سلسلة كيف نتمتع بالصلاة؟       
التاريخ: 1991-06-28

سلسلة كيف نتمتع بالصلاة؟       

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

دعوات الأنبياء وخلفياتها

 

خطبة الجمعة لمولانا الإمام الحالي للجماعة الإسلامية الأحمدية، حضرة مرزا طاهر أحمد -أيده الله بنصره العزيز- الخليفة الرابع لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ، ألقاها في ديترويت، الولايات المتحدة الأمريكية، يوم 28/06/1991.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (آمين)

بفضل الله تعالى أخطب هذه الجمعة من مدينة ديترويت بأمريكا حيث يحضر الاحتفال السنوي عدد كبير من جماعات أمريكا.

الجمعة والجماعة الإسلامية الأحمدية

منذ فترة.. أتناول بالشرح الأدعية المذكورة في القرآن الكريم.. التي دعا بها عباد الله تعالى الذين أنعم عليهم. وقبل المضي في تناول الموضوع أود أن أخبركم بإيجاز أن ليوم الجمعة صلة عميقة ودائمة بالجماعة الإسلامية الأحمدية. وجاءت الإشارة إلى هذه الصلة في سورة الجمعة من القرآن المجيد. والجمعة يوم اجتماع ولذلك سمي يوم الجمعة باللغة العربية، وذُكر أيضا في سورة الجمعة أنه سيأتي يوم يُجمَع فيه القوم الآخرون بالقوم الأولين.. وذلك في قوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ . فثمة جماعة من الآخرين الذين، وإن كانوا يظهرون بعد زمن طويل من أولئك الذين آمنوا بالنبي وكانوا أتباعه الأولين.. إلا أنهم سوف يُقرَنون معهم كما لو كانوا منهم. وهكذا فإن للجماعة الإسلامية الأحمدية رابطةً عميقة ودائمة بالجمعة.

وموضوع الأدعية التي أبحثها أيضا ذو صلة أخرى بجماعتنا . فلو أننا دأبنا على التماس نعم الله تعالى بدعوات الذين أنعم الله عليهم، وبانتباه خاص وتركيز عميق، فلسوف يجمع الله ببركتها الأيام الماضية إلى أيامنا هذه، أي يمكن أن تجتمع في أيامنا هذه لنا كل النعم التي أنعم الله تعالى بها في الأيام الأولى على كثير من عباده.

دعاء لسيدنا نوح

سنبدأ اليوم بدعاء سيدنا نوح .. وهو دعاء وجيز حفظه لنا القرآن في قوله تعالى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (القمر: 11). يا رب لقد تغلب علي المعارضون فانصرني. ويحكي القرآن الكريم خلفية هذا الدعاء في قوله:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (القمر: 10).

أي كذب قوم نوح عبدنا نوحًا. وهذا التعبير يعكس المحبة العظيمة والقرب الشديد لسيدنا نوح. لا يقول الله أنهم كذبوا نوحا، وإنما “عبدنا”. “وقالوا مجنون” ورموه بالجنون.. قالوا: تصيبه نوبات من الجنون.. “وازدُجِر” وأصابته لعنة من آلهتنا. عندئذ ابتهل سيدنا نوح وقال: ..أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ : ساعدني يا رب.. فقد غُلبت على أمري.

وإجابة لهذا الدعاء يقول الله تعالى:

فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا ..

أنزلنا المطر من السماء كأنه ينصَّب من أبواب مفتحة وباستمرار، وأخرجنا الماء من عيون الأرض.. فَالْتَقَى الْمَاءُ .. ماء السماء وماء الأرض عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ لأمر قدرناه. وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ وفي هذا الفيضان العارم حملناه وأنجيناه على مركب صُنع من ألواح الخشب والمسامير. تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا تشق عباب الماء أمام أعيننا .. جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ مكافأةً لهذا الذي كفَّر به قومه.

سفينة نوح

وهذا الدعاء أيضا له صلة خاصة بالجماعة الإسلامية الأحمدية لأن سيدنا المهدي والمسيح الموعود قد أخبره الله تعالى أكثر من مرة عن طريق الوحي بأنك سوف تواجه زمنا كزمن حضرة نوح، ولسوف نعينك كما أعناه. وعلى ضوء هذه الإلهامات كتب سيدنا المهدي والمسيح الموعود كتابا عنوانه (كشتي نوح) أي سفينة نوح. ولقد أتى على جماعتنا وقت لم نجد فيه طفلا واحدا لم يقرأ هذا الكتاب، ولكني أشعر أن هناك كثيرا من الأطفال والشباب من المسلمين الأحمديين اليوم في كثير من البلاد ربما سمعوا عن هذا الكتاب ولكنهم لم يتمكنوا من دراسته. ولأن هذه السفينة لم تصنع من الألواح والدسر وإنما صُنعت من التعاليم .. ولأن زمننا هذا هو زمن الدمار وزمن أنواع الفيضانات من الشر التي توشك أن تندفع بشدة.. لذلك فلا بد للجماعة الإسلامية الأحمدية أن يتفهموا موضوع (سفينة نوح) فهما كاملا، ويتعرفوا على السفينة التي سوف تنقذهم .. وإلا فمن لا يركب هذه السفينة فلا فرصة لنجاته.

يواجه إنسان اليوم صنفان من الخراب: أحدهما الخراب الروحاني والثاني الخراب المادي. وكما هو واضح مما يحدث فموضوع هذا الطوفان لن يتكرر اليوم حرفيا في صورته المادية وإنما سيتكرر مضمونه. ولهذا فالمراد من المطر من السماء وانفجار الماء من الأرض هو ما يجري في هذه الأيام من الدمار الروحاني الذي يصيب الإنسان من السماء؛ والدمار الدنيوي حيث يتعرض الناس بسبب المعاصي لأنواع العذاب، مما يسبب هلاكا ماديا للإنسان. فالعالم يتعرض اليوم لكلا النوعين من الخراب.

أساس النجاة

والتعاليم التي أوردها سيدنا المهدي والمسيح الموعود في (كشتىي نوح) يصعب كثيرا العمل بها مائة بالمائة، ويندر أن تجد شخصا يستطيع القول بأنه فَهِمَ بوضوح كل ما به من التعاليم، أو القول بكل ثقة أنه يعمل بها.

ولكن محاولة العمل بها هو في الواقع أساس النجاة. يسألني بعض الأحمديين: عندما نقرأ (كشتى نوح) لا نجد أنفسنا في هذه السفينة. إننا نرتعب من قراءة هذا الكتاب. لقد ذُكرت فيه أمور دقيقة.. لو فعلتَ كذا فلستَ من جماعتي، وإن فعلتَ كيت فلن تدخل في جماعتي، وبدلا من أن يكون قراءة هذا الكتاب رسالة سلام لنا نسمع عند قراءته صوتا من قلوبنا مخفيًّا يقول: لستم من ركاب هذه السفينة!؟

والواقع أن هذه الأفكار لا تنبعث في شخص أو بضعة أشخاص، بل كل إنسان ينصت إلى صوت ضميره تتولد في ذهنه هذه الأفكار. ومن خلال تجربتي أيضا وصلت إلى هذا الحكم. فقراءة هذا الكتاب تصيب الجسم بالرعدة أحيانا، ويظن المرء أنه لم يتمكن بعد من استحقاق الانتماء إلى جماعة سيدنا المسيح الموعود.

ولكن في نفس الوقت هناك وجه ثان أيضا. الحق أن السير في طريق رضوان الله تعالى غير ممكن بدون مشيئة الله وعونه. ويحصل المرء على العون الإلهي من خلال الدعاء. فالذي يداوم على الدعاء للدخول في (سفينة نوح) تقربه كل خطوة من سفينة الإنقاذ والحماية هذه. وعند أي خطوة يموت سوف يلقى الله في حال سلام.

هذا الموضوع قد وضّحه لنا تماما سيدنا محمد المصطفى في مَثَلٍ عن رَجلٍ كثير الخطايا لم يدع خطيئةً في الدنيا إلا ارتكبها. وذهب إلى كثير من الصالحين والعلماء وذكر لهم حاله التعيس ورغبته في التوبة وسأل: هل هناك أي باب للتوبة مفتوح أمامي؟ فكان كل عالم أو صالح يرد عليه: لا سبيل أمامك للتوبة. لقد أغلقت كل أبواب التوبة، فلم تعد هناك فرصة لك. وفي النهاية نصحه رجل صالح حقا: هاجِر إلى بلدة كذا فأهلها أتقياء صالحون، وعِشْ معهم واترُك أهل بلدتك الأشرار.. وهناك قد تتاح لك فرصة للتوبة.

وبهذه النية في قلبه.. مضى الرجل في طريقه إلى البلدة الصالح أهلها.. ولكنه مرض في الطريق ولم يستطع السير إلا حبوا على ركبتيه ويديه، ولم يزل يجر نفسه هكذا إلى تلك البلدة حتى أسلم الروح وهو في الطريق.

عندئذ توجهت الملائكة إلى ربها تسأله: إلى أي قوم ينتمي هذا الرجل؟ فقال الله تعالى: لقد نوى الرجل التوبة، وكان راغبا فيها، ولكن جسده لم يسعفه وخارت قواه.. ومع ذلك حتى النَفَس الأخير كان يتحرك إلى البلدة الصالحة يجر نفسه إليها. فقيسوا المسافة بين جسده وبين البلدتين.. فإن كان جسده أقرب إلى بلدة الصالحين فاعتبروه منهم، وإن كان أقرب إلى بلدة الأشرار فاحسبوه منهم. ويقول الحديث النبوي بلسان التمثيل أن الملائكة اشتغلت في قياس المسافتين.. فمد الله المسافة إلى بلد الأشرار، وقصر المسافة إلى بلدة الصالحين.. حتى وجدته الملائكة أقرب إلى البلد الصالح الذي كان يقصده للتوبة.

هكذا يعامل الله تعالى عباده. فهو الغفور الرحيم، والقنوط من رحمته كفر وإثم. فعلينا أن نحاول لتكون خطواتنا هجرة نحو الأبرار الصالحين الأتقياء. والواقع أن هذا المثل النبوي يتصل بالحديث النبوي الآخر: “إنما الأعمال بالنيات”. تكافأ أعمال الإنسان بحسب نياته.. فإن كانت هجرته إلى الله تعالى فسوف ينال ثوابه من الله تعالى، وإن كانت هجرته إلى امرأة أو مال أو أي غرض دنيوي آخر.. فمهما كانت كلمات لسانه، سوف ينال أجره بحسب قصده. فالتوبة الحق والنجاة النهائية لهما ارتباط عميق جدا بالنوايا.

إذن فإذا دعوتم بدعوات سيدنا نوح هذه يجب أن تتولد في ذهنكم فكرة الركوب في سفينة نوح.. وإلا لن تقبل هذه الدعوات وتكون بلا معنى. تدعون كما دعا سيدنا نوح وتقولون: لقد غُلبنا على أمرنا، وصِرنا بلا حول ولا قوة، لقد قهرنا قومنا بطغيانهم فساعِدنا، وبالرغم من ذلك لا تمضي خطواتكم من الناحية العملية نحو البلدة التي بها نوح الوقت.. ولا تكون هجرتكم إلى بلد الصالحين وإنما نحو بلاد الأشرار.. فأي نفع يكون في هذا الدعاء؟ إنه دعاء بلا معنى، ولا أثر له ولا قوة.

فلفهم موضوع الدعاء لا بد من أن نحاول لنكون مثل صاحب الدعاء. لقد مضى سيدنا نوح في جهوده لتبليغ رسالته إلى أقصى الحدود. لم يدع ناحية، مهما كانت ضئيلة، لتبليغ دعوة الخلاص لقومه إلا اتبعها. ولسوف يأتي ذكر ذلك في دعاء آخر، أما الآن فأريدكم أن تعرفوا صورة دراسة (كشتى نوح). ونوح اليوم هو ذلك الذي جاء في هذا العصر خادمًا لسيدنا محمد المصطفى . وفلك نوح اليوم هو ما ذُكر في تعاليم سيدنا المهدي والمسيح الموعود . فواظبوا على السعي للركوب في هذا الفلك، وداوموا على طلب الغفران من الله تعالى لتقصيراتكم. وإني على يقين بأن خطواتنا لو تقدمت باستمرار في هذا الاتجاه.. فسواء وصلنا هناك أم لا فلسوف يرفعنا غفران الله تعالى في أحضانه، ولسوف يأخذنا إلى تلك السفينة.

دعاء لحسم الخلافات

هناك دعاء قرآني آخر يتصل بالعلاقات المتبادلة بين المؤمنين. أثنى فيه القرآن الكريم على الأنصار أنهم كانوا قوما صالحين، وكيف قدموا بيوتهم للمهاجرين.. ثم قال:

وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (الحشر: 11).

فالذين جاءوا بعد المهاجرين والأنصار.. وقد بهرهم الثناء عليهم.. كانوا يدعون : اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان، ولا تدع انحرافا أو بغضا يتولد في قلوبنا نحو المؤمنين.. إنك يا ربنا رؤوف رحيم.

الأنصار والمهاجرون الذين نالوا درجات رفيعة عند الله تعالى.. تورطوا فيما بعد في بعض الخلافات وتعذر على المؤرخين فَهْمُ مَن وقع منهم في الخطأ ومن كان على الصواب، وإلى أي حد، وبتوريط أنفسهم في تلك المجادلات التي لا طائل منها انقسم المسلمون إلى طائفتين: شيعة علي وأهل السنة. وحتى اليوم، وبعد انقضاء 1400 عام لما يتخلوا عن هذه المجادلات: من الأفضل من الآخر، ومن ارتكب خطأ، وماذا صدر منهم من إهمال وتقصير!!

وذات مرة سألني صديق شيعي: من كان على الحق: سيدنا علي أم السيدة عائشة؟ فكان ردي عليه: إن الذين يستطيعون الجواب على هذا السؤال قد مضوا إلى ساحة المحكمة الإلهية. وهؤلاء قد وقفوا بين يدي الذي سوف يحكم بينهم وقدموا أمامه كل شيء لديهم. ومن ثم فلا داعي لأن تنصب نفسك لمثل هذه الأسئلة وتشتغل في هذه المجادلات السخيفة.

وحول هذه الآية رُوِيَ أن أحد الشيعة ذكر بعضَ الخلفاء والصحابة بالسباب في حضرة الإمام الباقر، وهو إمام تقي من أئمة الشيعة الأوائل. فقال الإمام الباقر في غيرة وتلا بجلالٍ وحماسٍ هذه الآية

وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ .

إنهم إخواننا الذين كانوا أول من آمن، وعن طريقهم وصلتنا هذه النعمة الإيمانية، ومن ثم لا يليق بنا أن نتلفظ بأي كلمة كريهة في حقهم.. وليس لنا إلا أن نلتمس منك يا ربنا أن تغفر لهم، وتجعل قلوبنا خالية من أي نوع من الحقد والالتواء نحو هؤلاء المؤمنين.. حتى لا تتولد لدينا أية أفكار سيئة نحوهم يا ربنا. أنت رؤوف رحيم.. فاجعلنا أهل رأفة و رحمة.

هذا الدعاء من أثمن الأدعية للمجتمع المسلم. ففي جماعتنا أيضا يحدث أحيانا اختلافات ثم تتحول إلى كراهية وتحدث الفرقة في داخلها.. هذا الدعاء بصفة خاصة ذو أهمية عظيمة لكم. كما ينبغي أن يكون هذا الدعاء أمام أعينكم عندما تتناقشون مع أهل السنة والشيعة. إنه خير قاعدة سلوكية تنطوي على التواضع والاعتدال، ويترك الأمر بين يدي (خير الفاتحين) .

دعاء أهل التكريم

وهناك دعاء لسيدنا إبراهيم والذين معه وتأسوا بقدوته. يصفهم القرآن الكريم أنهم لم يكونوا من المشركين، بل كانوا ساخطين على كل صنوف الشرك والوثنية، ووقفوا أنفسهم خالصة لله تعالى، وقالوا: رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . اللهم إن ثقتنا الكاملة فيك، وإننا نذعن لك وحدك.. وكل سبيل لنا يؤدي إليك. وعبارة وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ عبارة جميلة.. تعني أننا لا نستطيع الذهاب إلى أي مكان.. ومحتوم علينا في نهاية المطاف أن نصل إليك. وهو يشبه قولهم: (كل الطرق تؤدي إلى روما) وهذا القول السائر تشبيه غير حقيقي.. فليس كل الطرق تؤدي إلى روما. ولكن الحق أن كل الطرق تؤدي إلى الله تعالى. فالمؤمن والكافر كل واحد منهما تكون نهايته بالعودة إلى الله. فدعاؤهم

رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ

يتضمن رسالة عميقة أن مرجعنا إلى الله تعالى على أية حال. فسواء كنت كافرا أو مؤمنا.. فاسقا أو صالحا، ليس لك الخيار إلا الذهاب هناك، ولكن الذين بأنفسهم يتحركون نحو الله تعالى هم أهل التكريم.. وهم الذين يجدون الله. ولذلك قال سيدنا إبراهيم وأتباعه: إن ثقتنا فيك يا ربنا، ونحن قادمون إليك وحدك، ونعلم أن مصيرنا النهائي إليك. فمن كانت رحلتهم إلى الله باختيارهم سوف يمكّنهم الله تعالى للسير في طريقه ويمنحهم القوة ليجدوه في نهاية المسيرة. ثم ورد:

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

اللهم لا تجعلنا ابتلاء وامتحانا لمن كفروا بك.

معنى لا تجعلنا فتنة للذين كفروا وكلمة (فتنة) هنا لها معنيان: أولا: ألا نكون نحن سببنا في تعُّثر أحدٍ. لقد آمنا بك وتوكلنا عليك، وجئنا إليك.. فينبغي ألا نعثر في الطريق بحيث قد يتعثر من يشاهدنا ويقع في الابتلاء بسببنا فيضيع منه طريق الحق.

هذا دعاء عظيم الأهمية. وعلى كل شخص أن يختبر أفعاله بهذا الطريق، ويدعو أيضا حتى لا يكون سببا في سقوط أحد غيره. لقد شرح سيدنا المسيح الناصري هذا الموضوع وقال أن من كان سببا في تعثر غيره فخير له لو لم تلده أمه.. لأنه أيضا سوف ينال العقاب. ومن ثم يجب أن يسأل المرء المعونة الإلهية عن طريق الدعاء.

في جولتي بأمريكا كثيرا ما قال لي الإخوة أن من جاءوا من باكستان يفعلون كذا وكذا. وصاروا سببا في تعثرنا. لهؤلاء أقول أن الإسلام ليس دينا لقطر واحد.. إنه للعالم كله. إنكم لم تصدقوا بسيدنا مرزا غلام أحمد القادياني لصلته بالهند.. وإنما آمنتم به لانتمائه لمحمد . كان انتماؤه لذلك النبي الذي قال عنه القرآن الكريم (لا شرقية ولا غربية). إنه النور الذي لا ينتمي إلى شرق أو غرب.. إنما هو لهما جميعا. ثم وصفه القرآن بأنه (رحمة للعالمين).. أي لكل الأمم. فما دمتم تعرفون بأنكم آمنتم بسيدنا  محمد فلماذا هذه التفرقة الجغرافية؟ ولماذا التفكير بأنه لا بد أن يكون فلان وفلان خيرا منكم؟ إن الأفضل عند الله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ . التفرقة بسبب اللون أو العنصر قد انتهى إلى الأبد. إن ذا الشرف بينكم هو من كان ذا شرف عند الله. قلت لهم دائما: ينبغي أن تشفقوا على من يأتون من باكستان الذين تحسبونهم جاءوا سفراء للأحمدية.. وبدلا من أن يكونوا كذلك صاروا سفراء لبعض العيوب؟ عليكم أنتم كسفراء لسيدنا محمد المصطفى أن تنقذوهم بدلا من أن تتعثروا بسببهم. لأن الذين يتعثرون لن يكون عذرهم مقبولا. ولقد وضح القرآن الكريم هذا بجلاء. فذكر أن بعض الناس عندما يُحشَرون إلى جهنم يوم القيامة سوف يعتذرون قائلين: ربنا إن هؤلاء القوم الكبار أضلونا، وتعثرنا بسببهم. فيرد الله عليهم: إنكم جميعا تستحقون النار.. من كانوا سببا في تعثر غيرهم، ومن تعثروا بأسوتهم السيئة وتأثروا بتدبيراتهم الضالة. فتعاليم القرآن الكريم موجهة لكلا الجانبين.. وهي كاملة متوازنة.

مسئولية الأحمديين القدامى

وبقولي هذا لا أُقلل من مسئولية أولئك الأحمديين الذين نالوا تربية طويلة في باكستان أو الهند، وكثير منهم أبناء صحابة سيدنا المهدي والمسيح الموعود وكثير منهم رأوا صحابة سيدنا المهدي والمسيح الموعود، ومنهم من تعلّم وتربى على يد من شهدوا صحابة سيدنا المهدي والمسيح الموعود. هؤلاء عندما يذهبون إلى العالم الخارجي.. فمن الطبيعي أن يحسبهم الناس سفراء الأحمدية.. بغض النظر عن صحة هذا الحسبان أو خطئه، ثم يتخذونهم مثلا يحتذى للنجاة والخلاص. ولكن عندما يجدون فيهم الأخطاء فلا بد وأن تجرح مشاعرهم. إن الذين قد أنعم الله عليهم بفضله وثبت قلوبهم لا يتعثرون، ولكن الضعيف من بينهم يزل ويتعثر. لذلك هذا الدعاء الذي قاله سيدنا إبراهيم ومن معه ضروري للغاية: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا . وبقوله (الذين كفروا) وضح الأمر.. بأن الذين يزلون لا يُعفَون من المسئولية ما دام الكفر في طبيعتهم.. وهو سبب تعثرهم. عوامل الكفر وشروطه موجودة فيهم من قبل، ولو لم تكن بهم ما تعثروا. وبالرغم من هذا فلا يَود أصحاب هذا الدعاء أن يَكونوا حجر عثرة لبعض الظالمين.

والمعنى الثاني لكلمة (فتنة): لا تَدَع أعداءنا يتسلطون علينا ويعذبوننا. ولقد استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة في هذا المعنى أيضا في قوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ..

أي جعلوهم في محنة وابتلاء. فالفتنة ذات وجهين: الفتنة من المؤمن يتعثر أحد بسببه فيضلل بعيدا عن صراط الله تعالى. والفتنة من الكافر أن ينزل العذاب بأحد لإبعاده عن صراط الله تعالى. ونتيجة الفتنة واحدة وإن كانت من جهات متعددة وأشكال شتى. فالمؤمن لا يشكل ابتلاء بالعدوان والقسوة، وإنما يكون فتنة بسبب نقص أهليته أو بسبب أخطائه. والكافر يضع المؤمن في البلاء بأن ينزل به عذابا جسديا ليصرفه عن صراط الله.

إذا فهذا الدعاء مناسب لنا في الوقت الحاضر في كل أنحاء العالم. هناك أماكن يتعرض فيها للابتلاء من الأحمديين بسبب سوء أفعالهم وضعفهم، وهناك أيضا بلاد يلاقي فيها الأحمديون المحن من خلال الفظائع والآلام التي ينزلها بهم الآخرون. وفي الحالين كليهما يكون هذا الدعاء شاملا لكل العالم.. وطبقا لمعناه سوف يعطي ثماره، لذلك أريد من الأحمديين خاصة أن يستمروا في التماس معونة الله تعالى بهذا الدعاء.

ثم يبتهلون: وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وكلمة “العزيز” جديرة بالفهم.. فهي تعني السلطان والنبل.. ولا تعني القوة وحدها. إنه السلطان الذي يملك صاحبه النبل والشرف. إنه لا يسيء استخدام سلطانه.. وبكل تأكيد يفوز وينتصر. ومعنى العبارة: أيها الموجود المقتدر الذي يتصف سلطانه بالنبل والشرف؛ أيها الحكيم صاحب كل حكمة.. امنحنا القدرة مع الشرف، وامنحنا الحكمة أيضًا.

ثمرة التوبة النصوح

وهناك دعاء يأتي بعد ذكر التوبة النصوح. يقول الله إن الذين يصدقون في توبتهم ويخلصون أمام الله تعالى يمنحهم الله نورًا يمشي أمامهم وخلفهم ويحيط بهم من كل جانب. يقول القرآن الكريم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

أيها المؤمنون توبوا إلى ربكم توبة صادقة وكاملة.. فبها يمكن أن يزيل الله عنكم سيئاتكم، ويدخلكم جنات تجري بها الأنهار الدائمة، واذكروا أن يومًا سوف يأتي لا يلقى فيه نبي الله أي عار أو مذلة.. بل يؤتى كل شرف وكرامة. إن أهل الدنيا يسعون لإلحاق العار به.. ولكن كل جهودهم لهزيمته ستبوء بالفشل، وسوف ينال كل شرف.. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ سوف يلقون نفس المعاملة. نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ، لهم نور يجري أمامهم وعن يمينهم..

يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

معنى (نورهم يسعى)

هنا ذُكر أن نورهم يسعى أمامهم وعلى يمينهم.. فهل لا يوجد لهم نور عن شمالهم أو خلفهم؟ ليس هذا معنى الآية، وإنما معنى قوله نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ أن سبلهم مضيئة، وسيعرفون ما عليهم عمله. ذلك أن المرء يحتاج للنور كي يرى الطريق أمامه. فمثلاً إذا سرت في الظلام ومعك مصباح فأنت لا توجه المصباح إلى الخلف لتسير إلى الأمام. فسياق العبارة يدل على أنهم سيكونون في تقدم مستمر. وبقوله نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ رسم صورة جميلة لمشهد الخطى السريعة لسيدنا محمد وأتباعه. فكلما أسرعوا في خطاهم متقدمين كلما أسرع نورهم أمامهم.. وهذا يشبه الطير الذي في مقدمة السرب عندما يزيد من سرعته، لأن القادم وراءه قد زاد من سرعته. فالصورة التي رسمها القرآن الكريم تبين أن نورهم يسرع أمامهم حتى لا يتأخر وراءهم وهم يسرعون إلى الله تعالى.. وينير لهم الطريق.

(وبأيمانهم) أي جانبهم الأيمن (1).. والمعنى أن جانبهم الديني سوف يستضيء تمامًا. وهذا يعني أنهم لو ارتكبوا خطأ في أمور الدنيا فلا ضرر هناك. قد يجهلون بعض الأمور الدنيوية، ولكن لن يحدث أثر سيء على حياتهم الروحانية.

ثم يتضرعون إلى الله رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا .. اجعل نورنا كاملاً ليس به نقص. وهذا يعني أن (النور) ليس اسمًا لحال يمكن أن يكمل فيه الضوء. لقد ذكرتُ من قبل أيضًا أن النور يستمر في ازدياد بالتدريج، كما يمكن أن ينقص أيضًا بالتدريج. مثلاً النور الذي نجلس فيه هنا نحسبه حسنًا، ونستطيع رؤية الأشياء لمسافة بعيدة بوضوح كبير، ولكن لو خرجتم لتروا في ضوء الشمس وجدتموه مختلفًا تمامًا. وفي هذه الساعة لو ذهبتم إلى بلد من البلاد الحارة ذات السماء الصافية لوجدتم الضوء هناك ساطعًا لدرجة لا تستطيعون بها فتح عيونكم. فالنور تتغير طبيعته. وقولهم أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا يعني لا تزال تزيد لنا نورنا.

وقولهم (نورنا) يشير إلى شيء آخر. لقد جعل الله قدرات مختلفة في كل إنسان، والواقع أن الإنسان يتلقى النور من خلال هذه القدرات. العيون مرتبطة بالنور الخارجي، وكلما زادت حدة نور العين زاد انتفاعها من النور الخارجي. وإذا لم يكن في العين نور فلن ترى شيئا.. ولو كانت هناك ألف شمس مشرقة. ولقد أسدى الله تعالى إلينا معروفا عظيما بتعليمنا هذا الدعاء. ذكرنا أنكم إذا كنتم حقًا تريدون مزيدًا من نوري.. فعليكم أن تزيدوا نوركم الداخلي، وتدعوني أن أتمم لنا نورنا؛ أي إن بداخلنا عيوبًا ونقاط ضعف كثيرة تحول دون الانتفاع الكامل من نورك، فأزل بفضلك هذا الضعف حتى نكون أكثر استحقاقا للنور.

وقوله: (واغفر لنا) مرتبط بهذا الموضوع.. بمعنى أن قدراتنا التي منحتها لنا.. قد نكون أسأنا استعمالها، ولذلك ربما لا تقدر على الرؤية فنرجو غفرانك. لو كنا قد ارتكبنا بعض السيئات ووقعنا في الأخطاء.. نرجوك التجاوز عنها واغفر لنا حتى تستيقظ قدراتنا النائمة وتسري حياة جديدة في ملكاتنا الميتة. إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .. لو شئت أن تحيي ما يموت من قدراتنا فأنت قدير على أن تعيدها إلى الحياة.. ولكننا لا نملك ذلك.

لو أن شخصا ذهب إلى طبيب العيون ليفحص عينه، واكتشف الطبيب أن نور عينه الداخلي قد انطفأ.. أي فقد عصبه البصري في الحياة، عندئذ سوف يستسلم الطبيب بكل تواضع ويقول: لا أستطيع الآن فعل شيء. لم يعد باستطاعتنا أن نعيد الحياة إلى عصب بصري ميت. ولكن قوله تعالى: (إنك على كل شيء.. قدير) يحمل لنا بارقة أمل، إذ يعني: لقد علمتنا تجارب الحياة في الدنيا أن ما مات لا يمكن إحياؤه.. ولكنك يا ربنا القدير على كل شيء. القدير على إحياء الميت.. ونسألك كل شيء، ونعلم أنك قدير على كل ما نسأل، وتمنحنا كل ما نلتمس منك.

دعاء زوجة فرعون

ومن الأدعية التي حفظها لنا القرآن الكريم دعاء زوجة فرعون في قوله تعالى:

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .

هنا لقد ساق الله تعالى مثالاً لعباده المؤمنين إذ يشبهون امرأة فرعون في بعض النواحي. أي النواحي؟ عندما وجدت نفسها مغلوبة على أمرها، مظلومة لا حيلة لها أمام ملك شرير فاسق ابتهلت إلى الله تعالى: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ . ما أشد ما يثير هذا الدعاء من الألم في النفس. هذه السيدة تعيش في بيت فرعون عيشة تتعرض فيها للظلم وقلة المعين.. فهي لا تمتلك بيتًا لها. تفكر في أنواع البؤس تعيشها وفي رغبتها في عبادة الله تعالى، وأن تحيا حياة صلاح، ولكنها وضعت في بيت طاغية شديد الطغيان، يحكم على إمبراطورية واسعة، ويخشاه الناس.. ولو أنها غادرت بيته فإلى أين تذهب؟ ليس لها في هذه الدنيا بيت تأوي إليه. هذا هو معنى دعائها رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ . هيئ لي يا رب بيتا بالقرب منك في الجنة.. وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ أي خلصني من فرعون وسوء عمله، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .. وخلصني من القوم الأشرار.

والمؤمنون يمرون كذلك بمثل هذا الحال، ويكونون بلا حول ولا معين. يعيشون في بلد حاكمه ظالم وأهله ظالمون ولا يستطيعون الهجرة إلى مكان آخر. هناك من يقدرون على الخروج ويهاجرون، ولكن هناك أيضا الضعفاء مثل زوجة فرعون الذين لا يستطيعون مغادرة وطنهم.. لهؤلاء أيضا ترون كيف أن الله تعالى وفر وسائل الخلاص من المعاناة إذ حفظ لهم في القرآن الكريم هذا الدعاء القوي التأثير حتى ينتفع هؤلاء العاجزون من بركات هذا الدعاء، ويسألوه تعالى مباشرة ليمدهم بسبل النجاة مبتهلين إليه: إن بيوت هذه الدنيا لا قيمة لها.. فهب لنا بيتا بالقرب في جنتك.

لماذا دعا نوح على قومه

وهناك دعاء آخر لسيدنا نوح في سورة نوح الآيات 5 إلى 29، وهو دعاء مثير وحار جاء فيه صورة تفصيلية لما فعل سيدنا نوح لقومه. عندما يجد بعض الناس من الدعاة إلى الله أن كلمتهم رُفضت، أو أبدى لهم الناس احتقارًا.. فسرعان ما يفقدون الصبر ويلعنونهم ويقولون: لقد كذبونا ورفضوا قولنا.. فلسوف ينزل بهم عقاب الله تعالى. هذه أمور صبيانية وغير إسلامية وتدل على الغباء. إن أسلوب أنبياء الله تعالى مختلف تماما عن ذلك. إنهم يبلغون رسالة الله الناس حق تبليغ بطريقة لا يستطيع الرجل العادي تصورها، وبالرغم مما يبدو من هزيمتهم ورفضهم لا يودون أن ينزل عقاب الله على الكافرين إلا إذ أخبرهم الله تعالى بنفسه عن عاقبة أمرهم. لقد قيل لي في أمريكا مرات ومرات: إننا قمنا بواجبنا في الدعوة ولكن الناس لا يسمعون. ولكن هل قمتم بواجبكم مثل سيدنا نوح؟ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا .. لم أتوقف عن دعوتهم في أي مناسبة ليلاً أو نهارا. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا .. ولكن لم تؤثر دعوتي فيهم إلا إمعانًا في الازدراء والابتعاد عني.

وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ..

كلما دعوتهم كي ينالوا مغفرتك يا رب، سدوا آذانهم وغطوا رؤوسهم إصرارا منهم على رفض دعوتي، وأبدوا غطرسة وكبرًا كثيرًا. ولكني يا رب لم أقنط منهم وما زلت أدعوهم إلى صراطك بكل طريقة رأيت أنها قد تقنعهم بالإيمان، واستمريت في اتخاذ تلك الوسائل.

بعد سماع ذلك لا يمكن أن يفكر أحد في طريق آخر للدعوة. إذا عاملك أحد بهذه الطريقة، ووضع أصابعه في أذنيه، وغطى رأسه ووجهه، وردك باستمرار وإصرار واستكبار أنه لن ينصت إليك مهما فعلت.. لقلت لقد سدت كل السبل. ولكن سيدنا نوح استمر يقول: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ فقلت أن الناس في بعض الأحيان ينصتون إلى الدعوة العامة والإعلان المفتوح.. إذا لم يستمعوا في المقابلات الخاصة.. فذهبت إلى الطرقات ودعوت الناس علنًا. وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا .. دعوتهم سرًّا من خلال الإشارات والإيماءات والأمثال.. أن تعالوا إلى ربكم. فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا .. وما زلت أخبرهم: ربكم غفور رؤوف.. ينبغي أن تسألوه المغفرة كي يغفر لكم. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا .. ولسوف يمطركم بالبركات من عنده. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا .. ولسوف يبارك أموالكم، وينعم عليكم بالأولاد، ويهبكم الحدائق والبساتين ويجري خلالها الأنهار. مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا .. ماذا جرى لكم حتى لا تقدروا حكمة ربكم. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا .. وذكّرتُهم بماضيهم، وأخبرتهم بالأوقات التي مرت بهم قبل أن ينقلهم الله تعالى إلى الحال الذي هم فيه، وكيف جعلهم الله يتقدمون من مرحلة إلى أخرى حتى وصلوا إلى مرحلة البشرية. أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا .. ثم انظروا إلى ما قبل خلق الإنسان. ألا ترون أن الله تعالى خلق الأرض والسماوات مرحلة بعد أخرى في أزمنة متعاقبة، [RB]وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ووضع للقمر نورا في السماء ينير لكم الأرض بضوء بارد، وجعل الشمس متألقة ساطعة. وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا .. ولقد أخرجكم الله من الأرض كالنبات وطوّركم بالتدريج، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا .. وتذكروا أنكم لا بد في النهاية عائدون إلى التراب لتكونوا فيه ثانية، ولسوف يخرجكم منه مرة أخرى. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ممتدة أمامكم لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا كي تسيروا وتنطلقوا في طرقها الواسعة المفتوحة.

  قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ..

يا رب، مع أني فعلت معهم كل ما بوسعي إلا أنهم عصوني وما برحوا ينكرونني، واتبعوا من الأشرار من لم يحصّل من ماله وولده شيئا سوى الخسران.. أي إن أهل الدنيا هؤلاء يتبعون الأغنياء أو الأمم القوية مع أنهم يرون أن خطواتهم تقودهم في النهاية نحو الضرر والخسران. وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا .. وردوا على دعوتي إلى البر والتقوى بالتمادي في خططهم الخطيرة ضدي.

وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ..

وأعلن زعماؤهم مرة بعد أخرى ألا يتخلوا أبدا عن آلهتهم هؤلاء وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا من الناس. وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا وأنت يا رب جرت مقاديرك أن من يصر على الخطأ.. تعطيه الفرصة ليزداد في الخطأ نفسه. مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا .. بسبب آثامهم الكثيرة عاقبهم الله بعد غرقهم في النار.. ولم يجدوا من ينصرهم من الله، لأنه لا يوجد من يستطيع أن يغنيهم من الله شيئا.

وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ..

لا تدع يا رب أحدا من هؤلاء الكافرين على الأرض. لقد صدر منه هذا الدعاء بعد أن فعل كل ما يمكن وليس قبل ذلك. وذكر السبب في دعائه:   إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا .. لقد وصل الحال بهذه الأمة أنك إن تركتهم في الأرض لم يفعلوا شيئا سوى الضلالة والمفاسد والسيئات. ولن ينجبوا إلا ذرية تمعن في الخطأ والشرور. رب اغفِر لي ولوالدَيّ ولمن دخل بيتي مؤمنا، واغفِر لجميع المؤمنين رجالا ونساء.. أما الأعداء فلا يستحقون سوى الهلاك والدمار.

طوفان نوح لم يكن كونيا

وكانت ثمرة هذا الدعاء أن أنزل الله عليهم ذلك المطر المشهور وتدفقت ينابيع الماء من الأرض، وحدث “طوفان نوح” الذي يقال إنه غطى الأرض كلها. ولكن، كما قلت من قبل، يتبين من القرآن الكريم أن هذا الفيضان لم يكن كونيا ولكنه غطى فقط المنطقة التي سكنها قوم نوح، ولم يهلك فيه سواهم، وهم القوم الذين أبلغهم سيدنا نوح رسالته بلاغا تاما، وبالرغم من استماعهم وفهمهم لها من كل الوجوه أصروا على الكفر به وبرسالته. وهنا أيضا جاء الحل لمشكلة معينة. يقول الناس إن قانون الطبيعة ينزل المطر ويفجر العيون من الأرض، فكيفك يمكن القول بأن ذلك كان عقابا من الله تعالى؟ وهل ينسخ الله قانونه ويصدر قوانين خاصة؟ نجد الجواب على هذا اللغز في نصائح سيدنا نوح:   يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا .. أي أن الله تعالى سوف ينزل عليكم أمطارا غزيرة. ويبدو كأن هذا المطر كان منتظرًا بصورة وبطريقة استثنائية، لأن هطول الأمطار في تلك المنطقة كان مقدرا من قبل، وكانت هناك آثار وعلامات لذلك، ولكن لم يقل الله إن المطر سيكون مدمرا. إن المطر من قوانين الطبيعة كيفما يشاء. إنه ينزل المطر حقا.. ولكن لأي غرض؟ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ .. ليكون وسيلة زيادة ونماء في الثروة والذرية، ويترك وراءه أنهارا جارية. إذن فالأمر يتوقف على كيفية استخدام قانون الطبيعة؟ على الأمطار أن تهطل، وقد تصاعد البخار عاليا وتجمع وتكاثف في موضع ما.. وعندما ينزل المطر.. هل سينزل مجتمعا أم على فترات؟ هل سيترك منفعة وراءه أم يخلف الأضرار؟ هذه القرارات تتخذ بحسب أعمال الناس.. وهذا ما حدث بالفعل. ترون أن المطر قد نزل ولكن بطريقة أخرى.. فبدلا من أن ينفع دمّر كل آثر لهذه الأمة وقضى عليها نهائيا.

المعوذتان

والآن اذكر الدعائين الأخيرين المعروفين باسم المعوذتين، وتبدأ كل منهما بعبارة. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ..

الأولى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ .. يا محمد قل، واستمر في القول.. وعلى كل من يسمعك أن يبلغه للآخرين كي يقولوا قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ نحتمي ونلجأ إلى رب الخلق الذي يغير الليل إلى انفلاق الصباح، ويحول النهار إلى الليل، والذي بقضائه وقدرته ينبت كل شيء جديد. هناك تتشقق النوى وتنبت وتورق وتصير أشجارا، وهناك تنبت البذور وتتحول أنواع من النبات والخضرة، وهناك سيدة تحمل، وأخرى تلد طفلا كل هذا (فلق). حيثما يجري في الكون تحول إلى شكل جديد يسمى فلقا.. أو نظام فلق.

ويحثنا هذا الدعاء أن نقول أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ .. أي نواظب على الابتهال إلى الله تعالى. نلتمس اللجوء إلى رب الفلق.. الذي خلق هذا النظام بأجمعه. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ .. فهناك شر في كل خلق.. فأعطِنا يا رب خيره، واحمنا من شره. ترون أحيانا المرأة المسكينة الحامل تقاسي المصاعب لتسعة أشهر كاملة ثم يموت الوليد عند الوضع فلا نتمكن حتى من رؤية وليدها. وهناك من تنجب طفلاً يخلق لها المتاعب طوال حياتها ويسبب لها الآلام في تربيته فهو خُلق معوقًا بحيث لا يستطيع إطعام نفسه أو المشي أو رعاية نفسه. ففي الخلق.. هناك خير كثير.. والخير هو الأغلب، ولكن في نفس الوقت هناك فيه بعض الشرور الطبيعية. لذلك كان هذا الدعاء ضروريا هامًا يجب أن لا ننفك نلتمس به من الله تعالى أن يحفظنا كلما يتحول الحال إلى حال آخر.

  وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ومن شر الظلام حيثما تنتشر الفتن والشرور في كل جانب. وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ .. واحمنا من شر أولئك الذين ينفخون في العلاقات والصلات بمقاصد سيئة، ويحاولون إفساد العلاقات الإنسانية ويخلقون العداوة والبغضاء.

ضرورة إصلاح الأحوال الشخصية

هناك حاجة شديدة لهذا الدعاء لإصلاح الأحوال الأسرية. ولقد ذكّرتكم كثيرا ومرارًا أن تحترموا علاقاتكم من الأرحام وتحسنوا قراباتكم، وبالرغم من هذا لا يمر يوم إلا وتصلني أخبار محزنة من حماة أو كنة أو أم أو زوج أو زوجة أو بنت أو ولد.. يشكو بعضهم بعضا. حتى أن الأطفال يشكون من الآباء .. بأنهم يتحدثون إلى بعضهم بخشونة وقلة احترام. هناك آلام في البيوت طوال الوقت. يقطعون الروابط بدلا من وصلها. ونتيجة لذلك يتولد الشر والفساد، وتتحول البيوت من جنات إلى جحيم. لذلك علمنا الله تعالى هذا الدعاء ليحفظنا من كل نافث بنية الشر وإفساد العلاقات والروابط.

والمراد من النافث السحرة والمشعوذين والعرافون أيضا. والمعنى أنهم يحاولون نفث الشر بما يفسد الآخرين. وهذه العادات موجودة في أفريقيا حتى اليوم، ويكتب إلي كثير من الأحمديين في أفريقيا: كيف نحمي أنفسنا منها. وقد رد القرآن على هذه الأسئلة منذ 1400 عام. ولا يعني ذلك أن لنفثهم الشرير هذا أثرًا حتميًا. ولكن الواقع أنهم بنفثهم الشرير يفعلون بعض الشرور ويلجأون إلى الخداع، فمنهم من يستخدم السموم في الخفاء، ومنهم من يستعمل الأعداء لإيقاع الضرر، ويزعمون في الظاهر أن الضرر قد أصابكم بسبب نفثنا.

فهذا الدعاء للحفاظة من كل الشرور التي ينجم عنها انتشار الظلمات وقلة الأضواء، أو عندما يكون هناك خلق جديد يأتي بالشرور، سواء لكونه شرا بنفسه أو مصدرا للشر. إزاء كل هذه الاحتمالات علّمنا القرآن الكريم دعاء كاملا.

ثم يقول: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ .. احفظنا من شرور الحاسدين عندما يحسدون. وفي هذا الموضوع شيء من التعقيد، لأنه لا يقول احفظنا من شر الحاسد، وإنما احفظنا من شره إذا حسد. ومعنى ذلك أن الحاسد بذاته لا يضر أحدا.. ولكنه بسبب حسده عندما يتعمد عمل الشر، وعندما يدبر إيقاع الآذى يكون هذا وقت إضراره.. وإلا فإن الناس يحسدون وتشتعل فيهم نيرانه ولكنهم يضرون أنفسهم ولا يستطيعون الإضرار بأحد غيرهم. وكلمة حَاسِدٍ تدل على أنه في حالة حسد دائمة. وكلمة إذّا حَسَدْ تعني وقت ما يتحول حسده إلى عمل شرير مضر. عندما يدبر، عندما يتآمر، ويسعى للإيذاء.. ولا يدري الإنسان إلام يهدف الحاسد ولا يعرف ماذا يخطط. في مثل هذا الحال يدعو: احفظني يا رب من شره.

ثم هناك دعاء قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ .. قل دائما وادعُ الله تعالى طالبا حفاظته. وكلمة الناس تعني الناس العاديين أو الجنس البشري في مجموعة. والمعنى أعوذ بذلك الموجود المسئول عن معيشة كل بني البشر، المسئول عن رزقهم وتربيتهم، والمسئول عن تطويرهم من الدرجات الدنيا إلى الدرجات العليا، والمسئول عن الوفاء بحاجاتهم في كل الأحوال. أعوذ بالرب الذي هو الحق. ثم قال: مَلِكِ النَّاسِ .. هو الذي ملك كل الناس. ثم يقول إلَهِ النَّاسِ وهو الذي ينبغي تأليهه وعبادته على كل الناس. والإقرار بهذه الأمور الثلاثة… يغطي كافة احتياجات الإنسان ولا يدع مجالا يعمل فيه الإنسان إلا ويشمله هذا الدعاء. ولقد ألقيت على هذا الموضوع الضوء تفصيليا عندما تناولته في دروس القرآن في شهر رمضان المبارك في السنين الماضية وتحدثت عنه عدة ساعات. ولا أريد أن اكرر ما قلته هنا، وإنما أريد أن أخبركم بايجاز أن الرزق أي موضوع الاقتصاد والملكية أي موضوع السياسة والألوهية أي العبادة (عَالَم الدين).. تحت هذه الموضوعات الثلاثة.. تندرج كل اهتمامات الناس التي تسيطر على حياتهم من جميع نواحيها، وقد ذكرها جميعًا هذا الدعاء.

‏يعلمنا الدعاء أن نقول، يا رب لا تجعلني محتاجًا إلى الناس، وإنما اجعلني محتاجًا إليك. نفر من اعتمادنا على الآخرين إليك، ونعلم أن الرزق الحقيقي في يدك، لذا نرجو أن لا تدعنا نعتمد على غيرك، بل امنحنا رزقنا من عندك.

‏ثم نقول: وملوك الدنيا فيهم الطغاة .. وسنكون بلا حيلة إزاءهم . ونعلم أنك الملك الحق، وفي يدك أعناق كل الملوك، لذلك نعوذ بك من طغيانهم.

وبهذه المناسبة أروي لكم حادثًا مثيرا. ذهب ممثل كسرى إلى النبي يطلب منه أن أحضر إلي في خلال ثلاثة أيام وتوقَّفْ عن نشاطاتك وإلا قتلتك. فقال النبي للرسول: دَعني لبعض الوقت حتى أدعوا وأرى ماذا يريد الله. وبعد أن دعا وابتهل النبي أنبأه الله تعالى ليلاً بنبأ.

‏فقال لمندوب كسرى أن ارجِع إلى بلدك فإن ملكي الذي هو مالكي وربي قد قتل مَلِكَك هذه الليلة. وعاد الرجل وعلم من الأخبار بعد ذلك، فقد كانت الأخبار تحتاج زمنًا طويلا لتصل من إيران إلى اليمن في ذلك الوقت.. علم أنه في نفس الليلة التي رأى فيها النبي هذا المشهد.. قتل ابنُ كسرى أباه أباه بسبب مظالمه وفظائعه.

هذا هو معنى مَلِكِ النَّاسِ . إذا آمنت بأنه ملك الناس فقد آمنت بأنه قادر على حمايتك من أعظم ملوك الدنيا. ولكن عليك أن تؤمن بيقين راسخ بقدرته، كما أنت بحاجة للبقاء في مملكته. لو أنك خرجت من مملكته لتعيش في الممالك المادية… وكلما واجهتك مشكلة تهرع إليه تعالى وتدعوه عندئذ لن ينفعك الدعاء ولن ينجلي لك بمالكيته. لم يكن لسيدنا المصطفى مَلِكٌ سوى الله… لذلك سمع الله لدعائه، وأظهر قدرته بذلك البهاء والروعة. فإذا أردتم شهود تجلي الله تعالى بمالكيته (أي ملكة) فلا بد أن تبقوا في حدود ملكة فسترون كيف ينصركم الله.

‏ثم يقول: إِلَهِ النَّاسِ . هذا دعاء للخلاص من كل صنوف الأهواء. يقول الله تعالى في القرآن الكريم أن الإنسان في كثير من الأحيان يجعل هواه صنما له ولا يدرك أنه صار من عبدة الأوثان. يقول في الظاهر: (لا اله الا الله) … ولكنه يتخذ من الأشياء التافهة إلها له، ويتخذ من الناس الذين عندهم بعض القوة إلها له، ويفضل أهواءه على كل شيء… مثل هذا الشخص عندما يدعو بهذا الدعاء فلن يجد له أثرا، لأن الله تعالى سيقول له:

إنك تدعوني ربك، ولكنك في حياتك اليومية تتخذ مئات من الأرباب غيري. فلكي يكون لدعائكم أثر… لابد أن يكون معه عمل حسن. وإن لم تكن كل أعمالكم حسنة فعلى الأقل يجب بذل الجهد لذلك بنية صالحة حتى يكون لهذه الأدعية شأن. يمكن للإنسان على الأقل أن يقول بتواضع وخشوع: يا رب إني مذنب، وأُعاني من السيئات وكثيرا ما أخطىء، ولكن قلبي يجلك و يحبك، وأعلم أنه ليس هناك من يخلصني وينجيني سواك. إذا قال هذا الدعاء بتألم.. فسوف يستره الرب الغفور الرحيم ويصفح عنه أيضا.

‏ولكن الأمنية النهائية في القلب ينبغي أن يكون الله تعالى. وهذا هو معنى (إله).. فهو وحده المعبود والرغبه النهائية والمقصود النهائي. عندما يحدث ذلك يكون لدعائك قوة هائلة غير عادية.. عندما تقول إِلَهِ النَّاسِ .. أعوذ بهذا الرب السيد الوحيد لكل الناس. الذي لا يستحق العبادة سواه.

مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . مم أستعيذ بالله؟ من كل صنوف الوساوس الشريرة. الوساوس إسم لكل ما يوحي بالشر. عادةً يدعو المرء بالخلاص من الوساوس، ولكن المعنى الحرفي لقوله شَرِّ الْوَسْوَاسِ : من شر ذاك الذي يخلق الوساوس. وهو أيضا (الخناس).. أي يخلق وساوس الشر بهدوء وخبث … ‏ثم يتراجع مبتعدا.. فلا تعرف في كثير من الأحيان بماذا أوحى من الشرور وبذر من الشكوك.

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ .. سيأتي وقت يقوم فيه هذا الخناس بنشر الشكوك عن الله تعالى في العالم .. عن ربوبيته وعن عبادته وعن ملكيته.. وهو وقتنا الحاضر الذي نعيش فيه . في عالم اليوم قد ظهرت فلسفات لا تتخذ من الله تعالى ربا لها، وإنما تتخذ من البلاد القوية الدنيوية ربًّا، وصارت فكرة الاعتماد عليها قويه لدى أهل هذه الفلسفات. حتى أنهم عند كل حاجة سرعان ما يفكرون في هذه القوى قبل أي شيء آخر، ويلتمسون المعونة من هذا البلد أو ذاك.

‏انظروا الى البلاد الإسلامية كيف أنهم عند كل حاجة يحملون كيس التسول والشحاذة ويجرون أحيانا خلف أمريكا وأحيانا خلف الاتحاد السوفيتي، وأحيانًا يذهبون تجاه الصين .. ومع ذلك يقولون (الله ربنا): ففي الممارسات اليومية نجد أنه زمننا هذا هو الزمن الذي اتسع فيه مدلول الإله إلى آلهة كثيرة وأرباب عديدة أيضا!

‏يعلمنا الله انه سيأتي وقت تظهر فيه القوى التي سوف تقتلع جذور الإيمان، وسوف يخلقون الشك في القلب .. وبسبب هذه الشكوك لم تعتبروا الله ربكم أو ملككم، بل سوف تتخذون من الدول الكبرى أربابا وملوكا لكم، ولن تعتبروا الله جديرا بالعبادة لأن قلوبكم في الواقع العملي سوف تعبد أهواءكم.

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ

أي هذه القوى التي تخلق الشر موجودة بين كبراء الناس وموجودة أيضا بين عامه الناس. أنها موجودة بين الرأسماليين والبرجوازيين والطبقة العاملة.. أنها موجودة في الرأسمالية وفي الاشتراكية العلمية أيضا.

معنى الجِنة

كلمة (الجِنة) هنا تعني القوة العظمى، وكلمة (الناس) تعني قوى الشعوب. فالدعاء ينطبق في زمننا هذا من كافة الوجوه. ولهذا السبب كان سيدنا محمد المصطفى يقول هذه الأدعية قبل النوم، ثم ينفخ في يده ويمسح بها جسده، وليس في هذا العمل النبوي شيء من الإيمان بالخرافات. ولكن ما دام الله تعالى هو الذي يسمع الدعاء.. فلماذا نمسح على أجسادنا؟ ‏الواقع أن هذا تعبير عن المحبة. ففي بعض الأحيان عندما يجد المرء قطعة من ملابس محبوب لديه فإنه يمسح بها جسده، ويلمسها بوجهه ويقبلها. لذلك أرى أن مسح اليد على الجسم لم يكن يهدف أن مسح الجسم يحميه من الشرور … لأنه كان في حماية الله دائما ووعده الله تعالى بالعصمة كل وقت، وكان على ثقة من أن الحفاظة تأتيه من الله . فالنفخ في اليدين ومسح الجسم بها لم يكن الا تعبيرا عن المحبة والمودة لله. كان سيدنا المصطفى عندما يتلو آيات الله كان قلبه ينغمر فيها.. ويتدفق الحب منه، وبعاطفة عميقة ينفخ في يده ويمسح ‏ بهذه الكلمات الحبيبة سائر بدنه.

‏ولو أن جماعتنا دعت بهذا الدعاء بهذه العاطفة والحماس، ولو أننا قلنا هذا الدعاء في وقفاتنا من كل ركعة في صلواتنا الخمس اليومية:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ..

الذين سبقونا وما برحوا يسيرون في صراطك.. والذين اصطفيتهم ليكونوا محل نعمك، الذين أمطرت عليهم بركاتك، فأؤكد لكم أنه سوف ينعم عليكم بالنعم التي استحقها الذين أنعم الله عليهم من قبل.

‏هذه الأدعية التي كان يقولها هؤلاء الناس. عسى الله تعالى أن يمكننا من قول هذه الأدعية كما ينبغي أن تقال، وأن نسير بفضله في سبل هؤلاء الذين أمطر عليهم بركاته، ولا تزال تتنزل علينا من لدنه. آمين.

الخطبة الثانية

بدأت هذه الخطبة بشرح معنى كلمة (جمعة)، وبشرتكم بأن الجماعة الإسلامية الأحمدية هي الجماعة التي ذكرت في سورة الجمعة من القرآن الكريم، وأنها جماعة الآخرين.. الذين سوف يلحقون بالأولين.. بفضل من الله تعالى وبفضل تصديقهم المسيح الموعود.. وعملهم بحسب سنة سيدنا محمد المصطفى . بهذا المعنى سوف تتصلون بتلك الحقبة الأولى وليس بدونها أبدا.

‏ولكن هذا الزمن زمن الاجتماع من ناحية أخرى أيضا. فأهل البلاد النائية يجتمعون سويا بصور متنوعة يندهش لها عقل المرء. ولكي يؤكد لنا الله أكثر أننا نحن القوم الذين يتصلون اتصالا وثيقا بسورة الجمعة. خلق لنا مخترعات بحيث أصبحنا مرتبطين بالمسلمين الأحمديين الآخرين في أماكن بعيدة جدا ونحن هنا في مكاننا وكأننا نجتمع بهم في مكان واحد. وصلني تقرير عن خطبة العيد التي ألقيتها أنها سُمعت مباشرة في 24 بلدا في العالم.. وفي 63 جماعة في أنحاء العالم. ولسوف يتوطد هذا النظام، إن شاء الله تعالى ويمضي في الانتشار. وبهذا تكون الجماعة الإسلامية الأحمدية هي وحدها الجماعة التي أتاح لها الله تعالى أن تجمع هكذا الناس من أماكن شتى في هذا العصر على يد واحدة. وبهذا المعنى هذه بشارة لنا.. ولكنها في نفس الوقت تزيد مسؤولياتنا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك