سلسلة كيف نتمتع بالصلاة؟؟
التاريخ: 1991-06-21

سلسلة كيف نتمتع بالصلاة؟؟

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

دعوات الأنبياء وخلفياتها

خطبة جمعة لمولانا إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية، أيده الله بنصره العزير

ألقاها يوم 21 يونيو 1991 بواشنطن، أمريكا

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

أُلقى هذه الخطبة من مدينة واشنطن بأمريكا. وهذا الإعلان لازم لأن كثيرا من الجماعات تستمع الآن إلى خطبتي مباشرة ولما كنتُ في رحلة في هذه الأيام لذا أبدأ كل خطبة بهذا الإعلان ليعلموا من أي أخطب.

أهمية الدعاء

وسلسلة الخطب التي لا أزال بصددها تتعلق بموضوع الأدعية القرآنية، أي أدعية القوم الذين ورد ذكرهم في دعائنا اليومي الوارد في سورة الفاتحة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . ولما كان هذا الصراط شديد الوعورة فإني قد أوضحت منذ البداية أن السير فيه ليس ممكنا بدون معونة الدعاء، وأن القرآن الكريم قد علمنا كل تلك الأدعية التي استطاع بها أولئك الذين أنعم الله عليهم في الماضي السيرَ في هذا الصراط. فإهمالنا لهذه الأدعية ثم استمرارنا في الدعاء أثناء صلواتنا خمس مرات كل يوم.. طالبين الهداية إلى صراط الذين أنعم الله عليهم.. طريقة غير منصفة. فعجيب أن يدعو المرء للسير في طريق شديد الصعوبة، ومن ناحية أخرى يجهل تماما وسائل أولئك الذين ساروا في هذا الطريق ونالوا النعم من الله تعالى، وحفظ الله ذكرهم في القرآن الكريم بالتفصيل، مبينًا هكذا كان القوم الذين أنعمت عليهم، وهكذا كانت أفعالهم، وهكذا كان ابتهالهم إلي، وهكذا كنت أجيب دعاءهم وأزيدهم من نعمي.

دعاء في صورة شكوى

انتهينا مؤخرا من دعاء سيدنا أيوب.. ونتناول الآن دعاء آخر له يختلف أسلوبه قليلاً عن الدعاء السابق. يقول القرآن الكريم:

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (ص: 42)

أي نادى ربه وهو يتألم بشدةٍ، وقال إن الشيطان أصابه بتعب وعذاب شديدين. والاختلاف بين هذا الدعاء ودعائه السابق أن هذا يتخذ صورة الشكوى. لم يقل هنا: ساعِدْني أو افعَلْ لي شيئا بل صدر منه تعبير تلقائي عن الألم، كما يقول الطفل أن رأسه ينشق من الألم، ولا يضيف أي كلمة أخرى. وهكذا تكون أحيانا دعوات ضمنية معبرة عن الألم فقط، لا يصرح فيها بالكلمات، لكن يكون لها أعمق الأثر. ولذلك قال الله تعالى على الفور ارْكُضْ بِرِجْلِكَ . لم يقل: لقد استجبت لدعائك، بل قال: خُذْ فرسًا واركُضْه. هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ انظُر إلى ما في هذا المكان من ماء طيب، إنه بارد صالح للاستحمام والشرب.

وصفٌ لمهجر أيوب

الواقع أن هذا القول كان إشارة إلى الهجرة، لأنه يتبين من الأحداث القادمة أن الشيطان الذي أتعب سيدنا أيوب كان بشرًا من عصره. وهناك روايات كثيرة عن سيدنا أيوب، ولكن يبدو من القرآن الكريم أنه ما كان يعاني من مرض بدني فحسب بل إن عدوه أيضا جعل حياته لا تُحتمل من كل وجه. فقد سرق العدو أملاكه، ونشر الأوبئة المتنوعة في قطعان ماشيته، ووضعه في موقف مؤلم، وجعل بعض أفراد أسرته يسيئون به الظن ويتخلون عنه، حتى تقول بعض الأخبار أن زوجته أيضا هجرته.

لم يذكر القرآن الكريم كل هذه الواقعات، ولكن الطريقة التي خاطبه الله تعالى بها بعد دعائه تبين أولا أنه تعالى أمره بالهجرة، لأنه ليس من الحكمة أن يبقى أكثر من ذلك في مثل هذا المكان، وثانيا أن الله تعالى وعده بأنه سيهديه إلى مكان به عيون ماء لو اغتسل في مائها لبرأ جسمه. ولفظ (بارد) الوارد في الآية يعني أنه ماء يكون له بردًا وسلامًا. فبحسب ما بحثتُ كان سيدنا أيوب يعاني من أمراض جسدية أحدثت به تقرحات متقيحة، ولذلك كانت هجرته إلى مكان به عيون كبريتية يكون ماؤها عادة دافئا. وإذا كان جسم الإنسان يحترق من الالتهابات المؤلمة وإذا ما شُفي بالماء الدافئ فإنه دائما ما يعبر عن راحته وشفائه بقوله: أحس بالبرودة والهدوء، مع أن الماء دافئ فكلمه (بارد) لا تعني برودة الماء. وإنما تعني الماء (المبرِّد) الذي يجلب الهدوء والسكينة والشفاء. ولذلك لم أترجمها إلى (ماء بارد) وإنما الماء الذي يشفي.

وكان هناك أيضا ماء منعش للشرب، ولا يعني ذلك أنه نفس الماء الدافئ، فنحن نعرف أن هناك ينابيع ماء ساخن يستحم الناس فيها للعلاج من الأمراض، ويوجد بالقرب منها ينابيع أخرى من ماء شديد البرودة قد لا تحتمل وضع يدك فيها. وتوجد مثل هذه الينابيع في (كُلُّومنالي) (بالهند). أذكر أن سيدنا المصلح الموعود الخليفة الثاني لسيدنا المهدي والمسيح الموعود أخذنا إلى هناك ونحن صغار.. وكان الماء في أحد الينابيع شديد السخونة بحيث يستحيل أن يضع المرء يده فيها. وإلى جواره ينبوع آخر ماؤه شديد البرودة حتى إن حضرته قال لنا: من وَضَع يده فيها لدقيقة واحدة أعطيه جائزة، ولكن لم يستطع أحد منا ذلك.

فكان هناك في المكان المجاور الذي هاجر إليه أيوب الماء البارد (أي الشافي) إلى جانب الماء البارد أي المنعش كشراب.

ثم يقول القرآن الكريم:

وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ

أي أَعَدْنا له أفراد أسرته. ويبدو أنهم لم يصحبوه في هجرته، ولكن بعد أن تحسنت حالته عادوا إليه بالتدريج. ولم يقتصر الأمر على زوجته وأبنائه فحسب، بل وجد عائلات أخرى كانوا معه كأنهم أهله.

حب الأنصار للمهاجرين

من الحقائق أن رسولنا المصطفى عند هجرته ترك وراءه عائلات، ولكنه فاز في المدينة بعائلات وأقارب أكثر منهم عددا وأشد منهم حبا. ولقد أوفى أهل المدينة بحق الأخوة الروحانية. ولم ير المهاجرون من أقاربهم الأمن والدعة والمحبة كما رأوا من الأنصار في المدينة. كان منهم من أشرك المهاجرين في نصف ممتلكاته .كان بهم شوق عجيب شديد للتضحية بكل شيء لهم حتى إن أحد الصحابة ذهب إلى النبي وقال إنه اقتسم ماله مع المهاجرين ولا يزال عنده أكثر من زوجة، ويود أن يأذن له النبي كي يطلق نصفهن، فيتزوجهن المهاجرون الذين تركوا زوجاتهم في مكة!

وهكذا عندما هاجر سيدنا أيوب.. يبدو أنه وجد مثل هذا اللطف من القوم هناك، وكان ذلك بحسب الوعد الإلهي. ولولا ذلك لبدأ قوله: وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ غريبا، وهذه من بركات الهجرة. لقد لاحظتُ أيضا منذ قدومي من باكستان إلى بريطانيا أن هناك عائلات كثيرة تبدي نحوي محبة عميقة فكأنما جئت إلى أسرتي.

وليس هناك أي فرق، بل إنهم في كثير من النواحي أبدوا محبة ومودة أكثر. وعندما أتلو هذه الآية أتذكر أحداث المدينة المنورة، وأتذكر أيضا فضل الله تعالى عليَّ بعد رحلتي.

نكتة من الحكمة

وهنا نقطة من الحكمة تستحق التدبر. فأحيانا يصدر الدعاء في صورة ألم شديد وبدون أية كلمات أو سؤال ومع ذلك يستجاب. تحدثنا عن دعاءٍ لسيدنا موسى رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ .. كأنه يقول: يا رب أنا لا أطلب شيئا، فأنت أعلم بحاجتي، فكل ما تشاء أن تتفضل به علي فإني فقير إليه. ولذلك وفَّى الله تعالى كل حاجاته. ولقد فصّلتُ هذا الموضوع في الخطبة الماضية. وأسلوب دعاء أيوب مشابه لدعاء موسى. هنا تعبير عن الألم، وليس هناك طلب، ولكن الله تعالى يقول: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ .. أنت في ألم شديد، وكنت صبورا فافعل كذا وكذا، لم يذكر الصبر هنا، ولكن ينتهي الموضوع بالصبر بعد ذكر عطف الله تعالى ورحمته بقوله:

إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ..

لقد كان عبدا طيبا ذا صبر عظيم. فقوله: “نِعْم العبد” يشبه قولنا: ما أعظمه من رجل! يقول الله تعالى: لنا عباد كثيرون، ولكن من كان عبدا لنا مثل أيوب فهذا الذي يرضينا. لقد أبدى صبرا عظيما، ثم “إنه أوّاب”.. طالما أحنى رأسه لإرادتنا.

وهكذا ترون أن وراء قبول الدعاء وسائل ينبغي عليكم اتخاذها. فالتعبير عن الألم وحده ليس كافيًا، بل إذا كان الألم صادرا من رجل صابر فإنه يؤثر تأثيرا عميقا. لقد جربته بنفسي في المعاملات اليومية. إن بعض الناس يعبرون عن الألم لأمور صغيرة، والمرء يشعر تلقائيا بعدم الرغبة في إعطائهم شيئا ولو سألوا .. أعني لا يحب العطاء َلمن يعتادون التسول كما يحب أن يعطي للذين يسكتون ويصبرون ويصمدون. فعندما ينفذ صبرهم ويسألون يتفجر قلب المرء تلقائيا بالمشاعر، ويقول لابد أنهم في أشد الصعاب حتى بسطوا أيديهم. فأولا، كان صبر أيوب وراء قبول دعائه بهذه الطريقة، ثم كونه “أوابًا” بمعنى أنه كان دائما يهرع إلى الله لكل حاجة ولم يذهب قط لسواه كلما طرأت له حاجة أو اعترضته شدة، كان يلجأ إلى الله فقط.

لقد أبدى الله تعالى رحمته ومضت العاصفة. وعندما كنا نغادر السفينة سألني الوزير: من أنت؟ قلت: أنا مسلم. قال: هناك كثير من المسلمين غيرك على السفينة، فأي صنف من المسلمين أنت؟ فهمت هدفه وشرحته له. قال: بينما كانت السفينة تمثل مشهدا من مشاهد القيامة أدهشني جلوسك في هدوء متمالكا نفسك ولم تنزعج أبدا. قلت لأن الله تعالى في قوله: وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ أوصل إلينا الرسالة بشأن هذه السفرات القصيرة ذات الهدف القريب.. وذكرنا بألا ننسى هدفنا النهائي.. تلك الغاية حقيقة ومستقر دائم سنعود إليه. كنت أفكر أنه سواء رجعنا إلى الله اليوم أو غدا فأي فارق هناك؟

فهذا الدعاء والعبارة الملحقة به تمنح المؤمن قوة هائلة. فأولا أعتقد أنه ببركة هذا الدعاء ينجو المؤمن من كثير من المحن والمصائب، ولكن إذا وقع القدر أحنى رأسه لمشيئة الله باعتزاز وامتثال وطمأنينة. فادعوا بدعاء الذين أنعم الله عليهم.. شريطة أن يكون ذلك بنفس مشاعرهم والتعمق في معانيها. ولما كان الله هو الذي علم سيدنا محمدًا المصطفى هذا الدعاء، فقد علّمه أيضا مطالب عميقة لهذا الدعاء ولا يمكن لأحد إدراكها خيرا من المصطفى . قال الله له: ادع أنت وأصحابك بهذا الدعاء. ولكن اذكروا دائما أنكم في النهاية راجعون إلينا.

دعاء الإنسان الكامل

وهناك دعاء يمكن أن نسميه دعاء (الإنسان) أي الإنسان الكامل. إن الله تعالى قدم لنا هذا الدعاء هكذا بدون ذكر صاحب هذا الدعاء وإني على يقين أنه دعاء المصطفى . وهناك إلى جانب وصف (الإنسان) مؤشرات أخرى تخبرنا أنه دعاؤه .

يقول الله:

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (الأحقاف: 14).

وقوله لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ لا يعني أنهم لن يواجهوا مواقف مخيفة محزنة، بل يعني أن مواقف الخوف والحزن لا تستولي عليهم. ففي كل مواطن الخوف.. يسيطر عليهم خوف الله تعالى وينقذهم من مخاوف الدنيا. ويقع بهم أيضا الخسائر، كما جاء ذلك في موضع آخر من القرآن الكريم، ولكنهم لا يستبد بهم الحزن لهذه الخسائر.. عندما يفقدون شيئا يقولون: لا بأس، لقد مضى، والحمد لله.

شاب مبتسم

وتاريخ الأحمدية يخبرنا أنه في هذه الفترة أيضا خلق الله تعالى خدامًا لسيدنا محمد الذين جُردّوا من كل شيء، ولكن الابتسامة لم تفارق وجوههم ولم يحزنوا. ذكرت لكم من قبل حادثة الشاب الذي جاء ليرى الخليفة الثالث (رحمه الله) لسيدنا المهدي ، وذلك أثناء اضطرابات عام 1974 (بباكستان). وكنت أعمل عندئذ في الوقف الجديد، فجاء ليزورني أيضا. دخل المكتب وعلى وجهه ابتسامة عريضة في روح عالية. كان اسمه نصير. فقلت له: نصير، ما الموضوع؟ هل ربحت اليوم كثيرا فجئت سعيدا؟ قال: سألني سيدنا الخليفة الثالث نفس السؤال وكان جوابي له: سيدي، لقد فقدنا اليوم كل شيء في سبيل الله تعالى، لهذا تجدني سعيدا. كان عندنا مضارب أرز، وكنا بفضل الله تعالى أسرة ثرية. فهاجم الأعداء المضارب ولم ينفكوا يحملون السيارات بالأرز ويأخذونها للبيوت، ولم تهتم الشرطة بالأمر وما حضروا إلا بعد أن انتهى كل شيء وخربوا المصنع، وهدموا الجدران. واليوم أنا سعيد وراض لأن الله تعالى سوف يرد لنا كل شيء كما ضحينا بكل شيء له. هذا هو معنى وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .

وعلى العكس من ذلك تجد الذين ينقصهم الإيمان الكامل عندما تصيبهم خسارة بسيطة يهلكون حزنا. وهكذا ترون كم يكون الفارق عظيما بين خدام سيدنا محمد هؤلاء الذين تلقوا التربية الروحية منه، وبين غيرهم. يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا .. انظُر ما أعظم عبادي الذي يعلنون أني ربهم. و”الرب” تعني المربي، الذي يمنح كل شيء، الذي يزودنا بالقوت، ويرفعنا من المراحل الدنيا إلى الدرجات العليا. والناس يسمون الله تعالى “ربًّ” ومع ذلك يخشون القوى الدنيوية ويعتبرونها ربا. هذا غير صحيح، وإنما عبادي الذين قالوا أني  ربهم فهم لا يتجهون إلى أحد سواي لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .. لا يتغلب عليهم خوف دنيوي، ولا يحزنون مهما أصابهم من أذى، وإنما يقضون حياتهم في طمأنينة وهدوء. ما أعظم هذا الإنسان الذي يريد القرآن أن ينشئه، ولهذا قدّم الله تعالى هذا الدعاء على أنه دعاء (الإنسان) فهذه هي صفات الإنسان الكامل. تقول الآية: أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا سيبقون فيها ولا يخرجون منها، جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .. هذا جزاء أعمالهم. أما وقد صاروا لله بكليتهم دائما وأبدا فقد صار الله لهم دائما وأبدا.

إحسان النبي لوالديه!!

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا أي أوصينا هذا الإنسان الكامل.. محمدًا أن يكون عطوفا على والديه.

وهنا ينشأ سؤال: إن النبي لم ير والده حيث تقول الروايات أن أباه مات قبل مولده ، ولم ير أمه سوى فترة قصيرة جدا.. فما معنى أن يكون محسنا إلى والديه؟ الواقع أن هذه العظة الموجهة إلى الرسول هي في الحقيقة عظة لكل البشر، لأن كل عظة للإنسان الكامل تشمل كل الناس العاديين، ولذلك لم يكن هناك حاجة إلى مقدمة مطلوبة.

يقول الله تعالى وصينا الإنسان الكامل أن يعامل والديه دائما بإحسان. حمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا هنا يأخذ الموضوع صفة العمومية، وينطبق على كل الناس، وبعد ذلك يتخذ لونًا آخر. يقول: أنظر عظيم فضل الأمهات. كل أم تحمل جنينها في بطنها بصعوبة كبيرة، وتلده بألم شديد، وتحفظ الجنين في رحمها تسعة شهور بحيث يتطور من مرحلة بدائية للغاية إلى صورة آدمية. فالربوبية تعني التربية التي تنقل المرء من مرحلة متدنية إلى مراحل أعلى. والأم تقدم أعظم مثال لذلك في العلاقات البشرية. يقول الله تعالى: انظُر إلى الأم فكل أم ربَّت ابنها بصعوبة كبيرة في رحمها، ثم وضعته في مواجهة مخاطر عديدة.. وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ، ومدة حمله في رحمها ورضاعته من ثديها تبلغ ثلاثين شهرا. (إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة)، فإذا ما نضج واكتمل نموه ووصل إلى سن الأربعين..

قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا .

قلت إن الموضوع سوف يتغير فيما بعد. فالنصف الأول من الدعاء ينطبق على كل فرد من بني البشر، وكل إنسان تضعه أمه بنفس الطريقة، ولكن ليس كل إنسان يشعر بالامتنان والشكر. وهنا يعود الموضوع إلى سيدنا محمد .. حيث ذُكر الأربعين، وإلا فلا يقال عن كل إنسان أن سن بلوغه هو الأربعون. فالإشارة هنا بالتأكيد إلى سيدنا محمد . ذُكر أنه بعد اصطفائه للنبوة كان يدعو:

قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ..

يا رب مكِّني من الشكر لك على نعمتك التي تفضلت علي بها ثم كملتها. وهذا الكمال وارد ضمنا في النبوة، ولذلك قلت (كملتها). وترون أن الآية لم تذكر إحسان النبي لوالديه.. ذلك لأن والديه كانا قد رحلا عن الدنيا في صغره.. ويبدو كأن هذا الموضوع نُسج بخطين: مرات يكون عاما ومرات يكون خاصا. وعند العموم فإنه يغطي البشر جميعا، ثم ينكمش ليركز على سيدنا محمد . كان يدعو الله بأن يوفقه للقيام بواجب الشكر على نعم الله عليه، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل وأن تقوم بواجب الشكر نيابة عن والديه أيضا. ومن الحقائق المعروفة أن والِدَي المصطفى ماتا ولم يعرفا أن من ذريتهما سيكون أعظم إنسان على الأرض سيصل إلى أسمى الدرجات التي لا يمكن تخيلها. ولما كان لاحتمال أن يكونوا من الوثنيين، ولذلك لم يدع النبي لوالديه، وإنما قرأ لله تعالى بأنك فضلت عليهما أيضا بنعم عظيمة.. منها أنك قدرتَ ولادتي في بيتهما.. ولم يتمكنا من شكرك لأنهما لم يعرفا مدى هذا الفضل عليهما، فمكِّن لي يا رب أن أشكرك نيابة عنهما. وفي ظني أنه لا توجد طريقة أفضل من هذه للاستغفار لهما.. وهكذا يكون للنبي قد رد لهما صنيعهما. فترون كيف عولج هذا الموضوع وقيل ينبغي أن تذكروا إحسان الوالدين. فدعا ربه أن يمكنه من أداء الشكر باسمهما. ولا أعتقد أن الله تعالى لا يغفر لمن يشكر النبي الله باسمهم.

كيف نشكر الله؟

وقوله تعالى: وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ، هنا يعرّف الله تعالى معنى الشكر له. فالشكر الذي تعبر عنه بالكلمات ليس شكرا حقيقيا. كيف شكر المصطفى : وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ .. أن أعمل ما يرضيك دائما. وبهذا أيضا فسر فلسفة الشكر. المرء يشكر من أسدى إليه صنيعا برد صنيعه بصنيع مقابل.. ولكن المرء لا يستطيع أن يرد أفضال الله تعالى بصنيع مقابل. فماذا يفعل؟ عليه أن يفهم روح رد الجميل. فمن رُدَّ إليه الجميل يشعر بالرضا. إذا أهداك أحد هدية فإنك تردها إليه بهدية أفضل. وهذه الهدايا وقتية، وأحيانا لا يستعملها المرء، ويهديها لشخص آخر أو يلقي بها لعدم نفعها، ولكنه مع ذلك يسر ويرضى عند تلقيها ولو كانت صغيرة إذا قدِّمت بحب. فالمسألة سيكولوجية عميقة. قال لربه: لا أستطيع أن أسدي لك الجميل، ولكني على الأقل أستطيع إرضاءك، وما رد الجميل إلا للإرضاء. فوفّقني لأن أتمكن من القيام بالعمل الصالح. أنا لا أعرف أي الأعمال ترضيك، فاجعلني أعمل ما يرضيك وأن أستمر في عمله طيلة حياتي وأرضيك دائما. وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي وبالإضافة إلى ذلك أيضا اجعل ذريتي صالحة. وأنتم جميعا داخلون في ذريته، ليس الذين من ذريته المادية فقط وإنما كل من ارتبطوا أو يرتبطون معه بالإيمان به. إني تبتُ إليك وإني من المسلمين.. الآن الأمر واضحا تماما. النبي يقول: تعلم، يا رب، أني عُدت إليك. لقد تبت إليك توبة لم تكن من أحد قبلي. لا أريد أحدا غيرك. وبوسعي أن أعلن بأني مسلم. ولذلك يا رب ارحَمْ من يأتي بعدي ويقيم علاقة معي، ومكن لهم أيضا أن يفعلوا من الصالحات ما يرضيك.

محيط سامّ

أنهي خطبة اليوم بهذا الدعاء، ولكني أذكِّركم بأنه دعاء يحتاج إليه الجميع في كل مكان، وفي كل الأزمنة. وهذا الدعاء لازم وضروري في هذه الفترة، وفي هذا المكان الذي أخطب منه.. بما أشد من أي مكان آخر من العالم. إنكم تعيشون في محيط قاس، هواؤه سام. عندما يتنفس الأطفال هنا يصابون بنوعين من التلوث، أحدهما يمكن أن يراه الناس، وقد تنبهت له عقولهم، وهو تلوث الهواء بالجراثيم والغبار والغازات السامة المعروف في العالم كله، وقد حذر منه الجميع ويجاهدون للتحكم  فيه. ولكن هناك تلوثا هو أفتك من الأول، لأنه تلوث يفسد الروح ويوجد هذا التلوث في الجو بكثرة بحيث لو عرفوا ماذا يتنفسون لانهاروا من الفزع، ولكنهم لا ينتبهون له.

فعندما دعوتم فادعوا كي تنجوا من هذا التلوث. وادعوا لأصدقائكم أيضا كي ينجيهم الله تعالى منه. لأن هذا الهواء هو في الحقيقة دنس جدًّا. لقد رأيت كثيرا من الآباء الأحمديين يبكون لأن ابنة انزلقت من بين أيديهم، أو ابنا خرج عن طاعتهم. لقد تغير تفكيرهم، وتغيرت مفاهيمهم عن الحياة، ولم يعد ينفع معهم نصح ولا وعظ. ينظرون إلى الأمور من ناحية، وينظر آباؤهم إليها من ناحية مختلفة تماما. في مثل هذا الموقف لا يجد المرء عونا سوى في الدعاء. هناك أشياء كثيرة للعلاج تناولتها بالشرح في مناسبات شتى، ولسوف أذكرها إن شاء الله تعالى في المستقبل أيضا، ولكن الدعاء هو أكبر سند لنا. ومن بين هذه الأدعية أشعر أن الدعاء الذي تلوته عليكم آنفا هو أكثر ما نحتاج إليه اليوم فيما يتصل بالموقف في أمريكا، بل وفي سائر بلاد العالم.

عسى الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لتلاوة هذه الأدعية حق تلاوتها.. بإدراك عميق لمغزاها وبحرارة غير عادية. ندعو بها لأنفسنا ولذريتنا وأجيالنا القادمة.

اللهم، تقبَّلْ دعاءنا! آمين!

Share via
تابعونا على الفايس بوك