خلفية دعـوات الأنبياء
التاريخ: 1991-05-24

خلفية دعـوات الأنبياء

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

سلسلة كيف نتمتّع بالصلاة

 خلفية دعـوات الأنبياء

 خطبة الجمعة لمولانا مرزا طاهر أحمد إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية

أيدَّه الله بنصره العزيز

يوم 24، 5 ، 1991، بمسجد فضل، لندن

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ * (آمين)

مازلنا نتدارس دعوات أهل الله الصالحين الذين أنعم الله عليهم، وحفظها الله لنا القرآن الكريم. وقد حدث سهو فنسيت ذكر بعضها حسب الترتيب، ولذلك سوف أبدأ بها ثم أُكمل من حيث انتهيت.

دعاء يعوِّض عن الخسائر

* أول هذه الأدعية يردِّده المسلمون عادةً في حياتهم اليومية.. فَهِموا معناه أو لم يفهموا.. فيقولون: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .. ولعلّي سهوتُ عنه لأنه لا يشكّل صيغةً واضحةً من صيغ الدعاء. وقد ذكر القرآن هذا الدعاء في مناسبة الخسائر، ويقول بأنّ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ في المال أو النفس أو الثمرات.. وابتُلوا بالمِحن

قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (البقرة: 157).

وهو دعاء مؤثرٌ للغاية. ونتيجةً لهذا الدعاء غالبًا ما يجد المرء ما ضاع منه أو تُعوَّض خسارته. وقد ذكرتُ في إحدى خُطبي أنني اختبرته على بعض الأطفال الذين حفظوه في سنٍّ مبكرة وأخذوا يردِّدونه.. فكانوا غالبًا ما يجدون الأشياء المفقودة بطريقةٍ عجيبة. وقد تركتْ هذه التجارب في قلوبهم وعقولهم آثارًا عميقة لفتت أنظارهم إلى الدعاء دائمًا. ولكن سواءً وجد الإنسان ما ضاع منه أم لا، وسواءً تحقّق الدعاء ظاهريًا أم لا.. فإنَّ هذا الدعاء نافعٌ ويعوِّض الخسائر بل ويزيد.

ويُذكِّرنا قوله تعالى: إِنَّا لِلَّه بأنَّ كل ما نفقده ليس في الحقيقة مِلكَنا، إنّما هو لله تعالى. كل ما في الكون قد خلقه الله تعالى وهو المالك الحقيقي له، ونحن أيضًا من خلقه وملكٌ له. وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .. وفي النهاية مآلنا إليه. فلماذا يكون هناك حزنٌ لفقدانِ شيءٍ صغير؟ وما الفائدة من البكاء والعويل على خسارةٍ مؤقتة؟ فنحن أيضًا لن نبقى إلى الأبد.. وهنا يبدأ موضوعٌ جديد.. فالحزن أيضًا مؤقت، لأنَّ كل شيء عائدٌ إلى الله، وسنعود من هذه الدنيا المؤقتة إلى الحياة الأبدية.

فهذا دعاءٌ عميق. إنّه ليس بصيغة الدعاء ولكنه يتخذ لون الدعاء من إدراكنا أنَّ الله تعالى هو السيد المالك وكل شيء يرجع إليه في النهاية. وكأننا نقول: يا رب، لقد أعطيتّنا التملُّك المؤقت، ولكنك أنت المالك المطلق، وكلُّ شيءٍ يؤول إليك، فاحفَظْ مُلكنا المؤقت وأرجعه إلينا.

فإذا قلتَ هذا الدعاء متفهِّمًا هذا المعنى ومتفكِّرًا بتواضع.. فلسوف يترتّب على هذا الدعاء، بفضل الله تعالى، تعويض الخسارة، بل وتُمنح أكثر مما خسرت بطريقٍ عجيب. إنَّ أعضاء  الجماعة الإسلامية الأحمدية المخلصين، كثيرًا ما فقدوا ممتلكاتهم في أوقات المحن.. فسُرقت بيوتهم، وأُحرقت متاجرهم، وأكل المدِينونَ مستحقّاتهم ولم يُسدِّدوا ديونهم التجارية.. فأبدى هؤلاء صبرًا رائعًا لا مثيل له، وقالوا: وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .. ونتيجةً لذلك أعطاهم الله جلَّ وعلا 10 محلات في مقابل كل محل، وملَّكهم الله السوق بأكمله بدل محلات قليلة أُحرقت، ومكَّنهم من بناء بيوتٍ عديدة مقابل كل بيتٍ هدموه. هذه هي خبرة 100 سنة من تاريخ الجماعة. ومن قبل أيضًا كان تاريخ كل أمة محمد المصطفى في بلادٍ شتّى شاهدًا على ما لهذا الدعاء من أثرٍ فعّال.

كما أنّ هذا الدعاء يُعلِّم التواضع. فمع أنَّ المرء لا يحصل على شيء من حيث الظاهر، إلا أنّه يُبشِّر بنيل شيءٍ أكثر روعة. فالذين يوطِّدون علاقتهم بالله تعالى في تواضع بدلاً من التهافت على هذه الدنيا، ويرضون بالله تعالى بدلاً من الدنيا.. فإنَّ لهم في هذا الدعاء بشارةً خاصة بأنّهم كشيءٍ افتقده الله تعالى ولسوف يجده فيجدونه . إنَّ أعظم الثروات التي يمكن تخيُّلها في هذا العالم، بل في الآخرة أيضًا، وكل ما يحسب الإنسان أنّه أغلى شيء.. هو الوجود الإلهي. ولذلك يقول الله : لماذا تحزن على خسارةٍ بسيطة في حين أنّك في النهاية سوف تفوز بربِّك؟

إنَّ كل شيء يعود إلى الله بلا شك، إلا أن القرآن الكريم يُبيّن أنَّ هناك فرقًا: فعباد الله تعالى الذين تهفو نفوسهم دائمًا إليه، وينتجه تفكيرهم دائمًا نحوه هم الذين يعودون في الحقيقة إلى الله. أما عبيد الدنيا فلن تكون عودتهم إلى الله تعالى. وقد يبدو أنَّ في هذا تعارضًا ظاهرًا. حيث يقول القرآن في بعض المواضع: إنَّ هذا الكون إلى نهاية ولن يبقى منه شيء، وكل ما كان موجودًا يؤول إلى لا وجود، وكل شيء حيّ أو غير حيّ سوف يعود إليه ولن يبقى سوى الله تعالى، وفي آيةٍ أخرى يقول: إنَّ القوم المتعالين الذين ضاعوا في ملذّات الدنيا لن يعودوا إلى ربِّهم! ولكن لا تعارض هناك بين القولين.. وكل ما تعنيه الآية أنَّهم لن يجدوا الله تعالى، لأنَهم سيعودون إلى الآخرة عميانًا فلن يروا شيئًا ولن يتلقوا شيئًا من قرب الله.

إنَّ الذين يفقدون شيئًا ويتحلُّون بالصبر، ويُعزُّون قلوبهم أنَّ كل ما لهم هو لله، فإن عاد إليه فما الضرر في ذلك، فلسوف نعود نحن أيضًا إليه.. لهؤلاء بشارة بأنّكم ستنالون أكثر مما ضاع منكم. إذا كنتم فقدتم شيئًا مخلوقًا فستجدون الخالق.

فعليكم بالغوص إلى أعماق الدعاء والتفكُّر فيه حتى تنتفعوا به. وعلِّموا أولادكم هذا الدعاء منذ الصغر.

دعاء امرأةُ عمران

* ثم هناك دعاءٌ في سورة آل عمران (الآيات 26 إلى 38) لامرأة عمران حيث يقول القرآن:

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ..

أي اذْكُرْ تلك المرأة من بيت عمران التي قالت: يا ربِّ، إنّي وقفتُ لك ما في بطني وأُحرِّره خالصًا لك، فتقبَّله مني كما تريد ذكرًا أو أنثى، فأنت السميع العليم.

هذا هو الدعاء الذي أعلنتُ على ضوئه مشروع ((وقف نو)) (الوقف الجديد)، ودعوتُ النساء اللاتي يتوقّعنَ عاجلاً أو آجلاً مواليد ان يقفنهم قبل ولادتهم. فعلتُ هذا لأني وجدتُ أنّه في المشاريع السابقة للوقف لم تُتح للسيدات فرصة ليقفنَ أنفسهنَّ، وليس من الإنصاف بالنسبة للسيدات ألاّ يكون لهنَّ نظامٌ للوقف كما للرجال، حتى لا يُحرمنَ من هذه البركة. فأنارت لي هذه الآية أنّه لو نذرت السيدات ما في أرحامهنَّ لله تعالى لكان جيدًا ويُعتبر هذا وقفًا منهنَّ. فإذا أنجبنَ بناتٍ تُقبل البنات أيضًا كنذرٍ من الأمهّات، فأحيانًا تتفوّق البنت على الولد وتكون أحسن منه حظًا، كما هو الحال مع السيدة مريم التي كان مولدها استجابةً لهذا الدعاء من امرأة عمران.

معنى محرَّرًا

وكلمة (محرَّرًا) تحتاج كثيرًا من التأمُّل. فمن دعا بهذا الدعاء يجب أن يكون في ذهنه معنى (محرّرًا). عندما نقف حياتنا يبدو كما لو أننا نخرج من الحرية إلى السجن. فقدنا حريتنا كلّها وتقيّدنا بأغلال الوقف إلى الأبد! هناك أطفالٌ كثيرون يقول لهم آباؤهم: يجب أن تفكّر جيدًا قبل أن توقف حياتك، لأنه ارتباطٌ مدى الحياة. لن يبقى شيءٌ ملكٌ لك. ستُضحّي برغبتك وإرادتك لن يكون لك وطن، بل ستُلقي بك الجماعة حيث تشاء، وتنتزعك من حيث تعيش، وتُبقيك هناك كما تشاء في أي الظروف تشاء. إنّها ستكون حياةً شاقة للغاية. ليس فقط أنّك سوف تعيش في المستوى العادي جدًا من وجهة نظر الدنيا، وإنّما التضحية بمحض إرادة المرء بحيث لا تبقي هناك إرادة، هي التضحية العظيمة حقًا، وهذا ما ستواجهه.

هذا ما يقوله الآباء لأولادهم عمومًا. وفي مقابل هذا يُقدِّم القرآن الكريم موضوع الوقف بأسلوب مختلف تمامًا. فيقول بأنَّ هذه المرأة الحكيمة ابتهلت إلى الله أنَّ ما في بطني أُقدِّمه لك خالصًا، وأُحرِّره. أُحرِّره من ماذا؟ أُحرِّره من متطلّبات الدنيا. أُحرِّره من العبوديّة للشيطان، من أي شيء سوى الله أو ما يأتي من غير الله. وفي قوله: (مُحرَّرًا) تعريف جديد للحريّة. لقد بيَّنت هذه الكلمة أنَّ الحرية الحقيقة هي نذر النفس كليّةً لله تعالى. وهذه تجربةٌ يمرُّ بها كل الواقفين المخلصين المـــُدركين لروح الوقف، ويعرفون أنّهم بقبول العبودية لله تعالى تخلَّصوا من آلاف العبوديّات.

هذه إحدى الطرق لشرح موضوع الوقف للأولاد. يجب أن تزوِّدوا أولادكم الموقوفين بتربيةٍ روحانية على ضوء هذا الدعاء، وبعد فهمه جيدًا. إذا ربّيتموهم هكذا فلن يعتبر أحدهم وقف الحياة عبئًا ثقيلاً، ولن يحسّ بالمرارة بسبب أي قيد، بل سيعتبر قيود الوقف هي الحرية الحقيقية.. إذ تحرَّر من كل رقٍّ سوى الله تعالى.

إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . انظروا عمق الحكمة في هذا الدعاء الذي صدر من امرأة ليست نبيّة، ولكن الله تعالى قدَّر دعاءها وحفظه في القرآن إلى الأبد، وعرض دعاءها كنموذج لجميع الواقفين. وكل الأطفال في مشروع (وقف نو) هم بركة هذه الحكمة الموجودة في هذا الدعاء التي أُلقيت في قلبي.. وبسببها ناديتُ بالبدأ في مشروع (وقف نو).

بنت تفوَّقت على الرجال

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ ..

كانت نذرت بما في بطنها أيًّا كان، وكانت تظنُّ أنه يكون غلامًا.. ولكن هذه هي طُرق الله المدهشة. عندما تقرأ في القرآن دعاءً وتتابع الأحداث تحسُّ بروحٍ فُكاهية خفيّة في التعبير الإلهي، وتجد صلةً عميقة بيت الدعاء وبين قبوله. فكأنَّ الله يقول هنا: ما دمتِ قد نذرتِ لي ما في بطنكِ أيًّا كان فسأخلق ما أشاء، وليس من اللازم أن يكون غلامًا. فلما ولدتْ البنت قالت:

قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ..

أليس هو جلَّ جلاله الذي خلقها في بطنها؟ فالمعنى المتبادر هنا كأنّها تُخبر الله تعالى بما هو أعلم به، ولكن المعنى العميق أنها لا تدري أنَّ هذه الطفلة ستكون أفضل من الغلام كثيرًا. مريم تنظر إلى صفاتٍ جسدية، ولكني اختبرتها وأيضًا قبلتُ دعاءها في أحسن صورة. فالفكاهة الإلهية ليست كفُكاهة البشر خشنةً أو جارحةً، بل فيها بركةً خفيّة. ولله تعالى طُرقٌ دقيقةٌ للغاية في قبول الدعاء. فهو في الظاهر يُذكِر الإنسان بالخطأ الذي صدر في دعائه، ثم يغفره له في نفس الوقت.

وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ .. لا يمكن أن يكون الرجل كهذه المرأة. وهذه عبارة لها معنيان: أحدهما أنَّ الأطفال العاديين لا يمكن أن يُباروا هذه الفتاة.. فهي فتاة رائعة. والثاني أنَّ هذه الفتاة بالنظر إلى نوعها لا يوجد لها مثيل في الصبيان ذكورًا وإناثًا. ففي هذه الفتاة خصائص تجعلها مكتفية بذاتها، وليست بحاجة إلى الرجل لإنجاب الأطفال كعادة النساء. ومن هذه الناحية فهي متفوقة ولا شكّ على سائر النساء ولكنها فاقت الرجال أيضًا. عندما تفكَّرتم في الدعوات القرآنية. ينبغي أن تدرسوا بعُمق ما وراءها من خلفيّة وما يليها من موضوع. وعندئذٍ يكتسب دعاؤكم أيضًا سعةً وعمقًا. تبقى الكلمات كما هي، ولكن المعاني لن تزال تتسع، ولن تجدوا فيها مضمونًا واحدًا، بل في كل مرة ستجدون موضوعًا جديدًا. هذه هي خبرتي.. كلما تفكرتم كلما وجدتم بفضل الله تعالى مزيدًا من المعاني في نفس الدعاء.

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ..

لقد أحسن الله تعالى استقبالها وجعلها تنشأ في صورةٍ رائعة. في هذا درسٌ لأولئك الذين يُشاركون في الوقف الجديد (وقف نو) كي يُربُّوا أولادهم تربيةً روحيّة بهذا الأسلوب حتى يشبُّوا في صورةٍ تختلف عن الأطفال العاديين. يجب أن يُنشِّئوهم ويربُّوهم بطريقةٍ ممتازة جذابة. وهذا ممكن فقط بالدعاء.

دعاء سَحَرة فرعون

* ثم هناك دعاء السَحَرة الذين آمنوا بسيدنا موسى والذين قالوا:

رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (الأعراف: 127).

لقد مرَّ هذا الموضوع من قبل بشكلٍ آخر. وما يعنيه هذا الدعاء أنَّ السَحَرة تحدّوا فرعون: افعَلْ ما بدا لك مما هدَّدتنا به من العذاب، ولكننا لن نتخلّى عن ديننا الذي أنعم الله به علينا، وسنبقى متمسِّكين به. ولكنهم تذكَّروا فورًا أنَّ هذا غير ممكن إلا بمعونة الله تعالى. هذا مرادنا، ولكن الإنسان ضعيف.. ولذلك لابدَّ في مثل هذه الأحوال من طلب المعونة من الله تعالى.

فكل مؤمن يُقرِّر قرارًا صالحًا نابعًا عن التقوى نصيحتي له أيضًا أن يبتهل إلى الله تعالى ويستمدَّ منه العون عن طريق الدعاء، وإلا فإنَّ الأهداف وإن كانت صالحة مبنيّة على نيّةٍ صالحة وإخلاصٍ صادق ليس من الضروري أن يتمكّن الإنسان من الوفاء بها.

وقالوا أخيرًا: وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ .. اقبضنا إليك ونحن في حال طاعة لمشيئتك.

دعاء موسى ليرى ربّه

* وهناك دعاءٌ شهير لسيدنا موسى طلب فيه نظرةً إلى الله تعالى. لقد كان يتمتّع بلمحاتٍ من الله تعالى كل يوم، ولكنه أراد بهذه النظرة شيئاً آخر. يحكي القرآن الكريم:

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (الأعراف: 144-145).

عندما جاء موسى في الموعد المحدد وفي المكان المعيّن للقاء الله تعالى وكلّمه الله.. قال موسى: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ . تعبيرٌ جميل؛ يقول أرني كي أراك. وكأنه في اللغة المعتادة يقول: اكشف لي كيف أنت حتى أراك بعيني. قَالَ لَن تَرَانِي : لا يا موسى.. لن تقدر على رؤيتي، ومع ذلك أنظر ناحية الجبل، فإذا ثبت مكانه أمكن لك أن تكون قادرًا على رؤيتي. فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا .. تفتّت الجبل وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا .. وغُشيَ على موسى،

فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ .

بدأ هذا الكلام بدعاء وانتهى بدعاء.. ولذلك تلوتُ الآية كلها كي أخبركم بالموضوع الذي بسببه قال موسى: تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ .

هناك روايةٌ تتصل بهذه الآية أثارت بعض الإشكال وتجادل حولها علماء الحديث كثيرًا. تقول الرواية أنّه عندما يقوم الناس يوم القيامة يتجلّى الله تعالى للخلق، فيقع الجميع مغشيًّا عليهم، وأنَّ سيدنا موسى سيكون أول من يفيق، وأنَّ سيدنا المصطفى عندما يقوم سيجد موسى قد قام أولاً، وعلَّلوا ذلك بأنَّ التجلّي الربَّاني يجعل المرء مغشيًّا عليه، لأنّه من القوة بحيث لا يتحمّله أحد. ولما كان موسى قد اختبر ذلك في الدنيا وإن كانت خبرته صغيرة في هذا المجال فإنّه يوم القيامة عند التجلّي الربّاني الحقيقي سيفيق منه أسرع من غيره.

وهذا الحديث يحتاج لمزيد من التفكير والتدبُّر على ضوء هذه الآية وما يتصل بها من آيات أخرى. وكل ما قدَّمه العلماء حوله هو هذا الإيضاح الذي ذكرته لكم آنفًا.

جاء في الدعاء إقراره: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ . وقوله ((أول)) لا يعني أنه الأول من الناحية الزمنية لأنّه مسبوق بكثيرين جاءوا قبله. وإنّما ترد كلمتا ((أول وآخر)) في القرآن والحديث بمفهوم المقام وليس بالمفهوم المادي الزمني. الأول هنا يعني الأول في المقام والمركز.. كما يأتي الطالب الأول في الامتحان مثلاً، مع العلم أن سيدنا محمد المصطفى هو أول المؤمنين جميعًا في المقام والمرتبة.

دعاء التائبين من عبادة العجل

* وهناك دعاء أولئك الذين عبدوا العجل من بني إسرائيل ثم أحسُّوا بالخجل وتابوا. يقول القرآن:

وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (الأعراف: 150).

عندما أحسُّوا  وأدركوا أنّهم ضلّوا دعوا ربهم بهذا الدعاء.

وهكذا ترون أنَّ لكل حالٍ يواجهه الإنسان دعاءً في القرآن الكريم مناسبًا له. لذا يجب أن تحفظوا الأدعية القرآنية، وإن لم تستطيعوا حفظها كلها فيجب أن تستظهروا بعضها.. وأن تلقوا نظرةً عليها عند كل شدّة، وستجدون حتمًا دعاءً يناسب حالكم. وإذا رددَّتم ذلك الدعاء بنفس الحرارة والشعور الذي صدر به من صاحبه فترون، إن شاء الله، مشاهد رائعة لقبوله.

دعاء يدلُّ على طهارة المصطفى

* نتعلَّم من القرآن الكريم أنَّ الله تعالى علَّم رسوله أدعيةً كثيرة بحيث لا نجد نظيرها لدى أي نبيٍّ آخر. في إحدى المناسبات قال الله تعالى:

وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا .

أي لا تُسرع في ترديد آيات القرآن لتحفظها، واسأل ربّك أن يزيدك علمًا.

ومن هذا الدعاء نتعلَّم براءة النبي وطهارته، ونرى كيف كانت نظرته إلى الوحي الإلهي. لا شكَّ أنَّ إنزال الوحي وحفظه من عمل الله تعالى، ولكن الذي يُكنُّ حبًّا جمًّا لشيء يريد أن يحفظه. إنّه، وإن كان واثقًا من أنه محفوظ، إلا أنّه يبذل أقصى طاقته أن يجمعه ويحفظه. هذا هو المشهد الذي يرسمه لنا المصطفى عندما كان يتنزَّل عليه الوحي. كان يتعجَّل قراءة الكلمات حتى لا تضيع منه كلمة أو حرف أو حركة عند موضعها. عندئذٍ قال الله تعالى: لا داعي أن تُجهد نفسك كل هذا الجهد. ما عليك إلا أن تقول: ((ربِّ زدني علمًا)).

نظام حفظ القرآن

من هذا نفهم أنَّ نظام حفظ القرآن الكريم ليس نظامًا عاديًا.. بل من الممكن أنَّ الأنبياء الآخرين أيضًا قد تميَّزوا بأنَّ الوحي كان ينزل عليهم فينطبع في عقولهم بلا حاجة للإنصات الحريص والاستظهار. والدعاء الذي تعلَّمه الرسول يقول: رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ، ويدلُّ هذا على أنَّ جهده الفكري لا علاقة له بحفظ الوحي، وإنّما كان ينزل على قلبه ويثبت فيه كعلامة ثابتة دائمة.. وسواءً انتبه أم لم ينتبه فكان قدر الله تعالى أن يحفظه في أي حال. ولذلك يقول الله تعالى: في وقت فراغك ادعُ الله وقل يا رب: اكشِفْ لي مزيدًا من المعارف. فبقوله رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا لا يبقى مجال لنسيان ما تعلًّمه، لأنَّ الله تعالى تعهَّد بهذه المسئولية وقال له عليك أن تطلب المزيد، ولا تقلق عن النسيان. فهذا لن يحدث.

يتصل بهذا الدعاء دعاء آخر تعلَّمه الإمام المهدي والمسيح الموعود وهو: “اللهُّمَ أَرِني حقائِقَ الأشياء”.. أي بيِّن لي يا رب الأسرار العميقة للأشياء.

هذا الدعاء أقوله عمومًا مع الدعاء القرآني، ربِّ زدني علمًا، وخاصة عندما أكون بحاجة إلى هدايةٍ خاصة عن أمرٍ ما. ومن تجربتي تبيَّن لي أنَّ الله تعالى يُخبرني بسبب ذلك بكثير من المعاني التي لا يمكن معرفتها بالجهد العقلي. ليس هناك وحيٌ أتلقّى به هذه المعاني وإنّما يضع الله تعالى في العقل نقاطًا من الحكمة بطريقةٍ مفاجئة يندهش لها الإنسان.

علم القرآن هو العلم الحقيقي

فعلى أفراد الجماعة أن يستفيدوا أيضًا من الأدعية القرآنية، وعلى الطلبة الأحمديين بصفةٍ خاصة أن يُردِّدوا هذا الدعاء القصير: ((ربِّ زدني علمًا)). ويجب أن يتجه تفكيرهم دائمًا إلى حقيقة أنَّ العلم الحقّ هو كلام الله تعالى.. وأما ما سواه من علوم الدنيا الأخرى فهي علومٌ ثانوية. فقد استخدم القرآن الكريم كلمة ((علم)) فيما يتعلّق بالوحي. لذلك عليهم ألا يُهملوا الموضوع الأسمى، ويهتموا فقط بالموضوع الأدنى.. بل ينبغي أن يدعوا الله تعالى: بأننا يا ربّ ندرس علوم الدنيا العارضة لأننا مضطرون إلى ذلك، ولكننا نسألك أن تمنحنا من العلوم التي أوحيتها إلى المصطفى في صورة القرآن، ولأجلها يا رب امنحنا العلوم الدنيويّة التي هي ثانوية بالنسبة لها.

دعاء موسى عند التكليف بالرسالة

* ورد في سورة الشعراء دعاء لسيدنا موسى يقول:

وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الآيات: 11-15).

أي اذْكُرْ عندما أوحى الله تعالى إلى موسى وأمره أن يذهب إلى قوم فرعون الأشرار الذين لا يسلكون سبيل التقوى، ويقول لهم: لماذا يفعلون ذلك ولا يخشون الله؟ قال موسى: يا رب أخشى أن يكذّبوني.

لماذا خَشِيَ موسى

لماذا خَشِيَ موسى، مع أنَّ الأنبياء دائمًا يُقابَلون بالتكذيب؟ هناك سبب معيّن لذلك وضّحه القرآن بلسان موسى حيث قال: سبب خشيتي من تكذيبهم أني عندما أكون بصدد شرح موضوع لا يتفتَّح فكري، وأحسُّ بضيقٍ في صدري. هذه تجربةٌ بشرية حيث لا يستطيع المرء أحيانًا أن يُعبِّر عن نفسه بوضوح. هناك بعض الطلاب الذين لا يستطيعون التعبير في الامتحان رغم أنهم يعرفون الإجابة.. فليس من الضروري أن يكون من فشل في الامتحان أو حصل على درجاتٍ منخفضة غير صالح لشيء.. فأحيانًا هذا الطالب المسكين لا يعرف فنَّ التعبير. وهكذا قال سيدنا موسى لربّه: وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي .. فيتهدَّج صوتي وينحبس لساني.. وقد قيل أنَّ سيدنا موسى كان يتهته في كلامه.

فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ .. لذلك أرى أن تُوحي إلى أخي هارون. في هذا الدعاء العجيب المشوِّق تواضعٌ شديد وبساطة محبّبة. إذ يخبر موسى ربه: أنني بعد التأمُّل أرى من الأنسب أن تجعل هارون نبيًّا.

ثم في الأخير يبيّن سببًا آخر لتردُّده في الذهاب إلى قوم فرعون وقال:

وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ..

الصعوبة أنَّ لديهم تهمة ضدي. فقد فعلتُ شيئًا يحاسبونني عليه. لقد قتلتُ أحدهم بطريق الخطأ. إذا كذَّب قومٌ نبيّهم فهذا أمرٌ عادي، أما إذا كان مُتَّهمًا بجريمة واعتقدوا أنّه مُدَّعٍ كاذب فسيكون غضبهم عليه أشدّ من ذي قبل، وينتقمون منه لما أصابهم على يده. هذا هو السبب الذي جعله يتنحَّى ويقترح أنه من الأفضل أن يبعث هارون رسولاً مكانه.

قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ ..

كلا، يا موسى، ينبغي أن تذهب، فاذهبا معًا. وهكذا أجاب الله دعاء موسى وأزال الخوف منه. وكلمة (كلا) لا تعني إزالة خشيته من الموت، وإنّما لتثبِّت فيه الرجاء بطريقةٍ مؤكّدة، لأنها تعني أنّ كل ما في فكرك هو مجرّد وهمٍ منك ولا حقيقة له. كيف يمكن لفرعون أن ينالك بضرر ضد إرادة الله تعالى. اذهبا سويًا بآياتنا، فنحن معكما نستجيب لدعائِكما.

ونتعلَّم من هذا الدعاء وإجابته أنَّ سيدنا موسى تلقّى البشارة بالقبول لدى قوم فرعون، لأنَّ الخطاب تحوَّل من المفرد إلى المثنى ثم إلى الجمع. فكأن البشارة بإيمان السَحَرة ودعائهم: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا.. جاءته مبكرة وضمنية في قوله تعالى: إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ لماذا تخاف؟ سيكثر عددك. لقد جعلت اثنين من واحد، وسنزيد عددكم وتصيرون أمة. فالله واقفٌ معكم يُجيب دعاءكم. فمن يستطيع أن يمسَّكم بالضرر؟

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ..

اذهبا إلى فرعون معًا وقولا أنكما رسول من الله تعالى. وكلمة ((رسول)) بصيغة المفرد تدلُّ على أنهما ليس رسولين منفصلين وإنّما مكلّفان بنفس المهمة، ومَعْنيان للقيام معًا بجهد مشترك متوحد في نفس المهمة.

كيف نستفيد من هذا الدعاء

والسؤال الآن: كيف نقول هذا الدعاء في أحوالنا العادية، اللهُّم إلا إذا عيَّن الله أحدًا في هذا المقام ووضعه في موقفٍ مماثل. الواقع أنَّ في هذا الدعاء أنواعًا من الشعور الخفي والابتهال يمكن أن يستعمله كل شخص متواضع بالغوص في مشاعر سيدنا موسى. عندما يدعو الإنسان وهو في حال من العجز وقلة الحيلة، مثلاً عندما يُخطئ ضد أحد ويخافه، فإنَّ هذا الدعاء ينفعه بفضل الله تعالى ويفيده.

دعاء آخر لسيدنا نوح عليه السلام

* وهناك دعاءٌ آخر لسيدنا نوح :

قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (الشعراء: 118- 122).

يا رب لقد أنكرني قومي ورفضوا تصديقي، فاجعل بيني وبينهم فارقًا، ثم نجِّني ومن آمن بي. وهنا يبدو الدعاء للخلاص المادي، ولكن بمزيدٍ من التأمُّل يتبيّن أنَّ الأمر أعمق من ذلك. لقد طلب أن يُميّز الله بينه وبين من كذَّبوه، فيفرِّق بين من هو صالح ومن هو غير صالح، بنجاة الصالح وهلاك الطالح. فالدعاء هنا ليس للنجاة الماديّة وإنّما للخلاص الروحي. تأمَّل في الدعاء مرةً أخرى.

قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ…

اجعل فارقًا يميّز بيننا أي بين من هو في سبيل التقوى وتحبه، وبين من هو بلا تقوى وحُقَّ عليه غضبك. وماذا تكون العلامة المميزة؟ وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من الدمار الذي قدَّرته على هؤلاء.

فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ..

فكتبنا له ومن معه النجاة في السفينة كاملة الحمولة. سبق ذكر الفلك المشحون مع سيدنا يونس حيث كان هناك مكانٌ لكل فردٍ في القارب ما عدا نبي الله الذي لم يجد سبيلاً للنجاة بل كان خطرًا على الآخرين، لو تركوه في القارب لغرق ولو ألقوه منه نجا بهم. وهكذا لو رُفعت الحماية الإلهية ولو مؤقتًا على سبيل الابتلاء يكون المشهد حينئذٍ رهيبًا.

وهنا المشهد على العكس تمامًا. يقول الله: اذهب بكل سرور، واصطحب معك المؤمنين جميعًا في قارب، وخذ معك زوجين من الحيوانات التي تلزمك، ونحن نَعِدُكَ بأنَّ القارب سوف يحميك من هذه الأمواج العارمة.

ثم يقول الله تعالى:

ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ .

لقد غرق كل الذين تخلَّفوا عن القارب. ولا شكَّ أنَّ هذه آيةٌ عظيمة، والأسف أنَّ معظم الناس لا يؤمنون.

دعاء النجاة من المفاسد

* هناك دعاءٌ لسيدنا لوط يقول:

رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (الشعراء: 170) .

هذا الدعاء ليس للخلاص المادي.. وإنّما هو في الواقع للتحرُّر من الخطايا التي انتشرت كالوباء في كل أمة لوط وتغلغلت فيها. في مثل هذا الموقف لا يمكن للمرء أن ينجو من الأمراض القومية بدون الدعاء. أولئك الذين يعيشون في أمريكا والمملكة المتحدة مثلاً، يرون بعض العلل والشرور قد انتشرت فيما حولهم. فعلى هؤلاء أن يدعو بهذا الدعاء وإلا فإنَّ هذه الشرور قد تسرَّبت في الهواء الذي يستنشقونه في كل نَفَس. عندما يرون التلفاز والمذياع أو يمشون في الأسواق يتعذّر أن ينجوا تمامًا من هذه الشرور. فهذا الدعاء يعلّمنا أنّه ليس للخلاص المادي وإنّما للنجاة الروحانية من الشرور الخطيرة. ومن وجدَ الخلاص الروحي مُنِحَ الخلاص المادي تلقائيًّا. فلو أنّ سيدنا لوطًا دعا للنجاة المادية ما تضمَّنت النجاة الروحيّة، ولكنه عندما دعا للخلاص الروحي تضمَّن الخلاص المادي تلقائيًا.

وصلتني رسالة من أُم لطالبٍ تقول: لي ولدان يدرسان في جامعة كذا وكذا في أمريكا. كتب إليَّ أحدهما أنَّ الغالبية العظمى من الطلاب يتعاطون المخدرات حتى أصبح هذا موضة بين شباب الجامعة، إلى جانب بعض الشرور الأخرى التي يُمارسونها. ومن لا يشتركون معهم يقولون: إنّهم لا حقَّ لهم في الحياة بيننا، وأنّهم كائناتٌ منفصلة عنا، ويحاولون كل ما في وسعهم كي يُشركوهم في هذه الرذائل. ساعديني من فضلك بالدعاء وإلا فقد اشتدَّ الأمر وصعب عليَّ.

كنت دائمًا ما أنصح هؤلاء الذين يذهبون إلى أمريكا للدراسة وأقول لهم: لا ريب أنكم سوف تحاولون أن تجتنبوا هذه الرذائل، ولكن لا بدّ لكم أيضًا من الدعاء المتواصل. ولما جاءتني رسالة هذه السيدة تأكدت مخاوفي وتحقّقت. هناك مفاسدٌ في أوروبا أيضًا، ولكن المفاسد الأخلاقية التي انتشرت في جامعات أمريكا لا مثيل لها في أي مكان آخر على ظهر الأرض. وازداد انتشار هذه المفاسد أيضًا في باكستان، فإدمان المخدرات منتشرٌ هناك أيضًا، فالذين يُريدون أن يُهاجروا من باكستان عليهم بالدعاء للخلاص من هذه الشرور القومية، وهذا أهم لهم من الهجرة. ونجد في دعاء سيدنا لوط أسوة لنا حيث قال: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ .. أللهُّم نجِّني وأسرتي من الشرور التي يقترفونها.

دعاء مناسب لأهل السلطة

* وهناك دعاء سيدنا سليمان ، ويتصل به موضوعٌ عميق سأناقشه فيما بعد حيث لا وقت الآن. يقول الدعاء:

رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ..

أللهُّم مكِّني من شكر نِعمك التي وهبتها إليَّ ولوالدي، وأن أقوم بعمل الصالحات التي ترضاها..

وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (النمل: 20).

معنى النمل

دعا سليمان بهذا الدعاء عندما دخل ((وادي النمل)) على رأس جيشه. وفي العادة يقول الناس أنَّ نملةً رأت جيش سيدنا سليمان، وحذَّرت رفيقاتها من النمل من أنَّ مَلِكًا جبّارًا على رأس جيشٍ كبير سوف يمرّ، فإن أردتنَّ النجاة بأنفسكم فأسرعنَ إلى جُحورِكنَّ واختبئِنَ داخلها، وإلا تحطمتُّنَّ تحت أقدامهم. وفَهِمَ سيدنا سُليمان قولها الذي يقول علماء الدين أنه أُعطِيَ معرفة لغة الطير (منطق الطير) وكان يفهم لغة كل أنواعها! ولكن المسألة هنا أنّها كانت نملةً وليست طائرًا.. فما دخل النملة المسكينة بلغة الطير. فليس من الصحيح إذن اعتبارها واحدة من جنس النمل الحشرة المعروفة.

والحقيقة أنَّ “نملة” اسم قومٍ رأى واحدٌ منهم سيدنا سُليمان وجيشه يمرُّون على مقربة من موقعهم، فحذر قومه كي يختفوا داخل مخابئهم. يبدو أنها منطقة جبلية بها كهوف يختبئون فيها. فبدلاً من أن يواجه القوم الجيش ويتعرَّضوا للخطر نصحهم الرجل بالاختفاء. وأوصل الله تعالى لسيدنا سليمان هذا الخبر وكيف يخاله القوم. فقال سيدنا سليمان:

رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ… ..

يا رب لست ملِكًا من الملوك الدنيويين، ولكنك أنعمت عليَّ نعمةً جزيلة، وأنعمت على والديَّ من قبل.. فمكِّني يا رب من فعل الصالحات.. تلك الأعمال التي ترضى عنها. لو أنني مثل الملوك الدنيويين وطأتُ وحطّمتُ هؤلاء الضعفاء المضطهدين الذين لا حولَ لهم لكان تصرُّفي مناقضًا لنعمتك علي.

وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ..

وبفضل رحمتك اجعلني من بين عبادك الصالحين.

هذا الدعاء مناسبٌ للإنسان عندما يَهَبه الله تفوّقًا ما على قطاع من الناس، ويعطيه السلطة للسيطرة عليهم بشكلٍ ما، ويكون تحته عمال كثيرون، ويقع تحت نفوذه أمور كثيرٍ من الناس. في مثل هذا الوقت ينبغي على الإنسان ألا يعتمد على ذكائه. كان سيدنا سليمان على قدرٍ رفيعٍ من الذكاء، وكان متمكِّنًا من أفضل مركز لإصدار القرار فيمن هو مُدان وغير مُدان، ومن يستحق العقاب ومن ينجو منه، ولكن ذكاءه الرفيع تطلّب منه أن يدعو الله تعالى بكل تواضع: لقد مكّنتني، فوفِّقني لممارسة السلطة بالعدل، وإن لم تساعدني على ذلك فلن أستطيع ممارسة العدل بالرغم من ذكائي. أخشى أن أفعل ما لا يُرضيك.. لذلك أبتهل إليك مهما كان اتساع مُلكي والنصر الذي منحتني.. أن تُمكنني في جميع المواقف لتكون تصرُّفاتي بحسب ما يُرضيك، والا أقع في الخطأ بنشوة السلطة.

وهكذا لكل مناسبة حفظ لنا القرآن الكريم أدعية أولئك القوم الذين أنعم الله عليهم. اللهم مكِّن لنا ان نسير في هذا الطريق بما يُرضيك. آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك