‏دعوات المغضوب عليهم والضالين
التاريخ: 1991-07-19

‏دعوات المغضوب عليهم والضالين

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

سلسلة: كيف نتمتع بالصلاة

‏دعوات المغضوب عليهم والضالين

خطبة الجمعة لمولانا حضرة مرزا طاهر أحمد -أيده الله بنصره العزيز- الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود . ألقاها بإسلام آباد -مقاطعة سري- إنجلترا يوم 19 يوليو ١٩٩١

‏أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ . “آمين”

‏ستكون خطبة اليوم هي الأخيرة، من بين سلسلة الخطب التي تناولت فيها موضوعات سورة الفاتحة، لأننا لازلنا ندرس أدعية (المغضوب عليهم). وبعد إكمال هذه الدراسة اليوم إن شاء الله سوف أقول شيئا عن باقي الأدعية في الصلاة.

‏وفي الأدعية التي حفظها القرآن الكريم أدعية (المغضوب عليهم والضالين) وفيها دروس بالغة لنا. ذكرت بعضها من قبل واليوم سأتناول الدعاء الوارد في القرآن:

قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (المؤمنون: 107-109).

أي لقد تغلّب علينا سوء حظنا وكنا قومًا ضالين. أخرِجْنا ربنا من هذا الحال في جهنم. فإذا تكررت منَّا نفس الأفعال استحققنا أن نكون في نظرك ظالمين. فيرد الله تعالى عليهم: كُفوا وابتعدوا ولا تكلموني. وربما كان هذا الدعاء أشد الأدعية المحفوظة في القرآن ألما بسبب موضوعه، لأننا نلاحظ في الأدعية السابقة للظالمين أن الله تعالى سمح لهم بالدعاء، ومضوا في الدعاء والتوسل، ولكن دعاؤهم قوبل بالرفض. ولكن هنا يقول الله تعالى: لا تتكلموا معي، وابتعدوا عني وأنتم في حالكم هذا. هذا الموقف مرتبط بقولهم رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا .. وتفسير لغلبة شقاوتهم عليهم. وكأن الله يقول: إن أشد الأمم شقاوة هي تلك التي تقطع صلتها بالله تعالى بحيث تنسى الدعاء والابتهال إليه.. ‏كما لو أن الله تعالى لم يكن موجودا بالنسبة لهم. والواقع أن جواب الله لهم مفسر لقوله غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا .. ومثل هؤلاء هم أسوأ الناس حظًّا في الدنيا. وبالفعل هناك في هذه الدنيا أمم تواجه المصاعب مرارا، ومع ذلك لا تبتهل إلى الله. ولكن أيضا هناك كثير من الأمم تذكر الله في أوقات الأزمات. ولقد أشار الله تعالى إليهم في عدة مواضع من القرآن الكريم، مع بيان أننا كنا نعلم بأنهم سيعودون إلى حالهم السابق ومع ذلك لم نزل نقبل دعاءهم، لأنهم على الاقل مالوا نحو الدعاء، وفكروا أن لهم خالقا ‏ينبغي أن ينحنوا أمامه ويسألوه المعونة.

‏ولكن التعساء الذين غلبت عليهم شقوتهم ينسون موضوع الدعاء. وإذا ألقى المرء نظرة على عالم اليوم من هذه الزاوية أمكن له أن يقول بيقين : وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ .. لأن الغالبية العظمى منها من العالم قد نسوا موضوع الدعاء. ان الدعاء والحث المتكرر عليه الذي يتم في الجماعة الإسلامية الأحمدية، في عام واحد، بل في شهر واحد، يزيد كثيرا على ما يصدر من جميع السكان في بعض المناطق الشاسعة في الدنيا في كل حياتهم. والحق أنه في بعض الأيام تكون دعوات الأحمديين أكثر كثيرا من دعوات الناس في بعض القارات.

‏الواقع أنه من خلال الدعاء وحده تكون للإنسان حياة روحية. والأمة التي تقطع صلتها بالله عن طريق الدعاء تفقد كل شيء. فعلى المرء أن يستمر في الدعاء حتى ولو لم يجد استجابة للدعاء.. لأنه على الأقل وسيلة ورباط مع الله ‏تبقى به شرارة الحياة ويبقى الأمل. والدعوات وإن لم تقبل وبقيت دون قبول إذا استمرت تؤتي أحيانا ثمارها في آخر الأمر. تَعلَّمنا هذا السر من دعاء أمة شقية. لقد أدركنا أن أهم شيء هو أن يحتفظ المرء بصلة مع ربه عن طريق الدعاء، بصرف النظر عن قبوله أو عدم قبوله. هناك أناس يعربون أحيانا عن قلقهم أنهم يدعون ولكن دعاءهم لا يُستجاب. أو يصلون ‏ولا يستمتعون بصلاتهم.. فلماذا لا يتوقفون؟ هؤلاء لهم تحذير شديد: إذا كففتم عن الدعاء في هذه الحياة فسوف يقال لكم يوم القيامة اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ . ويمكن صياغة هذه العبارة هكذا: لقد قطعتم الاتصال معي قبل الآن ولم تكلموني. واليوم جاء دوري.. وأقول لكم: لن أتحدث معكم اليوم.

‏وبصدد موضوع الدعاء، يقول سيدنا المهدي والمسيح الموعود : في بعض الأحيان يبدو أن الدعاء لم يقبل، ولكن كل دعاء للمتقي مقبول يقينا. كثيرا ما يُقبَل الدعاء بحيث لا يدري الداعي في ذلك الوقت انه قُبل. ولكن فيما بعد يُخبَر كيف قُبل دعاؤه.

‏نجد في التراث الإسلامي أن رجلاً عابدًا لم يزل يدعو دعاءً معينًا لزمن طويل. ولكن دعاءه لم يستجب، وأُخبِرَ بذلك، ولكنه لم يمل. وكان رجلا صالحا جدا، وله تلاميذ كثيرون بسبب تقواه المشهورة، كان بعض تلاميذه يمكثون معه. ويتلقون التربية الروحية على يديه ثم ينصرفون.. فيما عدا تلميذا واحدا لم يغادره أبدا. ‏ذات مرة قال له التلميذ: لقد لاحظتُ أنك تكرر هذا الدعاء كل يوم منذ 12 عاما مضت. وينبئك الله في كل يوم أن هذا الدعاء مرفوض. ومع ذلك تقوم الليل وتدعو به في إصرار ومواظبة لا تنتهي؟ فقال الولي: انظر يا بُني، إنما أنا سائل فقير وواجب السائل أن يسأل. والله هو السيد، وعمل السيد أن يقبل أو يرفض. فهو تعالى لا ينفك يقوم بعمله.. وأنا. سأستمر في عملي. ولم ينته هذا الحديث حتى تلقى العابد إلهاما: أَبِشِرْ فقد قبلنا كل دعواتك التي دعوت بها طيلة حياتك.

‏هكذا فبعض الدعوات منوط قبولها بالوفاء والولاء. ليس للإنسان أن يقطع صلة الكلام مع الله تعالى. لأن ذلك أشد أنواع الوقاحة. إذا لم يقبل الآباء مطلب طفلهم وغضب الطفل لذلك وامتنع عن سؤالهم شعروا بالألم الشديد واعتبر ذلك إهانة لهم وسوء أدب منه. وعلاقة الطفل بوالديه شيء عادي مقارنة بالعلاقة المدهشه بين الإنسان وربه.. التي هي علاقة تواضع عميق فعليكم أن تفهموا هذه الامور. ولا تفكروا لحظة في التوقف عن الحديث إلى الله تعالى. والذين يحسبون أنه دعاءهم لا يستجاب ولا يستمتعون بصلاتهم.. فنصيحتي لهم أن يستمروا في الصلاة والعبادة. لسوف يقبل الله دعاءهم بصورة أو أخرى. وليس بمستبعد أبدا أن يتلقى العبد الوفي لله نفس الجواب الذي تلقاه ‏هذا الولي: لقد قبلت اليوم كل ما دعوت به في حياتك.

هذا موضوع عميق.. ولا أستطيع أن أناقشه الآن بتفصيل.. لأني أود اليوم إتمام موضوع دعوات المغضوب عليهم والضالين.

‏هناك دعاء جاء في قوله تعالى:

فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ ۚ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۖ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (القصص: 49).

‏ذُكر هنا نفسيه الكافرين الأشقياء. يقول الله تعالى: عندما جاءهم الحق من عندنا قالوا: لماذا لم يُعْطَ هذا الرجل مثل ما أُعطيَ موسى؟ أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل؟ وهكذا يصوغ مكذبو الأنبياء دائما مثل هذه الذرائع. ويطلبون من الله أن يؤتي نبيهم ما آتاه للأنبياء السابقين، ويتحدث إليه كحديثه معهم ويعامله كما عاملهم، فلسوف يصدقون ويؤمنون به. إنه لا يماثل في نظرهم من سبقه من النبيين. و نجد أن كل نبي كُذبِّ بهذه العبارات نفسها،  ‏وقيل له: لماذا لا تأتينا بالآيات التي أتى بها النبييون السابقون. وعندما جاءته الآيات كآياتهم تجاهلوها. وإذا جاء نبي آخر طالبوه بنفس الطريق: إيْتِ بآيات مثل ما جاء بها النبي ‏السابق.

‏انظروا إلى روعة الجواب عندما يقول الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ . ومعنى ذلك أن هذه العقلية كانت وراء تكذيب كل نبي ففي زمن موسى طالبه الذين كانوا يماثلونهم طبعًا ومزاجًا نفس الطلب.. وقالوا: أنهم لن يؤمنوا بآياته. بل عليه أن يأتي بآيات كآيات السابقين. ويستمر الحال على هذا المنوال. يقول الله: إنكم ذوو طبيعة لن تستعد للقبول أبدا. هناك آيات من الله للصادقين. وهناك أمارات للصالحين لا تزال تتكرر ‏دون أي فرق وفي كل زمن، وبشهود هذه الآيات يُعرّف الصادقون، ولكنكم تقولون إن موسى حوّل الأفاعي المزيفة إلى حبال.. فأَرِنا آية مثل هذه، أو تقولون: أَعِدْ الموتى إلى الحياة أمامنا بالطريقة التي نفهم أن عيسى فعلها. فما هذه إلا تعللات تتذرعون بها إلى تكذيب النبي. وكل من يصطنع هذه الأعذار سوف نرفض اعذارهم.

‏وثمة دعاء محفوظ في سورة القصص وأسوق لكم الآية التي قبل الدعاء والتي بعده لتتبين لكم خلفية الدعاء وجوابه:

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُون (القصص: 63-65)

‏الذين أوشك حكم الله أن يصدر في حقهم، وآن أن ينزل بهم العذاب الذي سبق إنذارهم وتحذيرهم منه.. يتذللون قائلين: ربنا هؤلاء هم الذين أضللناهم.

لقد سبق أن مررنا بدعاء للمضلَّلين الذين قالوا: ربنا هؤلاء هم الأشقياء الذين أضلونا. ولكن هناك أيضا من سوف يعترفون أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا بأنهم أضلوا غيرهم كما ضلوا هم أنفسهم ويقولون: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ .. اليوم ننقلب إليك مقلعين عن أعمالنا السابقة.. أي متبرئين منها.

‏     ويضيفون: مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ : وبهذا بدأوا موضوعًا آخر يتعلق بالقوم الذين أغووهم. وذكروا سببًا لاعترافهم هو مفتاح لفهم الآية كلها، وورد في هذا الجزء الأخير مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ . في مثل هذا الحال يقول الناس عموما: حاشا لله، لم نفعل هذا الشيء. ولكن عند شهود العقاب يقر البعض بأنه ضل وأضل غيره: “ما كانوا إيانا يعبدون” ما السبب لذلك؟

‏الواقع أنه أشد العذاب سيكون للذين ينصبون أنفسهم أربابا زائفة في الدنيا، ويعلّمون الناس عبادتهم بدلا من عبادته تعالى. أولئك موعودون بأشد العذاب في النار. وتتحدث الآية هنا عن مثل أولئك الآلهة المزعومة. إنهم سوف يقفون أمام جهنم بصحبة بعض الذين اتخذوهم آلهة أو خلعوا عليهم صفات الله، وخوفا من أشد العذاب إنهم يعترفون بالمعاصي الأقل خطورة. وليس في الأمر شجاعة أو جرأة من جانبهم في وقوفهم بين يدي الله وقولهم: نعم فعلنا كذا وكذا. ويخبرونا الشطر الأخير في الآية بقولهم: يا رب، لقد ضللناهم.. وفعلنا ذلك لأننا بدورنا قد ضللنا، ولكن لم نطلب منهم أبدًا عبادتنا، وإنما هو خطأهم وجهلهم أنفسهم، ونحن أبرياء من هذه التهمة، ‏فلا تعاقبنا عليها. لقد ضللنا وأضللنا، ولك أن تعاقبنا على ضلالنا وإضلالنا لهؤلاء الناس: ولكن نرجوك ألا تعاقبنا على جريمة انتحال صفة الألوهية لأننا لم نطلب من الناس تأليهنا، بل الواقع أنهم لم يعبدونا وإنما عبدو أنفسهم وأهواءهم.

‏ونجد في هذا تفسيرا لسر آخر ذي حكمة عميقة: ذلك أن الذين يعبدون الآلهة الزائفة لا يعبدون سوى أنفسهم. إنهم يعبدون خرافات خيالية اخترعوها، ويعبدون مصالحهم الشخصية. والواقع أنهم ليست لهم علاقة شخصية ‏بالآلة الباطلة. ولا يشهدون فيهم شيئا يستحق التألية. ‏وإذا لم يكن لهم صلة شخصية بهم ولم يشهدوا فيهم شيئا فهم في الواقع لم يعبدوهم.. وإنما عبدوا أهواءهم ونفوسهم وأوهامهم. وهكذا أزاحت هذه الآية الستار عن كثير من أسرار الطبيعة، إذ وضّحت لنا أيضا أن الإنسان عندما يُضْبَطُ متلبسا بجريمة كبيرة أو يُتهم بها فإنه يعترف بأخطاء صغيرة، ولكن ذلك لا يجديه فتيلا لأن القرآن يقول:

وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ ۚ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ

سيقال لهم يوم القيامة: نادوا شركاءكم الذين كنتم تنادونهم في الدنيا ليساعدوكم فسوف يدعونهم وينادونهم لمناصرتهم، ولكنهم لن يتلقوا جوابا، ويرون العقاب، وعندئذ يتمنون لو أنهم اهتدوا من قبل في حياتهم الدنيوية.

‏وهناك دعاء في سورة سبأ جاء فيه

قَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (الآية: 20)،

حقق سيدنا سليمان تقدما كبيرا وشيّد إمبراطورية عظيمة. وكما هي العادة يزداد دائما سكان المدن في الإمبراطوريات الكبرى، وتلتصق المدن الأخرى أحيانا. ومن علامات المدنيات الكبرى. ازديادُ عدد سكان المدن والتصاق بعضها ببعض. هذه هي الصورة التي رُسمت هنا. وفي هذا الحال دعا اليهود: ربنا وسِّع المسافات فيما بين مستوطناتنا. وظلموا أنفسهم، فجعلناهم من حكايات الماضي. وقطعناهم فرقا وشراذم. وفي هذا آيات كثيرة لمن كان شديد الصبر والشكر.

‏والمسألة الآن أنهم دعوا لتباعد المسافات فيما بينهم … فما معنى عقوبتهم الشديدة هذه وتمزيقهم وتشتيتهم هكذا وحرمانهم من النعم التي أنعم بها عليهم بسبب هذا الدعاء؟ إذا أراد أحد أن يعيش في مكان فسيح ولا يريد أن تلتحم المدن فهل يستحق العقاب الشديد؟

‏تقول ترجمات القرآن بصفة عامة أنهم دعوا هكذا كي تسهل لهم حياتهم. وتتباعد مدنهم. ليتنفسوا الهواء الطلق. لأنهم أحسوا بالضيق في المدن المكتظة. ولكن هذه الترجمة غير صحيحة. ذلك لأن ‏القرآن الكريم بعد دعائهم هذا مباشرة يقول: وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ . وبذلك كشف خطأهم الأساسي الكامن في الدعاء. لم يكونوا يريدون التوسع لأجل الهواء الطلق، وإنما لأن قلوبهم قد تنافرت وتباعدت وكرهوا بعضهم البعض. ‏والمجتمع الذي لم يعد به محبة، يود المرء فيه أن ينتقل جارة بعيدا عنه. وإذا تطلبت البغضاء أن تتسع المسافات بين الجيران، فلا ينال المرء بسبب دعاء كهذا سلاما في العزلة وإنما يلقى عذابا. هناك مسافات بين القرى الريفية.. يرى فيها المسافر مناظر ريفية جميلة. فهناك الهواء العليل والمساحات الخضراء. ولكن ليس هذا هو المشهد الذي يرسمه القرآن هاهنا: وإنما يقول: وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ .. أنهم في الظاهر رددوا هذا الدعاء. ولكنهم ظلموا أنفسهم من قبله، ‏وشرعوا يكرهون بعضهم البعض كراهية شديدة ولم يعودوا يتحملون قرب بعضهم من بعض. ونتيجة لذلك ترون كيف عاملهم الله تعالى طبقا لحالهم الباطني. لما كانوا قد تمزقوا فيما بينهم قال الله فليكن كما تريدون. سوف أفرقكم فرقا وأشتتكم. قبل الله تعالى الدعاء الصادر من قلوبهم، ولم يستمع لكلمات ألسنتهم. الأمة كانت تبدو في ظاهرها أمة واحدة. ولكن كانت قلوبهم شتى، لذلك تقطعوا إلى فرقٍ وأحزاب.. تعمل فيها من الفرقة فعلها.

‏ولذلك ينبغي على الجماعات الروحانية أن تتذكر دائما أنه لو نشأت في قلوبهم أية مشاعر للابتعاد عن بعضهم البعض. وضعفت المحبة فيما بينهم، وبدلا من الفرحة بصحبة بعضهم البعض أحسوا بالوحشة من اقتراب بعضهم من بعض – فهي البداية للتمزق النهائي؛ لأن هذه الرغبة في التباعد هي الأساس للتفرقة القادمة، وفي النهاية تتمزق مثل هذه الأمم. وعملية الانقسام هذه إذا بدأت مرة فلا تتوقف أبدًا.

ولذلك ينبغي على الجماعة الإسلامية الأحمدية أن تحافظ على الأخوة فيما بين أفرادها. وأن تبقى على ترابط المحبة الأخوية فيما بينهم. إذا رأوا بادرة لخطر التباعد في أحد منهم عن آخر.. فلابد وأن يُدّقّ جرس الخطر في قلوبهم. ينبغي ألا يقولوا: بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا بل عليهم أن يدعو: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا ربنا لقد بدأ الاعوجاج يتولد في قلوبنا، وشرعت العداوة نحو الإخوان تتولد فينا، فارحمنا يا ربنا، ولا تَدَع أي نوع من البغضاء تنمو في قلوبنا ضد إخواننا.

هناك دعاء في سورة فاطر يقول تعالى:

وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (الآية: 38)،

سوف يصرخون طلبا للنجدة من الله تعالى، ويعني ذلك أنهم عندما ينزل بهم العقاب سيكون هناك صراخ، ويقولون: ربنا أَخرِجنا من هذا العذاب، ولسوف نعمل عملا صالحا مختلفا عما كنا نعمل من قبل.

بعد قولهم نَعْمَلْ صَالِحًا ما الداعي لتكرار قولهم غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ؟ السبب في ذلك أن الآثمين في الدنيا يدعون دائما أنهم يعملون أعمالا صالحة. ومنذ البداية أشار القرآن إلى هؤلاء الناس فقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، يقول الله تعالى أنه يوم القيامة وقت العقاب سوف يدركون بوضوح أنهم -تحت اسم الأعمال الصالحة- كانوا يرتكبون الشرور والمفاسد، ولذلك يلتمسون من الله تعالى أن يعيدهم كي يعملوا الصالحات، ولكنهم على الفور يدركون أن صنفًا من الاعمال الصالحة كانوا يعملون وعليها يعاقَبون الآن، ولذلك يوضحون في دعائهم: يا رب سوف نعمل عملاً صالحا يختلف عما كنا نعمل من قبل.

أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ .. يقول الله تعالى: ألم نمنحكم حياة طويلة؟ ومعنى ذلك أن كل إنسان حصل على مهلة في الحياة الدنيا بحسب مقدرته، ويعاقب بعدها فقط. فكل من سوف ينال عقابا لا بد وأن يكون قد عاش حياة كافية تؤكد أنه مُصرٌ على ارتكاب الشرور حتى يقول الله تعالى له: نلت فرصة طويلة، وكانت عندك فرصا عديدة لإصلاح نفسك، ولكنك ثبتَّ على موقفك الشرير بما لا يدع مجالا للشك فيه، وبعد ذلك لا حق لك لتقول: أَرجِعنا نعمل صالحا. لقد نلت حياة طويلة بما فيه الكفاية ليتذكر فيها من تذكر. وذلك يعني أن الإنسان يأخذ فسحة من الحياة بحيث لو كان عنده العقل والفكر الكافي لقبول النصيحة لكان قد اهتدى فيها حتما. تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ وفضلا عن ذلك جاءكم نذير.. فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ .. لذلك ذوقوا الآن نتائج أعمالكم، ولا نصير لمن كانوا في الحياة الدنيا ظالمين.

وهناك دعاء في القرآن يقول:

وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (ص: 17).

وهذا ليس من أدعية يوم القيامة، ولكنه دعاؤهم في الحياة الدنيا. كان هناك لنا في هذه الحياة قبل يوم الحساب.

ولهذا الدعاء معنيان: أحدهما أن أَعطنا كل شيء في هذه الدنيا، ولا تهمنا الحياة الآخرة. وكأنهم يسخرون في دعائهم قائلين: سنرى ما يحدث في الحياة الأخروية وقتها. يمكنك أن تعطي المؤمنين ما شئت من نعيم فيها، أما نحن فنريد الآن أن تعطينا كل ما هو متاح في هذه الدنيا ليسوَّى حسابنا هنا. ولا نريد شيئا في الحياة الأخروية، ولا يقول مثل هذا الدعاء إلا من ليس بهم إيمان راسخ في القيامة، ولا يصدقون بحياة بعد الموت فيها ثواب أو عقاب. فالدعاء بهذا المعنى يحمل صورة السخرية من الله .

وكذلك يأخذ نفس الدعاء لونا آخر من التمرد، عندما يطلب الأشرار من الله تعالى أو من أهل الله أن يأتيهم الله في هذه الحياة الدنيا بالعذاب الذي يحذرهم منه بعد الموت. فليأت به الآن إذ لن نراه بعد الموت. ومثال ذلك ما ذُكر من قبل عن (أبي جهل) من دعاء فهو يتضمن نفس المعنى. وكلا الأمرين خطير جدًا ومهلك.

توضح دراسة القرآن توضيحا تاما أن تواضع المغضوب عليهم عند الدعاء لا يجديهم في قبول أدعيتهم. ومهما توسلوا بتذلل شديد بقيت أدعيتهم بلا ثمرة وكانت مرفوضة. ولكن العجيب أنهم إذا انتهجوا في الدعاء أسلوب التمرد والتحدي لسلطان الله تعالى عندئذ يُقبل دعاؤهم. والأمر مع المؤمنين على العكس من ذلك تماما.. كلما أبدى المؤمن تذللا وتواضعا ازداد دعاؤه قبولا، وبمجرد أن يمر شبح العصيان في فكره رُفض دعاؤه. فمثلا صدر أشد الأدعية تمردا وعصيانا من إبليس، وقبل الله تعالى دعاءه بتمامه. والسبب في ذلك أنه تحدى عظمة الله وجبروته جل جلاله، وإذا لم يُقبل التحدي الصريح كان في ذلك عار. قد يفكر المرء أنه هدد وتحدى أيضا ومع ذلك لم يقبل دعاؤه.. فمعنى ذلك -معاذ الله- أنه تعالى هرب من التحدي. فدعاء الظالم عندما يأخذ صورة تمرد يكون مقبولا. ولقد صدر كثير من هذه التحديات في دعوات المشائخ على المهدي والمسيح الموعود ، وقبل الله هذه التحديات لصالحه ، في حين أنه تعالى رفض أدعية هؤلاء المعارضين التي دعوا بها في تواضع وتذلل، ذلك لأنهم فقدوا وقت التواضع. والمؤمن يتبع سبيل التواضع والخشوع وهذا وحده ما يليق به ويناسبه. ومن ثم فهناك صلة عميقة بين قبول دعاء المؤمن وتواضعه.

وهناك دعاء في سورة (فُصّلت) يقول:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (الآية: 30)،

ربنا، دَعنا نر اللّذَين أضلانا.. إيت بهما أمامنا سواء أكانا من كبار الناس أو من العامة. اليوم سوف ندوسهما تحت أقدامنا ليبدوا كأحط الناس شأنا، ونلحق بهما المذلة والعار. وهذا يعني أن شرار الناس وخبثاءهم الذين يتبعهم البعض في الدنيا.. عندما ينزل بالإنسان العقاب في الآخرة ينكشف له بوضوح أنهم في الواقع كانوا أحط الناس؛ وأن أتباعهم نالوا العقاب بسبب اتباعهم أحقر الناس. ولذلك سوف يبتهلون إلى الله -ليس طلبا للانتقام- وإنما تعبيرا عن رغبة طبيعية قائلين: إنك يا رب سوف تعاقبهم أشد العقاب ولا شك، فأحضرهم أمامنا أيضًا كي ندوسهم تحت أقدامنا. ليدركوا أيَّ صنف من العظماء كانوا في الدنيا، إنهم في الحقيقة أشد الناس عارا وحقارة. ومهما كانت سعادتهم الانتقامية فليس في جهنم شيء يسعدهم أو يرضيهم. وهناك دعاء في سورة الدخان يقول:

رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (الآية: 13-15).

إنه دعاء من أدعية المستقبل وليس من الماضي. هذا الدعاء من سورة الدخان التي تنبي عن نوع خاص من الدخان القاتل الذي سوف يغطي مساحات شاسعة من الدنيا. إنه دخان مهلك لا يدع الإنسان يعيش أو يموت، وإنما يجَعله في حال أشد العذاب. يقول القرآن الكريم: يا محمد، إن أولئك الذين يكذبون كلماتك ويسخرون من نبوءاتك.. ترقَّب أنت وأتباعك لهم هذا اليومَ. وبخطاب المصطفى يكون الخطاب موجها أيضا للمسلمين في المستقبل، وقيل أن هناك نبوءات بخصوصهم سوف تتحقق حتما.. منها الدخان.

والآن تصوروا قبل 1400 عام ما كان لأحد أن يتخيل وجود مثل هذا الدخان الذي يغطي مساحات شاسعة من الأرض، ويكمن فيه العذاب الأليم. فإنه وصف للعصر الذري، ولم يمكن أن يحلم به أحد قبل العصر الذري. إذًا ففي هذا الدعاء آية عظمى على صدق القرآن الكريم. يقول : يا محمد، انتظر فليأتيَنّ وقت يُغطي فيه دخان ضخم مساحات واسعة من الأرض. قال الله يَغْشَى النَّاسَ . وذكر الناس بدلا من مساحات الأرض، ذلك لأن الدخان في الواقع سوف يُسلّط على الأشرار من الناس عقابًا لهم.. هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ .

فهل كان باستطاعة إنسان منذ قرن مضى، ناهيك من إنسان عصر نزول القرآن، أن يتصور انتشار مثل هذا الدخان فيه عذاب أليم. لم يكن هناك سبيل لتخيل هذا الدخان إلا إذا علم أحد أنه نتيجةً للقنبلة الذرية سوف تتكون سحابات خطيرة وتغطي العالم، وحيثما تذهب السحب ينتشر العذاب. ما لم يعرف ذلك ليس بوسعه أن يصرح بهذا القول. فهي ولا شك كلام الله تعالى الذي يعلم الغيب، وليس من كلام سيدنا محمد المصطفى .

ويعلمنا القرآن ما سيقوله الناس ويدعون به في مثل هذا الوقت:

رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ..

اللهم ارفع عنَّا هذا العذاب، فنحن مؤمنون مما يشير أنه ما لم تقع هذه الواقعة لن يعود الناس إلى الإسلام، لأن عقوبة الدخان هذه سوف تنزل عليهم عندما يكون أغلبهم أشرارا، لأن مثل هذا العذاب المخيف لا ينزل بالصالحين. لو آمن الأشرار لم يكن هناك أي مجال للعذاب. إذن فيمكن أن نستخلص من ذلك أنه قبل رجوع الناس إلى الإسلام رجوعا عاما لا بد أن تُستخدم القنبلة النووية. مهما حاولت الأمم المتقدمة اليوم.. فإنها لن تستطيع تجنب تدمير الحرب النووية، بل في نهاية الأمر سوف تضطرهم أخطاؤهم إلى الخوض في حرب نووية. ونتيجة لذلك سوف يحدث شيئان:

الأول أن سحابات نووية مهلكة سوف تحيط بالأرض، وتسبب عذابا شديدا مؤلما للجنس البشري. وثانيا، ونتيجة لذلك، سوف يتجه الناس نحو الإيمان. لقد سبق أن انفجرت من قبل قنبلتان في هيروشيما ونجازاكي.. ومع ذلك لم يرتفع الصوت قائلا: إِنَّا مُؤْمِنُونَ .. ولم تتجه الدنيا نحو الإسلام. لذلك أعتقد بيقين أن هذه الآية تتعلق بالمستقبل، وما دام البشر لم يهتزوا بمثل هذا العقاب المروع فإنهم لن يميلوا إلى الإسلام.

ثم تقول الآية

أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ

بأي وجه سوف يقولون: لقد تعلمنا الدرس.. وقد جاءهم رسول واضح بيّن؟ وفي هذا إشارة إلى نبي ذلك الوقت. الآية تتحدث عن رسول يكون تابعًا خادمًا لسيدنا المصطفى .. جاءهم نذيرا، وقد أنذرهم بالفعل. والواقع أنه فيما عدا سيدنا المهدي والمسيح الموعود لم يظهر قط إنسان خلال 1400 عام أنذر البشرية من الدمار النووي. فالآية تتعلق تعلقا عميقا بالجماعة الإسلامية الأحمدية وبشخص سيدنا المهدي والمسيح الموعود . أُدرسوا تاريخ أولياء الأمة الإسلامية جميعا فلن تجدوا واحدا منهم قدم للعالم فكرة الدمار الذري بإعلام من الله تعالى له. إنها مذكورة إما في هذه الآية القرآنية أو فيما أُخبر به سيدنا المهدي والمسيح الموعود بوحي من الله تعالى. حيث أُخبر أن حروبا رهيبة سوف تنشب في العالم، أو أن زلازل مروعة سوف تقع في الأرض.. ونتيجة لذلك ستخلو مناطق واسعة من الأرض من كل أنواع الحياة.

هذا الموضوع يتطلب تفكرا عميقا. فحتى زمن سيدنا المهدي والمسيح الموعود الذي تلقى فيه الوحي لم يتصور أحد عن القنبلة الذرية.. بل حتى الطائرات لم تكن قد اختُرعت بعد. إذ في عام 1905 م اختُرع نوع بدائي من الطائرات وجرى اختبارها في أمريكا. وتحدث سائر العالم عنها بأنها أضحوكة. من الذي حذر سيدنا المهدي والمسيح الموعود وأخبره بأن مساحات كاملة من الأرض سوف تُحرَم من كل أنواع الحياة؟ الحروب التقليدية تقتل الناس والحيوانات. هناك آلاف الأنواع من الأحياء لا تتأثر بأشد الحروب هولاً حتى إلى باطن الأرض. فيما عدا الحرب الذرية. إنما هي القنابل الذرية التي تقضي على كل الأحياء حتى إلى باطن الأرض (1) وهي في حقيقتها (دخان مبين) ذُكر في الآية.

لقد وضحتُ الأمر هكذا ليتبين أن هذا الدعاء يتعلق بالمستقبل. ونتيجة لهذا الحادث سوف يتجه العالم نحو الإسلام. أما وقد أصبح الموضوع جليا لنا.. ينبغي علينا الدعاء لهؤلاء القوم من اليوم.. لأن الدعاء وقت نزول العذاب غير مقبول. الآن وقد اتضح الأمر تماما.. إذ قمنا الآن في وقت السلم بالدعاء باضطراب لهؤلاء الناس التعساء فلسوف يقبله الله بالتأكيد اليوم.. بالإيمان الراسخ بأن هذا الوقت قادم لا محالة، وبأنه ليس بعد دعاء المسلمين الأحمديين أمام الله تعالى ثمة ما يدرأ هذا العذاب.. ينبغي على الجماعة الإسلامية الأحمدية أن تدعو الله بتعاطفٍ وإشفاق شديدين لسلامة الجنس البشري في ذلك الوقت. ولأن يمنحهم الله الإيمان عندئذ. وإني على ثقة أنه بعد ذلك سوف تأتي أيام انتصار الإسلام، إن شاء الله.

والدعاء الأخير بهذا الشأن يتعلق بنفس الموضوعات التي تكررت من قبل، والعظة التي قدمها الله تعالى عند نهاية الدعاء ينبغي أن تحفظوها في بالكم دائما إنه دعاء لم يذكر الله أي أمة تقوله، ولكنه ذكر بأن وقتا يمكن أن يأتي حينما سيدعو كل شخص هذا الدعاء.

قال الله تعالى:

وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (المنافقون: 11).

قبل أن يأتي هذا اليوم أنفقوا من كل شيء رزقناكم به. أي يوم هذا؟ إنه ذلكَ اليوم الذي يدركك فيه الموت، فتلتمس من الله تعالى فرصة أخرى كي تقوم بالإنفاق والصدقة في سبيل الله، وتكون ممن يفعلون الصالحات. ويجيب الله تعالى على مثل هذا الدعاء:

وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المنافقون: 12).

تذكروا أنه عندما يحين هذا الوقت فلن يعطي الله أبدا أي فرصة أخرى لأحد. إنه يعلم علما تاما ماذا تعملون.

في هذا الموضوع نقطتان أو ثلاثة تستحق التأمل من جانب المسلمين الأحمديين، وهناك أيضا بشارة لهم. لقد رُبط هنا الإنفاق في سبيل الله تعالى بقبول الدعاء. فالله يقول: إذا كنت قبل موتك ممن ينفقون في سبيل الله.. فلسوف يتقبل الله دعاءك الأخير أيضا، أما إذا لم تكن ممن تعلموا الإنفاق في سبيل الله.. فلن يقبل الله شيئا من دعائك عند موتك. إذًا فكل ما تنفقه الجماعة الإسلامية الأحمدية في سبيل الله.. هو بمثابة بشارة عظيمة لهم. والواقع أن هناك جماعة واحدة في هذا العالم تنفق في سبيل الله والمشاريع الخيرية بهذا الحب والحماس والهيام الذي تستمتع به. لا أعرف في الدنيا جماعة أخرى مثلها. فلكم بشارة طيبة في هذه الآية. أما الذين لا يعرفون منكم متعة الإنفاق في سبيل الله فلهم في هذا تحذير أيضا. إذ يقول الله: ينبغي أن تنفقوا قبل أن تتحسر قلوبكم.. وتقولوا لله تعالى: أَعطنا فرصة ثانية كي ننفق وتعمل مزيدا من الصالحات. ويصرح بأن من ينفقون في سبل الخير لهم استثناء.. فلن يأتي عليهم ذلك الوقت.

فإذا أنفقتم في سبيل الله تعالى الآن خلال حياتكم من كل ما أنعم الله به عليكم.. من قدرات وأموال فلكم البشرى بوفاة آمنة. لن تقاسوا بعون الله موتا يقال فيه بندم وحسرة: لو أن لي فرصة أخرى لأفعل شيئا في سبيل الله. عسى الله تعالى أن يحفظ الجماعة الإسلامية الأحمدية دائمًا على حالها من الإنفاق في سبيله، ويتوفاهم الله تعالى وهو راض عنهم، ويمنحهم النفس المطمئنة.. التي تحدث الله عنها في القرآن الكريم وقال إنها عندما تعود إليه يستقبلها بقوله:

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ..

أيتها النفس التي رضيتْ عني ورضيتُ عنها تعالي إلي وانضمي إلى عبادي وادخلي جنتي التي أعدت خصيصا لعبادي.

اللهم اجعَلنا من هؤلاء الذين منحتهم البشرى بهذه الخاتمة الطيبة الحبيبة – آمين.

  • الإشعاع الذري المكثّف. يقتل أي نوع من الحياة حتى في باطن الأرض.

آية القبول

دخل على سهل التسترى الصوفي بعض أصحابه يومًا. فرآه مهمومًا فقال له الشيخ: “أراك مشغول القلب!”. قال: “كنت بالأمس بالجامع. فأوقفني شاب فقال: (أيها الشيخ!. أيعلم العبد أن الله تعالى قد قبله؟) فقلت: (لا يعلم). ثم قال: (إذا رأيت الله قد عصمني من كل معصية ووفقني لكل طاعة علمت أن الله قد قبلني).

(طبقات الأولياء. لابن الملقّن، الناشر: مكتبة الخانجى، القاهرة، ص 234)

قال: يحي بن معاذ الرازي: “ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال: إن لم تنفعه فلا تضره. وإن لم تسره فلا تُغمّه، وإن لم تمدحه فلا تذمه”.

Share via
تابعونا على الفايس بوك