خلفية دعوات الأنبياء
التاريخ: 1991-05-03

 خلفية دعوات الأنبياء

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

سلسلة: كيف نتمتّع بالصلاة

 خلفية دعوات الأنبياء

خطبة الجمعة التي ألقاها حضرة إمام  الجماعة الإسلامية الأحمدية

حضرة مرزا طاهر أحمد، أيّده الله بنصره العزيز

يوم 3، 5، 1991.. ((بمسجد بيت النور))، هولندا

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ (آمين)

الموضوع الرئيسي المستمر في سلسلةٍ من الخطب يتعلّق بدعاء سورة الفاتحة

اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ ،

وذكرتُ من قبل أنَّ هؤلاء الذين أنعم الله عليهم قد حقّقوا أهدافهم عن طريق الدعاء، لا من خلال الجهود البشرية وحدها. وقد فتح لنا هذا الدعاء سلسلةً من الأدعية القرآنية المحفوظة، بتمامها في القرآن الكريم. إنّه لم يُسجّل أدعية الأنبياء فقط، وإنّما حفظ أيضًا أدعية غيرهم من عباد الله الصالحين الأبرار رجالاً ونساءً.

*   أول دعاء أتناوله في خطبة اليوم هو دعاء ينبغي على المرء أن يدعوه للوالدين. إنّه دعاء من الوحي الإلهي. إنّه دعاء علّمه الله تعالى سيدنا محمدًا المصطفى وأتباعه. يقول الدعاء: رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (الإسراء: 25). أللَّهم، أَنْزِلْ رحمتك عليهما..، على أبي وأمي.. لأنهما قاما بتربيتي عندما كنت صغيرًا.

ولكي نفهم عمق هذا الدعاء ينبغي أن نتعرَّف بوضوح على خلفيّته التي تضعها الآية أمامنا. وبعد دراسة الآية كاملة نعلم أهمية هذا الدعاء، ويستنير لنا أيضًا ما ينبغي أن يكون تحت نظرنا عندما نُردِّد هذا الدعاء.

تقول الآية:

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا .

هذا أمرٌ من الله تعالى يا محمد.. ألا تعبد أحدًا مع الله تعالى. وأن تكون محسنًا إلى والديك. ومعاملة الوالدين باللطف والإحسان من الأهمية بحيث تأتي مباشرةً بعد تعليم وحدانية الله تعالى. بأي معنى استُعملتْ كلمة (إحسان) هنا.. سأتحدَّث عن ذلك فيما بعد.

  إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ..

لو وصل أحدهما أو كلاهما سنَّ الشيخوخة في حياتك.. يجب ألا يصدر منك كلمة شكوى أو تذمُّر. ويُشير قوله تعالى: لَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ إلى أنّه في سنّ الكِبر قد تصدر منهما بعض تصرُّفات تختلف عن سابق معاملتهما لك في صغرك. فكانا في صغرك لا ينفكان يربّيانك برحمةٍ وحنان، ولكن المرء عند الكِبر لا يتحكم في مشاعره ويكون أكثر حساسية، ويخلق ضعف الشيخوخة حِدّةً في مزاجه. ثم هناك أنواع من مشاعر الحرمان؛ فالأولاد عندما يكبرون ويشرعون في إقامة بيوتهم، ويتوقع الأبوان بسبب سابق حنانهما نحو الأولاد أنهم سيعاملونهما بطريقةٍ مماثلة. قد يكون في معاملة الولد معهما بعض النقص، أو قد يكون بالوالدين سوء فهم من أنه لا يحبنا كما يحب زوجته وأطفاله. فإشارةً إلى كل هذه الأشياء قال القرآن الكريم بحكمةٍ بالغة: فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ؛ أي سوف تحدث هذه الأشياء التي يُحتمل أن تسبّب عندك شكوىً لها مبرّر أو ليس لها ما يبرّرها. إنَّ والديك سوف يُعاملانك في الظاهر بخشونة.. وأنت الذي اعتدت منهما لطف المعاملة في صغرك.. قد تزعجك معاملتهما الجديدة.. فينبغي ألا تنطق عندئذٍ بكلمة شكوى.

وكلمة ((أُفٍّ)) ليست كلمة بذيئة أو عنيفة.. ولكنها تعبيرٌ عن الكدر والأسف. فالقرآن الكريم يعلّمنا ألا نتلفّظ حتى بما يُعبّر عن شعور الكدر والأسف في حقِّ الوالدين.

وَلَا تَنْهَرْهُمَا .. ولا مجال أبدًا للومٍ أو توبيخ. يجب ألا تتحدَّث إلى والديك بخشونةٍ أبدًا. وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، بل تحدَّث إليهما باحترام. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ .. وانشُرْ عليهما جناح الرِّقة واللطف.. مِنَ الرَّحْمَةِ برحمةٍ وحنان. ثم ادعُ لهما، وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا .. أللهم اشمَلْهُما برحمتك كما شملاني برحمتهما وربّياني في صغري.

إنّه دعاءٌ يفيضُ بالحبّ وفي قمّة الكمال، ويذكّرنا بالمسئولية الواجبة على الأبناء نحو الآباء. ولكن هناك أحكام أخرى كامنة في هذا الدعاء. وسوف أضع أمامكم تفصيلاً لبعض ما في هذه الآية من معانٍ.

فنحن مأمورون بمعاملتهما بإحسان، وكأنه واجبٌ علينا، وهذا عجيب، لأنَّ الإحسان ليس أمرًا إلزاميًا عند كل إنسان. وسواء أكان الإنسان محسنًا لأحدٍ أم لا.. فلا فرق هناك. إذ ليس مُعاقبًا عند الله إذا لم يعمل إحسانًا لشخصٍ ما. وهنا لم يأمر الله تعالى بالوفاء بالمسئولية فقط بل أمر بفعل الإحسان!

وقد تكون لذلك حِكَم مستورةٌ أخرى، ولكن أودُّ أن أُبيّن لكم حكمتين منها: أولاً، تنفّذ الالتزامات أولاً ثم يأتي الإحسان بعد ذلك. فإذا لم يقم المرء بالتزاماته فلا مجال هناك للإحسان. فقد أشار القرآن الكريم، وهو القمّة في البلاغة والفصاحة.. وكلام الله تعالى، أشار في كلمةٍ واحدة إلى أداء الواجب أيضًا، لأنه يأتي أولاً. كما لو أنَّ المؤمن يُتوقَّع منه في معاملاته اليومية الوفاء بواجباته، وعدمُ وفائه بها مسألةٌ غير واردة. وأما فيما يتعلّق بالوالدين فليس كافيا أن يقوم المرء بأداء واجبه، بل من اللازم أن يكون محسنًا عطوفًا نحوهما.

أما الحكمة الثانية فَلِفَهْمِهَا علينا بفهم كلمة (إحسان) في ضوء آيةٍ أخرى هي المفتاح لهذا الموضوع. يقول الله تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ . فهذا الإحسان إلى الوالدين ليس بالمعنى الذي يُحسن به بعضنا إلى بعض.. إنّه ليس عملاً من جانب واحد يتفضّل به الأولاد على الآباء، بل إنَّ الله تعالى يُقرّر أنَّ والديك كانا قد أحسنا إليك، لذلك فمجرّد أداء الواجب ليس كافيًا من ناحيتك. فما دمتَ لا تعاملهما بإحسان فلن تُعدَّ من الذين قاموا بواجبهم. هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ . إذا كان محسنًا إليك بصفة مستمرة، وأنت تقوم نحوه بمسئولياتك اليوميّة العادية فقط فذلك ليس كافيًا.

يتبيّن هذا المعنى بالجزء الثاني من الآية حيث ورد: رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . يا ربّ، إنهما لم يقوما عليَّ بأداء واجبهما ولم يكدحا لإعالتي والوفاء بحاجاتي اليومية فحسب، بل فوق ذلك بكثير عامَلاني بشفقةٍ ورحمة. كانا يضطربان لأقلِّ وجعٍ يُصيبني، وكان يُفارقهما النوم لأقلِّ علّة. كانت معاملتهما بي معاملةَ رحمة. لقد أمرتني بأن أكون محسنًا شفوقًا عليهما، ولكني يا رب، لا أقدر على سداد هذا الإحسان، لذلك ألتمس معونتك بدعائي، فمن دون معونتك في هذا الأمر، لا أستطيع تسديد أفضالهما الكثيرة عليَّ مهما فعلتُ. فَأَعِنِّي من فضلك.. وارحَمْهما أنت بنفسك، وعوِّضهما برحمتك عن كلّ تقصيرٍ مني.. وكما كانت رحمتهما بي مستمرة في صغري.. كن يا رب بهما رحيمًا دائمًا.

ولقد فتح هذا الدعاء أمامنا موضوعًا مدهشًا، وبيَّن أنَّ الآباء أيضًا بحاجة إلى معونة دائمة من الله تعالى فيما يتعلّق بتربيتهم. فقوله: أُفٍ يذكّرنا بضعفهم البشري وحاجتهم الشديدة إلى صفة ربِّ الإلهيّة. إنَّ الإنسان بحاجةٍ إلى هذه الصفة الإلهيّة حتى آخر حياته. إذًا فهذا دعاء كامل للغاية ومعناه: يا ربّ، إنَّ أعضاءهما قد وهنت وضعُفت في الظاهر، وبعد القوة أصابهما الضعف. وعندما يضعف المرء فهو بحاجة إلى مساندة بمزيدٍ من الرحمة. عندما كنتُ طفلاً عطف عليَّ والداي بسبب ضعفي. إنَّ كلمة (صغيرًا) تدلُّ على أنَّ معاملة الرحمة عندما يكبر المرء لا تكون كما تكون عند طفولته لأنَّ ضعف الطفولة هو الذي يتطلَّب العطف. عندما يتعلَّمُ الطفلَ المشيَ فإنّه يقع مرةً بعد أخرى، وعندما تعلّمه الكلام يُخطئ ويتلعثم، وعندما تُعلّمه القراءة كثيرًا ما ينسى، ولو حفَّظته عن ظهر قلب ثم سألتَهُ فإنّه يُخطئ ويُكرِّر الخطأ مرةً ثانية. وأحيانًا يكون تعليم الطفل مُحطِّمًا للأعصاب. والواقع أنّك ما لم تُبدِ رحمةً لا تستطيع تعليم الطفل. وبعض الوالدين جهلاً منهم يفقدون صبرهم وبدلاً من الرحمة بالأولاد يُعاملونهم بخشونة منذ طفولتهم المبكرة. مع أنه لا يمكنك أن تُربّي طفلاً بفظاظة.. فإنَّ ذلك يولِّدُ فيه النقائص منذ طفولته. وهكذا أضاءت الآية الحكمة أنّه لا يفوز من الآباء في تربية أولادهم تربيةً حسنة إلا الذين يُربّونهم برحمة. ولمـّا كان الذين عُلِّموا هذا الدعاء هم في الواقع سيدنا محمد المصطفى وأصحابه وأتباعه.. ولذلك أُنيطت بهم أحسن التوقُّعات، وكأنّهم يقولون: قام آباؤنا بتربيتنا ومعاملتنا برحمةٍ لضعفنا ولم يكونوا جُفاةً معنا.. وكانوا دائمًا يعاملوننا بالمغفرة والصفح.. فيا رب.. إذا صاروا ضعفاء فاغفِرْ لهم ضعفهم وإهمالهم، وعامِلهم بغفرانك ورحمتك.

ومما هو جديرٌ بالذكر هنا أنَّ كلمة (كما) تذكّرنا بمسئولياتنا العديدة وتوجّه انتباهنا، ليس نحو آبائنا وحدهم، وإنّما أيضًا نحو الأبناء والأجيال القادمة. تُنبّهنا كلمة (كما) إلى أنَّ الوالدين إذا لم يُربيّا أطفالهما برحمة فلن يُقبل هذا الدعاء لصالحهما، لأنَّ (كما) تعني: بسبب أنّهما ربّياني في طفولتي بالرحمة. وبسبب نسيان هذا الموضوع قد نشأت أمراضٌ عديدة في المجتمع الغربي. فتربية الأطفال بالعطف والرحمة وتزويدهم بالتربية الروحيّة ضروريٌّ أيضًا لتبقى العلاقة بين الأطفال والآباء عندما يكبرون قائمةً على الرحمة والعطف والغفران. إذا وجد الأبناء منذ طفولتهم آباءهم مُنهمكين في طلب ملذّاتهم الشخصيّة، مُعرضين عن مسؤليّاتهم نحو أطفالهم ليتولّاها أصحاب المدرسة أو المجتمع، ويتجاهلون العلاقة الشخصية اللازمة لتربيتهم، فلن يُقبل هذا الدعاء لصالحهم. تذكَّروا أننا لا نتحدَّث هنا عن حبّ الأطفال، فالوالدين في كل المجتمعات بالفعل يحبُّون أولادهم، وإنّما نتحدَّث عن الحب الذي يُستخدم في تربيتهم. فينبغي ألا يكون هناك الحبّ الذي يُدلِّلهم ويُفسد أخلاقهم. فهذه الآية ذكرت التوازن في الحب، وأخبرتنا أنَّ هذا الحبّ المتوازن هو وحده الذي يُفيد، وينال الأطفال به تربيةً أفضل. فالمجتمعات التي يُهمَل فيها هذا الأمر تنشأ فيها كثير من المساوئ والعيوب، وعندما يكبر الأطفال فإنّهم لا يدعون للوالدين بالرحمة من الله تعالى، ولا هم يُعاملونهم بالعطف والإحسان. ونتيجةً لذلك تمتلئ بيوت المسنّين بآباء قد نسيهم أبناؤهم حيث يُلقونَ بهم إلى النسيان بدلاً من معاملتهم باللطف ويقطعون صلتهم بهم ويُعاملونهم بجفاء على أدنى تقصيرٍ منهم. والمجتمعات التي ينمو فيها هذا الاتجاه يزداد فيها إنفاق الحكومات على بيوت المسنين حتى إنَّ الحكومات الغنية تجدُ نفسها مرهقة ولا تستطيع الوفاء الكامل بحاجات المسنين.. وهي حاجاتٌ كان من الواجب أن يفي بها أبناؤهم. فَنِعمَ ما يقول الشاعر، ولعلّه الرومي، بالفارسية ما معناه:

لا تكن غافلاً عن نتائج الأعمال

فإذا بذرتَ قمحًا فسوف ينمو القمحُ لا غير،

وإذا بذرتَ شعيرًا فلن ينمو سوى الشعير.

فعلاقة الأجيال الصغيرة مع الأجيال الكبيرة ليست إلا ثمرة العلاقات التي كانت بين الأجيال الكبيرة والأجيال الصغيرة. فإذا كانت هناك علاقة قائمة على محبةٍ وعطف كأسلوبٍ في التربية.. إذا كانت علاقة رحمة تؤدّي إلى معاملة الأبناء بالحكمة كيلا تهبط أخلاقياتهم بل تَمْضي في تقدُّمها وتحسُّنها، فإنَّ أطفال مثل هؤلاء الآباء، بفضل الله تعالى، يذكرون رحمة آبائهم، وبطبيعة الحال يحتفظون لهم دائمًا بمشاعر العطف نحوهم.. ولا يَسعهم قطع علاقاتهم معهم. وفي مثل هذا المجتمع لا يمكن أن تتولّد فجوة بين الأجيال. إنَّ فجوة الأجيال مصطلح من أخطر ما يكون، وهو اختراع العالم المتقدّم.. ولم يكن في الأيام السابقة مسألة فجوة الأجيال هذه. وهي ليست علامة على التعليم والتقدُّم، وإنّما تنشأ نتيجة تجاهل ما قرّره القرآن من حكمة. فإنَّ جيلاً عندما يقطع علاقة المحبة مع الجيل الجديد ويتجاهل تربيتهم، فإنَّ الجيل الجديد عندما يكبر فإنّه يبتعد أكثر عن الجيل القديم وتنشأ مسافات فيما بينهم، ثم لا تزال تتسع وتتسع. وهكذا اتضحت لنا بجلاء خلفيّةُ هذا الدعاء الذي يعلّمناه القرآن الكريم.

وقوله تعالى:

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ

يعني أيها الأبناء، ينبغي أن تبسطوا على الآباء أجنحة الرقّة واللطف كما تحمي الطيور صِغارها تحت أجنحتها. واستخدّمَ الله كلمة “جناح” ليُصوِّر أمام أعيننا سلوك الطيور مع صغارها ويقول: ينبغي أن تعاملوا الوالدين بالمحبة والحنان كما تُربّي الطيور صغارها وترعاها حينما تعتمد عليها اعتمادًا كليًّا. وهنا ضرب الطير مثلاً بدلاً من الإنسان. وكلمة ((جناح)) هنا مجازية.. ولا تعني بالضرورة جناح الطير وإنّما تُستعمل للتعبير عن صفة. استُخدمت هنا لِتَلفِتَ فكرَ الإنسان نحو الطير.. لأنّها ذوات الجناح، وتُربّي فراخها لزمنٍ طويل لا تستطيع فيه رؤية شيء، ولا سماع شيء ولا إطعام نفسها. حتى تفتح الطيور الآباء مناقيرها لتكون مجهزة للإطعام، وتمضي الآباء في كفاحها الشاق ما دامت الفراخ لا تستطيع أن تستقل بحياتها.

وهناك حكمةٌ أخرى لضرب مثل الطير، فالوالدان من الطير كلاهما يعملان بجد لتربية فراخهما، ولا تُترك تربية الفراخ على الأم وحدها. وقد اتضح من هذا الموضوع في الدعاء القرآني كما يعلّمنا إياه. ومن الأخطاء التي نجدها اليوم في المجتمع المتقدم، وأيضًا في مجتمعاتنا القديمة.. بل نجدها في بلاد العالم الثالث أكثر مما هي في البلاد المتقدِّمة.. أن يظنَّ الناس أنَّ تربية الأطفال وظيفة الأم وحدها. فلا يُشارك الآباء الأمهاتِ في ذلك ولا يجتهدون معهنّ، ويتركون الأمر للأم ظنًّا أنَّ باستطاعتها وحدها تربيتهم، ولا يهتمون إذا كانت ترعاهم حقًا أم لا. يبقى الآباء مشغولين في الكسب، ويحسبون أنّهم قد قاموا بواجبهم. ولكن الدعاء القرآني:

رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا

ورد بصيغة المثنّى، أي ارحمهما كما ربّياني كلاهما، إذًا فيجب على الأم والأب كليهما أن يشاركا بالتساوي في تربية الأطفال. ويؤدّي كل منهما واجبه نحوهم، وينظر إلى أمر التربية بدافع المحبة والعطف وليس من باب الواجب والالتزام.

إقرأوا هذا الدعاء مرةً أخرى مع قوله:

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ..

تُدركوا أنَّ المثال الذي ضُرب هنا هو مثال الطير حيث يمثل الطيور أفضل مثال بين الحيوانات في رعايتها لصغارها ولا يضارعها في ذلك حيوانٌ آخر. فالوالدين كلاهما يسعيان بجدٍّ لتربية الفراخ، ولا نجد مثالاً آخر للكفاح الكامل المستمر في عالم الحيوان. فهما يعملان سويًا في بناء العشّ، ويكافحان معًا في تزويد صغارهم بالطعام، وفي معظم الحالات يرقد الذكر في دوره على البيض، وأحيانًا يعمل الذكر أكثَرَ لإحضار الطعام.

فمن هذا الدعاء نتعلّم أيضًا هذه الحكمة بأنه في تربية الطفل تربيةً روحيةً صحيحة يجب على الوالد أن يتحمّل نصيبًا مساويًا للأم. وفي الحالات التي يشارك فيها الوالدان في تربية الأولاد بالمحبة تندر أحداث الطلاق، ولا تنهدم مثل هذه البيوت أبدًا. ولكن البيوت التي ينفرد فيها الأب أو الأم بالدور الأكبر في تربية الأطفال هي المعرّضة في معظم الأحيان للانهيار، وتتوتّر العلاقات المتبادلة إلى حدّ أنّ كليهما لا يفي واجبه نحو الأولاد. ولهذا السبب نفسه يفسد الأطفال عندما يكبرون، وأحيانًا يميلون إلى جانب الأم لأنّها قامت بالدور الأكبر في تربيتهم وأبدَتْ لهم المحبة، وأحيانًا يرتبطون بالأب ويقفون ضدَّ الأم لأنها لم تَرْعهم، وإنما كان عبء تربيتهم على الأب. وبذلك يزداد احتمال انهيار هذه البيوت، ويترتّب على هذا الحال تلك المواقف الخطيرة التي توجد آثارُها في كل المجتمعات المتقدّمة.. حيث يواجه الأطفال المخاطر من جهة الوالدين. فتقول تحريّات الشرطة في بعض مناطق أوروبا أنّ ٣٠ بالمائة من البيوت لا يجد فيها الأطفال الأمان من الوالدين حتى أنّهم يتعرَّضون للعدوان الجنسي. وفي مثل هذا الحال كيف يمكن أن يعمل هذا الدعاء: رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ؟ إنّه دعاءُ المجتمع الصالح التقيّ حيث لا يُعامل الوالدان أبناءهما باللطف ويؤدّيان واجباتهما العامة نحوهم فحسب، وإنّما يفعلان ذلك بكل رحمة ولطف، ويُربّيانهم بالمحبة والحنان وليس بالغضب. إنّ الرحمة ضروريةٌ للتربية. تذكّروا أنَّ الإنسان حينما يفقد الصبر ويُبدي الغضب ويضرب أطفاله على أخطائهم ويسبُّهم.. فلا يُسمّى ذلك ((تربية))، وإنّما هو تهيّجٌ وانفعال نفساني. وتحت تأثير الغضب لا يستطيع المرء تربية روحيّة. ولهذا السبب نفسه عبّر سيدنا المهدي والمسيح الموعود عن استيائه الشديد من أحد أصحابه الذي سمع أنّه كان فظًّا مع أولاده، وأراد تأديبهم بالعقاب البدني. وكان هذا الاستياء شديدًا بما لم يحدث منه إلا نادرًا مع أصحابه، وقال له مرارًا: لماذا لا تدعو لهم بالهداية؟ وهذا يدلُّ على أنّ رجال الله الصالحين ذوي الإيمان الصادق يهتمون بالدعاء أكثر من أي شيء.

فدعاء: رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا يُبيّن هذا الجانب أيضًا. فقد كان صراط أولئك الذين أنعم الله عليهم أنّهم لم يكتفوا بمعاملة أولادهم بالعطف والرحمة فقط، وإنّما كانوا يدعون لهم أيضًا. كانوا يدعون لهم من منطلق الرحمة العطف، لأنَهم بسبب عطفهم لم يستطيعوا اتباع وسائل الخشونة معهم، لأنه ليس من أوامر الله تعالى تصحيح أخطاء الأولاد بالقوة، ونتيجة لذلك تولّد في قلوبهم ومالوا إلى الدعاء.

فالذين هم من فئة المنعم عليهم.. الذين مكَّن الله تعالى لهم المسير في ذلك الصراط، كانوا يدعون كثيرًا لأولادهم. ونتيجةً لذلك عندما علَّم الله تعالى الأبناء في هذا الدعاء أن يُحسنوا إلى آبائهم ويعاملوهم بالعطف قال: ذلك على أنّهم عاملوكم بالعطف بما في ذلك الدعاء لكم. فكلمة “كما” تعلّمنا أنَّ الدعاء كان من ضمن معاملة الرحمة والعطف.. ولو لم يكن الدعاء متضمّنًا فيها.. ما علَّمنا الله هذا الدعاء.

واختتام الموضوع بالدعاء يُكسب هذا الدعاء جمالاً وروعة. ما أكمل كلام الله تعالى! فقد فسَّر كل الأمور المتعلّقة بالتربية الروحيّة، وذَكّر العلاقة بين جيلين، وذَكر الأخطار التي يُحتمل مواجهتها وحذّرنا منها، ثم أخبرنا بأحسن طريق للتربية الروحية هو الدعاء وحده. فكما عبَّر الآباء عن عطفهم ورحمتهم بكم بالدعاء لكم.. فينبغي عليكم في نهاية الدعاء أن تدعو بنفس الدعاء. وجاء بعد هذا الدعاء بعد الأمر بانتهاج المعاملة العطوفة الرحيمة. فقال أولاً: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ، أي يجب أن تضعهما تحت حماية جناحيك. ويبدو أنَّ الأمر قد اكتمل هنا، ولكنه يقول: كلا، ما دمتم لم تدعوا هذا الدعاء فلن يكون بوسعكم ردُّ الإحسان. فالدعاء هو الذي أكمل الموضوع.

وإذا احتفظنا بكل هذه الأمور في اعتبارنا عند ترديد هذا الدعاء.. كسب الدعاء عُمقًا كبيرًا، وسموًا عظيمًا. إنّه دعاءٌ نافع للأجيال القادمة، كما هو نافع للأجيال الماضية، وينفع كلا الاتجاهين نفعًا متماثلاً.

إنَّ هذا الموضوع متصلٌ بوحدانية الله تعالى اتصالاً عميقًا؛ لأنَّ توحيد المجتمع ضروري لإقامة وحدانية الله بمستوىً رفيع. وتوحيد المجتمع ممكن فقط عندما تكون هناك علاقةٌ وطيدة لا تنقطع بين الآباء والأبناء، ونتيجةً لذلك وحده تكون الأسر مستقرة ثابتة، ونتيجةً لذلك فقط تقوم الوحدة في المجتمع. عندما تنقطع علاقات الأُسر، وعندما يشرع الآباء في الانفصال عن أبنائهم ينهار المجتمع وينقسم إلى أشلاء. وتوحيد الله تعالى لا يقوم في المجتمع الممزَّق. فهذا الموضوع له صلةٌ عميقة أخرى مع التوحيد الإلهي. فالصلة الأولى هي أنَّ الله تعالى بعد توحيده يحبُّ أكثر ما يحبّ أن يردّ المؤمن الإحسان بالإحسان، والصلة الأخرى هي ما ذكرته آنفًا بأنَّ التوحيد الإلهي لا يقوم في المجتمع الممزَّق.

* هناك دعاءٌ آخر في سورة الكهف:

رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (الآية: 11)..

أي ربنا امْنَحنا رحمةً من عندك، واجعَلْ لنا من عندك وسائل رُشدنا وهدايتنا. ولهذا الدعاء أيضًا خلفيّةٌ. فهذا دعاء ساكني الكهف الذين قال القرآن عنهم بأنّه لما أصبحت الحياة بين أهل الأرض شاقةً عليهم، فضَّلوا أن يذهبوا إلى الكهوف على الحياة على سطح الأرض بدلاً من أن يقطعوا صلتهم بتوحيد الله تعالى. وهكذا عاشوا مختفين عن الناس في الكهوف كي يتمكنوا من البقاء مستمسكين بعقيدتهم التوحيدية. وهكذا يتصل هذا الدعاء بالتوحيد. يقول الله تعالى:

إذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ..

أي اذكُر عندما دخل الجماعة من الشباب إلى الكهف وفضلوا العيش فيه حيث دعوا الله تعالى: يا ربنا، ليس لنا رجاء في رحمة أهل الدنيا .. فامْنحنا الرحمة من عندك أنت. لو كان هناك أي أثر للرحمة بين الناس فما الذي يدفعنا للعيش داخل الكهف كالحيوانات بدلا من العيش على سطح الأرض بينهم.

تشير الآية إلى أولئك الموحدين النصارى الذين عاشوا في القرون الثلاثة الأولى من النصرانية، والذين قدموا تضحيات عظيمة في سبيل إيمانهم بوحدانية الله تعالى. كان عليهم بذل التضحيات بسبب الفظائع من جانب الحكومة الرومانية وأيضا من أتباع بعض المذاهب المسيحية المتعصبة الذين انحرفوا بالتدريج بعيدا عن وحدانية الله نحو التثليث. وذكرهم هذا ذو أهمية لكل أولئك الذين سوف يقاسون ويتألمون في سبيل الله تعالى ويمرون في ابتلاءات كبيرة.

لقد تحدثت إليكم من قبل عن دعاء سيدنا يوسف الذي قال الله عنه إنه أحْسَنَ الْقَصَصِ .. والذي قال فيه يوسف

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ..

أي يا رب، السجن أحب إليّ من كل تلك المتع الدنيوية التي تُغريني بها أولئك النسوة والتي تجعلني أتجاهل مرضاتك. وهذا الدعاء يشبه دعاء سيدنا يوسف هذا. فقد بذل النصارى في البداية تضحيات عظيمة في سبيل الله إحياءً لذكره. وإحياءً لذكرى تضحياتهم، أخبرنا القرآن أنهم فضلوا العيش في الكهوف على عيش الأرض. لقد طلَّقوا الحضارة بالعودة إلى الحياة البدائية التي عاشها الإنسان قبل أن يتحضر! ودَعَوا الله تعالى: يا رب، لقد انقطع رجاؤنا في رحمة أهل الدنيا، فآتنا من لدنك رحمةً. لن يهبنا أحد سواك الرحمة.. فآتنا الرحمة من فضلك. وهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ، وبفضلك ورحمتك وحدك احفظْنا ثابتين على الهدى.. لأننا قمنا بهذه التضحية طلبا للهدى .. إذا حُرمنا الهدى وعُدنا للضلالة رغم عيشنا في الكهوف ضاعت تضحياتنا سُدّى.

وهذا الدعاء يناسب موقف الجماعة الإسلامية الأحمدية. فبتذكر تضحيات المسيح الأول خاصةً، يجب أن تحتفظوا بالخيارات التي اختارها أتباع المسيح الأول عندما عزموا على ألا يضحوا بما هم عليه من الهدى من أجل أهل الدنيا، ولا يدعوا صراط الهدى خوفا من فظائع الناس قائلين: سنلتمس المعونة من الله تعالى، ولو حُرمنا من كل حقوقنا سنتقبل هذه الحياة عن طيب خاطر مبتهلين إلى الله تعالى.

لقد فكرت في ذلك لأن الأحمديين الذين يقاسون في باكستان يكتبون إليَّ أحيانا الرسائل ويقولون : لقد أوقفوا ترقياتنا الوظيفية، ويقول الأطفال: إنهم يسيئون معاملتنا في مجال التعليم، ولا يعطوننا حقوقنا. إنني أقول لهم: ألا يعرفون أننا أتباع مسيحِ محمدٍ ، وينسون أن أتباعَ مسيح موسى قد قاموا بتضحيات عظيمة، وثبتوا وصبروا على هذه التضحيات العظيمة، ولم يقلقوا أبدا لحرمانهم من حقوق الإنسان، ويقول القرآن الكريم إنهم حُرموا من حقوقهم لدرجة أنهم فضلوا العيش في باطن الأرض، ولم يكن مستطاعا لهم أن يعيشوا عيشة البشر؟ فإذا كان أتباع مسيح موسى بذلوا مثل هذه التضحيات فإن مثل هذه الصغائر لا تناسب أفراد الجماعة الذين نسبوا أنفسهم إلى مسيح محمد . دَعُوا الأعادي يفعلوا ما يشاءون، ويطلقوا لفظائعهم العنانَ إلى الحد الذي يريدون، وتذكروا أن الجماعة الإسلامية الأحمدية لو استمرت في طلب الثبات والصبر من الله تعالى عن طريق الدعاء وطلب الرحمة منه جل وعلا.. فلن تنهزم شجاعتهم أبدا، بل إن الله تعالى سوف يثبت قلوبهم وأقدامهم دائما.

وهناك دعاء لسيدنا زكريا الذي ورد في سورة مريم والذي قاله تعبيرا عن رغبته في الذرية. ولكن أي نوع من الذرية كانت تهفو إليه نفسه؟ ولماذا عبر عن هذه الرغبة؟ لقد ذكرتُ لكم خلفيةَ هذا عندما كنا بصدد موضوع آخر لسيدنا زكريا. ولهذا الدعاء عظمته وروعته الخاصة به. ففيه شعور عميق بالألم، ويدل على وفائه وثباته الشديدين في علاقته بالله. تبدأ سورة مريم بقول: كهيعص وهذه مقطعة باختصارات لبعض صفات الله تعالى. ثم جاء قوله تعالى : ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا .. يا محمد سوف نقص عليك الآن رحمة ربك مع عبده زكريا.

عندما يكون الحديث عن أمر خاص يكون هناك تنبيه مسبق للسامع حتى يتأهب له. وهكذا بدأ القرآن مقدمة الموضوع بهذا الأسلوب. استهل القرآن أولا بذكر الصفات الإلهية الخاصة بطريق خاص وقال: كهيعص . ونجد تفسير المصطفى لهذه الحروف في كتاب (فتح البيان) رُوي عن السيدة أم هاني أن “ك” هنا لكافٍ.. أي أن الله تعالى كافٍ لعباده. وقد ورد في القرآن هذا المعنى في قوله تعالى : أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ، وكثير من الأحمديين يلبسون الخواتم التي تحمل هذه الآية. “فالكاف” تعني: لماذا ييئس المرء ويقنط من الله تعالى.. أليس هو كافيا لعبده؟ و”الهاء” لهادٍ، أي الذي يهب الهدى. فالله تعالى إن شاء أقام عبده ثابتا على الهداية.. ولولا ذلك ما أمكن للإنسان أن يثبت عليها. و”يا” للنداء.. أي يا رب.. أنت كافٍ عبدَك وهادٍ له. و”العين” لعالمٍ أو عليم، أي أن الله تعالى هو الأعلم بما إذا كان الأبناء لهم نفع أم لا، ولماذا يهب الأطفال أولا يهبهم. و”الصاد” لصادق.. بمعنى أنه إذا وعد فسوف يحقق وعده حتى وإن كانت ظواهر الأمور تدل على عدم إمكانية إنجاب الأطفال.

وبعد ذكر هذه الصفات الربانية يقول: سوف نذكر ما أبديناه من رحمة نحو عبدنا المحب زكريا. إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا .. في صوت خافت مكتوم.. مثل من يتنهد فيتصاعد صوتُ ألمٍ من حلقة لا يكاد يفهمه السامع، ولكن يحس أنه يذكر شيئًا مؤلما.. في مثل هذا الحال دعا سيدنا زكريا ربه وتوسل إليه..

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا .

يا رب لقد ضعفت عظامي لتقدم سني، وغيّر الكبر شعر رأسي حتى بدا كنار مشتعلة من البياض. وانظُرْ يا رب، صدقي وإيماني .. فلم أفقد حتى الآن أملي في ما أدعوك له.

ما أعظم هذا الدعاء؛ رجل مسن وهنت عظامه، ولا يملك القوة على التمكن من الوقوف، وأبيض الشعر. ليس ذلك فحسب، وإنما قال: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا لست وحدي الضعيف يا رب، ولكن زوجتي أيضا عاقر لا تصلح للحمل وإنجاب الأطفال.

ما أعظم هذا التوكل على الله تعالى! لا نجد له نظيرا في العالم كله. لقد حفظ الله لنا من الأدعية العظيمة ما جعل لنا به متعة ولذة في ترديد دعاء “اهدنا الصراط المستقيم”! فهمها كان الصراط أشد صعوبة فإنه يبدو أَيْسر تحققًا.. ذلك عندما نقرأ ذكر أولئك الذين أنعم الله عليهم، ونرى كيف تيسر لهم هذا الصراط.

يقول الله تعالى: لقد دعا عبدي قائلا: لقد ضعفت عظامي، وابيضّ رأسي شيبا، ومع ذلك يا رب، لم أفْقِدْ الرجاءَ في رحمتك. أخشى الأقاربَ من بعدي، ولا أعرف كيف سوف يعاملوننا. وامرأتي عاقر لا طفل لها يرعاها ويحميها.. وسوف تُترك وحدها في هذه الدنيا. فامْنحني من عندك وليًّا صديقا. وبقول “وليًّا” دعا سيدنا زكريا أيضا أن يكون هذا الولد صالحا تقيا لأن الأبناء غير الأتقياء لا يكونون أولياء وأصدقاء لأب تقي. ما أعظَمَ بلاغةَ القرآن الكريم وفصاحته. إن كلمات دعاء سيدنا زكريا جديرة بأن تكتب بحروف من الذهب. ولكن ما هي قيمة الحروف الذهبية، فالدعاء الذي يحفظه الله تعالى في كتابه.. لا يمكن لمداد أو بريق أن يحفظه إلى الأبد أكثر من هذا.

ثم قال : يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ . أريد ابنا وارثا لي ولبيت يعقوب. وهذا الميراث هو ميراث التقوى وليس ميراث الكنوز الدنيوية. وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا .. اجعَله يا رب بحيث تكون راضيا عنه. وواضح من أسلوب الدعاء لا يمكن أن يُردَّ. فالطريقة التي بدأ بها الموضوع تملأ قلب المرء باليقين بحيث يكون شاهدا تلقائيا على أن الله تعالى لا يرد مثل هذا الدعاء أبدا حتى أن القرآن لا يذكر بعد ذلك أن الله قبِلَ دعاءه، بل على الفور يقول: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ .. يا عبدي زكريا.. خُذ مني البشرى بابنِ

اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا

لن تجد له مثالا من قبل، أي لم يُسّم أحدٌ ابنَه هذا الاسم. سيكون ابنا غير عادي لا نظير له وكذلك سيكون اسمه. و”اسمه يحيى” أي أنه سيعيش. فلماذا سماه الله يحيى؟ الواقع أن الاسم يحمل بشارة باستشهاده. ولقد استشهد سيدنا يحيى، ويشهد الله تعالى في القرآن أن الشهداء أحياء. قد تحسبهم أنت وغيرك أمواتا ولكنهم في الحقيقة نالوا حياة أبدية. فلحكمةٍ حُرم سيدنا زكريا من الذرية، ولمثل هذه الحكمة حُرم سيدنا عيسى أيضا من الذرية. ومِن هذه الحكم إشارةُ أن سلسلة النبوة لن تستمر طويلاً في هؤلاء بل مقبلةٌ على تغيير. ولم يبدل الله تعالى هذه الحكم، ولكنه قبل هذا الدعاء، وقال عن سيدنا يحيى أنه سيعيش، أي أنك ستراه حيَّا ما دمتَ أنت حيَّا، وسوف تراه زوجتك حيّا ما دامت حيةٌ، ولن تقاسيا حزنا عليه، وستقر أعينكما عنه وتبتهجان لمرآه، ولكن بعد موتكما سوف يُستشهد لنهبَ له الحياة الأبدية التي توهب عن طريق الشهادة.

إذا تفكرتم في الأدعية المحفوظة في القرآن الكريم وجدتم فيها بحارا من الحكمة صِيغت فيما قلّ ودلّ من الكلام. إن هذه الأدعية تبين ضمنيًا سبب قبولها أيضا. إن أسباب قبولها خفية عن النظر الظاهري، ولكن من يتأمل يستطيع إدراكها. فالآباء الذين يدعون مثل هذا الدعاء طلبا للذرية ويقولون: ارزقنا طفلا.. ارزقنا ذرية، ولا يدرون ماذا يعطيهم، ولا يهمهم أن يكون تقيا أو غير تقي، وإنما يموتون شوقا إلى رغبتهم الطبيعية حتى لا يغادروا الدنيا بلا ذرية.. فإن دعواتهم هذه ليست إلا شوقا طبيعيًا. لكن دعوات الأنبياء والسيدات الصالحات التي حفظها الله لنا كانت لذرية صالحة ربانية قادرة على أن تصاحب الأتقياء وترث صلاحهم. فعلى الإخوة المحرومين من نعمة الذرية أن يدعوا الله بهذه الرغبة وهذا الهدف. عليهم أن يدعوا لذرية صالحة. يقول سيدنا المهدي و المسيح الموعود : إن كل ما سوى ذلك من دعوات فهي مرفوضة وما هي إلا رغبات دنيوية لا قيمة لها.

وأختم الموضوع لهذا اليوم بدعاء لسيدنا موسى : ورد في القرآن الكريم : رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي .. اللهم نوِّر لي عقلي، وَيَسِّرْ لِيْ أَمْرِي ، واجعَلْ كل ما وضعته علي من مسؤولية هينًا علي. للدعاة إلى الله في هذا الدعاء بركة لا تخطر على بال. إنها بركة عظيمة. ولو أن الداعي إلى الله وضع هذا الدعاء في البال، وردّده دائما بنفس هذه الروح والمشاعر.. كما صدر عن سيدنا موسى .. وخرج ليدعو طاغية من طغاة العصر فإنه بفضل الله تعالى يوهب صفاء الفكر، وسيكون كلامه مؤثرا، وستهون عليه مصاعبه، وسينجو من خوف الطاغية.

ثم قال :

وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ..

إني لا أستطيع الحديث بطلاقة، فأتلعثم ولا أفصح، وسأحمل رسالتك إلى أشد طغاة العصر. فإياك أسأل أن تحل عقدة لساني هذه، وتهب لي طلاقة الحديث حتى يفهم الناس كل ما أقول فهما تاما. ولا أكون مجرد متحدث، وإنما يتغلغل كلامي من عقولهم إلى قلوبهم ويفهمونه تماما.

ثم قال: وَاجْعَلْ لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي أي امنحنْي معينا من أسرتي. هَارُونَ أَخِي .. وألتمس منك أن يكون هذا المعين أخي هارون. أشْدُدْ بِهِ أَزْرِي .. حتى تشتد به ساعدي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي … واجعله شريكا في الفضل والشرف الذي خلعته علي. عمومًا في أمور الدنيا لا يقبل المرء أن يشترك معه أحد.. ولكن هذا الدعاء يعلمنا أن نسعى لنشرك معنا غيرنا في صالح الأعمال، إذ ليس هذا من الثروة التي تجعلها قاصرةً عليك ولا تبخل بأن يشاركك غيرك فيها، بل ينبغي أن تدعو الله تعالى ليشاركك غيرك فيها.

كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا .. اللهم هَبْ لنا ما دعوتك به كي نشترك معا في تعظيمك وتسبيحك وتمجيدك. وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا إنك يا رب ترقبنا وترى حالنا. لقد طلب سيدنا موسى في سؤاله وزيرًا ومساعدًا، لأنه لا ينطلق لسانه، ثم سأل اللهَ تعالى أن يحلل عقدة لسانه ويمنحه طلاقة الحديث وقوة البلاغة والأثر في القول حتى يفهم السامعون رسالته، لأن قلبه لم يكن راضيا تماما عن قدرته على الوفاء بمسئوليته كاملة. وقَبِلَ الله دعوتيه كلتيهما، وعيَّن معه مساعدا، مع أن الله تعالى كان يعلم أنه لا ضرورة لذلك.

وهنا ينشأ موضوع مثير للاهتمام. فعندما صدر الأمر الإلهي بالتوجه إلى فرعون توجه بالحديث إلى موسى وهارون وقال: اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ أي اذهبا معًا إلى فرعون، فقد تجاوز كل الحدود. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا .. وليكن حديثكما معه بلطف وكياسة، لأنه يشغل منصبا دنيويا عظيما، ولن يكون بوسعه فهم الرسالة إذا كان حديثكما إليه جافا فاترا.

لماذا أمرهما الله تعالى بالحديث اللين؟ الواقع أن هذا كان إجابةً لدعاء سيدنا موسى: يَفْقَهُوا قَوْلِي فصدور الأمر إلى سيدنا موسى بلطف القول.. ليس لخوفه من فرعون وإنما تحقيقًا لدعوة موسى. إنه سر الطبيعة البشرية الذي كُشف عنه الستار هنا. فعندما تتحدث إلى أناس في مراكز عالية.. حديثا جافا ظنا منك أنك ممثل ومبعوث من الله تعالى.. فلا حاجة بك إلى إبداء حسن السلوك، فلا شك أن بوسعك الحديث وسوف يحميك الله تعالى، ولكنهم لن يفهموا قولك. هؤلاء الدنيويون الذين يحسبون أنفسهم فوق كل الناس بسبب مناصبهم الدنيوية. اعتادوا الاستماع إلى الكلمات اللينة، ويؤثر فيهم القول اللين، ويشعل غضبهم الحديث الجاف والصوت المرتفع. وهنا الأمر بلين الحديث علامةٌ على إجابة دعاء موسى : يَفْقَهُوا قَوْلِي .. أي يستمعوا ويدركوا ما أقوله لهم. ونتيجة لهذا الدعاء صدر التوجيه الرباني.

ثم قال: لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ .. من الممكن بهذا الأسلوب أن يهتم ويلتفت لقولك أو يخشى الله تعالى. وعندما ذهب الرسولان إليه كان الأمر لهما بضمير الاثنين. ولكن فرعون لم يخاطبهما سويا، وإنما كان خطابه لسيدنا موسى وقال: قَالَ فَمَن ربّكُمَا يا مُوسَى فَهِمَ فرعون أنهما كانا رسولين من عند الله، ولكن موسى هو الرسول الأعلى، ولذلك وجه إليه خطابه. وبعد ذلك جرى الحوار كله مع سيدنا موسى ولم يقل سيدنا هارون كلمة واحدة.

قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى

أي ربنا الذي أعطى كل شيء هيئته وشكله، وهداه وظيفته اللائقة المناسبة له. إذًا فكان الجواب من موسى، وليس من كليهما. وهكذا ترون بأي طريقة دقيقة تم قبول دعاء موسى كاملا. لقد علم الله تعالى أن موسى سيعطى القدرة، ولن يكون بحاجة إلى عون ما. ولكن الله تعالى أحب عبده كثيرا، وكان سأله معينا في الخير والبر، لذلك قبل دعوته هذه مع دعوته السابقة: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ، وأنار عقله أيضًا. وكلما ذُكر الحوار مع فرعون في القرآن الكريم نسمع سيدنا موسى متحدثا ولم يرد أبدا حوار بين سيدنا هارون و فرعون.

فعلى الداعين إلى الله أن يدعوا ويسألوا المعين. وليدعوا لإخوتهم ليشاركوا معهم، ويجعلوهم رفقاء في هذه النعمة الروحية التي يتلقونها من الله تعالى. وينبغي ألا يكون فيهم شح في هذه الناحية، بل عليهم أن يدعوا الله تعالى أن يجعل فيهم الكفاءة التامة في تبليغ دعوتهم، وأن يكونوا خليقين بأن ينصت إليهم الناس بانتباه وفهم، وأن يكون ذكر الله تعالى مؤثرا فيمن يسمعونهم، ويكونون ممن يخافون الله تعالى ويفهمون رسالته. اللهم مكن لنا هذا. آمين

Share via
تابعونا على الفايس بوك