خلفية دعوات الأنبياء
التاريخ: 1991-05-10

 خلفية دعوات الأنبياء

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

سلسلة كيف نتمتع بالصلاة

خطبة الجمعة التي ألقاها حضرة إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية

حضرة مرزا طاهر أحمد، أيده الله تعالى بنصره العزيز

ألقاها يوم 10/05/1991، بناصر باخ، ألمانيا

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ آمين.

كنا نتحدث عن الدعاء الذي علّمتناه سورة الفاتحة.. أي يا رب، اهدنا الطريق المستقيم الصحيح السوي.. طريق الذين تفضلتَ عليهم بنعمك، والذين يسيرون في صراط النعم، المسافرين في طريق الله الذين دخلوا ضمن من أنعم الله عليهم.. لقد ذَكَرَهم القرآن الكريم في صور متنوعة.. وحفظ لنا أدعيتهم. ومن هذه الأدعية فاتني في الترتيب دعاءٌ كان يجب ذكره قبل ذلك، ولذلك أبدأ موضوع اليوم بهذا الدعاء.

هذا الدعاء علّمه الله تعالى سيدنا محمدًا وهو:

رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (الإسراء: 81)..

أي اللهم، أدخلني بالحق وأخرجني بالحق.. فيكون الدخول بخطوات صادقة مبنية على الصدق وكذلك يكون الخروج من هذه المرحلة بخطوات الصدق أيضا. وهَبْ لي، يا رب، الناصر ذا السلطة الغالبة.

نزلت هذه السورة قبل الهجرة. هناك خلاف في الرأي حول تحديد هذا الزمن، ولكن المستشرقين يرون أن نزولها كان قبل السنة 12 من البعثة، ويرى بعض المفسرين أنها نزلت قبل ذلك بكثير. فالسورة وهذه الآية كلتاهما مكية حيث نزلت قبل الهجرة ومن ثم فإن هذا الدعاء يتضمن نبوءة عن الهجرة. ولكن موضوع الآية لا يتوقف عند حد الهجرة، بل هو ذو معنى أوسع بكثير كما سأبين.

عاش المصطفى 13 عاما في مكة تحمل خلالها أنواع المعاناة، وهاجر في السنة الثالثة عشرة تقريبا إلى المدينة. أخبره هذا الدعاء بأنك يا محمد، ستغادر هذه البلدة حتمًا، وستدخلها مرة ثانية حتمًا. وسيكون خروجك بالحق، وستعود لتدخلها بالحق أيضا.

ولقد ورد هنا ترتيب حادثي الخروج والدخول بتغير، فأمره الله تعالى أن يدعوه: اجعَلْ يا رب، مدخلي مدخل صدق ومخرجي مخرج صدق. لماذا ذكر الدخول أولا ثم  الخروج؟ الحكمة في ذلك أن الله تعالى لم يرد ليتألّم المصطفى ولو للحظة واحدة بفكرة أنه سيغادر مكة ولا يدرى أيرجع أم لا، لذلك جعل مسألة رجوعه مؤكدة بذكرها أولا. ولما كانت الآية نزلت قبل الرحيل، فقد أُخبر النبي بهذا الأسلوب أنه سيعود لمكة حتما، ولا حاجة به أن يقلق أو يحزن للخروج منها.

والحكمة الثانية من ذلك أن الأعداء كانوا يزعمون بأن الحال الذي اضطره إلى مغادرة مكة لم يكن حال صدق، ولم يخرجوه إلى المنفى وهو صادق، إذ كانوا يرمونه بنعت الكذاب والأفاك والمزور وكثير من الصفات التي تنسب إليه الكذب، ولكن المدينة التي رحبت به واستقبلته بالصدق وفتحت له ذراعيها شاهدةً على صدقه. ولذا كان معنى قوله: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ .. يا محمد، إنك ستدخل الآن البلدة التي ستكون شهادة على صدقك ولسوف تقبلك بالصدق، ولسوف تغادرها بالصدق لتدخل هذه البلدة مكة بالصدق مرة أخرى.

ولما كان نبأ الدخول مذكورا أولا فإنه يشير إلى فتح مكة، ويكون معنى قوله: أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ .. أنك يا محمد، عندما تدخل هذه البلدة مرة ثانية فسوف تدخلها وكل ذرة منها، كل حجر فيها كل هوائها وجوّها.. تشهد على أنك الرجل الصادق العائد إلى بلدته. ولما كان ذلك نبوءة فإن صدق المصطفى كان سيتحقق ويتبين عند دخوله في مكة.

ويعني قوله:

وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ..

أعْطِني يا رب، من عندك أولئك الأنصار الذين تزودهم بالقوة والنصر، ويكون عونهم نافعا مجديا. لا يكونون يا رب، أنصارا ضعفاء بل غالبين متقدمين. ولقد قبل الله تعالى أتم قبول في صورة الأنصار من أهل المدينة الذين تمكنوا من نصرته بنجاح كامل. وكل عون قدمه الأنصار.. وإن كان في الظاهر على يدهم.. إلا أن قوله مِنْ لَدُنْكَ يخبرنا أن عونهم كان بإذن الله ومن الله، ولولا ذلك ما كان لهذا العون من قيمة تذكر. فمع أن النبي ومَن معه من صحابته المهاجرين مدينون للأنصار، ولكن قوله مِنْ لَدُنْكَ كان بُشرى من الله بأن عونهم يكون إجابةً لدعائك. لسوف تتغير قلوبهم، وسيعطون المقدرة، فلا تحسبنّ أنك مدين لفضل أحد آخر.. بل إن هذا العون كله كان خالصا من الله تعالى إستجابة لدعائك.

ويتصل هذا الدعاء أيضا بالحياة اليومية العادية. نتعلم من القرآن الكريم أن الأدعية القرآنية لها معانٍ واسعة، وأنها يمكن أن تنطبق على مواقف متنوعة، بل إنها تنطبق عليها فعلاً. فكل أدعية القرآن وإن كانت ترتبط بمواقف خاصة إلا أن سيدنا المصطفى وصحابته كانوا يستعملونها وينتفعون بها في مواقف مشابهة. ففي رحلاتنا اليومية يكون هذا الدعاء مفيدا للغاية، وقد جربت بنفسي ذلك، وعاينت تأثيره الطيب بطريقة مدهشة للغاية. فكرت أن أخطب في الجماعة عن هذا الموضوع وحده، وأبين لهم كيف يجد المرء بتأثير هذا الدعاء تيسيرا مدهشا في رحلاته اليومية، ولا يكون ذلك من قبيل الصدفة وإنما تترى المعونات الإلهية بحيث يلاحظ حتى الإنسان العادي أن يدًا خفية هي وراء هذه الأحداث. ولسوف أعود لاستكمال هذا الموضوع فيما بعد إن شاء الله، حتى لا ينقطع سياق الحديث.

ومن أهم معاني هذا الدعاء ما يتصل بأحوال الإنسان. فالإنسان دائما يغير أحواله. يخرج من حال ليدخل في حال آخر. قد ينتقل من حال سيّء إلى حسن أو من حسن إلى سيّء. وبهذا الدعاء علمنا الله تعالى معنى كلمة “صِدْقٍ” أيضا. حيث يعني الدعاء: فيا رب كلما يتغير حالي اجعله يتغير بصدق إلى ما هو حق وأفضل. إن الموضوع الذي تناولته الآيات قبل هذه الآية يتصل بالمقام الرفيع لسيدنا المصطفى . ففي الآية التي قبلها يأمره الله تعالى:

وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ..

يا عبدي، قُمِ الليلَ، وصلِّ بهذا القرآن جاهدًا، لعل الله في المستقبل القريب يمنحك مقاما محمودا. وتنكير كلمة مَقَامًا إشارة إلى عظمة وسمو هذا المقام. وبعد هذه البشرى مباشرة علمه الله تعالى هذا الدعاء: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ.. .. يا رب، إن أردت أن ترفعني إلى هذا المقام الذي ذكرته فأَدخلني فيه بصدق وأخرجني منه بصدقٍ.. أي لا تجعلني يا رب أتوقف عند هذا المقام، بل اهدني وخذني بيدك إلى مقامات أعلى.. وخذني إليها في حال الصدق. إذا فقد جاءت هنا كلمة “صِدْقٍ” ضد الهبوط. فأحيانا يكون المرء في مقام رفيع، ولكنه لشقاوته لا يستطيع البقاء فيه.. كما أشار القرآن الكريم إلى مثال (بلعام باعور) الذي أعطاه الله من الملكات ما يتيح له، لو أراد السموَ، أي لو ثبت على فعل الصالحات وأراد الرفعة إلى الله تعالى، لرفعه مقاما عليا. وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ .. كان سيّء الطالع فمال إلى الأرض مرة أخرى. وخروجه من المقام العالي لا يمكن أن يسمى مُخْرَجَ صِدْقٍ ، لأنه بدلا من الصدق خطا خارجا إلى غير الصدق. ولذلك أرشد القرآن النبي لهذا الدعاء الكامل لكي يكون الدخول بالصدق، والخروج كذلك.. أي ألا يَسقط ويَهبط، وإنما يخطو دائما ويتقدم إلى مراتب أعلى.

وهناك معنى آخر لكلمة “صِدْقٍ” ينبغي على المؤمنين جميعا معرفته والتنبه إليه دائما. غالبا ما يرغب المرء في الدرجات العلى والأنانية والرياء يتسربان إلى رغبته هذه، إذ يرغب أن يُعدَّ بين الناس من الأتقياء، ويرتفع مقامه عندهم وينال لديهم المقام المحمود. وقد يجد هؤلاء الناس أحيانا خبراتْ تشبه إلى حد ما الخبراتِ الروحية، فيحسبون أنهم صاروا من المقربين إلى  الله، ولكن الواقع أنها ليست تجارب روحية وإنما شيطانية. فكل من يريد التحليق عاليا في سماء الروحانية ويود القرب إلى الله تعالى عليه أن يردد هذا الدعاء بانتظام غائصا في بحر معانيه وإلا لا يثبت قدمه على الصدق.

فقوله: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ يعني كل ما منحتني، يا رب، من مقام عال فليكن بالصدق ولا تلعب فيه رغباتي الأنانية أي دور، ولا يتدخل فيه أي كذب من ناحيتي.. بل يكون قدمًا من الصدق خالصة.. تمضي في التقدم، وتحظى دائما برضاك. وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ .. وعامِلْني، يا رب، بالمثل عندما تأخذني من هذا المقام إلى مقام أعلى.. فلا تتدخل رغباتي الدنية فيها، بل أخطو دائما إلى أهداف أعلى وأفضل طالبا عونك وحدك.

فهذا دعاء كامل جامع مانع ذو معان عميقة، ويُستخدم في مراحل وحالات شتى في الحياة إلى جانب الرحلات اليومية في الحياة.. روحية أو مادية. ففي أمور الدنيا مثلا.. عندما يُمنح الإنسان ترقيةً يكون هذا الدعاء مفيدا، إذ يترقى بعض الناس ثم يُطردون في خزي. ولو أنهم قبل الترقية جعلوا من هذا الدعاء تميمة حياتهم، واستمروا منتبهين إليه دائمًا.. لكان نافعا لهم في كل موقف يواجهونه في الحياة ويتغير فيه حالهم إلى حال آخر.

ولآن أعود إلى دعاء أيوب. جاء في القرآن الكريم:

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (الأنبياء: 84)..

تذكَّرْ، عندما قال أيوب: يا رب، لقد أصابني الضرر الشديد، وأعلمُ يا رب أنك أرحم الراحمين.

أذكر لكم بإيجاز الحادثة التي واجهت أيوب وأعرِّفكم بشخصيته، لأن معظم الناس يعرفون القليل عن أيوب .

ولد سيدنا أيوب حوالي عام 1550 عامًأ قبل سيدنا عيسى، ومائتي عام قبل سيدنا موسى عليهم السلام. وهناك خلافات حول شخصه. فعند البعض كان نبيا إسرائيليا، وعند البعض الآخر لم يكن من أنبياء بني إسرائيل بل من غيرهم. ويقول المفسرون المسلمون أنه ولد في منطقة سوريا، وذكرت التوراة أنه كان من مُوز (Mooz)،  التي لم أجد ما يؤكد مكانها.

تقول التوراة أن الله تعالى وهب سيدنا أيوب أفضالا كثيرة من الثراء الدنيوي وقطعان الغنم والماشية وكل أصناف الحيوان، وزوجة أولادا.. فكان من أكبر أثرياء الناس في منطقته. وكان شديد الكرم، وخادمًا لقومه. فحسده الشيطان وقال للرب: أنت معجَب بعبدك أيوب لأنه يعبدك كثيرا ويتذكرك ولا ينساك بالرغم من النعم الكثيرة.. ولكنه لو جربته مرة واحدة لتبين لك حقيقة حاله. دَمِّر أملاكه وَلْنرَ كيف يبقى عابدا لك عندئذ. فقال الرب للشيطان: أُعطيك سُلطانا على ممتلكاته. وهكذا دمر الشيطان كل ما كان يملك. بعد ذلك قال الشيطان: إن الإنسان إذا كانت عائلته بخير فإنه لا يهتم لفقدان قطعان الماشية، ولكنه لا يتحمل فقدان أولاده. فترك الله أولاد أيوب يُجلَون أولاً ثم يموتون. عندئذ طلب الشيطان أن تكون له سلطة على جسده. فسمح الرب له أن يختبره في صحته. وهكذا أصابه المرض بحيث كان يتصبب الصديد من جسده، بحسب رواية التوراة، حتى جعل الناس يكرهونه ويتجنبونه. كان الدود يجري في جسده حتى ألقى به الناس خارج المدينة. وفي كل هذه الظروف بَقِيَ أيوب ثابتا صابرا شاكرا لله ولم ينقص إيمانه شيئا. فقال الشيطان للرب: لا تزال زوجته ترعاه وتعينه وهي مخلصة له، فيجب أن يقع به ضرر من قِبل زوجته لنرى صبره. وفكر الشيطان أن كما أغوى حواء يغوي زوجة أيوب أيضا حتى تتركه. فأخبر الشيطان زوجته بأنها إذا ضحت بعجل أو حيوان آخر باسمه لشُفِي زوجها. وهكذا أمرها بالشرك والوثنية. فاستعدت زوجة أيوب لفعل ذلك تماما. وذكرته لسيدنا أيوب قائلة: كم سيطول بك الصبر؟ ادْعُ ربك ليميتك أو ليخلصك من هذا البلاء. فغضب سيدنا أيوب عليها وعزم على أن يعاقبها إذا شُفي من مرضه بمائة جلدة لتورطها في الوثنية. فغادرته زوجته، وبقي وحيدا، ومع ذلك بقي صابرا. عندئذ أخبره الله أنك مررت بفترة البلاء بنجاح، وكل ما عانيت سيكون خيرا لك، وسيعود لك الآن غناك السابق بل أكثر. فعادت له زوجته وأولاده، وأحسن الذين تنكروا له من قبل بالخجل، واسترد صحته ومجده وشرفه وعاد إليه الجميع. هذه هي ملخص الرواية.

وروى المفسرون القصة نفسها وإن كان تختلف في بعض الأمور. وتقرر التوراة أيضا أن الشيطان صحب الملائكة أمام المحكمة الإلهية وتحدث مع الرب متظاهرا أنه ملاك مما ترتب عليه بقية الأحداث. لم يقبل المفسرون بهذا وأعطوه لونا آخر جديدا. قالوا بأنه في زمن أيوب كان الشيطان يتخذ لنفسه موقع مراقبة للتنصت عليهم ويتسمع ما يجري بين الملائكة والأنبياء. وذات مرة كان الملائكة وسيدنا أيوب يتحدثون، والملائكة يكيلون له الثناء، كما رفعوا إلى الله أن عبدك أيوب كثير المال والنعم ومع ذلك يعبدك. فاستمع الشيطان وعرف ما يجري وبدأ مؤامرته الشريرة.

ذكر سيدنا المصلح الموعود “حضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد ، الخليفة الثاني لسيدنا المهدي والمسيح ” في “التفسير الكبير” أن هناك رواية مشابهة عن زعيم هندوسي صالح “هاريش تشاندرا”. تقول القصة أنه أُعطِي نعما من الرب كتلك التي وردت عن أيوب، وأن الآلهة الهندوسية هم الذين أحسوا بالغيرة منه بدلا من الشيطان. ولم يذكر سيدنا المصلح الموعود تفاصيل الرواية، ولكني اطلعت عليها في المراجع التاريخية، ووجدت روايات شتى عن “هاريش تشاندرا” تتلخص في أن الآلهة حسدوه وقالوا للرب الأكبر، بحسب الفكر الديني الهندوسي، أعطنا الفرصة لنختبره. فذهب أحد الآلهة إلى “هاريش تشاندرا” في صورة بشر وقال له: سمعنا عن كرمك الشديد، فهل تقبل التماسي؟ قال: نعم، أعطيك كل ما تسأل. وكان إذا وعد لم يرجع عن كلمته أبدا. فلما سمع الإله إجابته الجازمة قال له: أَعطِني كل شيء في حوزتك.. كل ممتلكاتك وثروتك، وبيتك وأثاثك. فأعطاه “هاريش” كل شيء. فقال له الإله: لم تعطني كل شيء.. لا يزال لديك زوجك وأولادك ونفسك وجسدك. فماذا بشأنهم؟ فباع “هاريش” كل ذلك لرجل من (الشوادر) وهم أدنى درجات الطوائف عند الهندوس. فبدأت حياة الشقاء، وقاسى “هاريش” كثيرا وتعرض لمصائب جمة.

فهي قصة مشابهة لقصة أيوب. ومال تفكير المصلح الموعود إلى أنه ليس من المستبعد أن يكون أيوب من أنبياء الهند. وقد أشرت آنفا إلى أن بعض المفسرين لا يعدونه من أنبياء بني إسرائيل. ولعل القصة كانت عن نبي هندي ووصلت إلى الإسرائيليين، فأدخلوها في روايات العهد القديم.

بعد هذه الخلفية أتحدث إليكم عن دعاء أيوب في القرآن الكريم كما علمه الله إياه. قال الله تعالى:

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

لا نجد تفاصيل عن حال سيدنا أيوب في القرآن، ولكن الإشارات تدل على أنه كان يعاني من كرب شديد، وأن جسده أصيب بأمراض عديدة حتى غادر موطنه في النهاية ولا نجد في القرآن تفاصيل الأحداث كالتي ذكرت، ولكنه يخبرننا أن الأمر وصل إلى أن تخلى عنه الجميع. فقوله أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ يشير إلى أن الناس الذين كانوا يبدون لي الرحمة قد تحولوا عني. تخلى عني زوجتي وأولادي، ونبذني أهل البلد وتراجع عني الذين آمنوا بي أيضا، وها أنا ذا يا رب، أغادر بلدي وحيدا، ولكني لم أفقد الرجاء ما دمت أنت أرحم الراحمين. فمن لا يجد رحمة من الرحماء يجدها عندك.

عند هذا الدعاء يقول الله تعالى:

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ

لقد سمعنا تضرعه الأليم وتقبلناه، وأزلنا عنه ما نزل به من أذى وألم، وأعدنا إليه أسرته وعائلات أخرى مثلهم يعتبرون أنفسهم من عائلته. فقوله مِثْلَهُمْ مَعَهُم بشارة طيبة بأن الله سيعوضه بيوتا كثيرة أحبته بدلا من بيت واحد، رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا : هذا كله خالص رحمة الله، وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ .. وفي ذلك موعظة دائمة لأولئك الذين يعبدون الله.. فمهما واجهتهم من مشاكل ومصاعب فإنهم لا يفقدون الرجاء. وإذا تمسكوا بالعبادة مع الصبر، وركعوا لله وحده، فإنه من فضله تعالى سوف يفرج كربهم ويغير حالهم ويبدلهم بعد الألم مسرة.

وهناك دعاء سيدنا يونس الذي يقول عنه القرآن:

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ..

أي تذكَّر إذ ذهب متضايقا، وحسب أننا لن نقهره، أو لن نصدر حكما ضده، إذ قدر عليه تعني حكم عليه أو تغلب عليه، والمعنيان كلاهما يصدقان على الموقف إلى حد ما، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ .. فدعا الله تعالى وهو في الظلمات:

أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ..

لقد أخطأت يا رب، وأعترف بذنبي، فاغفِرْ لي هذا الخطأ، وإجابةً لهذا الدعاء يقول الله تعالى:

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ..

فسمعنا لدعائه وخلصناه من الحزن الشديد، وهكذا نكافئ المؤمنين.

هناك خلافات تاريخية حول سيدنا يونس وينبغي الإشارة إليها، تختلف القصة في التوراة عنها في القرآن الكريم، ويختلف ترتيب الأحداث أيضا، يعتقد المفسرون بصفة عامة أن نينوى هي البلد الذي أرسل إليه سيدنا يونس، وهي في الموصل التي يعيش بها الأكراد اليوم في شمال العراق، ويقولون إن زمن سيدنا يونس كان سنة 800 ق. م.

وتقول التوراة أن سيدنا يونس، وهناك سفر باسمه يونا أو اليونان، أمره الله بالتوجه إلى مدينة نينوى لتحذير أهلها بأنهم إن لم يتوبوا فسيصيبهم الدمار، وبدلا من الذهاب إلى نينوى ذهب سيدنا يونس إلى يافا الواقعة على الساحل الغربي لفلسطين، واستقل ذلك المركب الذي ألقوا به خارجه بعد أن وقعت عليه القرعة، وابتلعه الحوت.

ولا يقتنع مؤمن، أعني ممن درسوا القرآن الكريم وعرفوا منه عظمة الأنبياء، ولو للحظة واحدة أن يأمر الله تعالى نبيا ليذهب إلى الشرق، فيرتد على عقبيه ويذهب إلى الغرب نابذًا أمر الله تعالى، فإن هذا مخالف تماما لمقام النبوة. فأولا، من المحال أن يرفض نبي أمر الله تعالى صراحة هكذا.

وثانيا، في ذلك الوقت كان الحكم الآشوري قويا في شمال العراق، وكانوا في ذلك الوقت هاجموا حكومة بني إسرائيل وقضوا عليها، لذلك يبدو من المستحيل من الناحية التاريخية أن يأمر الله تعالى شخصا يسكن في فلسطين ليقطع المسافة إلى نينوى ليحذرهم. والمسافة بين يافا ونينوى 500 ميل في خط مستقيم، ولكن المسافة الحقيقية للسفر أطول من ذلك بكثير، فهذا أمر غير معقول.

وثالثا، لا يوجد دليل في التاريخ على أن أحد الأنبياء أعلن رسالته في نينوى وآمنت به المدينة كلها، وبذلك تكون رواية التوراة غير مقبولة من نواح عدة.

رابعًا، إن ترتيب الأحداث كما روته التوراة غريب، فسيدنا يونس يرفض أمر الله وبدلا من الذهاب إلى نينوى يأخذ مركبا من يافا متجها إلى مكان آخر. وتهب عاصفة في البحر تهدد القارب بالغرق، فيقول الركاب: هناك رجل آثم فيما بيننا وسيعذبنا الله بسببه، فيعترف سيدنا يونس بأنه هو المذنب ويطلب منهم إلقاءه في البحر، فيفعلون به ذلك. فابتلعته سمكة ضخمة، وبقي في جوفها لثلاثة أيام متواصلة، ثم لفظته السمكة في مكان ما، توجه منه إلى نينوى.. وهكذا في نهاية المطاب نقذ أمر الله. وعندما وصل إلى نينوى لم يكن قد تاب حقا.. فبينما كان يبلغهم الرسالة قال في نفسه: أعرف أن هؤلاء الناس سيتوبون وسيغفر الله لهم، وسوف ألقى المهانة بلا داع، فلما تاب الناس ولم يدمر الله نينوى غضب يونس على الله تعالى وذهب إلى الغاب، وهناك كما تقول التوراة أنبت الله نباتا من النباتات الزاحفة فاستظل بظلها، ولكن الله أرسل دودة أكلت جذر النبات فأصبح خاويا وسقط على الأرض. فاشتكى يونس من هذا قائلا: “ظِلٌ قليلٌ وأحرَمُ منه”. فقال له الله: تحزن لموت نبات واحد كل هذا الحزن وأنت الذي لم تبذل فيه أي جهد، وتنتظر مني أن أدمر في لحظةٍ 100 ألف إنسان خلقتهم بيدي؟ عندئذ فهم سيدنا يونس الحكمة من ذلك.

أما القرآن الكريم فيقدم لنا قصة أخرى تختلف تماما عن هذه.

فأولا: لم يذكر مدينة نينوى، ولكن المفسرين خمنوا بأنفسهم بعد قراءة التوراة أن مدينة سيدنا يونس هي نينوى، إذ يقول البعض أن ذا النون تعني: رجل من نينوى، مع أن النونَ تعني الحوت، وقد سميَّ يونس أيضا صاحب الحوت.

وثانيا: إذا كان غادر نينوى غاضبا فلماذا سار سبعمائة أو ثمانمائة ميل ليركب سفينة من ميناء يافا مع أن الأقرب منه نهر دجلة الذي تقع عليه مدينة نينوى، وكان بوسعه أن يركب قاربا من هناك. هذا أيضا أمر غير مفهوم.

والقصة القرآنية أكثر معقولية وتناسقا، ولا مجال فيها للاعتراض. لم يذكر القرآن اسم المدينة، كما لم يقل شيئا عن مكثه في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاثة ليال، ولكنه يقول بأن الحوت الْتقمه، وأنه في حال الضيق والمعاناة لما دعا ربه نبذه الحوت، فالمقصود إذن أنه مكث في هذا الوضع مدة قصيرة.

هذا الموضوع يحتاج إلى شرح، خصوصا لأن المسلمين الأحمديين عندما يناقشون النصارى يشيرون إلى واقعة مكوث سيدنا يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاثة ليال بقائه بداخله حيا وخروجه منه حيا، ويقولون: وبالمثل ابتُلِيَ سيدنا عيسى ثلاثة أيام قضى منها بضع ساعات معلقا على الصليب، والباقي من الوقت قضاه في المقبرة وخرج منها حيا.

أود أن أخبركم أن كل مايقوله القرآن لا يخلو من الحكمة، فذِكر الأيام الثلاثة في التوراة خطأ ولا شك.. لأن قانون الطبيعة لا يترك شيئا حيا ثلاثة أيام وثلاث ليال في بطن الحوت، في مثل هذه المدة تتحلل كل أنواع اللحوم وتذوب ولا يبقى سوى العظم. ثم هناك الاختناق وتأثير الأحماض بما يجعل المكث في بطن الحوت حيًّا شيئا لا يستسيغه الفكر. فخلو القرآن الكريم من ذكر الأيام الثلاثة هذه كان أمرًا حكيما، يبدو أن الحوت التَقَمَه وهو يدعو هذا الدعاء بألم وكرب: يا ربي، ما هذا الظلام الذي وقعتُ فيه؟ هذه ظلماتي.. ظلمات أخطائي. أتضرع إليك أن تغفر لي فإني معترف بجريرتي، وبحسب رواية القرآن.. يبدو أن الحوت أحس بغثيان أو مرض فتقيأه. وقد استغرق ذلك الزمنَ اللازمَ لهذه السمكة الضخمة لتصل إلى الماء الضحل القريب من الشاطئ حيث لفظت سيدنا يونس. وهناك أمضى بضعة أيام في ظل شجرة زاحفة، وطَعِمَ من ثمرها الذي شفاه ومنحه النشاط والطاقة، ثم بفضل الله بدأ مهمته النبوية بعد أن هاجر إلى البلدة.

فملخص القصة القرآنية أن سيدنا يونس ذهب برسالته إلى نينوى أو بلد آخر عين له، ورفض قومه رسالته. فأخبره الله أنهم إذا لم يتوبوا ويستغفروا الله فسينزل بهم العذاب بعد زمن معين. ونعلم من سيرة الأنبياء أن مثل ذلك قد حدث بأقوام آخرين أيضا. بعد هذا الوعيد الإلهي هاجر يونس عليه السلام من البلدة وتوقف عند مكان آخر غير بعيد، وأخذ يسأل المارّة عن حال البلدة بعد خروجه لم يكتفوا بالتوبة إلى الله خلال هذه الفترة فحسب.. بل وتضرعوا إلى الله تعالى بألم وحرارة ليغفر لهم خطاياهم لأنه أرحم الراحمين، فلا يرد تضرعاتهم. وتروي الآثار والتوراة أنه بعد مغادرة سيدنا يونس أحس القوم بخطئهم، وأدركوا أنه كان رجلا صالحا من عند الله تعالى، وأنه لا سبيل لخلاصهم سوى أن يخرجوا من البلدة إلى الحقول حيث يبكون ويتضرعون بشدة، ولكي يزداد تضرعهم ألمـًا منعوا الأمهات من إرضاع الأطفال، وكذلك تركوا صغار الحيوانات مفصولة عن أمهاتها، فبدأ الأطفال تصرخ جوعا وعطشا والحيوانات تصيح في مشهد مؤثر، مائة ألف في الحقل بين رجل وامرأة وطفل في مشهد كالقيامة يبكون ويصرخون ويضطربون كالحيوانات الذبيحة، فرحم الله حالهم وألغى عقوبتهم، حتى أن القرآن الكريم يقول:

فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (يونس: 99)..

لو أن الأقوام الذين أنذرهم أنبياءهم كانوا مثل قوم يونس فبكوا وتضرعوا إلى الله لعفونا عنهم كما عفونا عن قوم يونس.. ومددنا لهم حياةً نافعة في الدنيا، ولم ينزل بهم عقاب الله تعالى، ولأبقيناهم على حالهم الطيب.

كان هذا ما حدث، ولم يكن سيدنا يونس يدري بما جرى. ولما مضى الوقت المحدد أخذ سيدنا يونس يسأل الذين جاءوا من البلدة عن أخبارها. فأجابوه أن البلدة في حال طيب وأن الناس فيها أحياء يرزقون. عند ذلك حزن يونس وفكر في الإنذار الإلهي الذي وجهه لهم بالهلاك ولكنه لم يتحقق، فأحس بالخجل وقرر عدم العودة للبلدة.

يحكي القرآن هذه الحادثة بطريقة دقيقة، فيقول: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، بهذه الشهادة الإلهة تبدأ القصة.. بما يعني ألا تقولوا عن يونس شيئا يخالف شرف النبوة والأنبياء، يجب ألا يدور بخلدكم أبدا أن الله تعالى أمره بأن يذهب إلى مكان، فعصى أمره وذهب إلى مكان آخر، لقد كان نبيا على أي حال قد يقع الأنبياء في شيء من الإهمال والرجل العادي يقع فيما هو أشد منه مئات المرات ولا يعاقَب.. لأنه ليس خطيئة بالنسبة لمن هم في هذا المستوى، أما أصحاب المقامات الرفيعة فيظهر العيب فيهم أكثر وضوحا.. كما أن اللطخة العادية تبدو كبيرة في الثوب الأبيض. هذا هو الموضوع الذي يشير إليه القرآن في قوله: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، لقد كان نبيا اصطفاه الله تعالى وبعثه رسولا ومع ما قد وقع منه من خطأ فسيبقى من بين الرسل، ويجب على المستمعين ألا يتجاهلوا متطلبات احترامه.

ثم يقول: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ .. تذكَّر عندما أسرع ليلحق بالسفينة الحافلة بركابها. وتبين كلمة “أبق” أنه كان كمن يسرع ليلحق بقطار انطلقت صافرته مؤذنةً بالرحيل، أو بسفينة رفعت مراسيها وتأهبت للإقلاع. كان المركب جاهزا بركابه ويوشك على الحركة فلحِق به.

ثم يقول: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ .. اقترع سيدنا يونس، ولم يذكر هنا أي شيء عن اعترافه بذنوبه أمام الركاب، ويبدو أن القارب كان يهتز بفعل العاصفة وكان مليئا بالركاب، فقرروا أن يلقوا القرعة، ولا يمكن القول بأن المركب كان سفينة، ربما كانت سفينة في عرفهم تلك الأيام ولكنها قارب عادي.. وإلا فما الفائدة من التخلص من أحد الركاب في سفينة كبيرة، فلم يكن المركب كبيرا وإنما من الحجم الذي إذا تخلصوا من أحد ركابه أتاح الفرصة لنجاة الآخرين من الغرق.

ومن عظمة تدبير الله تعالى أن يسأل الركابَ سيدنا يونس ليجري القرعة، ففي هذا حكمة، كان سيدنا يونس آخر من لحق بالسفينة، فإذا قام أحد غيره بالقرعة فربما ظن أنها مؤامرة منهم ضده. ولكي يعرف سيدنا يونس أن هذا من تقدير الله وليس مؤامرة من أحد رتب الله أن يطلب ركاب القارب من يونس أن يقوم بإجراء القرعة. فلما فعل خرج سهمه، فألقوا به في البحر.

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ، أي ابتلعه الحوت وهو في حال يلوم فيه نفسه بنفسه، أو أنه كان ملاما.

فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ،

فلولا أن سيدنا يونس من قبل كان من المداومين على تسبيح الله لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة.

لو نتدبر أكثر في هذه الآيات نجد لطافة في ذكر الأحداث التي واجهت سيدنا يونس، وأن الله تعالى عندما يلقن عباده بعض الدروس فإنه يعلمهم في ضوء ما وقعوا فيه من أخطاء. تذكرون أن سيدنا يونس غادر بلدة آهلة بالسكان الذين بسبب خطاياهم كانوا يستحقون الهلاك.. وكان تقدير الله تعالى أن ينجو منها رجل واحد يستحق النجاة هو يونس. فتركها وهي هدف للدمار بحسب الوحي الإلهي. وما أنه وقع في خطأ حيث تطرق إلى ذهنه أن الله قد لا يدينه ولا يؤاخذه، كان واحدا من النبيين لذلك لا يليق بنا الظن بأنه فكر أن الله لا يستطيع أن يقدر عليه ويلحقه.

لقد تفكرت في هذا وشعرت أن مثل هذه الترجمة ليست صحيحة هنا، وإنما وردت هنا مسألة لطيفة للغاية. فكر سيدنا يونس أن الله كان قرر بعقاب ودمار مائة ألف من الخاطئين الذين ارتكبوا أكبر المعاصي.. إلا أنه عفا عنهم.. فكيف سيعاقبني على ذلك وأنا من الصالحين وأحد أنبيائه، إنه لن يعاملني بما يخالف الرحمة، إن الرب الرحيم إلى هذا الحد لن يصدر أمرًا ضدي. ولكن يونس نَسيَ أن كل إنسان يُعامَل بقدر مركزه وقدرته. إن الآمال في أهل التقوى عالية، ولذلك علَّم اللهُ تعالى سيدنا يونس أن الله تعالى إذا شاء قلب الأوضاع.

لنعُدْ مرة أخرى إلى القارب. كان القارب كامل الحمولة من الركاب وكانوا جميعا فيما عدا سيدنا يونس من المذنبين. والله تعالى نجّى هؤلاء العصاة، وأما الفرد البريء من بينهم فقد تركه الله ليُلقَى من القارب ويواجه الهلاك. ولكن ما وقع في تلك البلدة كان على النقيض مما حدث في القارب تماما. هناك غادر يونس بلدةً آهلةً تنتظر قضاء الله بخرابها، وكان يونس هو البريء الطاهر الوحيد الذي قرر الله بنجاته. أما في القارب فقدر الله أن ينجو الركاب العاصون جميعا ويُلقَى البريء في البحر في فم الحوت لأنه تشكك لحظة في سنة الله.. فابتلعته سمكة.

فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ،

وكلمة “الظُّلُمَاتِ” في دعائه تكشف لنا أن هذا الدعاء مما علمه الله إياه، فهو وحي تام البلاغة والفصاحة قضى حياته كلها في النور، ولكنه مر في ظل خفيف من الظلمة وارتكب فعلا يعتبر ظلمة من الظلمات عندما تشكك في أمر الله تعالى، ونتيجة لذلك أحاطت به الظلمات، فنادى وهو غارق في هذه الظلمات بنداء عفويّ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ .. ليس لي إله أعبده سواك.. سُبْحَانَكَ .. أنت قدوس منزه عن كل نقص.. إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ .. وأنا الذي كنت وقعت في الظلم. وكلمتا “ظلم” و”ظلمات” من أصل واحد.. ولهما معنى مشترك.. فالظلم إثم وظلمة أيضا.

ونتيجة لهذا الدعاء أنقذ الله تعالى سيدنا يونس حيث قال: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ .. لقد عفونا عن يونس لأنه قضى حياته الماضية في ذكر الله وتسبيحه. ومن هذا يتبين أن الله تعالى يحتفظ بالأعمال الطيبة لعباده. فمع أن خطأ خطيرا قد وقع منه يترتب عليه أن تظلم كل أعماله السابقة بسبب ما هو معقود عليه من آمال، ولكن الله تعالى يقول: إننا لا ننسى الأفعال الطيبة للصالحين.. فقد أمضى حياته في ذكر الله وتسبيحه. وفي هذا عظةٌ لنا. إذا ابتهلنا إلى الله عند حلول مصيبة: يا رب، قد وقعنا في الخطأ فخلِّصْنا من ذنبنا، وأخرِجْنا من الظلمات.. مع أننا لم نكن من قبل نسبح الله ونذكره.. فإن دعاءنا هذا لن يكتسب قوة كبيرة للقبول. لذلك ينبغي أن نبقى دائما في ذكر الله. يجب أن نحمده عندما لا نسأل الله شيئا.. بل محبةً له وذكرًا له نتغنى بالثناء عليه وتسبيحه ونذكر صفاته. في هذا الحال عندما نواجه صعوبة فإن الله يذكر لنا تسبيحنا السابق ويعفو عنا حتى وإن وقعنا في خطأ كبير.

فالذين يكتبون إلي أنه قد أحاطت بنا المصاعب، ودعونا كثيرا وصرخنا وابتهلنا وبكينا، ولكن لم يستجب دعاءنا.. إني أقول لهم: هذه عظتي لكم، يبدو أنكم في الماضي أغفلتم ذكر الله تعالى. لقد منحكم الله كثيرا من النعم ولكن لم تذكروه، تذكرونه فقط عندما تحتاجون، وعندما يكون المرء في حاجة فإن الذكر يكون بلا حقيقة ولا قيمة.

وبهذه المناسبة أذكركم بأن لا تصروا أثناء النقاش مع النصارى على أن سيدنا يونس مكث في بطن الحوت ثلاثة أيام. كل ما نقوله إنه كان في حالة خطر لمدة ثلاثة أيام. ويبدو أن رواية التوراة لم تكن واضحة تماما لمن كتبوها. قد يكون الله تعالى أوحى لبعض الصالحين، أو وصلتهم قصة نبي وأخطأوا بهذا الصدد. ربما ذكرت القصة خطورة حالته لمدة ثلاثة أيام.. فافترضوا أنه عاش في بطن الحوت لهذه المدة. وهذا يشبه حال من يعاني من أزمة قلبية لفترة ويبقى في العلاج المركَّز لثلاثة أيام في حال صراع بين الحياة والموت، ويبدو أن الموت هو الغالب، فيقال إن الحال خطير، ويستمر المرض بعد ذلك ولكن احتمال الشفاء يزداد.

وكذلك سيدنا عيسى بعد مكثه على الصليب بضع ساعات.. استمر في مثل هذه الحال ليومين ونصف. كان يقاسي من جروح عميقة وبدا كالموشك على الموت حيث كان يعاني من سكرات الموت ولم يمكن الجزم بأنه ستكتب له الحياة. بهذه الطريقة يكون قد مكث ثلاثة أيام مثل سيدنا يونس، بحيث لو أن الحوت قد التقمه للحظة أو لحظتين أو لبضع دقائق، ولكن عندما لفظه كان مصابا بجراح كثيرة وناله أذى كبير، ومكث ثلاثة أيام في آلام الموت. ولو لم يقدر الله للنبات الزاحف أن ينبت عليه ويحميه، ولو لم تكن في النبات ميزة الشفاء.. ما كان أمامه فرصة للحياة. فالله تعالى ينقذ المرء حتى لو كان في مثل هذا الحال. وإذا كانت هناك في هذه القصة دروس للحذر والتنبه، فهناك أيضا ما يذكرنا بفضل الله تعالى اللامحدود.. الذي ينقذ المرء وإن ظهر أن لا فرصة للنجاة.

* سبق أن تناولنا دعاء لسيدنا زكريا. وهذا دعاء آخر له يقدمه لنا القرآن في صيغة أخرى.. يقول:

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (الأنبياء: 90)..

لا تدعني يا رب وحيدا.. وأنت خير الوارثين. في الدعاء الأول في سورة مريم، دعا زكريا ربه أنه بلا أولاد، وأنه يخشى أقاربه.. وزوجته عجوز عاقر.. فإذا تركها هكذا بعد موته فليس لها من يحميها. قد يظن ظان بأن سيدنا زكريا اهتم بإنجاب الأطفال لسبب مادي.. إذ لم يكن له من يرثه ولا تجد زوجته من يحميها، ولكن لما كان سيدنا زكريا شديد المحبة لله، ويثق فيه ثقة لا تحد، لذلك ذكر القرآن له دعاء ثانيا يزيل به أي فهم خاطئ. يقول: أريد ألا أبقى وحيدا، بل تكون لي ذرية من بعدي.. ليس لأنه لا وارث لي، وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ يتضمن المعنيين، الأول: كل ما في حوزتي يا رب ليس لي، ولا لأحد غيري، بل عندما نموت نغادر كل شيء، ويعود إليك ما أعطيتنا. فأنت الباقي الذي يرجع إليه كل شيء. والثاني: إن الورثة من البشر قد يؤدون المسئوليات وقد لا يؤدون، ولكن من يتوكل عليك، يا رب، يجدك الوارث الحق الذي يتحمل كل الأثقال. أنت الذي تدبر قضاء ديونهم، وأنت الذي تقوم بكل مسئولياتهم.

فالذين يدعون الله تعالى طلبا للذرية عليهم أن يضعوا المعنيين في اعتبارهم عند ترديد هذا الدعاء. ليدعوا الله بأن لهم رغبة في الأولاد.. ولكن ليس لأنهم سيهلكون بدون أولاد.. فأنت الوارث وحدك وأنت الباقي وحدك. ومن كنت له وليا لا يمكن أن يمحى اسمه، لأنك تستوفي مسئولياته حتى بعد مماته، فإذا لم تمنحنا ذرية فلن نسخط، ولن نحس بالعار. إن منحتنا مسألتنا فذلك خير.. وإلا فأنت خير الوارثين، وليس لنا أي حق للشكوى بين يديك.

ثم يقول الله:

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ..

فأجبنا دعاءه ووهبنا له يحيى هديةً منا، وشفينا له زوجه العجوز العاقر.

ثم يقول:

إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ..

وهنا أيضا تتضح فلسفة قبول الدعاء. لماذا يقبل الدعاء من بعض الناس أكثر من سواهم. يقول:

إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ..

لأنهم لا يأتون بابي وقت الحاجة فقط.. وإنما كانوا بدافع محبتهم لي يتسابقون في فعل ما هو خير، ويخدمون بني البشر، وكلما تتاح لهم فرصة لذلك لا يفرِّطون فيها، بل يقدمون دائما على المشاركة في كل خير. وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا .. وكانوا يذكرونني دائما، ويبتهلون إلي بالرجاء والخشية، أحيانا يدعون رجاء رضاي ورغبة نوالي، وأحيانا يدعون خشية غضبي، كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ فمن كانت هذه عادتهم يكونون دائما بين يدي الله في تواضع وتذلل وانصياع.

يقول بعض الناس أن الله تعالى أظهر هذه الآية المعجزة لسيدنا زكريا فقط، ولكننا دعونا لزوجاتنا المسنات فما ولدن أطفال، وما شفيت العاقر، وما ذهب عنا ضعفنا. فأقول لهؤلاء إن الذين يسألون الله أمورا غير عادية يجب أن يحدثوا في أنفسهم تغييرات غير عادية. إنهم يبدلون حياتهم في سبيل الله، ولا يقدمون على الله تعالى وقت حاجتهم فقط وإنما هم بين يدي الله تعالى طول حياتهم. لا ينفكون راضين برضاه، راضين بابتلاءاته، وفي خشية دائمة من تقصير قد يغضب الله عليهم ويحرمهم من مرضاته. إن دعاء هؤلاء مقبول بشكل إعجازي وغير عادي. اللهم اجْعلنا من بين عبادك هؤلاء. فنسأل الكثير منك، ونسأل بتضرع عميق.. ولكن عازمين على أنه حتى لو لم تَستجب فسنبقى راضين عنك.

إني أحب هذا البيت من شعر سيدنا المصلح الموعود أكثر من أبياته الأخرى ومعناه:

“اللهم نسألك فضلك، ولكن إذا كان منك الابتلاء لكي نفوز برضاك ولا يكون سخطا منك فنحن سعداء بكل ما يرضيك”

لو دعوتم بمثل هذه الروح كسبتم كل شيء. المفلحون في هذه الدنيا هم فقط أولئك الذين يرضون بكل تغييرات سيدهم.. الذي لا يقتصر حبهم على الخيرات والطيبات.. وإنما يحبون اليد التي تعطي الخير. اللهم، اجعلنا من هؤلاء، آمين!

Share via
تابعونا على الفايس بوك