خطبة الجمعة دعوات المغضوب عليهم والضالين
التاريخ: 1991-07-12

خطبة الجمعة دعوات المغضوب عليهم والضالين

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

سلسلة: كيف نتمتع بالصلاة

 دعوات المغضوب عليهم والضالين

خطبة الجمعة لمولانا حضرة مرزا طاهر أحمد -أيده الله بنصره العزيز- الخليفة الرابع

لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ، ألقاها بمسجد “الفضل” بلندن يوم 12-7-1991.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (آمين)

تناولت في خطبتي السابقة تفسير قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، ووضعت أمامكم أمثلة لأدعية جماعة المغضوب عليهم هؤلاء. وقبل أن ننتقل إلى الدعاء التالي في نفس الموضوع، أود أن أزيد موضوع غرق فرعون توضيحًا.

ذكرت أن القرآن الكريم حكى دعاءً لفرعون وهو موشك على الغرق، وكان الجواب على دعائه قول الله تعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (يونس: 92). لم يعد هناك وقت للدعاء لأنك لم تزل عاصيًا مفسدًا في الأرض.. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ سوف ننقذ جسدك لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً تكون عبرة لمن يأتون بعدك.

وعند شرح هذا الموضوع كان هناك احتمال معنى خاص في بالي، وأعتقد حتى الآن أن وعد الله تعالى بإنقاذ جسد فرعون لم يكن يعني جسده الميت العضوي لا غير.. لأن أجسادًا كثيرة من هؤلاء الغرقى تكون قد وصلت إلى الشاطئ؛ كما أن أجساد معظم الفراعنة لا تزال محفوظة إلى اليوم.

فاستنتجتُ من هذا الذكر الخاص عن إنقاذ فرعون إجابة لدعوته بأن الله وعده بأنه سيحيا بجسده محرومًا من الروح كما يقال في الإنجليزية “زومبي” (Zombie).. أي حياة مادية خالية من الروحانية. فقوله (ننجيك ببدنك) يعني أن يحيا بدون خلاص نفسي.. حياة بلا روحانية.

وبهذا الصدد.. تبين دراسة سائر الآيات القرآنية التي تذكر غرق فرعون ومن معه.. أنه جاء ذكر خلاص بني إسرائيل وغرق جيش فرعون الذين طاردوهم فيما عدا موضع واحد من القرآن الكريم، وفي هذا الموضع الوحيد ذكر الله غرق فرعون مع جيشه. جاء في سورة البقرة:

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (البقرة: 51).

وجاء أيضًا:

وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ (الأنفال: 55).

وجاء أيضًا:

وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (الشعراء: 66-67).

وجاء أيضًا:

..انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (الزخرف: 56).

وقال عن غرق فرعون أيضًا:

فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (الإسراء: 104).

فهل هناك تعارض بين ما يقوله القرآن عن إغراق فرعون وبين ما جاء في موضع آخر أن فرعون عندما أوشك على الغرق دعا ووعده الله بأن ينجي بدنه.. أم أن هناك طريقًا للتوفيق بينهما؟

عندما كشفتُ عن كلمة “غرق” في القواميس العربية وجدت أنها تعني المعنى المعروف؛ عندما يسبح أحد ويحاول الخروج من الماء ثم يصيبه التعب فيغلبه الماء ويغوص فيه. أعني لم أجد أن المعنى قاصر على الموت غرقًا. إذًا فلا تعارض هناك عندي. وهو كما نجى الله تعالى نبيًّا من جوف الحوت حيث كانت احتمالات حياة الإنسان أقل كثيرا من احتمالات نجاة الغارق. وكثيرا ما رأينا الغرقى يخرجون من الماء في حالة كحالة الموتى، ثم يساعَدون بالتنفس فيعودون إلى الحياة. فما دام القرآن قد استخدم كلمة “غرق” فلا شك أن فرعون قد غرق فعلاً مع جيشه، وحينما يقول القرآن أن الله سينجيه ببدنه فلا شك أيضا أنه استرد أنفاسه كما يحدث للغرقى، وهيأ الله الأسباب لنجاته ببدنه؛ لأن ذكر الوعد هنا لا بد وأن يتضمن رسالة عميقة. نعم، لم يتمكن الناس من فهمها وقتئذ، ولكننا فهمناها اليوم عندما نرى جسده باقيًا محفوظًا في صورة محنطة.

وتبين لي بمزيد من البحث أن فرعون الذي اصطدم بموسى والذي ذكر غرقه.. مات ميتة طبيعية في سن التسعين. يخبرنا جسده المحنط والأوراق التي كانت معه والآثار الكتابية أنه لم يمت غرقًا في شبابه، بل عاش حياة طويلة. وبعد حادثة الغرق حارب معارك كثيرة، وكاد أن يمنى بهزيمة كبيرة على يد الفلسطينيين، ولكنها تحولت إلى نوع من النصر. على أية حال لقد تعرض لهزيمة منكرة مخزية في إحدى المرات.

المسألة الآن: هل يجب أن تفسر آيات القرآن تفسيرًا يعارض شهادة تاريخية.. وبدلاً من أن يكون جسد فرعون آية عبرة تصبح -لا سمح الله- آية شك في القرآن؟ أم علينا بالتأمل في معاني القرآن وتفهم أسلوبه الخاص في التعبير لنفسره بحيث لا يتعارض مع الحقائق بل يقدمها لنا بحيث يتجلى فيها مجد الله تعالى بطريقة رائعة، ويكون هذا الجسد المحفوظ حقًا عبرة وعظة.

وإني لأميل إلى هذا الخيار. ولا تعارض عندي بين غرقه ثم نجاته وحياته. تدلنا الخبرة البشرية العادية على أن أناسًا غرقوا مرارًا وأنقذوا. وحرس فرعون الذين كانوا يحيطون به عاشوا على ضفاف النيل وكانوا يجيدون السباحة والغطس.. فلا يعقل ألا يحاول هؤلاء إنقاذ ملكهم. وليس من المستحيل أبدًا، بل إنه في رأيي ما حدث تمامًا.. أن فرعون عندما غرق حاول حرسه إنقاذه بكل ما في وسعهم وأخرجوا جسده. ولما كان وعد الله له بإنجائه ببدنه فإنه لم يزل حيًّا بهذا الجسد، وعاش زمنًا طويلاً يحكم بلده، ولكن روحه لم تفز أبدًا بالخلاص. فكأن الله تعالى أهلكه وهو حي، وكان هذا قدرًا مقدورًا يميزه عن الآخرين من العصاة حيث يبقى باب التوبة مفتوحًا لهم حتى لحظتهم الأخيرة. فأي عبرة أشد تخويفًا من أن يعيش المرء حياة طويلة من السلطة والكبرياء.. ويعلم أن أبواب التوبة كلها موصدة أمامه، وأنه سيعيش حياة مادية خالية من جميع الروحانيات.

كل هذه الأمور كانت في بالي، وكنت ولا زلت أميل إلى التفكير بأن الوعد القرآني يعني استمرار حياته، ولا يعني مجرد وعد بالإبقاء على جسده كعبرة.

نعود بعد ذلك إلى شرح الآيات التالية:

ومن أدعية المغضوب عليهم المذكورة في سورة إبراهيم الآيات 45 إلى 47، قوله تعالى:

وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُل .

حذر الناس من ذلك اليوم الذي يحل بهم فيه العقاب، فيدعو الخاطئون ملتمسين مهلة قصيرة يقبلون فيها دعوة الأنبياء ويطيعونهم. فيقال لهم: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ؟ كنتم تحلفون بأنه لن يحيطكم الانحطاط.

وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ..

ولم تنفكوا تعيشون في بيوت الظالمين، وشهدتم ما جرى لهم وكيف عاقبناهم.. وبينا لكم أوضح الأمثلة. وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ .. وفعلوا كل ما في وسعهم من حيل وتدابير، وكان كل ذلك في علم الله تعالى، فأفسد خططهم، وآلت إلى الفشل رغم أنها كانت من الإحكام بحيث تحرك الجبال.

هذا الدعاء يشبه أدعية سبق أن بينتها لكم مرات من قبل.. أي عندما يحين قضاء الله تعالى لا يقبل الدعاء، ومثال ذلك دعاء فرعون السابق، ولكن عند دعائه جعل الله تعالى استثناء حيث قال له: سأقبل دعاءك جزئيًا. ومعظم هذه الأدعية المرفوضة كانت من أولئك الذين يجأرون بها يوم القيامة وهم يساقون إلى النار، أو وهم يذوقون عذاب النار، إلى جانب أدعية يدعون بها عندما يرون الموت وجهًا لوجه، أو على وشك أن يلقوا العقاب.. وفي الغالب ذكر الله رفضها.

لماذا تشتمل أدعيتهم على موضوع واحد أو موضوعين فحسب؟ السبب في ذلك أن المؤمن يعيش حياة حافلة بالابتلاء في الفترة التي يكون فيها الدعاء مقبولاً؛ وهو يدعو بالفعل، ويلقى دعاؤه القبول؛ وهناك أمثلة عديدة لقبولية دعائه تناسب كافة المواقف في حياته. ولكن الكافر لا يدعو إلا عندما يرى النهاية، ولذلك لا نجد أي دعاء يقوله سوى طلب الخلاص أو النجاة من العقاب. إنهم محرومون من إدراك أهمية الدعاء، ولهذا تجد أمثلة قليلة من أدعيتهم ذكرها لنا القرآن المجيد. ومع ذلك لو تأملنا لوجدنا فيها وعظًا كثيرًا.

والشيء العجيب هنا أنهم عندما يواجهون العقاب يدعون للنجاة منه، ولكن يبدو من جواب الله لهم كأنه لا يرد على الدعاء.. فيقول: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ؟ هم يدعون: ربنا نجنا وسوف نتوب؛ أخِّر هذا العذاب وامنحنا فرصة نتبع فيها الرسل ونؤمن بك. ولكن الجواب يقول: ألستم أنتم القوم الذين حلفوا أن لن يصيبهم شيء من التغير والانحطاط؟

الواقع أنهم كانوا متكبرين حاولوا أن يتألّهوا في العالم، وتحدوا من أقامهم الله وبعثهم، وتعالوا كما لو كان لهم سلطة من الله. كانوا يستكبرون ويتحدون المرسلين علنًا.. أن افعلوا ما بدا لكم. اجلبوا علينا ما استطعتم من العقاب، فحالنا لن يزول أبدًا.. وملكنا دائم. كانوا يقسمون للأنبياء عند اصطدامهم بهم: افعلوا ما بدا لكم، وادعوا ربكم كما شئتم، فما من قوة في الأرض ولا في السماء قادرة على أن توقف تقدمهم، أو تصيبهم بالانحطاط. كل هذا عبروا عنه في قسمهم: (ما لنا من زوال).

يقول الله تعالى: هؤلاء الذين وصلت بهم الغطرسة إلى هذا الحد.. والذين عندما يرون العذاب يقترب منهم، ويرون زوال حالهم الذي رفضوا تصديقه من قبل.. لا مجال لقبول دعائهم عندئذ.

وفي كل المواضع التي يدعو فيها الكافرون والظالمون.. يذكر الله تعالى سبب رفض دعائهم. مثلاً يقول الله هنا:

وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ..

إنكم لم تتعظوا بغيركم، فكيف تتعظون والعذاب وشيك الوقوع بكم؟ ألم بنزل العقاب من قبل على أقوام أمثالكم؟ ألم تكونوا تعيشون في مساكنهم؟ ألم تتعلموا من دروس التاريخ أن من فعل فعلكم نزل به الدمار؟ إذا كنتم لتتعظوا بالعقاب فما الذي جعلكم لا تتعظون من العقاب الذي حاق بمن كانوا قبلكم ولاقوا نهايتهم التعيسة؟ كانوا مثلكم، ولقوا مصيرهم لارتكاب نفس الأعمال التي ارتكبتموها. كان ماضيهم أمامكم فتجاهلتموه، والآن تنظرون إلى المستقبل وتطلبون الرجوع إلى الدنيا كي تتعظوا؟! هذا شيء مخالف لطبيعة الأمور. إذا أراد المرء أن يتعظ فإنه يتعظ برؤية الحالة التعيسة للآخرين، وينتهج طريق الفضيلة. ولكن إذا نزل العقاب فلا سبيل لتجنبه.

وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ .. ولقد دبروا خططًا كما دبرتم، وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ .. وهو تعالى قادر على إخزائهم وفضح خططهم وإفشالها. مؤامراتهم في يد الله تعالى، فأي ضرر يستطيعون إلحاقه بأهل الله؟ وقوله: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ يعني أيضًا أن الله تعالى يحفظ سجلاً كاملاً لكل مؤامراتهم الشريرة. وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ .. وإن كان مكرهم قادرًا على تحريك الجبال فلن يفلح أو يؤثر إلا بإذن الله تعالى، فهي تحت قدرة الله، ولذلك لم ولن ينجح مكرهم. وهكذا يرفض الله دعاءهم مع بيان الحكمة والسبب وراء الرفض.

ثم هناك حوار بين الله وبين إبليس في سورة الحجر (29 إلى 45):

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ

كيف أسجد وأطيع كائنًا مهينًا خلقته من طين متغير منتن؟ لست بالذي يخضع لمثل هذا البشر الحقير. فكان جزاؤه أن

قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ..

لن ندعك في هذا الحال الذي أنت عليه، بل لسوف ننزل بك العار والذلة، ونحل عليك اللعنة إلى يوم الدينونة.

بعد أن سمع إبليس هذا الحكم الإلهي دعا الله تعالى. واسم إبليس يتطلب انتباهًا خاصًا، وسأتناوله بالشرح وأبين مدى أهميته. قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . أعطني يا رب مهلة إلى يوم إحياء الناس مرة أخرى. قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ . لك هذه المهلة حتى الوقت الذي ذكرته.

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ..

أما وقد حكمتَ علي بالغواية والضلال… فلسوف أجعل كل شيء في الأرض يبدو جميلاً مغريًا، ولسوف أضللهم جميعًا.. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ .

وهنا يستثني إبليس بلسانه أولئك العباد المصطفين الأخيار. واستعمل كلمة (مخلَص) بفتح اللام وليس بكسرها، أي الذين اختارهم الله تعالى. ويحتوي قول إبليس هذا على حكمة. نجد في بعض الكلمات التي حكاها القرآن عن إبليس ذكاء وفهمًا لطبيعة الأمور. ويبدو أن الأبالسة الكبار في الدنيا أذكياء فعلاً، ولكنهم يفقدون ذكاءهم عندما ينكرون الحق. هذا كان الحال مع أبي جهل الذي كان يُدعى من قبل “أبو الحِكم”، ولكنه تحول من “أبو الحكم” إلى “أبو جهل”. وأرى أن الآية هنا تتحدث عن إبليس كل عصر. ويعني قوله: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ .. أنه كلما يريد الله أن يختار من عباده الأخيار الصادقين ليميزهم عن الآخرين من غير المخلصين فإنما يكون اصطفاؤهم عن طريق النبي. فالذين يتبعون النبي يطهرهم الله ويمنحهم الإخلاص. لا يمكن لأحد أن يطهر نفسه بنفسه. فإبليس يمس هنا موضوع النبوة بقوله إن الذين تختارهم يا رب وتمنحهم الإخلاص من لدنك عن طريق النبوة وتطهرهم باتباع النبي.. هؤلاء لن يذعنوا لي أبدًا.

قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ قال الله تعالى: هذا طريق مستقيم يصل بسالكه إلي. وهذا القول يدل على أن الشيطان يجلس على هذا الطريق ليضلل الناس، وعلى هذا الطريق نفسه يقدم أنبياء الله تعالى أسوتهم الحسنة. فمن وفق للإيمان برسالات الله تعالى اصطفاهم الله له، ولا يملك الشيطان أي سلطان عليهم.

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ..

إنك لن تسيطر على عبادي إلا الذين ضلوا بأنفسهم وانحرفت فطرتهم.. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ .. ولسوف يلتقون جميعًا في جهنم لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ .. وهناك لكل باب نصيب مقرر من أهل جهنم.

في هذه الآيات البسيطة صنوف من الحكمة ينبغي بيانها. قال الشيطان أنه سيضلل الناس جميعًا ما عدا المخلَصين. وقال الله تعالى: ليس لك سلطان حتى على من تضللهم إلا لأن بهم اعوجاجًا. هذا القول يحمل حكمة عميقة ينبغي على المؤمن فهمها. ليس للشيطان سلطان على أحد. الذين اصطفاهم الله تعالى فلا سبيل للشيطان عليهم. وأما الآخرون فإنهم يستدعون الشيطان بسبب اعوجاجهم؛ الذين طهرت أنفسهم من الاعوجاج فلا سلطان للشيطان عليهم.

هذه هي فلسفة الخطيئة التي بينها القرآن المجيد بكل وضوح. إذا نظر الإنسان نظرة متعمقة في أخطائه، ودرس موقفه السابق من كل خطأ يتضح له تمامًا أنه كان به اعوجاج دعا الخطيئة من الخارج. وما لم يتولد هذا الاعوجاج في طبيعة الإنسان فلن يميل إلى الخطيئة ولن تتغلب عليه. ففي أول الأمر يعزم الإنسان من داخله، وهذا العزم نفسه هو الذي يجره لطريق الخطيئة. فما أروع وأوضح صورة يقدمها القرآن للفطرة الإنسانية.

فالاعوجاج الذي هو داخل النفس البشرية هو الشيطان، وأولئك الذين يستدعون هذا الشيطان من الخارج هم الأبالسة. وفي زمن النبي كان أبو جهل أحد الأبالسة. وفي كل زمن يتولد أبالسة كثيرون، يدعون الناس إلى الشر، وليس من الضروري أن يكون هناك إبليس واحد. هناك شيطان داخل كل إنسان كما قال النبي بأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وفي كل إنسان شيطان. فلما قيل له: حتى فيك يا رسول الله؟ قال: نعم، ولكنه أسلم. أي لم يعد فيه أي اعوجاج.

هذا سر عميق من أسرار الطبيعة البشرية. في أوردة كل إنسان شيء من الاعوجاج يدفعه ليستسلم لدعوة الشر من الخارج. والشيطان الحقيقي الأشد خطرًا هو ذلك الذي بداخل الإنسان. وإذا أسلم هذا الشيطان فلن يتمكن شيء في العالم أن يتغلب على هذا الإنسان إلا الله تعالى. بعد فهم هذا السر العميق للطبيعة البشرية يستطيع الإنسان أن يحمي نفسه بطريقة أفضل من همزات الشيطان أو دعوات إبليس..

يتبين أن الطبيعة البشرية هي موضوع الحديث هنا، يقول الله تعالى عن جهنم: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ . وذكر أيضًا أن للجنَّة سبعة أبواب كذلك. وعن هذا الموضوع ألقيت خطبة في ربوة إبان الفترة المبكرة من خلافتي وشرحت معنى هذه الأبواب. خمسة منها هي الحواس الخمس: باب السمع وباب النظر وباب الشم وباب الذوق وباب اللمس. بهذه الفروج الخمسة يتصل الإنسان بالعالم الخارجي. وإذا لم تكن هناك حراسة على هذه المنافذ تسلل اللصوص من كل نقطة ضعف منها. والذين يحرسون هذه الأبواب يصانون بفضل الله تعالى.

وبالإضافة إلى هذه الأبواب الخمسة هناك بابان باطنيان: باب الفكر وباب القلب. وهذان البابان إما أن يقبلا التأثيرات الخمسة الخارجية أو يرفضاها. ونتيجة لهذه التأثيرات تتشكل الشخصية الفردية. وأحد جوانب الشخصية هو القدرة العقلية، والجانب الثاني هو القدرة العاطفية، وكلاهما يتكون تدريجيًا بالتأثيرات الخارجية. عندما تلقي هذه التأثيرات الخارجية ضوءها على القدرات الباطنية ينبثق بفعلها نور من داخل الإنسان. وبالمثل عندما تؤثر الظلمات الخارجية على الظلمة الداخلية تنشأ ظلمة جديدة أشد حلكة. وسواء كانت ظلمات عقلية أو ظلمات قلبية، وسواء كانت أنوار عقلية أو أنوار قلبية.. يبقى هذان البابان مفتوحين داخل كل إنسان.

وعندما يقول القرآن الكريم أنهم سيدخلون النار من سبعة أبواب.. فيعني أن الشياطين العاملة داخل النفس البشرية لها أهمية قصوى. إذا سيطر المرء على حواسه الخمس.. أبواب اللسان والعين والأنف والأذن واللمس.. وسلمها لله تعالى.. فإن البابين الباطنيين -القلب والعقل- أيضًا سيكونان لله. ويقول الله تعالى إن مثل هؤلاء المخلصين الذين كانوا صرفًا لله.. لا سلطان لإبليس عليهم مطلقًا.

بعد فهم هذا الموضوع يتبين لكم كم هي شاقة هذه المهمة. في صلواتنا اليومية الخمس.. في كل وقفة بين يدي الله تعالى.. نقول اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . أي صراط هذا؟ يصف الله هذا الصراط المستقيم أنه الطريق الذي سار فيه الأتقياء وغير الأتقياء، وتعثر فيه أناس، ونجا فيه أناس آخرون من العثار، واستمروا يتقدمون فيه. أغلبهم فقدوا هذا الطريق، والأقلية هم السعداء الذين وصلوا إلى غايتهم. لقد بين الله تعالى لنا في القرآن الكريم كل هذه الأمور بالتفصيل. علمنا كل أدعية المنعم عليهم وحذرنا من أدعية المغضوب عليهم والضالين الذين تجدهم أيضًا في الطريق الصحيح، ولكن الطريق الذي يأخذك رأسك إلى الله تعالى هو طريق عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ .. الذين ينبغي أن نبتهل إليه تعالى بأدعيتهم كي نمضي على هذا الصراط، وأن نستمر في السعي لإنقاذ أنفسنا من العثار عند أي عقبة بينها لنا الله تعالى. لكن مع اليقين بأنه لا يمكن لإنسان أن يكون تقيًّا بجهده الذاتي ما لم يوهب هذه المقدرة من خلال الابتهال إلى الله.

ولكن لقبول الدعاء لا بد أن ينبع الصوت الصادق الخالص من داخل القلب. للدعوات المادية العادية يمكن أن يخرج هذا الصوت الصادق بيُسر، أما رفع الصوت الخالص من القلب وقت الدعاء لأجل الصلاح والتقوى.. فعمل شاق جدًا، وأود توضيح هذه النقطة جيدًا لكم.

إذا دعوتَ لشفاء ابنك من المرض فإن الدعاء سوف يخرج من القلب. إذا دعوت أن يا ربنا نجنا من هذه المصيبة، أو أنقذنا من هذا الفيضان مثلاً.. خرج الدعاء من القلب. لقد سبق أن ذكرت أن القرآن الكريم يذكر قبول دعوات كان الله يعلم أن أصحابها سوف يرفضون دعوته بعدئذ، ولكن لما كان الدعاء يخرج من قلوبهم، وكان دعاء المضطرين لذلك قبله تعالى. ولكن الدعاء للتقوى والصلاح هو أشد الأدعية صعوبة، لأنه دعاء ضد التيار. فالطبيعة البشرية تستسلم للخطيئة وتسحبك في هذا الاتجاه. إنها تجذب الإنسان نحو المتعة والسرور واللذة وسعة العيش، والدعاء ضد هذا التيار أشد صعوبة. والواقع أنه لو نظر الإنسان في قلبه حين الدعاء للتقوى والصلاح وفكر فيما إذا كان حقًا يبتهل إلى الله تعالى ليحميه من كل هذه الأشياء.. فسوف يعرف عندئذ أن دعاءه كان شبه ميت. يقول: اللهم امنحني التقوى، ولكنه في نفس الوقت خائف، وتنقصه النية الصادقة. يدعو مثلاً للرزق الحلال في حين أن المال الحرام يظهر له يوميًا كالحلال المحبب. إذا وضع كل هذه الاحتمالات في اعتباره، ودعا ربه للحلال.. عندئذ سوف يدرك معنى الدعاء الصادق المخلص. لن يكون دعاؤه مخلصًا ما لم يغلق عليه كل أبواب عيش الحرام، وما لم يتقدم إلى الله تعالى داعيًا: لقد سددت كل أبواب الحرام.. وأبتهل إليك الآن كيلا أتعثر عند العقبات. وقبل ذلك لا يكون الدعاء مخلصًا. إذًا فالدعاء المخلص من أجل أعمال التقوى هو أشد الأدعية صعوبة. يمكنك بكل يسر الدعاء لأبنائك وأجدادك المتوفين، لأنك لا تحتاج عندئذ إلى إحداث تغير وحماس في نفسك. ويمكن للأمهات أن يدعين لأولادهن كما شئن، ويقلن: اللهم اجعلهم من الصالحين الأتقياء، ولكن عندما يدعون لأنفسهن كي يزيل الله ما بهن من اعوجاج، وينقذهن من عادة الكذب، ويمكنهن من المحافظة على الصلوات، أقول حينما يبتهلن إلى الله بأدعية مماثلة.. عندئذ سيدركن أن هذا صعب جدًا.

مع العلم أن دعاء الإنسان للأولاد أو للأجداد لن يقبل قبولاً حسنًا إلا إذا كان الدعاء لإصلاح نفسه أيضًا خالصًا نابعًا من القلب. فسواء دعوت لما أسلفت في الماضي أو ما تريده في المستقبل فإن نوعية الدعاء سوف تقرر قبوله أو رفضه لدى الله. لماذا يستجاب دعاء الأنبياء لصلاح أبنائهم، ولماذا لا يقبل نفس الدعاء في حق عامة الناس؟ هذا سؤال يجب أن نعرف جوابه. إذا تفكرت في دعاء المغضوب عليهم شرعت تفهم حكمة كثير من أدعية الصالحين. وفي هذا تكمن أهمية هذا الموضوع، ولهذا أود بيانه لكم بوضوح. يجب أن نعلم أنه مهما كان دعاء المغضوب عليهم أو أهل الاعوجاج -حتى وإن دعوا للتقوى- ففي دعائهم اعوجاج، وبسبب هذا الاعوجاج يُرفض دعاؤهم. وإن لم يكن ثمة اعوجاج في دعائهم للآخرين.. فالاعوجاج الموجود في دعائهم لأنفسهم يجعل دعاءهم لغيرهم ضعيفًا.

هناك دعاء آخر أقرب إلى السؤال في سورة طه (126 إلى 127). يروي القرآن أنه عندما يبعث الله يوم القيامة بعضهم محرومًا من النظر أي النور والبصيرة:

قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ..

فيرد الله تعالى: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا . لقد تجاهلت آياتي المستمرة، والنسيان هنا ليس بمعنى عدم الحفظ، وإنما هو التجاهل وعدم الانتباه كأنه نسيها.. وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى .. واليوم تلقى تجاهلاً بنفس الطريقة. لقد كنت تنظر إلى الآيات بتجاهل وكأنك لا تراها؛ وهكذا فإن ما تعمدت عدم رؤيته لن تستطيع اليوم أيضا رؤيته، وستعامل بالتجاهل في نظر الله تعالى ولن يلتفت إلى حاجتك. وهذا أشد صنوف العقاب، ولا ينفك الناس يعدونه لأنفسهم في هذه الدنيا. عندما يجعل الله الشيء واضحًا، ثم يتغاضى المرء عنه مع أنه يراه.. فهذا الموضوع يناسب موقفه تمامًا.

لطالما تحدثت إلى كثير من المشائخ في باكستان خلال التبليغ وأعرف ذلك عنهم شخصيًّا، أنهم يغلقون عيونهم عن رؤية الحق. عندما يقدم الأمر لهم واضحًا ترى علامات الخوف على وجوههم. تعرف أنهم قد رأوا الحق، ولكنهم حاولوا جاهدين لتغيير مجرى الحديث في فزع شديد. إنهم القوم المشار إليهم هاهنا.

وأحيانًا يقع الشخص المؤمن في مثل هذه الأخطاء في حياته اليومية. ولذلك رد الله تعالى على هذا السؤال إلى الأبد: إنك بنفسك تصنع بصرك وبصيرتك للحياة الآخرة، أو تفسدها أيضا بنفسك. إذا عشت في هذه الحياة أعمى فسوف تبعث يوم القيامة أعمى؛ وإذا أعطيت النور في حياتك الدنيا فلسوف توهب النور أيضا يوم القيامة. والأمر لا يتعلق بنور العين فقط، وإنما بنور الحواس الخمس كلها. كل الحواس الخمس ترتبط بالخضوع لبعض أوامر الله تعالى ولبعض آياته. فإذا تهاون المرء في الخضوع لبعض الأوامر فإنه وإن لم يعطل تمامًا الحواس المتعلقة بها فسوف يجعلها عليلة. ويوم القيامة سوف يحظى بالنعيم من خلال هذه الحواس، أو يتلقى العقاب بحرمانه من الجنة. لذلك هناك حاجة للحرص الشديد على استعمال الحواس بطريقة تجعلنا نحصل على حواس مماثلة لها للحياة الآخرة.

لقد قلت إن الموضوع لا يتعلق بحاسة النظر فقط بل يتصل بكل الحواس، ذلك لأن القرآن الكريم يقول بعد ذلك:

وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ..

هكذا نعامل من يتجاوز الحدود ويتمادى في المعاصي ولا يؤمن بآيات الله ويرفضها. وسيكون العذاب القادم أشد قسوة وأطول.

وفي سورة المؤمنون الآيات (100 إلى 102) يقول القرآن الكريم:

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ..

يقول: ارجعني يا رب إلى حيث انتهيت لأعمل صالحًا وأحسن حياتي بأعمال جديدة طيبة. يقول الله تعالى: (كلا).. تنبهوا واحذروا.. لن يحدث هذا أبدا. كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا .. إنها كلمات اللسان فحسب لا طائل منها.. وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ .. هناك ساتر يبقى معلقاً بينهم وبين الحق إلى يوم الحساب.

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ..

عندما يحين الوقت لنفخ الصور لن تبقى بينهم القرابات ولن يستطيع أحد منهم أن يسأل عن أخبار الآخرين.

لقد تكرر القول من قبل أنه عندما يأتي وقت العقاب.. عندما يقترب الموت، لن ينفع دعاء في رد العقاب. وعندما يكرر القرآن هذا الموضوع مرة بعد أخرى فليس ذلك من غير داع.. وإنما تضاف عند تكراره موضوعات جديدة. والواقع أنه لا يوجد في القرآن الكريم تكرار واحد. قد يبدو أن هناك موضوعات متكررة في مواضع عديدة من القرآن المجيد، ولكن إذا ما تفكرت فستجد أن في هذا التكرار فائدتين: أولاً: عندما يقع الموضوع تحت نظر المرء مرارًا تتأثر منه الطبيعة الإنسانية لحد كبير؛ وثانيا: عندما يعرض القرآن هذا الموضوع مرة ثانية فإنه يقدمه بصورة مختلفة. ولن تجد تكرارًا واحدًا في القرآن دون أن يكون هناك في السياق ما يلقي مزيدًا من الضوء على الموضوع. فليس هناك تكرار محض. وإنما كل تكرار يتضمن حكمًا خفية لم تعرض في الموضع الآخر أو جوانب منها لم تذكر من قبل. ونفس الحال هنا. فقوله تعالى: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ .. قد يبدو موضوعًا ذُكر من قبل مرارًا، ولكن الله تعالى يضيف:

كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون .

ما هذا الذي يفصله هذا البرزخ عنهم؟

أحد المعاني لذلك أنهم لن يستطيعوا تماما إدراك ما سوف يكشف لهم في المستقبل بسبب هذا الساتر. ولكن بمزيد من التأمل نتعلم أنه يعني أن هناك ساترًا بينهم وبين الأعمال الصالحة لن يزول، ولن يتمكنوا من عمل الصالحات. مما يدل على أن المرء إذا مات في حالة المعصية فمعنى ذلك أنه كان قد منح كل فرصة لازمة لنجاته، ولكن الذي لم يتم اختبار ملكاته وقدراته تمامًا وأريد اختباره أكثر فإنه سيعطى حياة طويلة في عصيانه إذا كان خاطئًا، أو يمنح حياة أطول في حال التقوى إذا كان تقيًّا. ولكن لا يموت أحد ما لم يمتحن في تقواه أو عصيانه إلى المدى الذي يمكن به الجزم بأنه لو أعطي مائة ألف عام بل مليون عام من العمر فلن يحدث فيه أي تغيير. وهذا معنى قوله وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون . لقد رأيناهم حتى نهاية حياتهم، فلو زعموا أنهم لو أُعطوا فرصة أخرى لعملوا صالحًا فهذا قولهم بأفواههم. إنه كلام كاذب لا معنى له. لن يستطيعوا عمل الصالحات إلى يوم الحساب.. ولذلك توفيناهم في تلك الحال.

ثم زاد الموضوع بيانًا بقوله:

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ..

هناك سوف تنعدم الصلة بينهم وبين معارفهم الأتقياء. وكما لم توجد صلة بينهم وبين أعمالهم.. كذلك لن تبقى هناك رابطة بينهم وبين الصالحين من أقاربهم.. وبالأحرى ستبقى روابطهم مع الأشرار. في هذه الحياة الدنيا يمكن للمرء أن يسأل عن الصالحين من أصدقائه، فالأبناء والآباء والأقارب يعيشون معا الصالحون مع الطالحين.. لكن بعد الموت سوف ينفصل عالم الصالحين عن عالم غير الصالحين، ولن يتمكنوا حتى من السؤال عن بعضهم البعض؛ اللهم إلا كما ذكر القرآن أن يسأل بعضهم الله تعالى أن يريهم حال بعض الأصدقاء، وعندئذ يتيح الله لهم مشاهدة حالهم. هذا موضوع منفصل وهو استثناء من القاعدة العامة المذكورة في آيتنا هذه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك