التقوى جذرُ كل بِرٍ
التاريخ: 1991-08-09

التقوى جذرُ كل بِرٍ

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

خطبة الجمعة لسيدنا مرزا طاهر أحمد- أيده الله بنصره العزيز-

الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود

ألقاها بمسجد الفضل، يوم 9/8/1991

أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ( آمين)

منذ فترة طويلة حوالي ستة أشهر كنت أخطب في موضوع الصلاة. وبعد الانتهاء من هذه السلسلة فكرت بالأمس فيما أخطب فيه اليوم. أحسست بنوع من الهدوء الذي تشعر به عندما تتوقف عجلة هادرة فجأةً: إنه هدوء تسكن معه الأفكار أيضا. فنمت البارحة داعيا أن يهديني الله تعالى بفضله لأخطب فيما يشاء لي أن أتحدث فيه. لم يكن في ذهني موضوع معين. فاستيقظت هذا الصباح وكت أردد بيتًا من كلام سيدنا المهدي والمسيح الموعود يتعلق بالتقوى.. رددته تلقائيا وبقوة كبيرة. أدركت من ذلك أنها رسالة من الله جل وعلا تبلغني أن موضوع التقوى لا يمكن أن ينتهي، ولا تستطيع الإنصافَ بشرحها تماما.. وهذا هو الأساس الأصلي الذي يجب أن ينبني عليه بناء الجماعة الإسلامية الأحمدية.. ليس لمائة عام، وإنما لآلاف السنوات القادمة. وإذن.. هناك حاجة لمزيد من الخطب عن الموضوع.

وبالتدبير في الأمر من هذه الزاوية.. وعلى ضوء هذا البيت من شعر سيدنا المهدي والمسيح الموعود :

“إن جذر كل بِرٍّ هو التقوى.. .. وإذا سلم هذا الجذر سلم كل شيء”.

أدركتُ أن جذر التقوى يكمن في النوايا. واتجه فكري عندئذ إلى حديث النبي : “إنما الأعمال بالنيات”. كل الأعمال تتوقف على النوايا. والواقع أن كلا القولين حول موضوع واحد وإن اختلف التعبير والكلمات. جذر أعمال الإنسان هو نيته، فإذا كان هذا الجذر حقا هو التقوى فإن بناء أعماله سيكون في نظر الله تعالى مُرضيا وجميلا. سيكون بناء جميلا خلابًا.. ثابتًا راسخًا. ولكن إذا أصاب جذر النبات عيب فلن يبقى شيء. وإذا تركنا فكرة الأبنية جانبا ونظرنا في مثال الشجرة بناءً على كلمة الجذر.. فلو يصيب الجذر مرض فلسوف يمرض جذعها أيضا ثم تمرض أوراقها وثمارها. ومهما فعلت بشجرة جذرها مريض فلا مصير لها سوى الاقتلاع، اللهم إلا إذا حقنتها بمادة تصل إلى الجذور وتشفي مرضها. ولي تجربة متكررة في الزراعة تدل على أن هناك أمراضا كثيرة للنباتات والأشجار تهاجم الأوراق والثمار والفروع.. ومن الممكن علاجها. ولكن عندما تذوي وتجف البراعيم الجديدة، وينتقل المرض إلى أسفل.. أي يبدأ من القمة ويتجه نحو الأرض.. دل ذلك على مرض بالجذر. وما لم تستطع حماية الجذور لا يمكن أن تشفى الشجرة.

لذلك سوف أتحدث إليكم في خطبة اليوم على ضوء قول الرسول : “إنما الأعمال بالنيات”. تجدون هذا الحديث النبوي الشريف في مختلف كتب الحديث في رواية طويلة أو قصيرة. والرواية التي اخترتها من صحيح البخاري بسنده

عن سيدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: “إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْه” (صحيح البخاري، كتاب الأيمان والنذور)

فمن خرج مهاجرا في سبيل الله ورسوله، يبغي رضاهما، وتخلى عن بلده وضحى بشهواته.. نَظَرَ الله تعالى إلى هجرته على أنها في سبيل مرضاته ورسوله. ومن خرج يريد مصلحة دنيوية أو زواجا بامرأة فلسوف تُحتسب هجرته عند الله تعالى بحسب مقصده والغرض من هجرته.. وليس له نصيب في ثواب العمل الصالح. لسوف يحصل على ثمرة مقصده تماما طبقا لما يريد وينوي.

وينطبق هذا القول النبوي الكريم على كل نواحي الحياة، على أفكار المرء وأعماله كلها. إنه حديث يشتمل على موضوع واسع جدًا. وإذا حللتَ الأمر لوجدت أن هذا هو الجذر أو الأساس لنفسية الإنسان الذي إن أمسكتَ به أمكن حل المشاكل النفسية بسهولة. والواقع أن الطبيب النفسي يعمل جاهدا ويكافح ..  ويمضي في طرح الأسئلة على المرضى بحثا عن هذا الجذر نفسه، وفي نهاية الأمر يجد السبب الجذري.. ويعرف كيف نشأ المرض وكيف تطور، كيف بدأ الاضطراب الأول في عقله الذي تسبب في معاناة المريض من العلة المعقدة. والنقطة الأولى لبداية المرض هي دائما نقطة بداية النوايا، وبعد ذلك تبدأ العملية كلها. وحياة الإنسان معقدة للغاية. إذا حاولت تحليل أفكار الإنسان من الخارج وجدتها عملية شديدة الصعوبة، وحتى لو أمكن الوصول إلى نيته من الظاهر.. فليس في ذلك أساس أكيد لتفرض تحليلك على أحد.

وبالتفكير في هذا الموضوع يدرك المرء أنه لابد من أن يبدأ الإنسان هذه الرحلة.. رحلة تحليل أفكاره بنفسه. فالإنسان وحده -بعد الله تعالى- هو الأكثر معرفة بحقيقة نواياه. وعندما يفصح عن نواياه لغيره فإنه دائما يعبر عنها بطريقه ملتوية، ويقدمها دائما في ثوب جذاب، ويندر أن يوجد إنسان يكشف مقاصده للآخرين تماما على حقيقتها .. وإلا فإن من طبيعة الإنسان أن يخفي نيته. وكما أن الجذر يُخفى تحت التربة كذلك يسعى الإنسان إلى إسدال مزيد من الحجب على نياته المستورة في داخله مسبقا، ونتيجة لذلك غالبا ما تقع النزاعات والخلافات في العلاقات الإنسانية، والأحرى أن ذلك هو السبب لكل نزاع. فما من خلل ولا فساد في علاقات البشر إلا ويقوم على النية الفاسدة. وما لم تكن نية المرء متشربة بالتقوى.. فكل شجرة تخرج منها ثم تزدهر وتنمو ثم تثمر.. ستكون ثمارها حامضة فاسدة.

بعد شرح هذا الموضوع في عبارات عامة أرى الآن أن أطبقه في دوائر أصغر للعلاقات الإنسانية المختلفة، وأريكم وأبين لكم كيف تفسد العلاقات الإنسانية نتيجة غياب التقوى.

في الحديث النبوي الشريف سالف الذكر ضرب لنا المصطفى مثلا ذَكَرَ فيه الزواج وقال: هناك من يسافر للزواج بامرأة، فهو في رحلة النوايا هذه يسافر إلى امرأة وهي هدفه.

لا تحسبوا هذا موضوعا سطحيا.. بل هو موضوع عميق واسع. هذا المثل يشمل دائرة فسيحة من العلاقات الإنسانية. كيف تتم الرحلة إلى امرأة؟ هل يقوم كل الرجال بهذه الرحلة بنية واحدة أم هناك فرق بين مقاصد الناس؟ عندما تتفكر في هذا الموضوع ينتقل فكرك إلى حديث آخر للنبي يقول فيه: “تُنكَح المرأة لأربع: لجمالها ومالها وحسبها ودينها.. فَاظْفِر بذاتِ الدِّين تَرِبَتْ يداك”. يمكن أن يكون للزواج مقاصد دنيوية مثل مَكانة الأسرة وشرفها وصيتها، أو ثراء المرأة أو جمالها.. ويمكن أيضا أن يكون الزواج بهدف الدين والتقوى. ونصيحتي لكم أن تنكحوا المرأة لدينها.

ولو نتفكر في الأهداف الأربعة التي جاءت في الحديث ونتعمق فيها.. يتسع الموضوع أكثر، لأن رحلة النوايا في صدد الزواج لا يقوم بها الشاب أو الفتاة وحدهما.. بل يشترك معهما الوالدان والأخوات بل مجتمعهم أيضا. أن تكون الرحلة في ظاهرها إلى فتاة أو شاب.. ولكن هذه القافلة كلها تنضم إلى الرحلة، ويحاول كل منهم أن يفرض اتجاهه على الآخرين.. وكأنما بدأت لعبة  شد الحبل بينهم. الأم تطلب أن تكون العروس وفقا لطبيعتها وذوقها. والوالد يريد العروس من صنف يتفق وتفكيره. والأخوات يردن زوجة أخيهن حسب رأيهن. أما دور الأخ المسكين فيأتي أخيرا، وهذا في مجتمعنا على الأقل، حيث تكون رغباته وأمانيه عرضة للتضحية بها دائما على مذبح رغبات الأسرة. فغالبًا ما يود الوالدان فرض إرادتهما على ابنهما، وكذلك تفعل الأخوات. أما في حالة البنات فيكون ذلك العدوان على نطاق أكبر، ويتدخلون في حقوق البنت بطريقة جائرة. ثم للبنات والشباب رغباتهم وآمالهم .. ومن الممكن أن تختلف.

وهكذا ترون عللا كثيرة تمد جذورها في أكثر من موضع. ولسوف أوضح هذا الموضوع أكثر بالنظر إلى مواقف معينة، وعندئذ ستعرفون كيف تبدأ النزاعات بين القرابات. تفكر بعض النسوة -بجهل منهن- أنه يجب أن تكون لابننا عروس يمكن أن نضعها تحت سيطرتنا، ونجبرها على الخضوع لنا. لا يكفي أن تخدم زوجها وإنما يجب أن تخدم أبويه وأخواته أيضا. ثم يخطون خطوة أبعد من ذلك: يجب على أسرة العروس كلها أن تكون في تبعية لنا دائما. يجب على أسرة العروس أن تحس على الدوام إحساسًا راسخًا في قلوبها أننا ما قبلنا ابنتهم إلا بعد أن خرُّوا على أقدامنا، ولو شئنا لرفضنا ابنتهم، لم يكن أحد ليخطبها ولكننا خطبناها رحمةً بهم. كانوا منذ مدة طويلة ينتظرون عبثًا أن يخطبها أحد. وكل ذلك يعني أن تركع هذه الأسرة كلها -وليس البنت وحدها- أمام أسرة العريس. ونتيجة لمثل هذا التفكير يطلبون طلبات أخرى كذلك. تقول بعض الأمهات: إن ابني -ما شاء الله- على تعليم عال.. إنه دكتور ويجب أن نجد له عروسا تساعده لاستكمال دراسته العليا، وتيسر له الذهاب إلى أوروبا أو أمريكا.. ولا يهم حتى لو باع أبواها كل ما يملكان من حلي وعقار، فعليهما أن ينقلا المصابيح من بيتهما ليضيئا مستقبل زوج ابنتهما، هذا هو واجبهما!

بعض الحموات يُردن الحصول على عروس تملأ بيتهن من المال. عليها أن تحضر معها سيارة وثلاجة.. وتأتي بحقائب مليئة بالملابس للحماة وبناتها.. بل وللأقارب أيضا حتى نستطيع إخبار الناس عن نوعية العروس القادمة إلى بيتنا.

هذا الصنف من النساء الجاهلات هو المسئول عن خلق الجحيم في هذا العالم.. ليس لأولادهن فحسب بل وللأجيال القادمة أيضا. وهؤاء الجاهلات هن اللاتي يدفعن أولادهن نحو جهنم، ولا يمكن أن يَكُنَّ الأمهاتِ اللاتي قال الرسول إن الجنة تحت أقدامهن. أراد المصطفى لهؤلاء النسوة أن يكن جنة، ولكنهن -لحظهن المنكود- جعلن الجحيم لأولادهن تحت أقدامهن، وملأن المجتمع كله تعاسة. والنسوة اللاتي يفكرن هكذا لسن نادرات الوجود وإنما هن اكثرية كبيرة في عالم اليوم. تحدثت بعض الصحف في باكستان عن فتيات مظلومات في الهند أُحرقن وهُن على قيد الحياة لأنهن لم يدفعن مهرهن. ولكن هناك في باكستان مئات الألوف أو ملايين الفتيات التعيسات اللاتي لم يُحرقن وهن على قيد الحياة، بل يُدفَنَّ وهن حيات، وتصير حياتهن وحياة آبائهن جحيما لايطاق.

وهكذا ترون ضخامة الضرر والفساد الذي ينجم عن النيات. ويجر هذا الضرر إلى مزيد من الضرر. فعندما تطلّق مثل هؤلاء البنات، يبدأ النزاع حول أطفالهن ثم الإجراءات القضائية. وقد يصل الأمر إلى جرائم القتل -وهذا بالطبع ليس في المجتمع الأحمدي وإنما في غير الأحمديين- وتَنهَدُّ هذه البيوت. وبداية هذه الرحلة إلى الجحيم كانت بالنوايا. ولَبِناتُ النوايا هي التي رصفت الطريق الذي سارت عليه العائلات، وسار عليه ذريتهم من بعدهم حتى دخلوا إلى جهنم دون أن يدركوا ذلك.

فأضرار النوايا هي أشد الأمور خطرا. يجب أن تملأوا نواياكم بالتقوى، فتصبح هذه الحياة نفسها جنة.

وعلى العكس مما سبق، هناك بعض الأمهات ينشدن ما قاله النبي ، ويرغبن في العروس الفضيلةَ. ويراد بالفضيلة حسن الخلق، والتدين، والفطرة الورعة. أعرف كثيرا من الأمهات اللاتي يقلن: لا نريد منكم شيئا أبدا سوى ابنتكم، فهي طيبة، رضية الخلق، ستكون مناسبة لابننا وخيرا لأولادها أيضا.. ابعثوا بها إلينا عروسا لابننا بأي شكل تريدون، فلا حاجة لنا في أي شيء سواها. ثم يرحبن بالعروس في البيت بمودة عظيمة، ويعاملنها بعطف حتى إن الفتاة تفديهم بحياتها. أعرف حالات كثيرة كهذه.. حيث تدعو الزوجة لحماتها، وبفضل الله تعالى تصير بيوتهم مثل الجنة. هناك سيدة توفيت قبل فترة في لاهور، وهي أم السيد منير جاويد الذي كان يقرأ الشعر في الحفلات السنوية بصوت عذب. قابلتنى زوجة ابنها بعد وفاتها بعدة أشهر، ولما جاء ذكرها بكت كثيرا واختنق صوتها بالعبرات ولم تكد تستطيع الحديث. اندهشتُ.. فقد انقضت على وفاتها شهور عدة.. فما الأمر؟ قالت لا أستطيع أن أشرح لك كم كانت حماتي طيبة. لقد أحبتني بأكثرِ من حب الأمهات، وكانت تتجاوز عن أخطائي وكأني لا أخطئ أبدا. لذلك صارت حياتي كلها دعاء لها، ولسوف أذكرها في صلواتي دائما. أرجوك أن تدعو لها أيضا.

وبفضل الله تعالى هناك سيدات كثيرات مثل هذه الحماة، وَلَكَمْ أُسَرُّ وأسعد عندما تأتيني سيدة وتتحدث عن حماتها ودموع المحبة في عينيها. ولقد رأيت ذلك كثيرا. أثناء لقاءاتي في ألمانيا قابلتني إحدى السيدات فسألتها عن حماتها. ففاضت العبرات من عينيها، وكانت حماتها لا تزال حية ترزق. لم تكن دموع الحزن وإنما دموع المحبة. قالت: إنها عطوفة بما يفوق التصور، وما أشد محبتها لي. إن مثل هذه الأم بركة ونعمة جعلت بيوتنا جنة. هؤلاء حقا هن الأمهات اللاتي أخبرنا المصطفى بأن الجنة تحت أقدامهن.

وهكذا ترون أن رحلة النوايا إلى امرأة تحدد الخطوة الأولى منها ما إذا كان مصيرها ومصير أولادها إلى الجحيم أم إلى الجنة. فما أعمق قول الرسول ! لقد حصر بحارًا من الحكمة في كوزة واحدة. لقد حل كل المشاكل السيكولوجية لحياة الإنسان كلها عندما قال: “إنما الأعمال بالنيات”، تذكروا أن أعمالكم سوف تتشكل حسب نواياكم. إذا كانت نواياكم طاهرة صارت أعمالكم طاهرة، وإذا كان في نواياكم نار جهنم تحولت أعمالكم إلى أتون ملتهب .. من وقع فيها احترق بناره، ومن صدرت منه هذه النوايا تلظى بنارها أيضا.

فلا تدَعوا الشر يجد طريقة إلى نواياكم .. وبهذا السبيل وحده يمكن لمجتمعكم أن يتحول إلى جنة على الأرض.

وبالمثل هناك من الآباء من تتدخل نياتهم إلى حد كبير في الأمر. فمنهم من يرى ضرورة البحث عن زواج لابنه يخلق له وظيفه، ومنهم من يقول في نفسه: أريد نسبا يرفع قدرنا وشرفنا، ويتيح لابننا العيش في ألمانيا أو بريطانيا أو أمريكا. وموجز القول.. هناك أنواع كثيرة من النوايا المؤذية التي يؤثر بها الآباء على عائلاتهم.

وهناك أيضا الأخوات اللاتي يحتفظن لأنفسهن بمركز مسيطر في أسرة العريس، وعادةً يكون ذهنهن فكرة التحكم في العروس.

ثم هناك مواقف مضادة أيضا. أحيانا وقبل وداع العروس تهمس أمها أو أختها أو أقاربها في أذنها بكثير من الأمور. يقلن لها: لا تخضعي وكوني جسورةً، لو أبدى أحد نحوك ملاحظة كريهة.. رُدِّيها عليه بعشر. قاوميهم بشدة وصلابة. وإن مست إحداهن خمارك فاجذبى ضفائرها. هدديهم منذ اللحظة الأولى حتى يذعن لك الجميع.

ثم يعقدن المؤتمرات المستمرة لتوجيه ابنتهن. يدعون بنتهن إلى البيت ويقلن لها: لقد قالت حماتك كذا وكذا، وقالت أخت زوجك كذا وكذا فالآن أَحْدثي في البيت اضطرابا حتى يمسكُهما زوجك من ضَفَائرها ويطردهما من بيته. راقبي زوجك حتى لا ينفق مالا على والديه وإخوته وأَقاربه. إذا كان ينفق عليهم فامنعيه، لأن هذا حق أولادك الذي يفرِّط فيه للآخرين. وباختصار، فإنهم يتآمرون ويمكرون .. ويجهلون أنهم لا يخلقون جنة لابنتهم وإنما يُعدون لها جحيما.

فالخطأ لا يقع من جانب واحد. أحيانا يشارك فيه الجانبان أو يقوم به طرف واحد منهما. وفي كل حال يكمن الخطأ في النوايا. إن الذي في النوايا هو الذي ينعكس في العالم.. إما جنةً وإما نارًا. وإذن، فلتسوية مسائل الزواج يجب عليكم أولا وقبل كل شيء.. اختبار نواياكم. ولهذا السبب اختار سيدنا محمد المصطفى آيات من القرآن الكريم تتناول هذا كي تُقرأ في مناسبة عقد الزواج، منها قول الله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (الأحزاب: 71-72).

أيها المؤمنون اتبعوا سبيل التقوى، وقولوا قولا صريحا لا لبس فيه. وهنا لا تقول الآية “قولوا الحق”، وإنما “قولوا قولا سديدا”. وبقدر ما تفكرت لا أرى للكلمة معنى غير ذلك: قولوا ما في نياتكم ولا تستروه وتخفوه. فالأقوال على نوعين: المشتبهة أو الخادعة. وهنا لا يكذب المتحدث وإنما يستعمل كلمات ملتوية تضلل المستمع. فلم يقل هنا: قولوا الحق، لأن من القول الحق ما لا يفهمه السامع على وجه صحيح. وفي زمن الحرب يقال الحق بالطريقة التي قال عنها المصطفى إنها خدعة. ولو كان ذلك يعني الكذب ما استعملها أنبياء الله قط. إنها كلمات تبقى صادقة ومسموحا بها في الحرب.. ولكنها تتخذ رداء مختلفا قليلا وتسمى خدعة. هي حقيقة تنكرت في ثياب تجعل المستمع يخرج بمعلومة غير صحيحة. والذنب في ذلك لا يقع على القائل، وإنما هو دلالة على ذكائه وحسن تخلصه.

يُروى أن سيدنا محمدًا المصطفى كان خارجا إلى إحدى الغزوات، فقابله في الطريق رجل من قبيلة يُخشى أن تبلِّغ العدو إذا عرفت وجهة النبي .. وبذلك يضيع عنصر المفاجأة المطلوب. فسأل النبيُّ الذي كان أصدق الناس وسيد الصادقين ذلك الرجل عن الطريق الموصل إلى مكان ما .. ولم يكن ذلك المكان مقصد الغزوة، بدون أن يقول للرجل أنه ذاهب إلى هذا المكان. لا كذب هناك إذا سألتَ عن طريق معين ولست تريد الذهاب فيه. سأل الرجلَ عن طريق ومضى بعد ذلك إلى وجهته التي خرج لها. ثم سأله أحد صحابته بعد ذلك عن الأمر. فقال النبي : لقد سألته عن الطريق، وعليه هو أن يستنتج. إذا فهم أننا ذاهبون إلى هذا المكان وأراد الشر وأخبر عدونا فهذا شأنه وحده ولا دخل لنا بذلك.

فالذكاء يستطيع أحيانا أن يلبس الحقيقة رداءً يصرف النظر عنها، وهذا مسموح به فقط وقت الحرب، بل هو ضروري وقتها ويسمى خدعة. أما في مسائل الزواج فلا يسمح ربُّنا بذلك، بل ينهى عنه بشده. وهذه الآية صريحة واضحة في شرح هذا الموضوع لكم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا .

أيها المؤمنون، لقد خرجتم بحثا عن زواج، تريدون شريكا للحياة.. فتذكروا شيئا ضروريا: إذا تحدثتم فليكن ذلك بكلمات واضحة الهدف.. ليس مجرد كلمات صادقة.. بل صريحة متفقة مع مافي نفوسكم، تخرج من القلب لتصل إلى القلب، ليس فيها التواء ولا غموض ولا خديعة. ينبغي أن تقولوا ما في قلوبكم تماما. صفُوا ابنتكم كما هي، حتى لا ينخدع السائل بأي شكل، ولا يقول إن هذا كان عيبا لم نُخْبَر عنه من قبل. وينطبق نفس الشرط أيضا على الخاطب.

وبهذا الصدد، هناك مشهد آخر لفساد النوايا يُرى كثيرا. يذهب الناس من الجانبين بنية البحث عن العيوب في الطرف المقابل من ناحية، وبنية الحيلولة دون اكتشاف عيوبهم هم من ناحية أخرى. وهذا المسلك هو أسوأ صنوف الاعوجاج، دع جانبا القول السديد. يذهب أهل الشاب.. أمه وأخته وغيرهما بغرض العثور على معلومة حول مرض قديم في الفتاة، أو عدوى أصابت عينها في طفولتها أو ما شابه ذلك.. كي يحتفظوا به ويعيروهم به عندما يشاءون. أما فيما يتعلق بهم.. فيسدلون ستارا كثيفا على كل شيء. بهذا الأسلوب يتعاملون فيما بينهم. إذا لم يكن بين الطرفين كلام صريح واضح.. فماذا يحدث نتيجة لذلك؟ يوضح القرآن الكريم هذا الموضوع فيقول:

وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ،

إذ تصارحتم وتجنبتم الكلمات الملتوية الملتبسة أصلح الله أعمالكم، وإلا فلا يمكن تصحيح عملكم، ولن يزال الفساد في ازدياد والضرر في انتشار بينكم.

وحتى لو كان هناك عيوب في الطرفين.. وكان القول فيهما سديدًا صريحًا واضحًا.. فلسوف تتوفر الإمكانيات لإزالة هذه العيوب وإصلاحها. أما عندما تسدل الحجب على العيوب ولا تقال الكلمات السديدة الصريحة.. فلا سبيل إلى الإصلاح. ذلك لأن الإصلاح يبدأ بالاعتراف بالعيب. إذا اعترف المرء بعيبه وأدرك أن به نقصا.. يتولد فيه إحساس بالخجل. ولو عرض عيبه أمام الآخرين ازداد خجلا، وتولد فيه أيضا عزم على ضرورة السعي لإصلاح العيب والتخلص منه، فقد علم به الآخرون. بعض الناس يخفون عيوبهم لزمن ما، وعندما تُكشف يهتمون بها بجدية أكثر. يأتيني للعلاج كثير من المصابين بأمراض جلدية. ذات مرة قال لي أحد مرضى البرص: أنه لا يهتم بالمرض لأنه مستور تحت ملابسه ولا يظهر على الوجه. وبعكس هذا.. أصيب أحدهم ببقعة صغيرة في وجهه، وليس به أي علامة أخرى .. بيد أن حياة المسكين صارت غير محتملة، لأن البقعة ظاهرة في وجهه، فالإنسان أساسا حيوان يحب المظهر، ويخفي عيوبه بشدة وكثرة. فإذا استطاع إخفاء عيوبه، أو ظن خفاءها .. ما اهتم بإصلاحها. عندما تحدثتُ مع المريض الأول وكتبت له العلاج قال: لا داعي له، لا يهم مادام العيب مستورا تحت الملابس. ولو أصابته بقعة صغيرة في وجهه لهرع إلى الأطباء بحثا عن العلاج. فالإصلاح إذن يتطلب أن يدرك المرء المرض، ويدرك أن الآخرين يعرفونه أو على وشك أن يعرفوه. وهذا يحدث حتمًا في مناسبات الزواج. إذا سلك المرء سبيل التقوى لوجب عليه أن تتضمن نواياه تلك الآيات القرآنية الثلاث التي تتلى عند عقد الزواج. ويعزم على الوفاء بواجبه نحوها.. ويقول في نفسه: إن لم أفعل ذلك فكأنها لم تقرأ عند زواجي. لو أني بعد الاستماع إلى هذه الآيات لم أقم بواجبي نحوها فلا أهمية إذن لتلاوتها عند زواجي أو زواج غيري.. ولا علاقة لها بزواجي. فهذه هي الآيات المركزية التي تتصل اتصالا عميقا بزواج كل إنسان .. فضلا عن مستقبل حياته.

فالذين يتكلمون بالصراحة ويقولون قولا سديدا.. تكون المرحلة الأولى بالنسبة لهم هي أصعب المراحل. الآباء الذين تتقدم بناتهم في العمر، ويحاولون العثور على زواج لهن يعرفون مدى الصعوبة عندما يأتيهم خاطب يبحث معهم في مختلف الأمور..  كَم منهم يمكن أن يقول صراحة ان ابنتي تعاني من علة كذا؟ كم من الآباء يملكون هذه الشجاعة؟ إنها خطوة صعبة جدا يجب خطوها، والرجل التقي سوف يخطوها حتما. ومَن اتخذ هذه الخطوة بناء على التقوى.. أخذ الله تعالى على نفسه مسئولية حمايته. ينسى الناس هذا الأمر، ولذلك لا يقبلون النصيحة، ولا يخطون الخطوة الأولى الصعبة.. ولكنهم بعد ذلك يصعِّبون كل خطوة في حياتهم، فتصبح مرحلة من حياة الفتاة رحلة مشكلات وبؤس. يعيِّرون الفتاة من كل اتجاه مرارا وتكرارا، ويقولون لها: أنت الفتاة المعلولة بكذا وكذا. كنت تصابين بنوبات. لقد خدعونا ورموا بك إلينا، ولو علمنا ما بك ما نظرنا إلى وجهك.

ولكن الذي يتوكل على الله، ويدرك أن القول السديد، خصوصا في مناسبة الزواج، وصية عظيمة من الله تعالى.. ولذلك يقول القول السديد فقد وعده الله تعالى “يُصلح لكم أعمالكم”. وعندي أن المريض يدخل ضمن هذا الوعد أيضا. ذلك لأن الرجل التقي تكلم بصراحة إرضاء لله تعالى وقال قولا سديدا بما فيه ذكر أي علة بالفتاة وأي داء في الفتى. لذلك أرى أن هذا الوعد بالإصلاح ليس مرتبطا بالأعمال الظاهرة وحدها فحسب، وإنما يرتبط بكل العلل والأمراض أيضا.

لذلك أحث الأسر الأحمدية كلها أنه يجب عليهم في حالات الزواج ألا يخفوا أي عيب في أبنائهم أو بناتهم خشية أن يفر الزائرون، بل أحرى بهم أن يكشفوا بأنفسهم ماعندهم من عيوب. فمن وافق بعد ذلك فمرحبا به. ثم ليكن عند الموافق بعد ذلك من الفهم والإدراك ما يحول بينه وبين لوم أحد أو تعييره. والذين يقبلون بعد علمهم بعلة أو مشكلة .. هم عموما من أهل الشجاعة الكبيرة، ويوفَّقون بفضل الله تعالى للتصرف بعطف ولطف. أعرف على سبيل المثال أسرة عرفوا بأن العروس القادمة إلى بيتهم تعاني أو عانت من مرض ومع ذلك قال لي واحد منهم: لا بأس، ألا تمرض بناتنا نحن أيضا. إنها مشيئة الله تعالى: يصيب من يشاء فيمرض ويشفي من يشاء. والفتاة طيبة ومتدينة ونقبلها. يندهش المرء لأن مثل هؤلاء القوم الصالحين الأتقياء لا يزالون موجودين، ويتخذون قراراتهم في الزواج بناء على التقوى.

وفيما يتعلق بنوايا العروس والعريس فقد يُصيبها الفساد كثيرا، ولكن هناك أيضا كثير من النوايا تظل صالحة طاهرة. بعض الفتيان يجرون وراء الشكل الجميل ويتوقعون أنه إذا كانت الفتاة جميلة ستكون حياتهم كالجنة. إنهم لا يدركون أن الشكل كالملابس. وبعض الملابس يستتر وراءها أهل السوء والشقاوة. وكذلك يكون وراء الوجوه الجميلة كثير من الغول. والعكس صحيح.. فهناك طيور غاية في الجمال داخل أقفاص قبيحة.

فالواقع أن الدين هو الذي ينبغي إعطاؤه الأهمية الكبرى عند اتخاذ القرار. وكلمة “دين” التي استعملها النبي الكريم في قولة: “فاظفر بذاتِ الدين تَرِبَتْ يداك”.. كلمة واسعة المعنى. فهي لا تعني الدين وَحده.. وإنما تتضمن الخلق والعادات والمزاج وطريقة الحياة. على المرء أن يبحث عن زواج كُفْو.. عن فتاة هي على خلق طيب، وفطرة صالحة. وبالمثل.. بدلا من البحث عن المركز الدنيوي في الرجل.. ينبغي النظر إلى من هو حَسَنُ المزاج، حليم الطبع، شريف النفس، ودودٌ مقدرٌ لمحاسن الآخرين، متسامح يصفح عن الأخطاء، متصف بالصبر.. ولو كان فقيرا نسبيا. فالبداية الفقيرة مع شاب بهذا الصفات تعني إسكان الفتاة في الجنة. ولسوف يصلح الله تعالى الأحوال المالية.. إن لم يكن في الحال فبعد وقت ما، ويملأ بيتهم بكثير من الخير والبركات.

أما فيما يتعلق بالشبان الذين يجرون وراء الشكل الجميل في الظاهر، أو يجعلونه معيارا للاختيار .. فذلك يخلق لهم المشاكل فيما بعد.. لأن شكل الفتاة لا يبقى هكذا إلى الأبد. كما أن القلب يمل رؤية الوجه ذاته لزمن طويل طويل. رؤية الوجة قبل الزواج شيء.. ورؤيته بعد الزواج ببضعة أشهر أو أثناء الحمل شيء مختلف تماما. وإذا لم تَزَل الرغبة في المظهر مُسيطرةً على الشاب فإنه يخرج باحثا عنه في الخارج وبذلك تنهدم البيوت. ومن المستحيل أن يتولد الإخلاص والوفاء للشكل، فالوفاء يتولد دائما مع الفضيلة والخلق الحسن. لايمكن أن يكون المرء مخلصا لمجرد الملاح.

هناك قصة عن رجل صالح ربما سمعتوها فقد ذكرتها من قبل، وهي تناسب تمامًا موضوعنا هذا. وقع شاب في حب ابنه رجل صالح.. ولكن الرجل رأى الشاب غير مناسب كزوج لابنته.. ولذلك لم يبد أي استعداد لتزويجه من ابنته. ولم يستسلم الشاب ودأب على إرسال الخطابات يشرح فيها شدة حبه ويقول فيها: إنني أعشق ابنتك ولا أستطيع الحياة بدونها، ارحمني فلسوف أهلك إن لم أتزوجها. كان الرجل ذا حكمة بفضل الله تعالى، وعرف أن الشاب كاذب ولا يحب سوى جمال شكلها، ولا اهتمام لديه بأخلاقها ومزاجها. وفي النهاية بعد أن تضايق من الشاب وإلحاحه طلب منه الحضور بعد ثلاثة أسابيع ليأخذ عروسه. ابتهج الشاب كثيرًا، وذهب في الموعد، فوجد الفتاة وقد نقص وزنها كثيرا وصارت نحيلة كغصن جاف، وسقط شعرها، وبدت هزيلة كحزمة من العظام مقارنة بما كانت عليه. قال الشاب مستغربا: هل هذه هي الفتاة؟ لم أرد الزواج من هذه. فأجابه الرجل الصالح: إنها نفس الفتاة، وكل ما تغير فيها هو أني حلقتُ شعر رأسها لذلك ترى صلعتها، وأعطيتها دواء مسهلا لتصبح هزيلة نحيلة. ولقد احتفظت لك بشعرها وما خرج من جوفها في دلو. فخذ معك كل شيء.. ففيه كل ما أحببته فيها. خذ الدلو والشعر والبنت وارحل. وفجأة استطاع الشاب أن يرى قيمة حب الجمال المادي الزائل. لقد اتبع الرجل الصالح هذه الوسيلة عن قصد ليثبت له أنه لو كان يحب الجمال الظاهري ويريد أن يبقى مخلصًا كما حلف على أن يظل مخلصا وفيا.. فإن الجمال لن يبقى مخلصا وفيًّا. وإذا كان ما أحببت لن يظل مخلصا.. فكيف تدوم علاقتك به. ولكن الواقع أن قدر الله تعالى يتجلى في أشكال متنوعة. هناك الحوادث، وهناك طرق أخرى يضيع بها الجمال. وبعض الوجوه الجميلة الساحرة تفقد سحرها عند تقدم السن. والقوام الجميل يضيع سحره بعد الزواج. وهناك سمات عائلية تحدد هذه الأمور.

فإذا اتخذتم من الرشاقة والوسامة والأجسام آلهة لكم عند الزواج، وظننتم أنكم لن تعيشوا بدونها.. فهذه فكرة باطلة. هذه آلهة لا تخلص أبدًا لعبّادها. أما من يضعون الدين في اعتبارهم معيارا أساسيا.. ويبحثون عن الخُلق الحسن والفضائل إرضاءً لله تعالى، فهم الذين على صواب. فعن الفضيلة يقول القرآن الكريم الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ .. أي أنها تبقى أبدا، وبدلا من النقصان فإنها تزداد. إذا كانت الأخلاق الحسنة للمرء صادقة، وكانت جذورها في الله تعالى.. فإنها لا تبقى ساكنة بل تزداد على الدوام. وهذا هو السبب في خطاب الله تعالى للنبي قائلا: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ، لا يمر يوم إلا وتزداد وسامةً. عندما يتقدم الناس في العمر تفقد الأجسام كل فتنة فيها ويأتي يوم يتوقف فيه نمو العقل وينحط حتى حتى يصل إلى أرذل العمر، ولكن جمال الأخلاق والفضيلة يبقى شابا.. بل ولا ينفك يملأه بألوان جديدة من الشباب، فيزداد جمالا وجاذبية أكثر. ولهذا وعظنا سيدنا محمد المصطفى ، سوف تأتيكم كل هذه الأشياء في ثياب جميلة .. تدعوكم لاقتنائها. فأحيانا ترى مركز العائلة وأصلها وتقول إن المركز الطيب والأصل العريق وحدهما هو كل ما يكفي للزواج الناجح، وربما تتطلع إلى المناصب والوظائف العليا، وتارة يعرض الجمال البدني سحره ويبهر عينيك ولكنها كلها أمور مؤقته عابرة، بلا حقيقة. أما ما يبقى فهو الدين، وحسن الخلق، وجمال السيرة. لو تخيرتَ هذه فلن يفشل زواجك أبدا. لا يفشل زواج الذين يقدرون هذه القيم ويرون أنها الأفضل. وهذا يتوقف على النوايا. إذا نوى أحد الزواج بناءً على الدين، وآثر الدين على الأمور الأخرى ظل زواجه يتطور إلى الأحسن .. أعني بعد الخطبة ثم الزفاف ثم الأطفال.. وإن تطرّق الضعف إلى الأجسام. من كانت نواياه ترمي إلى المحاسن الشخصية فإن الله سوف يتيح له الزيادة. دائما في محبته لزوجته، ومحبة زوجته له. ذلك لأن جمال الفطرة في ازدياد دائم، والأخلاق الحسنة في تقدم مستمر. إن حسن الفطرة وحسن الخلق الذين تقوم أُسسها على حب الله تعالى لا يزالان في التقدم. ومن كانت نواياه منذ البداية في الثراء أو ما أشبه ذلك فإن الدين لن يُسعد قلبه بل يُصيبه بالتعاسة. إنه سوف يُدمر روحه، ولن يجديه الدين شيئا. مهما كان الدين في حد ذاته شيئا حسنا، فإن الإنسان إذا لم يرغب في أن يكون شريك حياته ذا دين فلن ينفعه دين غيره القادم من الخارج. وهكذا ينتهي الموضوع كله عند نفس المنطلق مرة أخرى: “إنما الأعمال بالنيات”. وما نراه من الظاهر .. مهما أُعطيَ من أهمية.. وأُثبت بالمنطق أنه الأفضل.. فلا نفع فيه ما دام ذلك ليس من نوايا الإنسان وهو في رحلته، وما دام ليس من رغبات قلبه. فمثلا: هناك بعض السيدات يتمتعن بالصفات الطيبة، ولكنهن يشعرن طوال حياتهن بأنهن زهرة في صحراء لا يراها أحد. هناك الزوج والحماة والأسرة بأكملها، ولكن لا يقدر أحد صفاتهن كما لو كن غير موجودات. وتشعر هؤلاء المسكينات أنهن مهجورات. كما أن هناك من الأزواج من يمتلك صفات عظيمة، ولكنه تزوج في أسرة دنيوية.. لا قيمة عندهم لكون الشخص ذا دين أو خلق أو حسن الشمائل ويعرف قيمة الأشياء. كل ما يرونه يتعلق بالأمور الدنيوية.. هل هو عصري يحب الموضات؟ هل يختلط بالطبقة الراقية؟ هل هو في السلك الدبلوماسي؟ هذه هي الأشياء التي يهتمون بها. وهكذا يبدو المسكين كزهرة في الصحراء.. بل كزهرة في حظيرة الماشية التي لاتقدير له عندها.. وإنما تريد أن تسيطر برائحتها المنفرة على عطر الزهرة الجميلة.

وهكذا يتوقف نجاحك في الحياة على نواياك. وإنه لقرارك الأول الذي سيكون النهائي أيضا.

تصلني كثير من الرسائل، وتعرض أمامي مثل هذه الأحداث. هناك أسرة أعرفها معرفة شخصية. كتبت الأم إلي -وكذلك فعل الابن- أنهم أحضروا العروس إلى بيتهم بالمحبة، وعلى اعتبار أنها ابنة الصالحين وسليلة صحابي لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود، ومن أسرة معروفة في الجماعة. ولكن الفتاة كانت ذات ميول دنيوية شديدة. إذا حاولت التبرع بشيء للجماعة في سبيل الدين.. تحول سلام البيت إلى نار مشتعلة. إنها تصرخ أمام الأطفال، وتتحدث بكلام بذئ، وتعيرني أنها تزوجت بشيخ رجعي لا عقل له ولا فهم، ينبذ ما هو لخير أولادنا ويعطيه للجماعة بيده، ولا يدرك أن لنا حقا كذلك.

ويقول الزوج في رسالته: أُعطي لأولادي وزوجتي كل ما أنعم الله به علي، ولم أتركهم أبدا يقاسون عوزا، ومع ذلك لا يجعلها شح قلبها وميلها إلى الدنيا تطيق أي تضحية في سبيل الدين ولو كانت عادية.

لقد خُدع الرجل هاهنا. كانت رحلة نوايا المسكين صحيحة.. ورغم ذلك قد يكون قراره خاطئا. فبعض الماهرين في الاستخفاء يستخفون بالفعل.. ويُصبح فساد نواياهم جحيما على المسكين. ولذلك فإن الآيات التي تُتلى عند الزواج تكرر كلمة (التقوى). فالتقوى من جانب واحد لا تكفي، بل من اللازم أن تكون التقوى من الطرفين.. والا قد لا تجدي تقوى أحد الطريقين، لأن الطرف الآخر لم يتبع سبيل التقوى، ويقع أحدهما فريسة لظلم الثاني.

ومثل هذه الأحداث تقع في الحياة. وهناك حل واحد لمثل هذه المشاكل، وضعه أمامنا سيدُنا إبراهيم . أخبر الله تعالى سيدنا محمدا بذلك وذكر لنا المشكلة وحلها. بعد أن صار بيت الله الحرام آهلا بالناس، وبنى سيدنا إسماعيل لنفسه بيتا هناك، وبدأت الحركة تملأ المنطقة.. كان سيدنا إبراهيم يزور المكان ويدرس الأحوال. يقول سيدنا المصطفى إن سيدنا إبراهيم زار بيت ابنه إسماعيل فلم يجده بالبيت. ولما تحدث إلى زوجة ابنه تبين له أنها لا تحب الترحيب بالضيوف، ولا تتحلى بالأخلاق الحسنة، بل كانت فتاة لا تليق بأن تكون زوجة لابنه إسماعيل. ولما كان سيدنا إبراهيم متعجلا للعودة.. وكان ابنه متغيبا في رحلة طويلة، لذلك قال لزوجته: عندما يعود زوجك قولي له: أبوك كان هنا، وينصحك أن تغير عتبة دارك. فلما جاء سيدنا إسماعيل وسمع القصة من زوجته طلّقها على الفور، وقال: إن نصيحة أبي حقة. وتزوَّج امرأةً أخرى كانت بفضل الله امرأة صالحة بارة، ولد سيدنا المصطفى من ذريتها. وهكذا ترون أهمية الخير والصلاح في الزوجة. لو أن شخصا وقتئد اعترض وقال: كيف يحق لسيدنا إبراهيم أن يطلب من ابنه تطليق زوجته، فمثل هذا الجاهل لا يعرف أن رجال الله الصالحين .. الذين أنار الله قلوبهم بنوره .. عندهم فراسة من الله ويعرفون ما هو مهم وما هو بلا معنى أو فائدة. لقد عرف سيدنا إبراهيم أن ابنه إسماعيل سوف يتبوأ منزلة سامية، وستكون نجاة البشر جميعا مرتبطة بذريته، ولم تكن زوجته الأولى من الأمهات اللاتي تكون الجنة تحت أقدامهن. فلو لم يتخذ ذلك القرار فكأنه أراد الجحيم للعالم. ولكنه قرر أن يتزوج ابنه امرأة تكون أُمًا للأجيال القادمة، تنفجر ينابيع الجنة من تحت أقدامها. وتحققت هذه الواقعة في صورة مولد المصطفى ، وببركته كان هناك فيضان من مياه الجنات في أنحاء العالم، وصارت الصحاري الخربة بحارا فياضة.. أعني من الناحية الروحانية. وقرار سيدنا إبراهيم ذو علاقة بهذه النعمة. ما أحكم قراره وأعمقه! كانت رسالة وجيزة: غيِّر عتبة دارك!!

فالأزواج الذين ينظرون نحو مستقبلهم ويعلمون أن من الآيات التي تقرأ في مناسبة الزواج قولَ الله تعالى:

اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ (الحشر: 19)،

احترسوا فيما تفعلون لمستقبلكم.. لأنكم ستحاسبون عليه. أقول إذا فكر أحد منهم في نفسه وقال: لقد تجاهلت الموضوع الذي أمامي وكأني أقدم الجحيم لغد، وسأكون مسئولا عنه.. فكيف أجيب الله تعالى.. عندئذ سوف تتجلى له أهمية قرار سيدنا إبراهيم واضحة بالتأكيد. ولو أنه قرر في مثل هذه المواقف بجدية كاملة أنه لن يخلق جحيما لأولاده بالإبقاء على زوجة في البيت لا تحب الدين، وأنه لن يتحمل هذا مهما كان الثمن، وأخبرها بصراحة ووضوح بقراره هذا مهما كان الثمن، وأخبرها بصراحة ووضح بقراره هذ، فإنى أؤكد لكم بأن معظم الزوجات سوف ينصلح حالهن.. ذلك لأن الزوجة التي تحسب زوجها ضعيفا هي التي تبدي الغطرسة. تظن أن زوجها وإن تكلم كثيرا عن الدين إلا أنه لا يوليه أهمية حقيقة لدرجة أن يتركها ويحيا حياة الوحدة مرة أخرى. كل ما يتطلبه الموقف هو الإصرار والعزيمة والاهتمام بالموضوع.

إذا كانت نية هذا الزوج تستهدف الدين كما كتب لي.. فقد لاحظ لفترة طويلة أنه لن ينال الدين، بل كان الموقف يسير في اتجاه معارض للدين، ومع ذلك تحمل كل ذلك، ومن ثم فقد كان نفسه مخطئا. كانت نيته تنطوي على فكرة الدين، ولكنها كانت فكرة خاطفة.. ولم يعطها أهمية جوهرية. فقد قال سيدنا محمد المصطفى : “إنما الأعمال بالنيات”.. والنية المذكورة هنا شيء جوهري، وليس مجرد فكرة سريعة.

بالتفكير في كل هذه المسائل.. إذا اتبعت موضوع التقوى في حياتك اليومية فسوف تدرك أن عبارة بسيطة تناولت أمورا معقدة، وأن المسألة تعتمد في النهاية على نفس النقطة مرة أخرى: “إنما الأعمال بالنيات”، وأفضل تفسير لها قاله سيدنا المهدي والمسيح الموعود في قوله: “جذر كل فضيله وكل بر في التقوى”. وبعد أن قال هذا الشطر تلقى الشطر الثاني من البيت بالإلهام: “لو سلم هذا الجذر سلم كل شيء”. يجب أن تحمي هذا الجذر، وكن لأجله مستعدا للتضحية بكل شيء آخر، وكن على يقين من أنك قد وجدت كل شيء.

عسى الله تعالى أن يقدر لنا بناء مجتمعنا على نفس هذه الأسس.. وتشارك الأجيال القادمة في هذه البركات .. ليس لمائة عام، بل لآلاف السنين.. وتدعو لنا، وتحس نحونا بالامتنان. اللهم أَدم هذه البركة لنا ولأولادنا. اللهم حقِّق لنا ذلك. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك