم” تتضمن سلسلة من المعاني الجميلة لا نهاية لها. وكل إنسان بحسب حالته، وبحسب موقفه، وبحسب علاقته بالله تعالى عند الركوع.. يستطيع أن يلوّن لوحة “سبحان ربي العظيم” بألوان جديدة على ضوء ما تنشأ في قلبه من تصورات شتى لعظمته .

ومما هو جدير بالتأمل إلى جانب ذلك أن سورة الفاتحة في نصفها الأول تحدثت عن الله تعالى في أسلوب الغائب، وفي النصف الثاني منها بدأتَ تخاطب ذلك الإله ولكن في صيغة الجمع. فـ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يعني أنه يهيمن على العالم كله، ولا يخرج كائن واحد عن نطاق ربوبيته، وكل كائن يتغنى بأناشيد حمد لله تعالى وبأسلوبه الخاص ولا يتوقف سواء كان الإنسان الواعي، أو الكائنات الحية الأخرى وحتى الجمادات. ولكن هذا الحال يتصف بالعمومية. أما إقامة علاقة خاصة بالله تعالى فتقتضي بعض الوقت. ولقد أنهى الله لك فترة الانتظار هذه بقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، وبذلك أُنشئ لك علاقة شخصية مع ذلك الخالق الرازق الذي هو رب الجميع. ومع ذلك فالأسلوب هنا أيضا في صيغة الجمع، حيث تقول: نحن نعبدك.. أو نحن نريد أن نعبدك أو سوف نعبدك وحدك، ونسألك أنت المعونة. وحتى الآن لم تترسخ تلك العلاقة التي تستطيع بها القول أنه (ربي) بصفة خاصة. هذه هي المرحلة التالية من الصلة بالله تعالى، التي لا يمكن أن تقوم إلا على الإذعان والاستسلام له. لا يمكنك نوال شيء بكلمات حمد يقولها اللسان، ولكن بقدر ما تسعى بالعمل لتكون حقا للشيء يصير الشيء لك.

فهيئة الركوع تخبرنا أن الله الذي هو رب كل إنسان.. ينبغي أن يكون ربك أنت شخصيا. إذا كنت تحمده وتدعوه بقلب صادق وجب عليك أن تحني رأسك أمامه من خلال أعمالك اليومية، وتسلم له طائعا خاضعا ليكون ربك أنت شخصيا. وإذا صرتَ له بطاعتك له، منحك الحق في أن تعلن عن هذه العلاقة وتقول: (سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم).. تقدس ربي أنا الذي له كل عظمة.

ثم بأي معنى الرب سبوح؟ وبأي معنى “ربك” سبوح؟ وبأي مفهوم الربُ عظيم، وبأي معنى “ربك عظيم”. بقولك هذا ربطتَ نفسك بذات الله تعالى بأنواع الارتباطات، وبالتالي بدأ هنا موضوع جديد من اختبار النفس وتزكيتها وتطهيرها: في أي الأمور أنت طاهر؟ وفي أي الأمور تحاول أن تكون طاهرًا. فإذا كنت طاهرًا في بعض الأمور وبقدر استطاعتك، وتسعى في أمور أخرى للطهارة، فلك الحق لتقول: (سبحان ربي)، وتلتمس معونته لتكون أكثر طهارة. وإذا كانت فيك أمارات العظمة، أو ترغب في العظمة الحقة وتسعى نحوها.. فلك الحق أن تقول (سبحان ربي العظيم).. نعم، إن ربي هو العظيم الذي وهب لي أنا من عظمته، وشرع يأخذني إلى كل صنوف العظمة.

فترون أنه بتغيير الموضوع وبتغيير زاوية الملاحظة قليلا كيف تنفتح أمامكم باستمرار عوالم لمعانٍ جديدة.

بعد ذلك تأتي حركة الاعتدال من الركوع، ويبدأ منها موضوع جديد، فتقول (سمع الله لمن حمده).. لقد سمع الله لذلك الذي حمده. لماذا جاء هذا الموضوع هنا؟ العقل البشري يقول: كان ينبغي قول: (سمع الله لمن حمده).. عندما تم موضوع الفاتحة.. واكتمل موضوع الحمد ووصل إلى ذروته.. لماذا أُرجئ هذا إلى ما بعد الركوع؟ ذلك لأن الحمد بكلمات اللسان وحده ليس مما يستمعه الله ويقبله. إنه لا يستمع لحمد الإنسان له ما لم يولّد هذا الحمد روح الطاعة في قلبه وما لم يترجم طاعته إلى أعمال. فالذين يقتصرون على حمد الله باللسان فقط يتجاهل الله حمدهم. ويمر الإنسان ببعض هذه الخبرات في حياته اليومية. هناك أماكن يعتاد أهلها كيل الثناء الكاذب. إذا قابلوك مدحوك، وأحيانا بالغوا في ذلك إلى مدى بعيد. وبدلا من أن يتولد فيك الحب لهم تتجه فطرتك إلى النفور منهم.. ذلك بالطبع إذا لم تكن أنت نفسك كاذبا، أما إذا كنت كاذبًا.. فعادة الكاذبين أن يُسَروا بالمديح الباطل، وصدقك الداخلي ينبئك إلى أي مدى أنت صادق. فالرجل الأمين لا يسعد أبدا بالثناء الكاذب، بل لا يعيره أذنا صاغية، ويكرهه وينزعج منه ويتعجل الانتهاء من المقابلة.

فالحمد الذي لا يصعد من القلب والذي يفتقر إلى الإخلاص العميق.. لا يسمعه الله تعالى. أما إذا كانت ثمرة الحمد أن يشرع المرء في الطاعة وبذل التضحيات لله، وإحداث التغييرات الصالحة في نفسه، فمثل هذا الحمد جدير بالسماع. ونفس هذا الموضوع بيّنه القرآن الكريم في موضع آخر بأن الكلمة الطيبة تسمو بالعمل الصالح:

إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ،

إذا لم يصطحب العمل الصالح الكلمات الصالحة فإنها لا تصعد إلى الآفاق العالية.. ولا تصل إلى الله أبدا.. وتكون مجرد أصوات تتلاشى دون العرش ولا تصل إلى هدفها.

فالركوع يوضح أنك إذا أردت الحمد الذي يصل إلى الله تعالى فعليك بالركوع والطاعة لله.. وعندئذ سوف تسمع صوت القبول الإلهي لهذا الحمد الصادق يقول: “سمع الله لمن حمده”. نعم إني سمعت حمدك. إني أسمع نداء الحامد الذي يحمدني بشعور صادق. فإذا قلت: “ربنا ولك الحمد” ردا على ذلك الصوت فقد عبرت عن حمد الشكر أي أنه حمد لتقديم حق الشكر. الحمد الأول الذي قمت به في سورة الفاتحة تأتيك البشري بقبوله بعد الركوع. فيكون الإعراب عن شكره والامتنان له بخضوع أكثر وبحمد آخر: “ربنا ولك الحمد.. حمدا كثيرا طيبا” أي الحمد الذي لا آخر له.. الحمد الذي هو طيب طاهر لا تختلط به الأهواء والشهوات الأنانية. مثل هذا الحمد نقدمه لك وحدك يا رب، وليس لمجدنا أو عظمتنا.

“مباركا فيه” إنه حمد ذو بركات كثيرة. ما المقصور بالبركات في الحمد؟ الواقع أن الحمد الصادق يتولد منه حمد جديد، ولا ينفك يتزايد دائما. فهذا المحبوب صفاته الحسنى أعمق مما أدركته في مقابلتك الابتدائية.. وكلما اقتربت منه وجدت فيه حسنا أكثر وأعمق فحمدته. كلما عبرتَ عن محبتك عدتَ بحب أكثر من ذي قبل، ولا تعود سئما ولا ضجرا. أما الذين يكون محبوبهم مزيفًا سطحيًّا بلا عمق، تنتهي محبتهم سريعا ولا تبقى طويلا. محبوبهم يفتقر إلى الصدق وجماله العميق.. لذلك يبقى حمدهم له محروما من البركة.

وهكذا بيّن الله تعالى لنا أن حمدكم الصادق هو ذلك الحمد الذي هو مفعم بالبركات ويزدهر دائما ويربو باستمرار، ولا تنفكون تدركون به معاني جديدة للحمد. والحقيقة الواقعة أنه ليس بعد الله أحد حمده مبارك.. بمعنى أن بركاته لا تنتهي. فكلما تدبرت في وجود الله تعالى وكلما فكرت في صفاته الحسنى وفي أفضاله التي أنعم بها عليك، وفيما ترجوه منه من إنعامات في الأيام القادمة.. اتسعت هذه الموضوعات وغطَّت فترة زمنية طويلة. وبأي شيء منها يتصل حمدك له.. سيكون حمدا مباركا.. ذلك إذا زرعت في نفسك عادة التفكر الحقيقي، والثناء على الله بمشاعر قلبية صادقة.

وبعد ذلك تقول: “الله أكبر” مرة أخرى وتخرّ ساجدا، وتردد: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى. ما الفرق بين (أعلى) و(عظيم)؟ تعني كلمة “العظيم” أنه تعالى يحيط الكون جميعه، وأنه ليس ببعيد عنك وإنما هو قريب منك.. بمعنى أنك اقتربت من عظمته، وشاهدت تجلياته على مقربة منه حتى ارتعبت من رؤيتها. ولكن كلمة “أعلى” تفيد معنى السمو بمعنى أنك تشعر أنك مهما اقتربت منه لا يمكن أن تساويه. إنه الأعلى، وكلما دنوت منه زاد إدراكك لسموه. ويمكن فهم هذا الموضوع أيضا عند الاقتراب من جبال الهملايا أو أحد الأبنية العالية. سمعتَ عن ارتفاع برج إيفل أو بناء “إيمباير ستيت” أو “برج تورنتو”. إذا رأيتها عن بعد.. لا يحدث ارتفاعها أي أثر ملموس في قلبك، ولكن إذا اقتربت منها ووقفت عند قاعدتها.. عندئذ تدرك مدى ارتفاعها. ولكن هناك مرتفعات لا تبدأ من عند موقفك.. بل هي أعلى منك كثيرا. فارتفاع السموات أبعد من أن تصل إليها. ولقد حاول فرعون ذلك -كما ذكر في القرآن الكريم- وقال:

يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى (غافر: 37-38).

أراد أن يصعد ليشهد بنفسه علو إله موسى . لو كان حقا موجودا.. أين هو، وما مدى ارتفاعه؟ هذا هو مستوى تفكير فرعون المنحط! ولكنه علّمنا درسا بأن موضوع “العلو” يبدأ من مقام لا تصل أنت إليه. إنه في أعلى مقام كما قال الشاعر “غالب” ما معناه:

كان بوسعنا أن نصور المشهد من مرقب أعلى موضعا.. ذلك لو استطعنا أن نذهب وراء العرش الإلهي..!

لإدراك العلو الإلهي يحتاج الإنسان إلى أفكار أبعد مدى من “العرش”. وللوصول إلى هذا العلو لا يصلح تفكير فرعون الذي يبحث عن علو مادي، وإنما تصلح العبودية التي تقتضي التواضع ومحو الذات. وهكذا نتعلم موضوعًا هو غاية في السمو ونحن في وضع السجود.. وضع التواضع العميق. فالرجل الذي تمس جبهته في الأرض ويضع جبينه على عتبة الله.. يصل أحيانا إلى وضع لا يفهمه أهل الغرب الذين عندما يرون المسلمين ساجدين في صلاتهم فيسخرون منهم ويقولون: انظروا هؤلاء الحمقى، لقد جَعَل الله الإنسان أشرف المخلوقات وخلقه حيوانا يمشي معتدلاً مستقيمًا. وها هم يمسحون جباهم بالأرض! ولكن هؤلاء الحمقى لا يعلمون أن سر كل علو هو غاية التواضع بين يدي من هو الأعلى من الجميع. إن سُلّم الصعود يبدأ في غاية الخضوع أمامه، وليس في التعالي أمامه.

فأنت تقول: “سبحان ربي الأعلى” وأنت في غاية التواضع وقد قبلت كل ذلة ومحوت نفسك تماما، ولم تدع لنفسك شيئا. الله الذي خلقك لتسير معتدلا مستقيما أصبحت أمامه كدودة حقيرة من الأرض لا تقتدر على القيام، في هذا الحال تقول سبحان ربي الأعلى. وهذا الرب الذي تناديه في هذه الحالة هو الذي يعطيك العلو عندئذ، ويكون لك الحق لتقول “ربي الأعلى”. ويعني ذلك أن العلو سوف يتولد فيك أنت أيضا لأن ربك هو الأعلى.. وإلا كيف صار هو ربك أنت؟ من كان ربك يجب أن يكون فيك شيء من صفاته، ويجب أن تُرى نعمه وبركاته فيك.

فكل إنسان يمضي في ترديد “ربي العظيم، ربي العظيم، ربي العظيم” بإخلاص وصدق يجب أن تنشأ فيه آثار عظمته تعالى. وكل من يردد أمام الله بغاية التواضع “سبحان ربي الأعلى”.. وكان الله تعالى حقًا ربه.. فلا بد وأن تتولد فيه أمارات العلو والرفعة. وعندئذ يستطيع أن يخرج على العالم كسفير لله تعالى. برؤيته يدرك العالم عظمة الله تعالى، وبمشاهدته تدرك الدنيا علو شأن الله . وهذا هو السبب في أن سيدنا المهدي والمسيح الموعود تناول هذا الموضوع مرارا في أشعاره وكتاباته التي عبر فيها عن شدة حبه للمصطفى قائلا: أنت لست الرب ولكنك، بلا ريب رباني تري الدنيا برؤيته وجه الله. ومن رآك فقد رأى الله تعالى. ولم يخلق مثلك”.

وهذه العبارة ليست من الشرك في شيء، وإنما هي تمحو الشرك. ينخدع الناس بها أحيانًا لعدم إدراكهم عمق معناها. الواقع إن نبينا محمدًا المصطفى يعكس الصورة الإلهية لأنه محا ذاته تماما. لقد أكمل في شخصه معنى (لا إله إلا الله). لم يقل: يا رب لا شيء في الدنيا سواك وسواي. والناس عادةً عندما يقولون (لا إله إلا الله) فإنهم في الحقيقة يعلنون بذلك عن وجود الله تعالى ووجودهم، ونفي كل شيء بعد ذلك. أما المصطفى فإنه أثبت بأسوته خلال حياته كلها بأنه ليس بموجود بالمرة، وليس هناك سوى الله تعالى. وعندما محا ذاته تجلى الله تعالى في ذاته وظهرت صفات الله في كل حركاته وسكناته . فالموضوع لا صلة له بالشرك، بل هو التوحيد الكامل.

وتذكرنا “سبحان ربي الأعلى” بهذا الموضوع. إذا كنت من أهل العلو وقلت “ربي الأعلى” فينبغي عليك إذن أن تتخلص من صفاتك الدنية، لأن من كان عبدًا للصفات الدنية لا يمكن أن يكون عبدا للرب الأعلى. إذًا فليست المسألة مسألة سجود يوم واحد، وإنما تتوقف على كفاح مستمر طول الحياة. هل يمكن للإنسان أن يتحرر من كل الصفات الدنية بين يوم وليلة، أو في عام واحد، أو في عشرين أو حتى مائة عام؟ كلا. فهو إذن موضوع مستمر لا يتوقف أبدا. ولكن هذه الحركة يجب أن تستمر دائما من حال أدنى إلى حال أرقى. ولن تستمر هذه الحركة فيك ما لم يتولد التواضع في داخلك، وما لم توهب حالا جديدا من التواضع في كل مرة. فكل سجدة ينبغي أن تزيد من تواضعك، ومع كل سجدة يجب أن تنشأ فيك إدراك أعمق لضعفك وقلة حيلتك. وعندئذ سوف يستمر “علو” الله تعالى في ملء فراغك هذا، وسوف يتولد شخص جديد من داخلك باستمرار.

هذا هو موضوع السجود، والآن تعالوا لنرى أولئك الذين يقولون بجهالة أن عبادة الإسلام مملة غريبة.. تكرر وتعيد فيها نفس الموضوع. لا بد لك من الوقوف خمس مرات كل يوم على الأقل، وأن تكرر أمام الله نفس الأدعية في كل ركعة. نعم، إذا كانت أفكارك وإدراكك سطحية ظاهرية فهي فعلاً أوعية فارغة، ولن تستطيع أن تجني منها أي نفع. ولكن الأوعية من شأنها أن تُملأ بشيء. لقد وهبك الله تلك الأوعية لهذا الغرض، ومنحك تلك الموضوعات لتملأها بها. هذه الموضوعات في كل مرة تملأ أوعية الصلاة بمعنى جديد، ولون جديد وجمالٍ جديد، ومتعة جديدة. وهذه عملية سوف تستمر للأبد، بل وسوف تستمر حتى بعد الموت، لأن الإدراك الكامل لعظمة الله تعالى ليس في مقدور الإنسان. إنها عملية تطويرية لا تنتهي، وسوف تستمر إلى الأبد.

بعد ذلك نتحدث عن “التحيات” في وضع الجلوس حيث تقول: “التحيات لله والصلوات والطيبات” كل ما نُهدي من هدايا فهو لله، وكل عبادة بالجسد فهي لله، وكل صالح طيب من مال أو ملكة وكفاءة فهو لله.

والسؤال الآن: ما هي الهدية وما نوعها؟ وهل ستستمر في تقديم نفس الهدية كل يوم؟ إذا تفكرتَ في هذا الموضوع وجدت أن الهدية ليست ضريبة ولا تجارة، وإنما للهدية معنى خاص.. إذا لم تفهمه لن تستطيع القيام بواجبك بصدد التحيات. المعنى الكامن في الهدية هو تبديل الأشياء المادية إلى الحالات الروحية. إنها نظام للمقايضة ليس له أدنى صلة بالمادية. مع العلم أنه حتى في المادية، حينما يرغب القلب بسبب الاضطرار البشري الحُصول على المتع الأعلى نوعيةً، يدخل موضوع الهدية قطعا. ذلك رغم أن في المادية سواء كانت مادية جدلية أو نوعا آخر من الفلسفة المادية كتلك التي في بلاد الغرب الرأسمالية -فهي أيضا فلسفة مادية- أقول في المادية لا يناسبهم موضوع الهدية إذ يبدو غير مترابط نوعا ما. ولولا الجبر الناشئ عن فطرة الإنسان لامتنع التفكير في موضوع الهدية في كلا هذين النظامين الماديين. ذلك لأن الهدية هي إعطاء شيء مادي ملموس مقابل إحساس ليس له وجود مادي. وهذا الإحساس يتصل بأحوال قلبك ويتصل بعالم أفكارك. وإذا حللت عملية التبادل هذه بعقلية مجردة.. عقلية كارل ماركس.. لقلت إنها ضرب من الجنون. إنها حماقة كبرى. إذا أحببت صديقا ينبغي أن تتملكه وتأخذ منه كل ما استطعت، ولكن ما معنى أن تعطيه أنت شيئا؟ خصوصا إذا كان صديقا لا تتوقع أن تنال منه شيئا في الظاهر! فتضحية مالك الذي اكتسبته بالكدح.. حماقة كبرى! ما الذي تأخذه في مقابل ذلك؟ تأخذ منه حبا.. وهو حال لا يستطيع الإنسان أن يلمسه بيده ويُريه لأحد قائلا: هذا هو حبي لك. إنه مجرد شعور لا لون له ولا هيئة ولا طعم ولا رائحة.. وليس له حقيقة واقعة. فتحويل حال مادي إلى حال روحاني هو ما يسمى “هدية” وهي لا توجد في أي نوع من التعاملات. والعلاقات التي أقمتَها مع الله حتى الآن هي ركوع وسجود وخضوع.. وما كل ذلك إلا خضوع آلي.. يشبه الخضوع والقبول لعظمة مَلَكٍ وطاعته بدافع الخوف. صحيح أن الخوفَ أساسي للخضوع، ولكنه وحده غير كاف. الخضوع الحقيقي أي الطاعة هو خضوع المحبة. وعندما تكرر “سبحان ربي” فأنت هنا تعترف بعلاقة محبة؛ وإلا ما قلتَ “ربي.. ربي”. صحيح أنه رب العالمين، ورب الكون كله، وله السيطرة والسلطان جميعا، ولا بد من الانحناء له. لقد وضح لك ذكاؤك كل هذا. حسنًا، ولكن إذا قلت: “ربي أنا”. فقط تطرقت إلى موضوع المحبة. وعند المحبة ينبغي أن يبدأ أيضا موضوع “الهدايا”. فبعد أن اتخذ الإنسان الله تعالى ربًّا حبيبًا يذعن له في تواضع ويقول: “التحيات لله”: كل الهدايا لله تعالى، “والصلوات والطيبات” وما هي الهدايا؟ هي التضحيات الجسدية والبذل المالي؟

* وهذا الموضوع لا أستطيع أن أوضحه بهذه الكلمات القليلة.. ولكني أتكلم عنه بإيجاز بسبب ضيق الوقت. ترون كم يضحي الإنسان لمحبوبه في الدنيا من تضحيات بدنية، وكم يسعى لتحمل كل مشقة في سبيله. وتُشاهَد هذه الحالات يوميا حتى في مستوى عادي من الحب. مثلا، لو كان الجو باردا والباب مفتوحا، ودخل الهواء البارد، فحاول صديق لك أن يغلقه، فإنك تنهض مسرعا وتقول: استرِح أنت فسأغلقه بنفسي. لماذا تتعب أنت نفسك ولا تدعه يغلقه؟ إنه سيقوم بالعمل فيحميك ويحمي نفسه من الهواء البارد؟ لماذا بادرت للعمل؟ ذلك لأنه صوت الفطرة يأتيك من أعماقك ليخبرك أنك عندما تعاني تعبا ماديا لغرض أسمى فإنك تحصل على سعادة ومتعة. فموضوع الهدايا يوضح لنا ما هي المتعة في العطاء والبذل. كل متعة تأتي من الأخذ فهي متعة من درجة أدنى. أما المتع الحقيقية الراقية الدائمة.. المتع الأشد سحرا فتُكسب دائما بالعطاء. عندما تقدم شيئا إلى حبيبك ويرده إليك كيف تتألم بشدة؟ وإذا أعطاك حبيبك شيئا فتسر به بلا شك، ولكن قلبك يشعر بشيء من الحزن وتقول: ينبغي أن أعطي الحبيب أكثر لتكون لي اليد العليا في العطاء. وبالرغم أن هذا النوع من العطاء هو أدنى رتبة في الواقع فمع ذلك يحب الإنسان أن تكون له اليد العليا فيه. يريد أن يعطي أكثر ويأخذ أقل، ويقول: ينبغي أن أعاني أكثر ويعاني حبيبي أقل. مثل هذه المتع تخلق داخل الإنسان شخصا جديدا يستطيع أن يُنشئ علاقة مع الله تعالى.. لأن الله ليس مادة، ولهذا الهدف نفسه لقد وضع الله هذا الموضوع في العلاقات الإنسانية. وبقدر ما درست التطور.. فهو عندي اسم للحركة من أحاسيس أدنى إلى أحاسيس أعلى. أما التغيرات الجسدية التي نشهدها في التطور فهي ذات طبيعة ثانوية. هذا موضوع واسع جدا، ولقد ألقيت الضوء على جانب واحد منه في إحدى المناسبات بموريس، ولكن بإيجاز شديد، ولضيق الوقت أدعه أيضا اليوم هكذا دون مزيد من البيان لأتناوله بالشرح فيما بعد، إن شاء الله تعالى.

على أية حال، لقد دخلنا في موضوع “التحيات”.. ولما كان اليوم هو أول أيام الاجتماع السنويـة ولدينا الكثير من الأعمال.. فلسوف أستكمل بعون الله ما تبقى من الموضوع في خطبة الجمعة القادمة بعد الاجتماع السنوي، وسأتحدث إليكم عن النتيجة الطبيعية المنطقية لسورة الفاتحة.. أعني لو قُبل دعاء

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ..

فما هي التغيرات التي تحدث فيمن أنعم الله عليهم، وما هي العلامات الظاهرية التي تُلحَظ فيهم؟ وبالمثل كيف يعامل الله المغضوب عليهم عندما يصطدمون بالمنعم عليهم. والموضوع واسع جدا لا تكفيه خطبة واحدة. ولقد تناولت جانبا من هذا الموضوع في خطبة العيد الماضي، وسأتحدث عن جانب آخر منه في خطابي بالجلسة الختامية للاجتماع السنوي، إن شاء الله.

أتوقف هنا لتأخر الوقت. وربما تود الجماعات التي تستمع إلى الخطبة مباشرة على الهواء أن أذكر أسماءهم في هذا اليوم الخاص، ولذا سأذكر أسماءهم للدعاء لهم. وتضم قائمة الأسماء إندونيسيا، كينيا، باكستان -يستمعون بفضل الله في لاهور وإسلام آباد- وثلاث جماعات في ألمانيا، ثم اليابان وموريشس. وموريشس هي أولى البلاد في اتباع نظام الاستماع المباشر، وبعدهم انتفع الآخرون. ثم فيجي، إسبانيا، ومسجد لندن. ولقد بدأ هذا النظام الإخوة “جسوال”، جزاهم الله خير الجزاء. لقد قاموا بعمل طيب، وأسدوا جميلا لكل الجماعات، وكتب إليَّ الكثيرون لأدعو لهم. باركهم الله في الدنيا والآخرة. وباسمكم أقول لكل الجماعات التي تستمع إلينا الآن: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وباسمهم أقول لكم: اذكروهم في دعائكم وخصوصا في هذه الأيام المباركة للاجتماع السنوي.

Share via
تابعونا على الفايس بوك