دعـوات الأنبياء وخلفياتها
التاريخ: 1991-05-17

دعـوات الأنبياء وخلفياتها

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

سلسلة كيف نتمتّع بالصلاة

دعـوات الأنبياء وخلفياتها

 خطبة جمعة لمولانا إمام  الجماعة الإسلامية الأحمدية، أيدَّه الله بنصره العزيز

ليوم 17، 5 ، 1991، بمسجد فضل، لندن

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ (آمين)

لا زلنا نتدارس الأدعية التي دعا بها أولئك الذين أنعم الله عليهم، وحفظها الله لنا في القرآن الكريم بصفةٍ خاصة.

* في سورة الأنبياء دعاء لسيدنا محمد المصطفى :

قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (الأنبياء: 113).

  دعا سيدنا محمد المصطفى ربه أَنِ احْكُمْ بالحق.. فأنت ربنا ذو الرحمة العظمى التي لا تُحدّ، المتفضل على خلقه دون سؤال، والذي يُعيننا على ما تتقولون ضدنا.

ولهذا الدعاء خلفيّة مشوّقة للغاية.. إذ أنها تُشير إلى تلك النبوءة التي قالها سيدنا داود عن الأرض، أي فلسطين وهي: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ، وبعدها ببضع آيات ورد: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ .. أي أنَّ سيدنا محمد قال لهم: لا أستطيع القول أو لا أعلم بأنَّ هذا الوعد سيكون امتحانًا لكم أم تنتفعون به إلى زمنٍ معين. وهذا يُبيّن أن الله تعالى قد أخبر نبيه بأنَّ الصالحين الأتقياء سيرثون هذه الأرض.. ولكن سوف يحتلها قومٌ آخرون احتلالاً مؤقتًا. وقول النبي : وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ… ليس بخصوص المسلمين… لأنَّ الوعد بإعطاء الأرض لهم وعدٌ دائم، والقوم الذين يُخاطبهم النبي هنا هم المعارضون وليسوا من المسلمين. يقول: لا أعلم هل إعطاء الأرض فتنةٌ أم منفعة مؤقتة. وبعدها مباشرةً جاء الدعاء: قَالَ، رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ .

أذكر بأنني، إبّان أزمة الخليج، كنت نصحتُ الجماعة بعد تفكيرٍ كثير بأن يدعو بهذا الدعاء، بدلاً من الانحياز إلى أحد الجوانب. ندعو الله تعالى أن يحكم بالحق.. أي أن يجعل النصر للحق. ونظرًا لأنّه دعاء سيدنا المصطفى ويتناول نفس الموضوع.. لذلك أرى أنَّ هذا الدعاء يتصل بهذه الفترة بصفةٍ خاصة. فإنَّ هذه القرارات لا تزال تحت الإصدار، ولسنا مهتمين بفوز جانبٍ دون غيره، وإنّما ندعو بصدد نتيجة هذا النزاع.. وبإزاء كل الصراعات التي سوف تحدث في المستقبل، وكل المواقف التي سوف تنشأ.. ندعو: رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ ، وآتِ هذه الارض المقدَّسة لمن قدَّرتها له.

بعد ذلك دعا سيدنا محمد ربَّه وقال:

وَرَبُّنَا الرَّحْمَٰنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ.. ..

إنَّ ربنا واسع الرحمة، يهبُ بلا حدود ومن غير سؤال، وسوف نجد من الله تعالى المساعدة إزاء كل ما يُقال أو يقولون ضدنا. فينبغي أن تدعو وهذا المعنى الواسع ماثلٌ في ذهنكم.

* وهناك دعاءٌ آخر لسيدنا نوح . جاء في الآيات السابقة عليه أنَّ كبار قوم نوح اختلقوا أمورًا ضده، وقالوا له: إنّك تريد أن تتسيَّد علينا، وتتخذ مسألة النبوة ذريعةً لذلك. لو أراد الله ذلك لأرسل ملائكة من عنده بدل أن يبعث واحدًا مثلك من البشر، وليس لك في نظرنا مقام آخر فوق ذلك. وإنّك لست مجرد بشر بل أنت رجلٌ مجنون. لقد اختلَّ عقلك، وها نحن ننتظر لك عاقبةً سيئة سوف تُحيق بك. عندئذٍ دعا سيدنا نوح: قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (المؤمنون: 27).

وقد فسَّر سيدنا المصلح الموعود الخليفة الثاني لسيدنا المهدي والمسيح الموعود هذا الدعاء هكذا: ساعِدْني يا ربي، لأنَّهم كذَّبوني ورفضوني.

وهناك معنىً ثانٍ للدعاء: يا ربي، أَعِنّي وساعِدْني إزاءَ كل أمرٍ كذَّبوني فيه حتى يتبيَّن كذبهم فيما كذَّبوني فيه.

ونجد قبول هذا الدعاء في الآية التالية وهو مطابقٌ للمعنى الذي أقول به. قال تعالى:

فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ..

أوحينا إلى نوحٍ أن اصنع سفينةً تحت إشرافنا ورعايتنا وبحسب ما نُوحي إليك. فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ .. فإذا جاء أمرنا وشرعت عيون الماء تفور..

فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ..

فضَعْ فيها مِن كُلّ الحيوانات الضرورية، وخذ معك زوجتك، إلا من صدر قضاؤنا ضدهم. وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا .. أما الذين ظلموا وتعدُّوا الحدود فلا تُخاطبني في شأنهم، أي لا تَدْعُ من أجلهم.. إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ .. فقد صدر قضائي أنّهم يغرقون حتمًا.

الواقع أنّهم لم يرموا سيدنا نوحًا بالكذب والادِّعاء فقط.. بل تحدُّوه بأنَّهم يتوقعون له سوء العاقبة. هذه كانت طريقتهم في عدم الإيمان به، وكان هدفهم أن يُثبتوا كذبه أمام أعينهم وأن ينزل به الهلاك. وبما أنَّ سيدنا نوحًا ردَّد هذا الدعاء: رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ، اللهم ساعدني على ما كذَّبوني، فاستجاب الله لدعائه تماما كما دعا، وأنبأه بخبر هلاكهم أمام عينيه. وهذا ما حدث بالضبط.

فإذا قيلت هذه الدعوات وفي البال خلفيّتها كما ذكرها القرآن الكريم فلسوف تتولّد فيها قوة عظيمة، ويصبح معناها أكثر اتساعًا وصلةً بالموقف. فحيثما تواجه الجماعة الإسلامية الأحمدية مثل هذا الموقف ينبغي عليهم الانتفاع بهذا الدعاء بهذه الطريقة.

* ثم هناك دعاءٌ جاء في سورة (المؤمنون) ويتصل بنفس الموضوع:

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (الآية: 29).

عندما تصعد أنت ومن معك على متن السفينة وتستقرُّ فيها مستريحًا آمنًا.. فقل: الحمد لله كما خلَّصنا من أهل الظلم.

وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (الآية: 30).

ثم ادْعُ الله تعالى أن اجعَلْ السفينة ترسو في مكانٍ مُبارَكٌ وأنزلنا منها في موضع مبارك، فأنت يا رب خير من يستضيفنا، وخير من يأخذنا إلى برِّ الأمان.

وهذا دعاءٌ عميق الصلة بالهجرة. لقد ذكر القرآن الكريم من قبل دعاء سيدنا المصطفى الذي علَّمه الله تعالى له قبل الهجرة: وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا وفي هذا الدعاء يقول سيدنا نوح: حيثما أذهب لا تَدَعنْي يا رب أتجه إلى أهداف دنيويّة، بل اجْعَل كل ما تمنحني بركةً منك. فهؤلاء الذين يُهاجرون من بلادٍ يُقاسون فيها الظلم.. سواء هاجروا بالأمس أو سوف يهاجرون في المستقبل.. عليهم أن يحفظوا هذا الدعاء في بالهم. إنَّ دعاء النبي دعاءٌ شامل ذو معنى عميق.. ولكن دعاء سيدنا نوح عليه السلام أيضًا يناسب مواقف خاصة. والمهاجرون الذين كانوا يتمكنون من ترديد دعاء النبي قبل ذلك عليهم أن يجعلوا دعاء نوح أيضًا ضمن أدعيتهم.. كي يبارك الله تعالى نزولهم، ويكون حارسهم الذي يرعاهم، ويرتّب لهم حُسنَ الضيافة. وبدون هذا الدعاء لا يكون لهم الحق في الحصول على ضيافةٍ كريمةٍ حقّة. إنَّ استضافة أهل الدنيا مؤقتة وغير مباركة، ولذلك يُلاقي المسلمون الأحمديون المهاجرون إلى مختلف الديار مشاكل مماثلة. هناك بلادٌ هي أكثر كرمًا من غيرها، ولكن مع ذلك في كل مكان يجد المهاجرون المشاكل المعضلة. ثم هناك إخوة أحمديون ذوو غيرة وعقلٍ منفتح ويُحسُّون بالأثقال على قلوبهم لأنّهم يتعيَّشون على مساعدات الآخرين، ويفكِّرون أنّهم ما داموا لم يحصلوا على تصريحٍ بالعمل فكأنّهم يعيشون هكذا على الصدقة الحكوميّة. فلهؤلاء يمثل هذا الدعاء أهمية كبرى. ولو أنّهم كانوا خرجوا بهذا الدعاء لكانت قلوبهم دائمًا على يقين من أنَّ الله تعالى هو الذي يرحب بهم ويستضيفهم ويرعاهم.. وأنَّ الله قد رتّب هذه الأمور كإجابةٍ لدعائهم.. وما كانوا ليُقاسوا من أي عقدةٍ نفسيّة.

ثم رغم المساعدات هناك المصاعب الأخرى التي يواجهونها، وهناك كثير من التعقيدات التي تنشأ، فتصير الحياة اليومية تنقصها البركات. وعلاج كل ذلك هو الدعاء: رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا .. يا رب وفِّقني وعامِلني برحمتك كي أنزل في مكانٍ مبارك، وأتلقى البركة التي تُوهب من لدنك.

* ومن الأدعية التي علَّمها الله للنبي :

قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ..

اللهُّم لو كنتَ ستُحقِّق في حياتي ما أنذرتَ به أعدائي -وهذا الاستفسار نوعٌ من الدعاء الذي يريد به أن يرى ويشهد عقابهم- فلا تَعُدَّني من بين هؤلاء الظالمين. وجاء بعد هذا الدعاء مباشرةً جواب الله تعالى:

وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ..

يقينًا إننا قادرون على أن نُشهدك تحقيق بعض ما وعدناهم به من عقاب.

وهنا سؤال: إذا كان الله تعالى هو الذي يقبل الدعاء فلماذا يعلِّم الدعاء؟ ما الحكمة في هذا الأسلوب المتكرِّر حيث يُعلِّم الله النبي الدعاء من ناحية ومن ناحيةٍ أخرى يعلن قبول الدعاء؟

لفهم هذا الموضوع ينبغي للمرء أن يتفكَّر في علاقته بأولاده. فالأطفال الصغار الذين لم يكتمل تفكيرهم بعد، والذين ليست لديهم المعرفة لعمل أشياء كثيرة.. إنَّ آباءهم المستعدين لإعطائهم شيئًا يعلِّمونهم أولاً كيف يطلبونه، وكثيرًا ما يقولون لهم بمحبة أنه ينبغي عليكم طلب هذا منّا، في حين تكون الأشياء معهم في جيوبهم ويدهم مشوَّقة لتمتدَّ بالشيء فورًا عندما يطلبون منهم. فهذه أساليب خاصة لإبداء المحبة. وإنَّ الأدعية التي يتعلَّمها الأنبياء هي أساليب وألوان لبيان محبة الله تعالى لهم، وكذلك تُبيّن هذه الأساليب أنَّ النبيين لا يفعلون شيئًا من عند أنفسهم، وإنّما يتربُّون ويترعرعون كليةً في يدي الله تعالى.. كما قال سيدنا المهدي والمسيح بالأردية ما معناه:

منذ البداية أمضيتُ أيامي في حِماك..ومكثتُ في حضنك كالطفل الرضيع

  هكذا حالُ النبي، فهو كالطفل الرضيع الذي يلعب في حِجر وأيدي أمه وأبيه، ويتعلّم فقط ما يحبه الوالدان ويُرضيهما.

وبهذا الأسلوب الإلهي مع أنبيائه تتمُّ تربيتنا الروحيّة نحن الذين لا نتشرَّف بالحديث مع الله تعالى مباشرةً. فما أعظم فضل الله تعالى على الأجيال القادمة حيث أنَّ الأشياء التي لم نكن لنتعلَّمها من الله تعالى مباشرةً علَّمها لأنبيائه المحبوبين، وحفظها لنا في القرآن لنتعلَّمها نحن أيضًا. فكل ما كان سوف يشهده النبي من عاقبة أعدائه كان أمرًا مقدورًا وقضاء محتومًا، ولكن الله تعالى علَّم النبي هذا الدعاء حتى يبدو الأمر وكأنّه تحقيقٌ لرغبته. وتحقيق رغبة الإنسان له طعمٌ خاص. فقيل له بعد الدعاء فورًا:

وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ .

ولِمَ لا؟ يا عبدي الحبيب، إنّا نملك القدرة الكاملة على أن نُحقّق ما وعدناهم به أمام أعينك؟ لقد وُهِبَ المصطفى في حياته نصرًا كاملاً، ولَقِيَ كل أعدائه بمختلف فئاتهم نهاياتهم المحتومة وهزائم رادعة على يد أتباعه، وكان كل ذلك إجابة لدعوته. وكما قلت إنّه كان قدرًا مقدورًا ولا شكّ، ولكن الله تعالى ربط هذا القدر بدعائه .

ومن هذا نتعلَّم أيضًا أنَّ القضاء الإلهي يتصل بالدعوات اتصالاً عميقًا، وانَّ الدعوات لها دورها في صنع القدر. وما دام هذا الجانب لم يكتمل لا يصدر القضاء. فلو قعدتم ساكتين.. ظانين بأنّ النصر مقدَّرٌ لنا على أية حال، فلا حاجةَ بنا إلى فعل شيء أو قول شيء.. لكان ذلك خطأً تامًّا.

وهناك موضوعٌ آخر نتعلَّمه من هذا الأسلوب القرآني.. ذلك أنَّ القدر حق، ولكن من الضروري أن نرغب فيه ونطلبه. فمثلاً عندما يشتدُّ الحر تصل الرياح الموسميّة. هذه الرياح تهبُّ بحسب قانونها الطبيعي، ولكن اجتذابها يتطلَّب ارتفاع الحرارة في تلك المنطقة إلى مستوى معين. لو لم يكن هناك ارتفاع في درجة الحرارة إلى المستوى المطلوب فإنَّ الرياح تهبُّ ولكنها قد لا تمطر على هذه المنطقة. وهذا الموضوع لا ينطبق هنا تمامًا.. ولكنه مثالٌ تقريبي مشابهه. فيجب ألا نبقى غافلين عن ضرورة الدعاء لتحقيق الانتصارات الموعودة لنا، ونظنُّ بأنَّ الله تعالى ما دام قد وعد سيدنا محمدًا بأنّه في زمن الآخرين سوف يمنح النصر للإسلام على كل الديانات فلماذا نبكي ونبتهل لهذا النصر. لقد كان لسيدنا المهدي والمسيح الموعود أعمق نظرة في موضوع نُصرة الإسلام، ومع ذلك كان يدعو لنصرته باضطراب وألمٍ شديدين حتى بدا وكأنّه يسلم روحه في الدعاء. كان يدعو دعاءً يمزِّق نياطَ القلوب. وهكذا علَّمنا بعمله أنَّ هذا هو شأن الأنبياء والصالحين والأخيار وهذا الذي يليق بهم.. فهم مع وعود النصر من الله تعالى يبذلون قُصارى جهدهم ويشتدُّون باستمرار في العمل والابتهال ليجذبوا فضل الله تعالى.

رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِى فِى ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ . ماذا يعني هنا (الظالمين)؟ لا يمكن أبدًا أن يكون المصطفى يرمي بدعائه ألا يجعله الله من بين أولئك الذين دعا اللهَ ليشهد عذابهم بنفسه.. فهذا مفهومٌ غير منطقي أبدًا وغير وارد بالموضوع. لذلك يحسن بنا أن نُلقي نظرةً في القرآن لفهم كلمة “الظالمين”.

مرَّ بنا دعاء لسيدنا يونس قال فيه:

لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (الأنبياء: 88).

وهنا تعني كلمة “الظالمين” أولئك الذين يعترضون على رحمتك، ويُحسُّون بعدم السعادة بشأن مغفرتك. لأنَّ يونس يقول هنا: لقد أبديتَ عطفًا إزاء الآثمين وعاملتهم بالتسامح وصفحتَ عن أخطائهم، وخلق ذلك شعورًا ضئيلاً بعدم السعادة في قلبي.. وهذا ظلم. ففي هذا الدعاء: فَلَا تَجْعَلْنِى فِى ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ ، يعني النبي : إذا كان قدَرُكَ قد قضى بأن لا نشهد عقابهم، إذا كنتَ قد قدَّرت موتنا في حال لن يزال هؤلاء في ابتهاجهم ويستمرون في فظائعهم، فأَنْزِلْ سلامًا في صدورنا، وأَنْزِلْ بردًا في قلوبنا كي نرضى بمشيئتك ولا نكون مثل من سبقونا الذين أحسُّوا بالمرارة بعفوك عن مناهضيهم.

*  وفي سورة المؤمنون (98 و 99) عُلِّم النبي هذا الدعاء:

وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ..

يا عبدي يا محمد.. ادْعُني وقل: ألجأ إليك يا ربي من تحريض الشياطين المتمرِّدين العاصين وأذاهم، وألجأ إليك حتى لا يصلوا إلي.

فسَّر سيدنا المصلح الموعود هذا الدعاء هكذا: أعوذ بك من شرور المتمرِّدين العُصاة. والهمزات هي الوساوس وغيرها من الهمس الشرير. وبما أنَّ كثيرًا من الأفكار الشريرة لها صلة عميقة بالناس لذلك فسَّر المصلح الموعود الهمزات بالشرور. ففي الأوقات التي يملك فيها المعارضون قوةً غالبة، ويُعاملون المؤمنين كيفما شاءوا.. فإنّهم يخلقون الشكوك في نفوسهم بقوة شرورهم وأذاهم، ولكي يُزعزعوا المؤمنين عن موقفهم ينشرون صنوفًا من الهمسات كقولهم مثلاً: انظروا، لو كان الله يُؤيّدكم، ولو كنتم على الحق، ولو كان الذي صدَّقتم به مرسلاً حقًا من عند الله.. فلماذا تُركتم هكذا بلا سند.. لماذا تُركتم تحت رحمتنا؟ وهكذا تتصل الوساوس والشكوك اتصالاً عميقًا بالأذى والشرّ. وقد لاحظنا في فترة الابتلاءات الأخيرة بباكستان، التي لا تزال مستمرة، أنّهم أولاً يجعلون المسلمين الأحمديين هدفًا لشناعاتهم وعدوانهم، ويُوقعون بهم كل صنوف الأذى والشرّ.. ثم يقول أصحاب هذه الاعتداءات الصارخة: انظروا، ها نحن نُنزل بكم الفظائع ولا نتعرَّض لأي حساب أو عقاب.. لذلك نحن على حق وأنتم على باطل. وقد يتضجَّر بعض الحمقى من هذه الشناعات، وبسبب قلّة علمهم يقعون في هذا المنطق؛ في حين أنَّ الشياطين مرتكبي الفظائع لا يمكن أن يكونوا على حق أبدًا. كيف يمكن للمعتدي أن يصبح صادقًا بسبب ارتكابه للظلم؟ الطاغية الباغي مخطئ وكاذب على أي حال. ولذلك وصفهم القرآن المجيد بأنّهم (شياطين).. أي هم صنف عجيب من المتمردين العاصين وقومٌ شياطين؛ فمن ناحية يرتكبون الفظاعات ضد المؤمنين، ثم يتخذون من فظاعاتهم نفسها عذرًا ليزعزعوا إيمان المؤمنين. فيا محمد ادْعُ وقل:

وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ..

أعوذ بك من كل أنواع الأذى والضرر الذي يحدثه الأشرار، ومن الشكوك التي تنجم عن هذا الأذى والشر. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ وأحتمي بك حتى لا يقتربوا منا ولا يوسوسوا لنا بشيء.

* وهناك دعاء رجال الله الصالحين عندما سخر منهم الأشرار.. يقول الله تعالى:

إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ .

سيقول الله تعالى لأهل جهنم يوم القيامة: كان عبادي يتعرَّضون لسخريتكم واستهزائكم يقولون: ربنا آمنا لذلك نرجو أن تغفر لنا خطايانا وترحمنا فأنت خير من يرحم

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ .

فجعلتموهم هدفًا لسخريتكم حتى نسيتم ذكر الله ولم تنفكوا تضحكون منهم.

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ .

اليوم يوم إصدار الحكم.. وأُبشِّرهم بأحسن الجزاء. فهؤلاء المؤمنون الذين تحمَّلوا سخريتكم بصبرٍ هم اليوم الناجحون الفائزون بحسن العاقبة.

وأيضًا عُلِّمَ النبي دعاء آخر يقول:

وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (المؤمنون: 119)..

اللهم عامِلني باللطف والغفران والرحمة، فليس هناك من يرحم مثلك.

وقد ذكر الله تعالى في سورة الفرقان أدعيةً لعباد الرحمان.. يقول الله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا .. إنهم يسيرون بلطفٍ وتواضع. وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (الآية: 64).. وإذا خاطبهم أهل الجهل بسخرية واستهزاء أجابوهم بسلام. وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (الآية: 65).. يقضون لياليهم في سجود وقيام بين يدي ربهم. فما كان دعاء هؤلاء؟ يقول القرآن الكريم:

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (الآيات: 66-67)..

اللهُّم جنِّبنا وأَبْعِدْ عنا عقاب جهنم. هناك عذابٌ يصبّه عليهم أعداء الحق وهناك عذاب جهنم، وإن عباد الرحمان لا يخافون عذاب الأعداء وإنَّما يخافون عذاب الله في جهنم. في زمن فرعون أتاح الله تعالى للسحرة أن يؤمنوا.. فقالوا لفرعون نفس الشيء: إننا أشدُّ خشيةً لله ولا نخشاك ولا عذابك، ولك أن تُنزل بنا ما تشاء من عقاب. لقد شهدنا الحق ولن نتحوّل عنه أبدًا.

فبسبب سخرية الناس وأذاهم وعقابهم يتولّد خوفهم في القلوب من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك خوف الله تعالى هو الذي يحمي المؤمنين من خوف الناس إذا تغلَّب على قلوبهم. فعلامَ استقرَّ عباد الرحمان بشأن هذين الخوفين؟ يقول الله تعالى: استقرَّ قرارهم على أن يستيقظوا بالليل ويقفوا بين يدي الله تعالى ويقولوا:

رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا .

إننا نخشى عذاب جهنم لأنَّ عذابها هلاكٌ ودمارٌ شديد لا يُعدُّ عذاب أهل الدنيا بالقياس إليها شيئًا يُذكر.

إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا .

وبالعقاب المؤقت أشارت الآية إلى عقاب الدنيا وقالت: إنَّ العقاب الذي تفرّون منه عقابٌ وقتيّ، وخوفًا وفرارًا من هذا العقاب الوقتي قد تذهبون إلى عقابٍ دائم.. وحتى لو كان عقابًا وقتيًّا فهو أشدُّ وأقسى من عقاب الدنيا لأنّه صادرٌ من الله. وعباد الله الذين لديهم معرفة عميقة بالله يعرفون هذا، ولذلك هم يُفضِّلون عذاب الدنيا على عذاب الآخرة.

ثم يدعو عباد الرحمان لأولادهم وذويهم:

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ..

اللهم اجعل أزواجنا وأولادنا مسرَّةً لعيوننا، واجعلنا أئمةً للمتقين.

بعض الناس يحسبون أنَّ الأزواج هنا تعني الزوجات فقط، وهكذا جاءت الترجمة في التفسير الصغير للجماعة، وربما كان السبب في ذلك أنّه قد يُفهم لأول وهلة أنَّ الداعي هنا هم الرجال لأنَّ الضمائر هنا للذكور. ولكن قول الله تعالى في صيغة جمع المذكَّر يشمل الذكور والإناث معًا، وليس لنا الحق في إخراجِهنَّ من هذا الخطاب. وهذا الأسلوب متّبعٌ ليس في اللغة العربية بل وفي لغاتٍ أخرى كذلك. عندما نتحدَّث عن النوع البشري فإننا في الغالب نستخدم صيغة المذكَّر، ولكن ذلك يشمل النساء والكبار والصغار جميعًا. هذا هو الأسلوب السهل.. أن تذكر جنسًا واحدًا وتعتني به كل أفراد النوع. فالدعاء الوارد في قوله: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ليس للرجال وحدهم، ولكن للنساء أيضًا، وينبغي عليهنَّ ترديد هذا الدعاء بنفس الألفاظ، لأنَّ الزوج لا يعني الرجل فقط ولكنه يعني الرجل والمرأة. فلا حاجة للنساء أن يُغيّرن من صيغة الدعاء. فالمعنى إذن: هَبْ لنا من شركائنا في الحياة.. رجالاً ونساءً.. مسرَّةً لعيوننا، واجعَلْنا للمتقين إمامًا.. أي مكِّن لنا، يا رب، أن نترك من بعدنا ذرِّيةً تكون من الصالحين الأتقياء في عينك.

هو الدعاء القرآني إذا استُجيبَ أصلح الأحوال في بيوتنا. تصلني رسائل كل يوم بلا انقطاع تذكر العذاب الناشئ في المشاجرات المنزلية. وأحيانًا تصلني مثل هذه الرسائل من أطفال يقولون: “هناك خلافٌ ونزاعٌ في بيوتنا. آباؤنا يستخدمون لغةً بذيئة ضدَّ بعضهم. البيت تحوَّل إلى جحيم. صرنا نحن الأولاد بلا سند، وكأنه ليس لنا مأوى نستظل به. إننا منزعجون من الموقف. والمشكلة أننا لا نستطيع أن ننحاز إلى أحد الجانبين، وإذا رأينا أحدهما على حق لا نستطيع مساندته”. وتصلني رسائل مماثلة من أزواجٍ وزوجات أيضًا.

وعلى النقيض مما سبق.. تصلني رسائل طيبة جدًا من كنّات يمتدِحنَ الحَمَوات والأزواج والبيت كله، ويسألنَني الدعاء ويقلنَ: “لقد جئنا إلى بيوتٍ كأنّها الجنة. هؤلاء القوم يُحسنون رعايتنا ويحبوننا كثيرًا”. ولا شكّ أنّ أولئك الذين أُتوا مكارم الأخلاق فعلاً تكون بيوتهم بفضلٍ من الله تعالى جنّات. إنّ الافتقار إلى محاسن الأخلاق هو الذي يجعل الدنيا جحيمًا لا تُطاق. وإذا كان من الممكن أن تجعل الأخلاق من البيت جحيمًا.. فإنّ نفس الأخلاق تدفع الأمة إلى الجحيم وتخلق جحيمًا للجنس البشري. فالأخلاق الحسنة لا يقتصر أثرها على تحويل البيوت إلى جنّات.. وإنّما يمتد دورها إلى الطرقات والمدن لتجعل منها جنّات.. ثم تكون الدنيا كلها جنة. ولكننا نحتاج لتحقيق ذلك إلى هذا الدعاء.

لقد ذكّرتُ الجماعةَ من قبل بضرورة الانتفاع من هذا الدعاء إلى أقصى حدّ، لأنّ أثره يمتد إلى الأولاد، وتصل بركته إلى الأجيال. فالدعاء يقول: “ذريتنا” وليس المقصود بذلك الجيل الأول من أبنائنا فقط وإنّما أيضًا الأجيال المتعاقبة منهم. فكل خير يريد المرء أن يدعو به لأبنائه وأحفاده وذرِّياتهم إلى يوم القيامة يدخل في هذا الدعاء:

رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ

يكونون بهجةً لنا ومسرّةً لأعيننا بمعنى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا . فاجعَلنا إمامًا للمتقين ولا تجعلنا إمامًا لغير المتقين.

إنّه دعاءٌ كاملٌ للغاية، ويُؤتي ثماره إلى يوم القيامة. كما ويذكرنا بأننا إذا خلقنا لأنفسنا جنة في هذه الحياة الدنيا، ولم يتمكن ذرّياتنا أن يكونوا من المتقين فقد ضاع منا في الواقع كل ما كسبناه. سوف تضيع ثرواتكم، وتذهب هباءً ثمرات عملكم الشاق الجاد. لذلك يجب ألا تهتموا بأنفسكم وحدكم بل يجب أن تهتموا بأبنائكم وأجيالكم اللاحقة.

وبالتفكير في هذه المعاني إذا دعوتم بهذا الدعاء فسوف تقوم أمام أعينكم صورةٌ بهيجةٌ لبيوتكم. قد يكون هناك أزواج سعداء ولكن الوفاق المتبادل بينهم لا يكون قائمًا على التقوى. فهناك أزواجٌ سعداء حيث يعزفون الديسكو في بيوتهم، ويوجد فيها كثيرٌ من غيره من أنواع الترفيه السخيف. قد تبدو في الظاهر هذه البيوت من الجنان. ولكن الشطر الأخير من الآية يُخبرنا أنّ هذه الجنّات ليست حقيقيّة وإنّما هي جنّاتٌ وهمية مؤقتة، لأنّ ذرية هؤلاء الناس لا يمكن أن يكونوا أتقياء، وأن يكونوا قرّة أعين لآبائهم. ففي قوله: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا . لم يتحدّث فقط عن مستقبل الأبناء وإنّما رسم صورةً لبيوتنا.. بيوتنا الحالية التي يجري فيها الحديث عن التقوى. فإذا لم يكن بها حديث التقوى فكيف يمكن للأجيال القادمة أن تكتسب التقوى؟ فقُرَّةُ العين هي ما يكون على صلةٍ وثيقة بالتقوى. هذا هو ما تُعلِّمه الآية للآباء. وأعتقد أنَّ التغافل عن هذا الدعاء جعل كثيرًا من البيوت تُعاني عديدًا من مشاكل بلا داعٍ.

فكل الأزواج الذين يدعونَ بكل جديّة بهذا الدعاء.. أوكِّد لهم أنّ مشهد بيوتهم العام سوف يتغيّر، ويصبح مجتمع الجماعة من التقوى والصفاء بحيث يستحقّ أن يقودَ الجنس البشري، ويكون مُجتمعًا يُصدِّر بيوتًا سعيدةً للعالم كله. وفق الله لنا بذلك.

* ثم هناك دُعاء لسيدنا إبراهيم في سورة الشعراء (الآيات ٨٤ إلى ٩٠).. قال:

رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ

والحُكم هنا يمكن أن تعني الحكومة.. ولكنها تعني أيضا التعاليم الحقّة الصحيحة؛ التعاليم القاطعة؛ التعاليم الحقة الواضحة البيّنة ذات السمات المميّزة لها عن التعاليم الخاطئة. يمكن تسمية كل من هذه التعاليم “حُكمًا” أي اجعلني منهم ووطِّد علاقتي بهم. وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ . واجعلْ ذكري على لسان الأجيال من بعدي بالصدق. اجعَلهم يذكرونني بالحق.

ولهذا الدعاء معنى عميق. إنّ الصفات العالية التي وهبها الله تعالى لسيدنا إبراهيم، والطريقة التي بها كانت تنكشف لقلبه المسائل الدقيقة.. تتجلّى في دعائه. ففي مرآة أدعيته نستطيع رؤية قلب سيدنا إبراهيم ، ونرى أسلوب تفكيره. على العموم يود الناس أن يكون لهم صيت في المستقبل. والواقع أنّ كل الأبطال الذين مرُّوا في الدنيا استمرت وارتفعت سمعتهم بمرور الوقت بعد موتهم، ثم أخذت الروايات الخيالية تزحف إليها. وهؤلاء نُطلق عليهم اسم (شخصيات أُسطورية)، الذين كانوا في زمنهم يُعدُّون أبطالاً، ووصلوا إلى مستوياتٍ عالية، ثم في النهاية صاروا أساطير، ونُسبت لهم قصص زائفة، وبالغ الناس في وصفهم بصفات أبعد بكثير من حقيقتهم. ونتيجةً لذلك اتخذ الناس كثيرًا من النبيين آلهة أو أبناء الله أو أقارب له. وهذا هو الاتجاه الطبيعي الذي أضرَّ بالديانات كثيرًا. فترونَ كيف عُومِلَ سيدنا عيسى من قبل أتباعه، وكذلك حضرة كرشنا وحضرة رام جاندرا وأنبياء صالحين آخرين، وكيف خلعوا عليهم مراكز ومقامات أعظم من مراتبهم الحقيقيّة.

وهنا لا يسأل سيدنا إبراهيم مركزًا عاليًا، ولا يريد من الأجيال بعده أن تنشغل في تكريمه والثناء عليه ويُنشدوا الأشعار في مدحه. فما أروع هذا الدعاء وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ اللهُّم ليكن كل ما يقولونه عني في المستقبل صادقًا، لا يدخل فيه أي فسادٍ من الباطل. وترون بأي روعة قَبِلَ الله تعالى هذا الدعاء من سيدنا إبراهيم، وأي منزلةٍ عالية بوَّأهُ الله. لقد سُمِّي أبا الأنبياء، ومن بين ديانات العالم اليوم هناك ثلاث ديانات تنتسب إلى سيدنا إبراهيم .. أعني اليهودية والنصرانية وهي الديانات التي فيها القدرة أن تعمّ العالم كله، ولكنها مع ذلك لم تلحق سيدنا إبراهيم أية مبالغات كاذبة. مرّت آلاف السنين ولم تُنسب إليه روايات مزوّرة، ولا رواية خياليّة واحدة. من هذا تستطيعون تقدير قوة الدعاء الصادق الذي ينبعث من أعماق قلب الإنسان. كانت صيحة الحق تصعد من قلبه: يا رب اجعَلْ ثناء الناس عليَّ صادقًا. وبالفعل جاء دعاءه حقًا. ومن هذا الدعاء تعلمتُ الحكمةَ من النص على اسم سيدنا إبراهيم في دعاء (التشهُّد). لقد خلا نبيُّون كثيرون، وكان من الممكن أن يُذكر اسمهم في دعاء (التشهُّد)، ولكن لماذا اختصَّ سيدنا إبراهيم وحده بهذا الشرف، وعلَّم المصطفى أتباعه هذا الدعاء: “اللهُّم، صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد. أللهُّم بَارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد”. من هذا الدعاء تتعلَّمون أن دعاء لِسَانَ صِدْقٍ له صلةٌ عميقة بالتشهُّد. إذا درستم هذا الدعاء مع التشهُّد ستعرفون أنّ المصطفى بتعليمنا دعاءَ التشهُّد بلفظ “كما” قد وصل أتباعه بسيدنا إبراهيم.. كما لو أنّه قال: يا رب، كما أنزلتَ السلام على سيدنا إبراهيم في ذلك الوقت وفي مستقبل الأيام حيث حفظتَ إبراهيم من تأثير الشيطان، بعيدًا عن القصص السخيفة الكاذبة.. كذلك اللهم احفظْني منها، واحفظ أتباعي كذلك.

على أي حال.. ليس هذا موضوعًا واحدًا بل موضوعات واسعة. لا ينفكُّ كثير من الإخوة الأحمديين يسألون: هل كلمة (كما) تعني المساواة في المقام؟ إنني بإذن الله تعالى، سوف أُبين لكم معاني (كما) بالتفصيل في فرصةٍ أُخرى، ولكن أُوجز فأقول بأنّها لا تعني تَساوِي المقام ولكنها تنقل معاني أخرى كثيرة. على أية حال، فالتشهُّد له صلة بالدعاء المذكور في هذه الآية: وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ . ولما كان زمن الآخرين منسوبًا للنبي ، لأنّ الزمن من بعثته حتى يوم القيامة زمنه .. فإذا كان ذِكرُه الصادق لم يستمر في أتباع محمد بالصدق والحق.. كان معنى ذلك عدم قبول الدعاء الإبراهيمي. فأعظم دليل على قبول دعاء سيدنا إبراهيم هو دعاء التشهُّد الذي علَّمناه سيدنا محمد المصطفى .

ثم يقول الدعاء: وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ الجنة نفسها نعيم، فما معنى وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ الواقع أنَّ الجنة لها درجاتٌ كثيرة.. منها جنة النعيم. وأرى أنّ جنة النعيم هي التي ينزل بها الأنبياء. لا شكّ أنّ الذين أنعم الله عليهم سواء أكانوا من النبيين أو الصديّقين أو الشهداء أو الصالحين جميعًا سوف يدخلون الجنة، وبهذا المعنى.. كل جنة يمكن أن تُسمّى جنة النعيم؛ ولكن (ال) تُضفي على (النعيم) معنىً إضافيًا.. أي أنّها الجنة التي ينال أهلها النعيم الكامل. والأنبياء هم الذين ينالون النعمة الكاملة حقًا. فليس ببعيد أن يكون سيدنا إبراهيم قد أراد بهذا الدعاء: عندما تُدخلني الجنة فاجعلني هناك أيضًا في زمرة الأنبياء، وأدخلني في الجنة تكون للذين أنعمت عليهم بأنعُمك الكاملة.

وهكذا ترون كيف أنّ هذا الدعاء مرتبطٌ بعمقٍ أيضًا بدعاء سورة الفاتحة

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

فإذا رغبتم أن تكونوا ضمن الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فعليكم أن تجعلوا نصب أعينكم كل الدعوات التي دعا بها جماعة الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والتي لا تنفك تناسب مواقف شتى في حياتنا.

وقوله: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ أعلم أنه كان من الضالين.. ولكني مع ذلك ابتهل إليك لتغفر له. وقد سبق أن أشرتُ بصدد ذلك أنّ سيدنا إبراهيم كان وعد أباه آزر أن يستغفر له، ولذلك سمح الله تعالى بإذنٍ خاص أن يفي بوعده. ولكن في النهاية أوضح الله تعالى لسيدنا إبراهيم بأنّ أباه لم يكن فقط من الضالين، وإنّما كان عدوًا لله، وكان هذا الخبر كافيًا ليمتنع سيدنا إبراهيم تمامًا عن الدعاء له مرةً أُخرى.

وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ وعندما يقوم الناس مرة أخرى لا تلحق بي الخزي. يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ اليوم الذي لا ينفع المرء فيه ماله ولا أبناؤه. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وإنّما ينفعه شيء واحد.. هو أن يُقدم على الله تعالى بقلبٍ طاهرٍ صافٍ.. بقلب دائم السجود أمام الله، ويُسلّم نفسه كليةً لله تعالى.

عسى الله تعالى أن يستدعينا من الدنيا للقائه في حالٍ يشهد لنا فيه دعاء سيدنا إبراهيم هذا، فلا نرجع إلى ربنا إلا بقلوبٍ سليمة. آمين!

Share via
تابعونا على الفايس بوك