كيف نتمتع بالصلاة؟
التاريخ: 1991-06-14

كيف نتمتع بالصلاة؟

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

 

دعوات الأنبياء وخلفياتها

خطبة الجمعة لمولانا إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية، أيده الله بنصره العزيز

ألقاها 14، 6، 1991 في جواتيمالا، أمريكا الوسطى

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (الفاتحة: 1-7)

أخطب اليوم من مسجد (بيت الأول) في جواتيمالا. وكما يعلم أبناء الجماعة، لا تزال سلسة الخطب منذ فترة مستمرة في موضوع الدعوات القرآنية باستثناء الجمعة الماضية التي تغير فيها الموضوع؛ لأني خطبت في ترينداد، والجماعة هناك لا يعرفون الأردية، وقالوا: هذه أول فرصة في تاريخنا نستمع إليك شخصيا، فاجعَلْ لنا استثناء واخطُب باللغة الإنجليزية مقدرا مشكلتنا. وقد قدرت رغبتهم وفعلت ذلك. أما خطبة اليوم فستكون بإذن الله استمرارا لموضوع الأدعية القرآنية.

دعاء ملكة سبأ

هناك دعاء للملكة بلقيس ملكة سبا. قالت:

رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (النمل: 45)..

لقد أخطأت في حق نفسي، واليوم أنضم إلى سليمان في الإيمان بربه الله رب العالمين.

قبل ذلك، عندما زارت ملكة سبأ سيدنا سليمان قالت إنها كانت أسلمتْ فور تسلمها رسالة سليمان.. والشيء الغريب أنها تعلن هنا إسلامها مرة أخرى! الواقع أن سيدنا سليمان كان يعلم أن إسلامها السابق إسلام بكلمة اللسان فقط، ولم تعرف حقيقة الإسلام بعد. وهناك فرق بين الإسلام اللسان وبين الإسلام بعد الترقي فيه. ولذلك اختبرها سيدنا سليمان ومن خلال هذا الاختبار أبلغها الرسالة. لقد أذن لها بالدخول عليه في غرفة مهدت أرضها بالزجاج اللامع بحيث ينخدع الناظر ويحسب أن هناك ماء على الأرض. ولما دخلت الملكة رفعت ثوبها عن الأرض كما يفعل أي إنسان يخوض الماء. وعندما تبينت خطأها أدركت ما وراء هذا من رسالة. لقد أدركت بأن المظهر الخارجي ليس له حقيقة، وأن خلفه رسالة أخرى.. مضمونها هو وجود الله تعالى؛ فلا يصح أن ينخدع الإنسان بتألق ولمعان المخلوقات فينسى الخالق. وعندما تلقت هذه الرسالة أعلنت إسلامها في الواقع.

تقول الآية:

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا ..

عندما دخلت الغرفة ظنت أن بالأرض ماء صافيا يلمع، فجذبت رداءها إلى أعلى حتى انكشفت ساقاها. قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ .. قال سيدنا سليمان: إنه ممهد من الزجاج ولا شيء غير ذلك. قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي .

والظلم هنا له معنيان: الأول؛ إنها سمّت عبادة الأوثان ظلما منافيا للعدل. ولما كانت من قوم وثنيين.. لذلك فهي في الواقع تعلمت في تلك اللحظة فقط المدلول الحقيقي لوحدانية الله. فعنت بقولها : ظَلَمْتُ نَفْسِي .. كنت قبل ذلك أعيش عيشة الوثنية، والآن ندمت وتبت وأقلعت عنها.

والمعنى الثاني أن موافقتها الأولى لسيدنا سليمان على الإسلام كانت كإجراء رسمي ترضيه بها، وتقول له أنها معه. وهذا أيضا من الظلم. وأدركت أن سليمان يعرف حقيقة أمرها، ويعرف أنها ما تزال بحاجة إلى السير في طريق الإسلام واكتساب مرضاة الله تعالى. ولذلك فإن الانطباع التي تركته على سليمان من أنها أسلمت على الفور بعد أن تلقت رسالته كان ظلمًا منها، والآن تتوب عنه.

وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ..

هذه المرة قدمت إسلامها بطريقة أفضل وقالت: عقيدتي هي الآن هي كعقيدة سليمان.

وكما أن إسلام سليمان لا نقصه شيء.. وليس به غش أو فساد كذلك هو إسلامي.. فاقبل مني يا رب؛ وأنت يا رب الخالق الرازق الكافل لكل العالمين.

هذه الدعاء مفيد للإنسان في مواقف معينة. فهو يرتكب كثيرا من المظالم؛ ومع أنه في هذه الأيام لا يعبد الأصنام كما كان يعبدها الأقدمون، وربما لا يزال مثل ذلك الشرك في مناطق نائية.. ولكن الإنسان كما يقول القرآن الكريم، كثيرا ما يجعل من نفسه إلها، أو يجعل من رغباته وشهواته وأهوائه إلها. وفي مثل هذه المناسبات.. عندما يخطئ الإنسان بدون قصد.. ينبغي أن  يردد مثل هذا الدعاء الذي يتعلق بالتوبة الصادقة من الشرك، والتوصل إلى حقيقة الإسلام.

دعاء لسيدنا موسى

* وهناك دعاء لسيدنا موسى :

قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (القصص: 17).

وكلمة (ظلم) هنا ليست بمعناها في الدعاء السابق.. ولكنها تشير إلى واقعة تورط فيها سيدنا موسى ببراءة وسلامة نية. عندما يستخدم الإنسان العادي كلمة (ظلم) تكون ذات معنى أعمق .. كأن يكون قد ارتكب إثماء كبيرا، ولكن عندما يبتهل النبي أو الولي بخشوع وتواضعٍ أما الله تعالى ويعترف أنه ظلم نفسه فلا تؤخذ الكلمة بهذا المفهوم. فعندما قالت ملكة سبأ أنها ظلمت نفسها فذلك اعتراف فعلي بأنها كانت من عبدة الأوثان.. وتابت الآن من الوثنية، فكانت عبادة الأوثان في نظرها أيضا ظلما، وكانت حقا ظلما. ولكن الظلم الذي يتوب عنه سيدنا موسى يشير إلى تلك الواقعة الشهيرة عندما رأى رجلا من قومه يضربه رجل من الشعب الظالم المضطِهد لهم. فتقدم سيدنا موسى لمعونته وفي ذهنه أنه يتعرض لعدوان أحد الغاشمين. وكان موسى قوي البنية؛ فلما ضربه بكلمة أصابته في جزء حساس من جسمه.. في صُدغه مثلاً.. كان في ذلك حسب تصريح القرآن القضاء عليه، فلفظ نفسه الأخير. ولهذا السبب خاف موسى، ولم ينقطع عن التوبة والاستغفار وقال:

قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (القصص: 18).

لقد أنعمتَ عليَّ يا رب وغفرت لي.. فواجب علي أن أكون شاكرا ممتنا لنعمتك، وأعدك وعدا أكيدا ألا أكون بعد اليوم عونا لمذنب مجرم.

سِرّ قبول الدعاء

وفي هذا رسالة لكل امرئ يدعو ربّه. أحيانا يحسب المرء أن فلانا يدعو ويُقبل دعاؤه، وأنا أدعو ولا يقبل دعائي.. ذلك أن هناك نظامَ عدلٍ لطيفًا جدا لقبول الدعاء. فالذين يعرفون كيف يكونون شاكرين لله بعد قبول الدعاء، ويعلمون المتطلبات التي عليهم الوفاء بها بعد ذلك.. أولئك يتقبل الله تعالى منهم الدعاء أكثر وأكثر. ولكن ذلك لا يعنى بالضرورة أن دعاءهم وحدهم هو المستجاب، بل إن الله تعالى لا ينفك يعفو في كثير من الأحيان عن المذنب الذي يعلم الله أنه سوف يعود إلى ذنبه مرة بعد مرة. وهذا الأمر يتعلق بالعفو الإلهي وحده.. أي صفة الغفور. أما إذا أردت فهم سر قبول الدعاء، سرّ المعاملة التي بين الله تعالى وبين أنبيائه الذين يعاملهم الله برحمة خاصة ويقبل دعاءهم أكثر، فاعلمْ أنه تعالى يعاملهم هكذا لأنه يعلم براءتهم من الجحود، ويعلم أنهم بعد كل إحسان وفضل من لدنا يحاولون الشكر بالمزيد من الدعاء وطلب الصفح. لا يستطيع المرء أن يرد الجميل إلى الله تعالى على أفضاله؛ ولكن السجود بين يديه والتفكر في نعمه والتغني بحمده والثناء عليه يكون بشكلٍ ما عرفانا لأفضال الله تعالى.. فلهؤلاء الناس يبدي الله تعالى عفوا أوسع مما يبدي لعامة الناس؛ ويقبل دعاؤهم أكثر.

فيمكن للمرء أن يعتمد على العفو الإلهي أحيانا ولكن ليس بوسعه الاعتماد عليه كلية. فمن الضروري أن يصحح المرء من عاداته بكيفية تجعل دعاؤه مقبولا. ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الموضوع بطريقة أخرى فيما يتصل بالعلاقات الإنسانية المتبادلة. يقول القرآن:

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (الشورى: 41)،

أي إذا اعتدى أحد عليك فمن حقك أن تنتقم منه، كما أن من حق الله تعالى أن يعاقبنا على خطايانا؛ لكن من عفا بشرط أن يكوه عفوه مؤديا إلى الإصلاح، وليس تشجيعا على الجريمة، فإن ثوابه عند الله تعالى.

لقد ذكر هنا سرا عميقا لقبول الدعاء. يذكرنا الله أنه ليس لنا حق الصفح بلا حدود، فلو أدى صفحنا إلى تشجيع الخطأ  وجب علينا ألا نعفو؛ أما إذا كان الصفح يؤدي إلى تصحيح الخطأ، ويجعل المخطئ يصحح نفسه عرفانا وشكرا لما ناله من صفح.. عندئذ يستحق العافي ثوابا من الله تعالى، ولا شك أن ثوابه مضمون عند الله تعالى. هذا نفس ما ذُكر من قبل، ونفس المبدأ مقرر هنا فيما بين الناس من علاقات. فهناك رابطة عميقة بين آيات القرآن الكريم ونظام كامل يجمع بينها. إنها روابط متأصلة، وليس هناك آية واحدة لا ترتبط بآيات أخرى.

يجب أن تفهموا تماما معنى العفو. وكلما دعوتهم سائلين عَفو الله تعالى ينبغي أن يكون بكم رغبة صادقة مخلصة.. أنه إذا عفا الله تعالى عنكم فلسوف تتبعون سنن الأنبياء، وتعبرون عن شكركم، كما فعل أهل الله الصالحون.

حكمة العفو الإلهي المتكرر

هناك سؤال: لماذا يعفو الله تعالى مرارًا عن الذين يأثمون مرارا بالرغم من أنه تعالى حرم علينا تشجيع الجريمة بالعفو غير المؤدى للإصلاح؟

لقد فكرت كثيرا في هذه المسألة وأحسبني توصلت لجواب شافٍ. لقد تأملت ووجدت أن الله تعالى يبدي العفو مرارا لأولئك الآثمين الذين يتولد في قلوبهم الخجل. إنهم يتوبون حقا ولا يتشجعون على الإثم، بل يشعرون بالخجل الشديد، ويبكون أمام الله تعالى وقت الانفراد ويصرخون: ربنا اغْفِرْ لناـ فإننا أخطأنا، إننا آثمون وضعفاء جدًا. ولكن بعد ذلك يتغلب عليهم ضعفهم. وهؤلاء ليسوا يقينا كالذين إذا عفوت عنهم تشجعوا على ارتكاب الخطايا.

هناك أطفال في كل بيت، منهم من تدللهم أمهم فيصيرون سيئي الطباع بحيث يزعجون حتى الزائرين، وتكون زيارة هذه البيوت مشكلة. كلما أخطأ الطفل شجعته أمه على المزيد من الخطأ وتقول: لا بأس يا حبيبي. هذه هو الموضوع الذي يوضحه القرآن الكريم.. إذا أردت أن تعفو فاعف عن ذوي النفوس الكريمة الذين يتأثرون بطريقة صحيحة. ليس من اللازم أن يندموا ويتوبوا على الفور.. وإنما على الأقل يميلون نحو إصلاح أنفسهم. ولما كان الله تعالى علام الغيوب، وتصل نظرته إلى أعماق القلوب، فهو يعرف مَن هو صالح الفطرة مَن عباده وعنده شعور عميق بالخجل من خطئه.

فيعفو الله تعالى عنهم.. وهو يعلم بأنهم سيذنبون مرة بعد مرة، ولكنه في النهاية ستكون خاتمتهم صالحة. والفرق بينهم وبين المخطئين الآخرين أن هؤلاء يصرون على الذنوب ويستمرون فيها، ويتجرأون على ارتكاب الخطايا بلا حياء.. ودائما تكون نهايتهم سيئة. أما الذين يتوبون مخلصين أو يتوبون دائما فتكون عاقبتهم دائما حسنةً.

وهكذا قال الله تعالى عن موسى أنه كان ذا فطرة سليمة فعفوت عنه بلا شرط. ولكن تولدت في قلبه مشاعر عميقة من العرفان والشكر

قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ

لن أساعد بعد ذلك المجرمين.

دعاء آخر

* ثم هناك دعاء آخر لسيدنا موسى جاء فيه:

قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (القصص: 22).

عندما بلغت المسئولين أخبارُ الحادثة التي مات فيها الرجل عرضًا.. تشاوروا وقرروا عقاب موسى. فهم أمة قوية، والمسألة تمس كرامتهم. لم يفكروا هل مات الرجل عرضا أو عمدا.. إنما هناك رجل من المستعبدين تجرأ على رجل من الحاكمين.. فعرض هيبتهم للضياع! فقرروا قتل سيدنا موسى. فخافهم موسى وغادر البلاد سرا بعد أنه جاءه رجل منهم تأثر بصدقه وأمانته وأخبره أن هناك مؤامرة ضده ونصحه بمغادرة البلاد فورا. عند ذلك شرع موسى في الخروج ودعا ربه. قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ .. وفي هذا أيضا حكمة تسترعي الانتباه. إنه لم يستغفر الله لخطئه لأنه تعالى قد غفر له، ومن يغفر الله له لا يجد الجرأة على مهاجمته سوى الظالمين. لذلك قال موسى: لقد غفرتَ لي يا رب، ولكن الظالمين من هذا العالم لم يغفروا لي، فأرجوك أن تخلّصني من هؤلاء الظالمين. فأنقَذَه الله منهم.

دعاء يمس شغاف القلوب

* بعد ذلك دعاء سيدنا موسى:

رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (القصص: 25)..

يا رب إني سائل وإني بحاجة ماسة إلي أي خير تتفضل به عليَّ.

وهذه مناسبة شيقة. لقد هاجر موسى من مصر إلى أرض مدين حيث كان يقطن رجل صالح مع ابنتيه ولا ولد له. وجاءت البنتان إلى ماء عام طلبَّا للسقيا، ووجدتا هناك زحاما من الرجال، فاستحيتا ووقفتا جانبا تنتظران دورهما لملء أوعيتهما. وكان سيدنا موسى جالسا في ظل شجرة أو جدار فرآهما. ولما كان فتى شديد القوة رقيق القلب فإنه توجه إلى الفتاتين وأخذ منهما أوعيتهما وملأها لهما بالماء، ثم عاد إلى مجلسه في الظل. ولما لم يكن من عادته أن يمد يده لأحد طلبا للمعونة، فإنه اتجه إلى الدعاء. ويبدو أن دعاءه هذا كان نتيجة صنيعه الذي صدر عن قلب عطوف. ذلك لأنك لو استمعتَ إلى دعائه بانتباه أدركت المؤثر الذي دفعه للدعاء. لقد أسدى معروفا إلى فتاتين ضعيفتين لا حيلة لهما، ثم فكر: أنني أيضا جالس أمام الله تعالى ولا حول له ولا صديق.. فلماذا لا أتوجه إلى الله ليعينني؟ وهكذا صدر عنه هذا الدعاء الحزين العميق الذي يمس شغاف القلب.

حدث في بريطانيا أن جاء لمقابلتي بعض الناس بعد خطابي في إحدى المناسبات الدينية.. وكانت بينهم أميرة من إحدى البلدان. كانت قد استمعت لآيات من القرآن الكريم وتأثرت منها كثيرا. فقالت لي: اختر لي آية من القرآن تحبها جدًا، واكتُبْها لي من فضلك لأجعلها وِرْدًا يوميا لي. فكتبتُ لها هذا الدعاء، وفسرت لها سبب حبي له. في هذا الدعاء فوض موسى الأمر كله لله، ولم يسأل شيئا محددا، كل ما قاله: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ .. يا رب إني معوز محروم، وأنت تعلم حاجتي.. فماذا أطلب منك؟

ولقد قال سيدنا المهدي والمسيح الموعود هذا الدعاء أيضا بطريقة جميلة، فقال في بيت شعر ما ترجمته:

لقد أصاب لساني العيّ خجلا وحياءً. فأعطنى يا ربّ ما في قلبي. أي شيء أذكره لك؟ وأي شيء أسأله منك.

فقال سيدنا موسى: ضع أي شيء في حجري فلا أعلم ما أحتاج إليه لأني في الحقيقة لا أعرف.

ثمرات هذا الدعاء

وأحسب أن ما تتابع عليه بعد ذلك من نِعَم الله تعالى كان ثمرة هذا الدعاء، إذ حدث بعد ذلك أمرٌ في بيت هاتين الفتاتين. لقد بيَّنتا الحكاية لأبيهما وقالتا أنَّ رجلاً صالحًا قويًا شديدًا أجنبيًا كان يجلس في مجلسه، وقام بدون تعارف وسؤال، وساعدنا ورجع إلى المجلس دون أن يسألنا أجرًا، ولكنه يبدو في حاجة إلى مساعدة. فأرسل أبوهما في طلب سيدنا موسى. وعندما أتاه ماذا أعطاه؟ أولاً: أعطاه حمايته، وقال له: انْسَ ما حدث، فأنت الآن بمنجاةٍ فلا تخفْ أحدًا. وثانيًا: أعطاه مسْكنًا وقال له: بيتي هذا بيتك. وثالثا: عرض عليه أن يتزوّج من يختارها من ابنْتَيْه. ورابعا: ولكي يُزيل منه أي امتنان، عرض عليه الرجل الصالح أن يعقد معه صفقة عمل وقال له: اعمل عندي لثماني أو عشر سنوات، وبذلك لا يكون لي عليك أي صنيع. وبعد زواجه ومكثه برفقة هذا الرجل الصالح نستطيع القول أنَّ بذور التقوى والصلاح في قلبه قد نَمتْ بقدرٍ كبير. خامسا: في طريق عودته إلى بلده أنعَم الله عليه بنعمةِ النبوة. هذا هو السبب الذي جعلني أحبُّ هذا الدُعاء كثيرًا. إنّه دعاء ذو معنى واسع فلا يعتمد فيه المرء على براعته الشخصية، ولا يقول: أعطِني هذا وذاك، بل يترك الأمر كله في يد الله: أعطني من فضلك ما تعلمه من حاجتي.

دعاء لسيدنا لوط

* ثم هناك أيضًا دعاء لسيدنا لوط :

قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (العنكبوت: 31).

ومن الضروري أن نعرف خلفيّة هذا الدعاء. فالمفاسد التي كانت في قوم لوط تعرفونها ولا داعي لتكرارها هنا. يقول الله تعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (الآية: 30). في كل مرة كانوا يوبِّخونه، ويقولون: هاتِ ما عندك من عذاب الله. أي أنّهم سدُّوا باب الحديث والمناقشة وقالوا: لا داعي لأن تستمر في وعظك. لقد سئِمنا الاستماع إليك وقلنا لك ألف مرة أننا لن نتوقف عمّا نحن فيه. اذهب إلى ربّك.. واسأله أن يُنزل علينا عذابه الذي تُهدِّدنا به. بهذا الأسلوب السخيف من الاستكبار تحدُّوا عقاب الله، وعاملوا سيدنا لوطًا بالسخرية الشديدة.

ولكنكم ترونَ أنّه لم يدعُ الله لعقابهم وإنّما قال:

رَبِّ، انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ..

يا رب لا أريد إلا أن تُساعدني. ولكن الله كان يعلم أنَّ مفاسِدهم قد تجاوزت حدود الإصلاح، ولذلك أنزل بهم عقابه. ولكن سيدنا لوط لم يسأل الله مباشرةً أن يعاقبهم.

في أيِّ نارٍ أُلقيَ إبراهيم

* وهناك دعاء لسيدنا إبراهيم قال فيه:

رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (الصافات: 101).

  حاول قومه أن يعاقبوه بالنار، ويحسب بعض المفسرين أنّهم ألقوه في النار فتحوَّلت إلى جنة. بينما يصفه المصلح الموعود (الخليفة الثاني لسيدنا المهدي ) بأسلوبٍ روحانيّ ويقول: أنَّ لكل نبيٍّ نار معارضة يُشعلها أعداؤه، ومن نفس هذه النار تتجلّت له جنّته كمكافأة له من الله، تكون على هيئة قبولهم له وفوزه عليهم. فالنار المذكورة في شأن سيدنا إبراهيم هي على سبيل المجاز والتشبيه، ولا تؤخذ مأخذ النار الماديّة.

أما تحوُّلها إلى جنّة فهذا من قصص المفسرين. كل ما قاله القرآن الكريم يكفينا بأنّها كانت نارًا، سواءً كانت حقيقية أو مجازيّة، أي نارًا بالمعنى الروحاني وأنقذه الله منها وهزم أولئك الذين أشعلوها.

وسيدنا المهدي والمسيح الموعود كتب بتحدٍّ عظيم أنّها لو كانت نارًا ماديّة فإننا على يقين بأنَّ قدرةً إلهيّة خاصة قد أنقذت سيدنا إبراهيم من هذه النار. وقد تلقّى سيدنا المهدي والمسيح الموعود وحيًا ترجمته: “النار خادمنا، بل وخادم خُدّامِنا”. وقد تحقَّق هذا الإلهام ظاهريًا أيضًا. فلقد شاهدنا مرارا كيف هزم الله جهود أعدائنا المتوالية لإحراق الأحمديين في النار أحياء. ومنذ وقتٍ قريب في باكستان أحرق الأعداء قريتين أحمديتين وحوّلوهما إلى رماد، ولكن الله تعالى بطريقةٍ إعجازية مدهشة أنقذ الأحمديين من هذه النار.

وكان مولانا رحمت علي، رحمه الله تعالى، الداعية الإسلامي الأحمدي يعمل في أندونيسيا في مكانٍ لا أذكر اسمه بالضبط وكانت هناك معارضةٌ شديدةٌ ضده، وكان يشترك في مناظراتٍ كثيرة. وحدث بطريق المصادفة وليس لفعل فاعل أن شبَّ حريقٌ في مجموعة من المساكن التي كان يعيش فيها، وكانت البيوت من الخشب، وكان مسكنه في جانب تهبُّ الريح نحوه بشدّة، وكان الناس يحاولون النجاة بأنفسهم وإنقاذ ممتلكاتهم، واجتمع هناك حشدٌ كبير. وجاء الإخوة الأحمديون أيضا يحثُّون مولانا رحمت علي على ترك بيته بسرعة لأنّ النار توشك على الوصول إليه. فبدأ حضرته بالدعاء والابتهال إلى الله مُشيرًا إلى إلهام سيدنا المهدي والمسيح الموعود : “النار خادمنا، بل وخادم خُدّامِنا”، وقال: يا رب.. أنا خادم المهدي والمسيح الموعود، جئت هنا في خدمة وتبليغ رسالة الإسلام، اللهم حقِّق إلهامه في صالحي أيضًا. وإلى اليوم يذكر الإخوة الأندونيسيون هذه الواقعة بإعجابٍ عظيم، وبنشوةٍ روحيّة عارمة، ويحكون أنَّ النار كانت تنتشر وتقترب بسرعة حتى خفنا وارتعدنا من هول المنظر، ولكن ما أن اقتربت من بيته حتى هطلت الأمطار بشدّة وأخمدتها ولم تستطيع الوصول إليه.

وهكذا يُحقِّق الله تعالى الأنباء أحيانا بصورةٍ ماديّة أيضا. فليس من الضروري أن نلجأ في كل مرة إلى التأويلات الروحيّة. الله تعالى القوي القدير عندما يُريد فإنّه يصدر أمره للكون. والكون كله تحت سلطانه، ويخضع تمامًا لمشيئته، وينفِّذ كل أوامره. فلقد تحقَّق مضمون ذلك الإلهام لسيدنا المهدي والمسيح الموعود.. بأنَّ النار المادية أيضا لا تستطيع أن تتغلَّب على خُدَّامه الحقيقيّين.

على أيّة حال، إنَّ سيدنا إبراهيم عندما شاهد هذه الآيات الإلهيّة ترك ذلك المكان وهاجر..

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ..

أي ارزُقني ذريّةً صالحة.

العلاقة بين الهجرة والدعاء بالذريّة

ما هي العلاقة بين هذين الأمرين؟ ينجو إبراهيم من النار ويترك المكان مهاجرا، ويسأل الله أن يمنحه ذريّةً صالحة!! الواقع أنَّ سيدنا إبراهيم لم يكن ليُغادر قومه، مهما كان وقع عليه من ظلم، ما لم يكن واثقًا تماما أنّه لن يؤمن به أحد. فلمّا وصلوا في مظالمهم إلى أقصى حدّ، ولمـّا رأى أنَّ القوم جميعا بما فيهم آباؤه سوف ينزل بهم العقاب المدمِّر ولن ينجو منهم أحد، عندئذٍ مضى وحده. في هذا الوقت ابتهل إلى ربّه: اجعَلْ ذُريّتي تستمر، فانا عبدٌ واحد خاضعٌ ساجدٌ أمام جلالك، وسلّمتُ كل شيءٍ لك. إذا كانت ذريّة قومي سوف تهلك فهذا بسبب خطئهم، أما أنا مغادرٌ هذه الأمة ومهاجر، فارزقني بفضلك ذريّةً صالحة.

ويؤكِّد هذا المعنى آياتٍ عديدة من القرآن الكريم، والكتاب المقدِّس أيضًا. ونتيجةً لهذا الدعاء تلقّى سيدنا إبراهيم البشرى بأنّ الله سيهبه ليس ولدًا واحدًا صالحًا، بل سيُعطيه ذريةً تنتشر في الدنيا حتى لا تُعدُّ كالنجوم في السماء وحبّات الرمال.

يبدو أنَّ سيدنا إبراهيم ترك قومه بإخلاصٍ كامل جدا وتركهم نهائيا حتى وعده الله بإخراج عالمٍ جديد وأجيال جديدة من أمّته، ولأجل ذلك سمَّى الله إبراهيم وحده (أمةً) في موضعٍ آخر من القرآن الكريم.

ما هذه الحماقة

هناك أُناسٌ من جماعتنا يغادرون في سبيل الله تعالى أهليهم وعائلاتهم وجماعاتهم، ويعيشون وحدهم، ثم يُحسُّون بالإشفاق على أنفسهم. أما أنا فأرثي لحالهم وأقول: ما هذه الحماقة؟ لماذا تشعرون بالرثاء لأنفسكم! إنّكم تُحيون سنّة الأنبياء. إذا فعلتم ذلك في سبيل الله، فسوف يجعلكم الله أمة، حتى تكون أمتكم السابقة بدون وزنٍ أو قيمة. سوف تصغر وتختفي ولا يبقى لها شيء إلا ذكرٌ على صفحات التاريخ، ولكن في المستقبل ستبقى فقط ذريّة القوم الصالحين. هذه هي سُنّة الأنبياء، وقد تحقّقت هذه السُنّة في أروع صورةٍ في صالح سيدنا إبراهيم. فدعاؤه رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ دعاءٌ ذو خلفيّةٍ مجيدة، وله مستقبلٌ رائع. فعليكم أن تدعو لأولادكم بهذا المفهوم.

معاملة الله مع إبراهيمِ هذا العصرِ

وقد سمَّى الله سيدنا المهدي والمسيح الموعود باسم إبراهيم في أحد الإلهامات، وقد عامله الله تعالى في مسألة النار كما عامل سيدنا إبراهيم، وكذلك عامله الله تعالى كمعاملته مع إبراهيم في عائلته. فلما تخلَّى عن كل عائلته من الأعمام والأخوال تلقّى وحيًا من الله يقول: «يا غلام أحمد.. ينقطع نسل آبائك ويُبدأ منك». إنّه وحيٌ رائع، وثبت صدقه بصورةٍ عظيمة تُبهر العيون.

وهؤلاء الظالمون الأغبياء الذين يقولون لنا: أَرُونا آيةً واحدة “لمسيحكم الموعود”.. لو كان بهم ذرّةٌ من العدل فهذه الآية وحدها تكفيهم دليلاً على أنَّ حضرته  كان صادقا في دعواه، وكان الله تعالى يتحدَّثُ إليه، ويُبدي الآيات تأييدًا له. وبقدر ما بحثت، فإنّ سيدنا المهدي والمسيح الموعود تلقّى هذا الوحي عندما كان يسكن في قاديان من أسرةِ أجداده سبعون فردًا لم يؤمن به واحدٌ منهم. ثم طَفِقوا يموتون واحدًا بعد الآخر حتى انتهت ذُرّيتهم تمامًا بما فيهم أقاربه الأقربون والأبعدون أيضًا. كان هناك خادم منزلي عجوز في زمن سيدنا المهدي والمسيح الموعود يُدعى “بابا سندهي”، صَحِبنا ذات مرة إلى “دلهوزي” (أحد المصايف بالهند)، ليخدمنا. كان كبير السنّ ولكن قويّ البُنية. كنا نجلس إليه ونستمع إلى قصصٍ قديمة من أسرتنا وكان يحكيها لنا بسعادة بالغة، أخبرنا أنَّ مساكن أقارب سيدنا المهدي والمسيح الموعود أُغلقت بالأقفال واحدة بعد الأخرى. لقد امتلأت أول الأمر بالأرامل والأطفال، ثم أخذ الأطفال يموتون بالتدريج أيضًا حتى باتت خالية مهجورة. قال لنا: كان مرزا نظام دين والد “مرزا كلّ محمد” ضعيفا جدا في أيامه الأخيرة، وكان الحزن قد أثَّر على اتّزانه العقلي. كنت في بعض الأحيان أُدلِّكه فكان يطلب مني بسبب اختلاله العقلي أن استدعي له السيدة فلانة، أو السيدة فلانة، فكنت أقول: قد أُقفلت مساكنهم من زمان.

كان مشهدا مؤلما. ولكن قدر الله تعالى تجلّى هكذا بسبب شقاوتهم هم. إذ وجدوا جوهرةً ثمينة في شخص سيدنا المهدي والمسيح الموعود في بيوتهم ولكنهم لم يُقدِّروها وسَعَوا للقضاء عليها. ومن يحاول القضاء على رجال الله الصالحين فإنّ الله تعالى يكتب هلاكه ودماره. ربما لا يكون ذلك على الفور، ولكن هذا هو قدرهم في أغلب الأحيان، ولا يقدر أحد على إنقاذهم من مصيرهم هذا.

لم ينجُ من الموت أحد من أبناء مرزا نظام دين إلا ابنٌ واحد هو مرزا “جل محمد”، لأنه قَبِلَ الأحمدية، وفي ذرّيته أحمديون إلى اليوم، فلم تكتب الحياة لأحدٍ ممن لم يقبلوا الأحمدية، وكُتبت فقط لمن دخلوا فيها.

وكان هناك اثنان من أبناء سيدنا المسيح الموعود من زوجته التي كانت من عائلة أجداده، وهما مرزا سلطان أحمد، ومرزا فضل أحمد ولم يؤمنا بسيدنا المهدي والمسيح الموعود في حياته. فأما مرزا سلطان أحمد فكُتبت له الحياة لأنه آمن فيما بعد، وبقيت ذرّيته أيضًا، ولكن مرزا فضل أحمد الذي لم يؤمن فمات بدون أي ذرية تخلفه.

لقد درستُ هذا الأمر بتفصيلٍ تام، ووجدتُ في كل واقعةٍ آيةً عظيمة. كان هناك في عائلته رجلٌ قادرٌ على الإنجاب وأراد أن يتزوج، ولكنه أُصيب في عقله وصار فقيرا مجنونا. ثم قام بعملٍ سلب منه القدرة على إنجاب الأطفال إلى الأبد. وكان حضرة مرزا بشير أحمد يروي لنا هذه الحادثة، ويقول: كنا نرثي لحاله، ونخاف عليه أن يضرب رأسه في الحائط بشدة الحزن. كان يصرخ: ماذا فعلتُ بنفسي؟ أيُّ ظلمٍ ارتكبتُ في حقِّ نفسي. ليتني كنت قويا فتزوجتُ وأنجبت. ولكنه كان تحت قدر الله.

دُعاء صَنَعَ الأُمم

وكذلك قدَّر الله تعالى، أن ينقطع نسل آباء إبراهيم. ولعلَّ سيدنا إبراهيم على علمٍ بذلك، وعندي اعتقاد بأنَّ الله تعالى أخبره عن طريق الوحي بأنَّ الأرض التي سيُغادرها لن يبقى بها أحدٌ حيًّا، بل سيفنى كل من فيها من الأجيال، عندئذٍ دعا سيدنا إبراهيم: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ .. اللهم، امنَحْني ذرية، ولكني أُريد ذريةً صالحة، أُريد أن تكون لي ذريةٌ تقية في المستقبل. انظروا إلى عمقِ وصدقِ هذا الدعاء، فقد خرج من ذريّته سيدنا محمد المصطفى . لم تكن مجرّد كلماتٍ، ولكن الله تعالى نظر إلى عمق الدعاء.. وكيف خرج من أعماق القلب، وبأي المشاعر صدر، والألم الذي صاحبَهُ، وروح الإخلاص والثبات التي أخرجته. كل هذه الأمور تُكسِب الدعاء قوة. فالله تعالى يقول:

إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ..

الكلمة الطيبة تصل إليه ويدفعها ويرفعها إلى الله تعالى. كذلك هي حالة الدعاء. تشترك كل هذه العناصر معًا.. المشاعر القلبيّة، والأعمال الصالحة.. فتُكسب الدعاءَ قوةً غير عادية، وبمثل هذا الدُعاء تُصنع الأُمم.

دُعاءٌ عجيب

* وهناك دُعاءٌ لسيدنا سُليمان:

رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (ص: ٣٦).

اللهم أعطني مملكةً عظيمة لا تُعطى لأحدٍ من بعدي، فأنت خيرُ من يُعطي.

ويُثير بعض العلماء سؤالاً حول هذا الدعاء: هل هناك مبرّر ليسأل الله مُلكًا لا يناله أحدٌ من بعده؟ أليس هذا أنانية؟ فالناس عادةً يدعون لتستمر النِّعم في أولادهم وتزيد مقدارًا وحُسنًا! فأيُّ دعاءٍ هذا الذي دعاه، فعاد لعنةً لمن بعده!؟

يُخبرنا التاريخ أنّه بعد سيدنا سُليمان لم تبقَ نبوةٌ في ذريّته، ولم تستمر الإمبراطورية كما كانت. كان عصره أروع فترةٍ في حكومة بني إسرائيل. وما أن تُوفي حتى قامت الثورة وتصدّعت الدولة إلى قسمين، وحصل أبناؤه على الجزء الأصغر الذي فيه فلسطين وسُمِّيَ الدولة اليهودية. والجزء الذي بقيَ في حُكم ابنه ضمَّ فقط قبيلتين من قبائل بني إسرائيل، منهما قبيلة سيدنا سُليمان. وأما الجزء الثاني الشمالي فكان يضم القبائل الإسرائيلية العشر الأخرى التي عنها قال سيدنا المسيح ابن مريم : “ما جئتُ إلا لخراف بني إسرائيل الضالة”.

إنّ موضوعنا هنا هو الدعاء.. ولكني أحاول في نفس الوقت شرح هذه الأشياء لكم لأنَّ عبارة “خراف بني إسرائيل الضالة” تتردَّد في كتابات جماعتنا كثيرا. من هم وكيف كانوا؟ هؤلاء هم القبائل العشر الذين كانوا في المملكة الشمالية لليهود. كانوا يُدعَون “القبائل الضالة”، لأنه بعد حكم ٦٠٠ عام، أي مدة الحكومة الإسرائيلية في فلسطين، هاجمهم البابليون الذي ينتمي إليهم معظم الأكراد المعاصرين. كانت لهم دولة كبيرة. لقد دمَّروا الحكومة الإسرائيلية تمامًا، ونفوهم وشتَّتوهم في الدنيا. وتقول بعض التقارير أنّهم عاقبوهم بشدة، ولكن لم ينفوهم جميعا عندئذٍ، وإنما نفوهم جميعًا عندما هاجموهم من ناحية العراق.

على أي حال كان بنو إسرائيل قبل سيدنا عيسى ببضع مئات من السنين مشتّتين في العالم ولم يعد لهم أثر في وطنهم. والفترة بين سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام تبلغ ١٣٠٠ سنة. وظهر سيدنا عيسى بعد شتات بني إسرائيل بستمائة عام. وينبغي على المسلمين الأحمديين تذكُّر هذا الرقم لأنّ سيدنا المهدي والمسيح الموعود وهو مسيح أمة محمد ، ظهر أيضاً بعد ١٣٠٠ عام بعد النبي . عندما يتحدَّث الناس عن وجوه المشابهة بين المسيح الناصري والمسيح الموعود لأمة المصطفى ، فبوسعكم قياس الفاصل الزمني بالمسطرة تجدونها نفس الفترة. وكما كان قبل المسيح الموعود 12 مجدِّدًا بعد المصطفى كذلك كان هناك 12 مجدِّدًا في أمة موسى قبل سيدنا عيسى (عليهما السلام).

والآن نرى هل دعا سيدنا سُليمان باللعنة على أبنائه وقومه؟ جاء في القرآن قبل هذه الآية قول الله تعالى:

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ..

لقد وضعنا سُليمان في تجربة ووضعنا على عرشه جثّة، ولذلك سجد لربّه طالبا العفو وتاب. والمؤسف أنَّ كثيرا من المفسرين من خارج جماعتنا يُفسِّرون الآية بأنّ سيدنا سُليمان ارتكب خطيئة، معاذَ الله، وسمح لامرأةٍ أن تنام معه في سريره. إنّه لأشدُّ التفسيرات جهلاً. وعندما نطّلع على هذه التفسيرات فإنَّ قلوبنا تدعو لسيدنا المهدي والمسيح الموعود ، لأنّه أخرجنا من الظلمات إلى النور.

وللمرء أن يسأل: إذا كان هذا هو الحال فلماذا لعن قومه فجأة؟ إذا كان، معاذَ الله، قد ارتكب خطيئةً فهل جعل قومه وأبناءه يُقاسونَ بسببها؟ فيقول: يا ربِّ، قد وقعت في الخطيئة فعاقِبْ أبنائي وذرّيتي، وعاقب بني إسرائيل جميعًا، وأَنْزِل بهم الفناء من بعدي!

من المؤكد أنَّ الأمر لم يكن كذلك، وإنّما الحق أنّه عندما أبلغه الله أنَّ أبناءه ليسوا جديرين بوراثة عرشه، وغير لائِقين.. دعا ربه وقال: يا رب إنّي نبيُّك، وكنت أحكم بالعدل الكامل وبالتقوى. كنت أُؤدِّي واجب الحكم كما ينبغي أن يكون فلو أعطيتَ لأحدٍ غير صالح زمام الحكم على هؤلاء القوم فسوف يُنزل بهم ظُلما عظيما، ولن يكون جديرا بمملكةٍ عظيمة. ولذلك دعا دُعاءً يقوم على التقوى، أن ياربِّ، لا تَدَعْ هذه الإمبراطوريّة تستمر كما هي. فحقَّق الله دعاءه. فكانت آخر إمبراطورية يجتمع فيها النبوّة والحكم المدني في يدٍ واحدة. فالواقع أنّه ليس من عادة الأنبياء أن يلعنوا أحدا، ويدعو بدعاء جاهل هو بمثابة الانتحار. إنَّ دعاءه قائمٌ على التقوى إذ فَهِمَ أنّ من سيكون في يده مقاليد الحكم بعده هو غير صالح في نظر الله تعالى فلا ينبغي أن يورثه الله هذا الملك ويضع المسؤولية بين يديه، لأنّ الناس سوف يُقاسونَ منه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك