المباهلة مع المولوي: ثناء الله الأمرتساري

المباهلة مع المولوي: ثناء الله الأمرتساري

محمد نعيم عثمان

نبوءات سيدنا أحمد

الإمام المهدي والمسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام)

((دراسة نقدية))

الحلقة الثانية (الفصل الثالث)

المباهلة مع المولوي: ثناء الله الأمرتساري

 

  تمثّل مباهلة سيدنا مرزا غلام أحمد مع المولوي ثناء الله الأمرتساري وعواقبها حدثًا آخر في حياة سيدنا أحمد يزعم خصومه أنه قد انقلب عليه.

كان المولوي ثناء الله الأمرتساري محرِّرًا مساعدًا في الجريدة الأسبوعية “أهل الحديث”. وكان مثل كثير من المـــــُلَّات المعاصرين له معارضًا متحمسًا ضد سيدنا أحمد، لم يدع فرصة لسبِّه تُفلت منه.

وفي عام 1897 كتب سيدنا أحمد كتابه (أنجام آثم)، توجّه فيه إلى بعض زعماء رجال الدين المتعصّيبن في الهند الذين أطلقوا عليه اسم “المدَّعي الكاذب”، وتحدَّاهم للدخول في مباهلة، وكان اسم المولوي ثناء الله ضمن القائمة التي تضمُّ أسماء هؤلاء المشائخ المتعصّبين في هذا الوقت. كان سيدنا أحمد عندئذٍ قد بلغ من العمر 62 عامًا؛ في حين كان ثناء الله شابًا عمره 29 عامًا.

تدلُّ السجلات التاريخية أنَّ ثناء الله تجاهل هذا التحدّي لمدة 5 سنوات، ولكنه في عام 1902 -ربما تحت ضغط من بعض زملائه- بادر وتحدّى سيدنا أحمد إلى المباهلة. وما أن تلقّى حضرته إعلان المولوي ثناء الله حتى نشره مشفوعًا بقبول ما عرضه المولوي وصرَّح فيه بقوله:

“لقد اطلعت على إعلان المولوي ثناء الله الأمرتساري الذي يدَّعي فيه أنَّ لديه رغبة مخلصة في أن يدعو كلٌّ منا بأن يموت الكاذب منّا في حياة الآخر”.(1)

  وكان سيدنا أحمد يعرف طبيعة المولوي ثناء الله الرعديدة، فصرَّح حضرته بأنَّ ثناء الله قد “قدَّم اقتراحًا جيدًا، ونأمل أن يظلَّ على تمسّكه به” (2). ثم أضاف:

“إذا كان المولوي ثناء الله مخلصًا في تحدّيه أن يهلك الكاذب قبل الصادق.. فلسوف يموت ثناء الله أولاً.” (3)

  وعندئذٍ بادر المولوي ثناء الله إلى التراجع السريع متعلّلاً بقوله:

“أنا لستُ نبيًّا ولا أدَّعي مثلك بالنبوة أو الرسالة أو البُنُّوة لله أو تلقي الوحي. ومن ثم لا أجرؤ على الدخول في مثل هذه المعركة. إنّ مؤدّى اقتراحك هو أنّي لو متُّ قبلك فستعلنه كدليل على صدقك، وإذا متَّ أنت قبلي -وهو تخلُّصٌ جيد- فمنذا الذي سيذهب إلى قبرك ويحاسبك؟ هذا هو السبب في عرضك هذا الاقتراح السخيف. ومع ذلك فإّني أعتذر بأنّي لا أجرؤ على الدخول في هذه الخصومة. ونقص شجاعتي هذا مصدر شرف وليس تحقيرًا لي” (4)

وهكذا تراجع ثناء الله عن المضي في المباهلة التي أثارها بنفسه؛ ومن ثم فإنّ المباهلة التي قَبِل بها سيدنا أحمد في كتابه إعجاز أحمدي.. أصبحت غير ذات موضوع.

وبالرغم من هذا فإنّ تراجع ثناء الله عن تحدّيه أصبح مصدر إحراج لزملائه، وتعرّض لنقدٍ قاسٍ منهم مما دفعه -بعد خمس سنوات أخرى- ليصدر تحدّيًا جديدًا يدعو فيه أعضاء الجماعة الإسلامية الأحمدية ليتقدّموا ومعهم سيدنا أحمد:

“الذي تحدّانا إلى المباهلة في كتابه (أنجام آثم)، أرغموه على مواجهتي لأنه ما لم يصدر حكمٌ فاصلٌ في أمر نبي فإنّ أتباعه لا يجدون شيئًا يربطهم به.” (٥)

وعندما قرأ سيدنا أحمد تحدّيه الأخير وجّه محرّر جريدة الجماعة الإسلامية الأحمدية “بدر” ليعلن:

ليفرح المولوي ثناء الله بأنّ سيدنا مرزا صاحب قد قَبٍلَ تحدّيه. فعليه أن يُعلن إعلانًا جادًا بأنّ حضرة أحمد مزوِّر في ادِّعائه. ثم يدعو ثناء الله أنّه إذا كذب في قوله فلتنزل لعنة الله على الكاذب. (٦)

ولكن ثناء الله كما بدا منه آنفًا اعترف بأنّه لا يجرؤ على الدخول في مثل هذا الخصام. ومن ثم تحوّل عن موقفه مرةً أخرى وأعلن على الملأ:

  “إنّي لم أتَحدَّك للمباهلة بل أعلنت استعدادي للحلف، ولكنك تسميه مباهلة في حين أنّ المباهلة تتضمّن أن يحلف الفريقان ضدَّ بعضهما. لقد أعلنتُ استعدادي للحلف ولم أشرع في مباهلة. إنّ القَسَم من جانب واحد شيء والمباهلة شيء آخر.” (٧)

إنّ اقتراح المولوي ثناء الله يعني أنّه لم يُرِد دعوة سيدنا أحمد ليستنزل اللعنة على المولوي، في حين أنّه نفسه مستعد لاستنزال اللعنة من جانبه وحده على سيدنا أحمد! ومع ذلك فإنّ ثناء الله بتراجعه هذا قدّم الدليل مرةً أخرى أنّه يرُوغُ من موقفه الأصلي.. مع أنّه طلب من سيدنا أحمد طلبًا صريحًا واضحًا كي تتم المواجهة بينهما.

وعندما لاحظ سيدنا أحمد أن المولوي ثناء الله لم يكن مستعدًا للوقوف موقفًا محددًا في الخلاف.. صرّح حضرته يوم ١٥/٤/١٩٠٧ بهذا الدعاء:

“اللهم افصِلْ بيني وبين المولوي ثناء الله. واجعل مثير الفتنة الفعلي الكاذب يهلك في حياة الصادق!”(٨)

أُرسِلَ هذا الإعلان إلى المولوي ثناء الله مع طلب لنشره في جريدة أهل الحديث. واختتم الإعلان بتصريح سيدنا أحمد يقول فيه:

  “وأخيرا أرجو من المولوي ثناء الله صاحب أن ينشر تصريحي هذا في صحيفته أهل الحديث. ويعلّق في نهايته بما يشاء، ويترك الحكم لله تعالى.” (٩)

  ولقد أوضح ثناء الله موقفه بقوله:

“هذه الوثيقة غير مقبولة لدي، ولا يقبل أي إنسان عاقل بالموافقة على مثل هذا التحدّي. وإنّي أرفض هذا العرض الذي نشرته”. (١٠)

  ولم يقتصر المولوي ثناء الله على رفض تحدّي سيدنا أحمد له. بل بلغ به خوفه من عواقب دعاء سيدنا أحمد أن اشتكى قائلاً:

“لا يمكن أن أدخل طرفًا في هذا التحدي لأنه لم تؤخذ مني موافقة على هذا الدعاء، ونشر فحواه دون علمي” (١١)

   كان ثناء الله ولا ريب خائفًا أنّه لابدّ ميت ميتةً لعينة لو تجاسر على دخول المباراة مع سيدنا أحمد.. ومن ثم سأله:

“كيف يمكن أن يكون موتي آيةً للآخرين في حين أنّك تقول بأنّ المولوي دستجير القصوري والمولوي إسماعيل العليكرهي والدكتور دوئي الأمريكي وغيرهم قد ماتوا بنفس الطريقة؛ فهل آمن بك الآخرون؟ وهكذا لو حدث الموت فما النفع في ذلك؟ (١٢)

ثم طلب المولوي ثناء الله الأمرتساري من سيدنا أحمد:

أرني آيةً أشهدها بنفسي. لو أنّي مت فماذا أستطيع رؤيته؟(١٣)

وبحسب نصّ هذا الجواب لتحدّي سيدنا أحمد.. يكون المولوي ثناء الله قد اقترح معيارًا جديدًا تمامًا لتسوية هذا الموضوع فيما بينه وبين سيدنا أحمد وقال:

“يقول القرآن الكريم إنّ “الله يُمهل المجرمين”. فمثلاً يقول تعالى قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَٰنُ مَدًّا (مريم: 76)، ويقول إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا (آل عمران: 179) ويقول وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (البقرة: 16) ويقول بَلْ مَتَّعْنَا هَٰؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ (الأنبياء: 45).

كل هذه الآيات تعني بوضوح أنّ الله يُمهل ويمنح حياة طويلة للكذابين والخادعين ومعكِّري السلام والعُصاة الفاسقين كي تزداد آثامهم في فترة المهلة. فكيف إذن تقترح قاعدة بأنَّ مثل هؤلاء الناس لا ينالون فُسحة طويلة من العمر؟” (14)

وحاول ثناء الله بعد ذلك أن يؤسِّس صحة اعتقاده هذا على أنَّ الكاذبين وليس الصادقين هم الذين يمنحهم الله تعالى طول العمر مستشهدًا على ذلك من التاريخ الإسلامي فاحتجَّ قائلاً:

“على الرغم من حقيقة أنَّ النبي كان نبيًّا صادقًا من لدن الله تعالى، وأنَّ مسيلمة كان مدّعيًا كاذبًا.. فإنّ هذا بقي حيًا بعد وفاة النبي ، أو بعبارة أخرى: إنَّ مسيلمة الكذّاب مات بعد موت الصادق..” (15)

من هذه المحاورة بين سيدنا أحمد والمولوي ثناء الله، وما ساقه هذا من أعذار يردّ بها على إعلان سيدنا أحمد.. يتبيّن أنَّ المسألة قد تحوّلت تمامًا إلى وجهة جديدة. في بادئ الأمر كان المعيار لتحديد الصادق من الطرفين هو موت الكاذب في حياة الصادق. ولكن اعتراضات المولوي ثناء الله قامت على مبدئه الراسخ في ذهنه بإصرار وعناد بأنَّ الله يُمهل الكاذبين ويمنحهم حياةً طويلة كي يزدادوا إثمًا. وبذلك أرسى معيارًا جديدًا للفصل في النزاع وحسم الخلاف، ذلك أنَّ الأشرار يُمهَلون وينالون طول العمر كي يُمعِنوا في عدوانهم وتتضاعف سيئاتهم”.

ومن دواعي الندم للمولوي ثناء الله أنَّ سيدنا أحمد قَبِلَ توضيحه، وصرَّح:

“قد اقتَرَحَ معيارًا  مختلفًا تماماً بأنَّ الكاذب يعيش أطول من الصادق.. كما حدث في حالة مسيلمة الكذّاب والنبي الأكرم .” (16)

  وكما قدَّر الله تعالى سقط المولوي ثناء الله في فخٍ من اختياره. فبحسب شرطه ومعياره: منح الله تعالى المولوي ثناء الله الأمرتساري فسحةً طويلةً من العمر.. فعاش أربعين عامًا بعد وفاة سيدنا أحمد؛ ليشهد بعينه آيات صدق سيدنا أحمد تتواتر، وليشهد أيضًا خيبة آماله عن فشل بعثة سيدنا أحمد.

لقد عاش ثناء الله ليرى قومه يهجرونه وينبذونه عندما حصل مسلمو الهند من علماء مكة على فتوى بكفره وارتداده جاء فيها: “المولوي ثناء الله رجلٌ ضال ابتدع عقائد جديدة.” (17)

وتصرّح هذه الفتوى التي أصدرها علماء مكة ضد ثناء الله الأمرتساري: “لا يجوز ان يُسأل عن علمٍ ولا يُتّبع. ودليله لا يُقبل، ولا يجوز أن يؤمَّ الصلاة، لا شكَّ في كفره وارتداده.” (18)

لقد عاش ثناء الله أيضا ليرى نفسه يتردَّى من الأرستقراطية إلى الفقر والعوز. رجلٌ كان يظنُّ بأنّه جديرٌ بالملايين فإذا بيته يتعرَّض للنهب والحرق في حركة تقسيم الهند وباكستان عام 1947م (19).

وفقد ابنه الوحيد عطاء الله الذي ذُبحَ بلا رحمة أمام عيني أبيه. ولم تفارقه آثار هذه المأساة بقية حياته (20). والواقع أنَّ هذه الوقائع كان لها وقعٌ شديد على عقله حتى أنَّ الشخص الوحيد الذي سجّل تاريخ حياته قال عن هذه الأحداث أنّها: “تسبَّبت في موته موتًا سريعًا بائسًا.” (21)

الهوامش

  1. إعجاز أحمدي. الخزائن الروحانية ج 19 ص 121
  2. المرجع السابق
  3. مجموعة الإعلانات، ج 3 ص 578
  4. إلهامات مرزا، للمولوي ثناء الله الأمرتساري ص 112
  5. جريدة “أهل الحديث”. 29/3/1907 م، ص 10
  6. جريدة “بدر”، يوم 4/4/1907
  7. جريدة “أهل الحديث” ليوم 19/4/1907
  8. الفصل النهائي في الخلاف مع المولوي ثناء الله الأمرتساري
  9. المرجع السابق
  10. جريدة “أهل الحديث” ليوم 26/4/1907م
  11. المرجع السابق
  12. المرجع السابق
  13. المرجع السابق
  14. جريدة “أهل الحديث” ليوم 26/4/1907م
  15. كتاب “مرقّع قادياني”، طبعة أغسطس 1907
  16. إعلان أكتوبر 1907
  17. فيصلة مكة ص 17
  18. المرجع السابق
  19. سيرت ثنائي
  20. الاحتشام بتاريخ 15/7/1962
  21. سيرت ثنائي

(الفصل الرابع)

النبوءة عن القسيس عبد الله آثم

تكشف الوقائع التاريخية قبل تقسيم الهند أنه خلال الجزء الأخير من القرن التاسع عشر أخذت النصرانية تحرز مكاسب كبيرة في شبه القارة الهندية. وتخبرنا الدلائل أن الكنيسة ادعت بتنصير 91.092 من المسلمين الهنود في عام 1851، ولكنها نجحت في تنصير 417.372 في عام 1881 م.

كانت هذه الزيادة الضخمة التي سجلتها الكنيسة مصدر قلق بالغ للغالبية العظمى من المسلمين المخلصين الهنود.. الذين أخذوا يحضُرون لقاءات النصارى ليدافعوا عن الإسلام بقدر استطاعتهم. ولكن دفاعهم عن الإسلام كان يعوزه الكثير، اللهم إلا في حالات قليلة. ومن ثم فإن قادة الكنيسة شرعوا يتكهّنون بتحول سكان شبه القارة الهندية جميعا إلى النصرانية.

وفي أوائل عام 1893 كتب القسيس النصراني هنري مارتن كلارك رسالة إلى أحد قادة المسلمين في (جانديلا): محمد بخش بهاندا.. يقترح فيها القيام بعمل حاسم نحو ترتيب مناظرة علنية بين ممثلي النصرانية والإسلام.. ليتسنى اتخاذ قرار نهائي بشأن الجدارة النسبية للملّتين، ويمكن البثّ في أي الدينين هو الصحيح.

وكان سيدنا مرزا غلام أحمد في ذلك الوقت قد تمكن من هزيمة كثير من تحديات النصارى للإسلام، واعترف له الجمهور بأنه بطل الدين. وقد صرحت جريدة غير أحمدية تصدر في أمرتسار (رياض الهند) بشأن سيدنا أحمد ودفاعه الرائع عن الإسلام قائلة: إن حسنات مرزا غلام الرائعة وإنجازاته الروحانية العالية لهي أسمى من تعليقاتنا المتواضعة. لقد كان ما قدّمه من أسباب مقنعة وأدلة متألقة تأييدا للإسلام والحق بكيفية جميلة شهادةً قاطعةً على أنه تفوق -دون أي ظل للشك- على كتابات العلماء الأقدمين والمحدثين.. في بلاغته وطريقة تقديمه. (1)

ومن ثم لم يكن مثيرا للدهشة أن يقوم السيد محمد بخش بهاندا بتسليم دعوة القس كلارك إلى سيدنا أحمد متلمسا أنه قد يسره تمثيل الإسلام في هذه المناظرة المقترحة.

ولما كان قساوسة النصرانية مشتغلين آنئذ وعلى نطاق واسع بمهاجمة الإسلام، وسيدنا محمد المصطفى نبي الإسلام، والقرآن الكَريم كتاب الإسلام.. اعتبر سيدنا أحمد هذه الدعوة فرصة هبطت من السماء لتوطيد تفوق الإسلام. فبادر سيدنا أحمد بالموافقة على الدعوة، وأخبر قادة المسلمين في (جانديلا) أنه يسره تمثيل الإسلام في المناظرة المقترحة (2)

وعينّت الكنيسة عبد الله آثم، وهو هندي متنصر كان قبل تنصره -خطيب جامع آغرا- لتمثيل النصرانية في المناظرة. وكان آثم هذا مصنفا لعدد من المنشورات السافلة التي وصف فيها نبي الإسلام الأكرم بأنه (الدجال) (3) والعياذ بالله.

كان الإجماع العام من المسلمين لاختيار سيدنا أحمد ممثلا للإسلام مثارَ قلق بالغ لدى االقسيسين النصارى -وعلى وجه الخصوص- القسس: إمام الدين وثاكر داس وعبد الله آثم. وقد عبّروا جميعا من قبل عن قلقهم نحو التأثير المتزايد لسيدنا أحمد (4). لقد شهدوا الفناء التام لفلسفة الآريا الهندوسية على يد سيدنا أحمد، وخشوا أن تلقى الكنيسة نفس المصير. وبهذه المناسبة فإن سيدنا أحمد كان أداة إذلال لزملائهم: القس هربرت ستاتنون والقس فتح مسيح.. اللذين تحديا الإسلام في الماضي ثم فرّا من الميدان عندما ظهر فيه سيدنا أحمد وقبِل تحديهما (5).

ولذلك رفضت قيادة الكنيسة في بادئ الأمر أن تكون طرفا في مناظرة يمثل فيها سيدنا أحمد الإسلام. ولكن وفدا من قادة المسلمين أكد للقسيسين النصارى بأن سيدنا أحمد هو اختيارهم المفضل، فاضطروا للتسليم. وبعد قدر من المراسلات المتبادلة بين الفريقين وصلوا في النهاية إلى اتفاق لعقد مناظرة خطية في أمرتسار خلال المدة من 22 مايو و 3 يونيو 1893. وتم الاتفاق أيضا على موضوعات المناظرة في صدق الإسلام؛ ونبيه الكريم ، والقرآن المجيد ودعوى ألوهية يسوع المسيح.

ومع أن الفريقين قد توصلا إلى اتفاق رسمي إلا أن قيادة الكنيسة قبِلت بتعيين سيدنا أحمد مع قدر معين من التحفظ. لقد حاولوا التأثير على جموع المسلمين لإعادة النظر في اختيارهم وذلك بمحاولة تشوية سمعة سيدنا أحمد، وخصوصا أصدر القس كلارك نشرة موجهة إلى المسلمين يشير فيها إلى أن سيدنا أحمد -حاشا لله- ليس مسلما بالمرة، مشيرا إلى فتاوى المولوي محمد حسين البطالوي عن حضرته واقترح على المسلمين أن ينبذوه (6).

وفي نهاية المطاف.. جرت المناظرة في أمرتسار حسب الاتفاق واستمرت أسبوعين. واتضح أن ممثل النصارى في المناظرة -عبد الله آثم- كانت تنقصه المعرفة في كلا الدينين: الإسلام والنصرانية، ومن ثم فإنه وافق على نقاط عديدة في المناظرة، منها مثلا: لم يستطيع أن يدلل على ألوهية المسيح المزعومة (7). فقد تمسك برأيه أن العقل والخبرة لا ينبغي أن يكونا مرشدين للإيمان، وأن الإنسان لا يستطيع فهم عقيدة التثليث (8).

ووجد آثم نفسه أيضا مضطرا للاعتراف بأن يسوع أصبح تجليا للإله فقط عندما رأى روحه تنزل عليه في هيئة حمامة وبرق (9).. مما قوض بشدة عقيدة أن يسوع بوصفه ابن الإله كان من جوهر الآب نفسه. وقد انكشف جهل (آثم) بالإسلام والقرآن أثناء المناظرة لما أقر بخطئه في الاستشهاد بآيات عديدة من القرآن الكريم (10).

عجز عبد الله آثم عن مواكبة البحث الفكري الدائر. وفشل في تقديم أية حجج طريفة ومقنعة.. لا في صالح النصرانية ولا ضد الإسلام. وكان عجزا أكثر من واضح أمام الحاضرين بما فيهم زملاؤه. والواقع أن آثم نفسه كان يعرف قصوره، فتوعك أثناء المناظرة وحل محله القس كلارك لفترة من الوقت. وفي نهاية المناظرة اختتم سيدنا أحمد ورقته الأخيرة بهذا الإعلان:

“وعندما دعوت الله في خشوع وقوة أن يصدر حكمه في هذه المناظرة.. لأننا بشر ضعفاء لا نستطيع التوصل إلى شيء.. تلقيت آية تبشرني بأن الطرف الذي يتعمد اتباع الباطل ويهجر الإله الحق ويؤلّه بشرًا ضعيفا سوف يُلقى في الهاوية خلال 15 شهرا.. شهر في مقابل كل يوم من أيام المناظرة. وإذا لم يرجع إلى الحق لقي خزيا علنيا، وأن من يتبع سبيل الحق ويؤمن بالإله الحق سوف يلقى التكريم على الملأ” (11).

وفي ختام الإعلان وجه سيدنا أحمد سؤالا إلى عبد الله آثم:

والآن اسأل السيد المندوب: إذا تحققت الآية.. فهل تقبل بها كنبوءة سماوية كاملة بحسب ما تحب؟ ألا تكون هذه الآية برهانا ساطعا على أن النبي الأكرم -الذي سميته الدجال في كتابك أندرونه بايبل- هو نبي صادق؟ (12) يتبين من هذه المقدمة عن المناظرة بين سيدنا أحمد وعبد الله آثم أن الهدف من كل هذه العملية هو إقرار تفوق إحدى الديانتين المتنافستين: الإسلام أو النصرانية. وكان إعلان سيدنا أحمد الختامي يشير إلى أن الاختبار لم يكن بين الشخصيتين المتناظرتين، بل كان بين ملتيهما: الإسلام والنصرانية. وحمل النتيجة النهائية للنبوءة ضد عبد الله آثم دجالا في كتابه أندرونه بابيل – كان نبيا من الله حقا وصدقا.

ويُرجى عند هذه المرحلة ممن ينتقدون نبوءات سيدنا أحمد.. أن يتدبروا معنى ومغزى تأكيدهم بأن سيدنا مرزا غلام أحمد لم يستطع التغلب على النصراني.. ومن ثم فإن المناظرة كانت في صالح النصراني.. علما بأن المناظرة كانت بُرهانا قويا على صدق النبي الأكرم محمد الذي سماه آثم دجالا -والعياذ بالله- في كتابه (أندرونه بابيل).

يا تُرى هل غرق خصوم سيدنا أحمد في تحيزهم ضد حضرته بحيث أنهم مستعدون للتضحية بصدق نبي الإسلام لشخص يؤلَّه يسوع الإنسان وينسى الإله الحق، ويسب نبينا الأكرم في كتاباته العلنية؟

حقيقة الأمر أن القس عبد الله لم يتغلب على سيدنا أحمد في هذه المناظرة ببلدة أمرتسار؛ ولم تكن المناظرة في صالح النصرانية مسجلة في محاضر جلسات هذه المناظرة (13). ولو أن الناقدين الطاعنين في سيدنا أحمد قرأوا هذه المحاضر، ولم يكتفوا باستعارة المزاعم من كتابات أقرانهم الذين لا يقلون عنهم جهلا وتعصبا.. لوجدوا أن الإسلام قد انتصر على النصرانية في هذه المناظرة على يد سيدنا أحمد ضد القس عبد الله آثم.

والواقع أن صحيفة (نور أفشان) وهي جريدة نصرانية، نشرت في أعمدتها عرضا لهذه المناظرة، ثم قامت جمعية البنجاب للكتاب الديني -وهي منظمة نصرانية في لاهور- وجمعتها في كتاب. وفي سياق هذا العرض صرح القس ثاكر داس زميل عبد الله آثم من البعثة الأمريكية بسيالكوت.. بأن هذه المناظرة في رأيه لم تكن وافية بالمطلوب، وكانت إجابات المندوب النصراني موجزة جدا (14). وقال أيضا أن الآيات التي استدل بها آثم على معتقداته لم تحدث التأثير المرغوب (15). واعترف القس داس كذلك بأن آثم فشل في تفنيد النتائج التي استخلصها أحمد فيما يتعلق بفقرات إنجيلية معينة (16). وانتقد زميله لأنه فشل في الإجابة على الأسئلة التي أثارها سيدنا أحمد بصدد ألوهية المسيح المزعومة.

ومنذ وقت قريب صرح كاتب بريطاني: إيان آدمسن عن هذه المناظرة بين سيدنا أحمد والقس عبد الله آثم فقال: لا شك فيمن فاز في هذه المناظرة. قال مبعوث أمريكي في تقريره حول المناظرة بإحدى الصحف أن أجوبة المناظر المسيحي كانت غير وافية (17).

ولنعد إلى مسألة تحقق نبوءة سيدنا أحمد ضد عبد الله آثم. لقد أوضحنا من قبل أن الغرض من هذه النبوءة كان تحذير القس النصراني من الموقف الذي اتخذه ضد الإسلام. لقد صرحت كلمات النبأ الإلهي لسيدنا أحمد بوضوح أن عبد الله آثم:

سيلقى في الهاوية خلال 15 شهرًا من النبأ، وسوف يلقى الخزي العلني إذا لم يرجع إلى الحق. ولا يوجد فيها ما يوحي بأن المطلوب تحول عبد الله آثم عن النصرانية كما يتحجج بذلك النقاد. بل على العكس، كانت ملاحظة سيدنا أحمد الختامية هي أن نجاة آثم تتوقف على تراجعه عن معتقده السابق ضد نبي الإسلام محمد المصطفى وشتمه في كتابه: أندرونه بائيبل.. وفي هذا دليل على أن المطلوب من آثم هو أن يعترف بصلاح نبي الإسلام الأكرم .

ومن ثم فإن مجرد تراجع آثم عن موقفه السابق ضد نبي الإسلام يكون دلالة كافية لإثبات أنه قد أخذ يرجع إلى الحق. وكما أثبتت الحوادث اللاحقة.. ما كاد سيدنا مرزا غلام أحمد يعلن نبوءته حتى تاب القس فورا، وأعلن أنه لم يهن الإسلام أو نبي الإسلام عن سبق إصرار أبدا.

ويصرح المؤرخ البريطاني عن تراجع آثم فيقول: عندما سمع آثم بالنبوءة امتقع وجهه، وعلى الطريقة الشرقية في بيان الإنكار التام: لمس أذنيه، وأخرج لسانه. وهز رأسه، وأعلن: تُبْت .. تبت. أنا لم أقصد أن أبدي قلة الاحترام نحو محمد (18) لم يكتف عبد الله آثم بإعلان توبته باللسان وإبداء الندم عند المناظرات؛ بل إن هذا الكاتب النصراني الشهير والمناظر المعروف.. توقف عن كل عمل يساند عقيدته. امتنع عن الكتابة في صالح النصرانية ضد الإسلام، وانسحب في صمت وعزلة نسبية. وهذا في الواقع شهادة بينة على أن عبد الله آثم قد رأى نور الحق فعلا. وأنه في قرارة نفسه قبل بصدق الإسلام ونبيه الكريم . وإلا.. فما هو السبب المعقول الذي حدا بامريء مثل عبد الله آثم، الذي كان مشتغلا من قبل في الأنشطة النصرانية، إلى التقاعد فجأة من الحياة النشطة النصرانية، إلى التقاعد فجأة من الحياة النشطة إلى الاعتزال؟ لماذا تخيّر هذا الوقت بالذات ليختفي بهذه الكيفية التي لجأ إليها بعد إعلان نبوءة سيدنا أحمد ضده؟ ألم يكن آثم ليمضي في الدعوة إلى النصرانية لو أنه اقتنع فعلا بعقائده الباطلة.. بصرف النظر عن نبوءة سيدنا أحمد ضده؟ إن تقاعد عبد الله آثم عن الحياة النشطة إلى الصمت التام بعد إعلان النبوءة ضده لدليل قاطع على أنه أدرك خطأه، وأن الحقيقة أثرت على فكره. ولو لم يكن الحال هكذا لتجاهل تحذير سيدنا أحمد ضده. واستمر في عدوانه الظالم على الإسلام. ولكنه أبدى ندمه قولا وعملا عند المناظرة.. وشحب لونه وأعلن توبته، ثم كان في انسحابه وركونه إلى الصمت مظاهرة تكميلية لتوبته العلنية.

الواقع أن أحد خصوم سيدنا أحمد المتحمسين -المولوي ثناء الله الأمرتساري- اعترف أن عبد الله آثم كان خائفا من الموت بسبب نبوءة سيدنا أحمد ضده. وأنه لجأ إلى كل وسيلة ممكنة للهرب بسبب هذا الخوف (19).

واعترف المولوي ثناء الله أيضا: لقد تراجع عبد الله آثم فعلا، وهذا كان المفهوم عموما (20) ومع أن عبد الله آثم تراجع عن معتقداته وتوقف عن أن يكون نصرانيا نشطا إلا أنه لم يخرج عن الملة النصرانية.. وفي نهاية 15 شهرا قام خصوم سيدنا أحمد بضجة يدّعون فيها أن آثم لم يزل حيَّا.. ومن ثم فإن نبوءة سيدنا أحمد لم تتحقق.

ولكن حقيقة الأمر أن كلمات السماء التي نزلت على سيدنا أحمد لم تعلن في أي وقت أن الكاذب يموت في خلال 15 شهرا من إعلان النبوءة. بل إن كلمات النبأ تقرر أن الذي يتعمد اتباع الباطل، ويهجر الإله الحق، ويؤله بشرا ضعيفا.. سوف يُلقى في الهاوية خلال 15 شهرا.. شهر في مقابل كل يوم من أيام المناظرة، وإذا لم يرجع إلى الحق لقي خزيا علنيا. (21)

فكلمات النبأ الإلهي كما تلقاها سيدنا أحمد تقرر أن الكاذب سيلقى في الهاوية بعد 15 شهرا، والهاوية هي الدرك الأسفل من النار.

لا شك أن سيدنا أحمد قد فهم من هذه العبارة أنها تعني الموت كما تبين ذلك من تفسيره للوحي الإلهي الذي نزل عليه (22). ولكن هذا التفسير حالة بسيطة من الخطأ في فهم المدلول الحقيقي للوحي الإلهي.. تماما كما حدث لسيدنا وحبيبنا محمد المصطفى عند تفسيره للوحي السماوي المتعلق بأداء العمرة والحج، وقد شرحناه في فصل سابق، وهو نفس الحال من خطأ الفهم الذي وقع فيه سيدنا نوح وعندما حسب أن وعد الله تعالى يتضمن نجاة أسرته من الفيضان، وهو نفس الحال من خطأ الفهم الذي وقع فيه سيدنا يونس وغادر بلده متوقعا نزول العقاب العاجل بأهل نينوى.

ومع ذلك.. فإن نبوءة سيدنا أحمد المتعلقة بعبد الله آثم -ما بلّغها الوحي له- تحققت بتمامها. فمع أن آثم أبدى استجابة شفوية في نهاية المناظرة، وتوقف عن عادته في شتم الإسلام ونبي الإسلام بالتقاعد من الحياة العاملة الناشطة.. إلا أن سكوته هذا كان مجرد خداع للجماهير. ومن ثم أُلقِيَ في الهاوية. وهي تجربة قاساها طوال ما بقي له من أيام على الأرض.

تدل الوقائع التاريخية على أن القس آثم عانى من عذاب ذهني عظيم بعد إعلان سيدنا أحمد للنبوءة ضده، وأخذت تنتابه هلوسة غريبة، وطفق يحلم نهارا بالثعابين والكلاب المسعورة والرجال المسلحين توشك أن تهجم عليه، يصرح المؤرخ البريطاني أن القس آثم بعد النبوءة:

“عاش في ذعر تام بقية عمره، كان دائما مخمورا، وينقله القسيسون النصارى من بلدة إلى أخرى.” (23)

وكان المولوي ثناء الله الأمرتساري -الذي سبق ذكره- شاهد عيان لحال عبد الله آثم وحياته بعد إعلان نبوءة سيدنا أحمد ضد هذا القس النصراني، وبالرغم من الخلافات الشخصية ومؤامراته ضد سيدنا أحمد فإن المولوي ثناء الله اعترف بأن نبوءة سيدنا أحمد ضد عبد الله آثم قد تحققت طبقا لكلمات النبوءة.. فصرح قائلا:

“إذا أخذت في الاعتبار الكلمات التي نقلناها أيضا، وفكرت في الورطة التي أحاطت به.. فلن يخالجك أي شك في أنه بالفعل قد أٌلقيَ في الهاوية، وأن قلبه قد تأثر تأثرا شديدا بحيث يمكن أن نسميه عذاب السعير، ولكن العقاب البالغ الذي فهمناه والذي أشارت إليه كتاباتنا -أي الموت- فذلك الذي لم يأت بعد” (24)

ولكن الموت كما بينا آنفا.. لم يرد ذكره أبدا في كلمات النبأ السماوي الذي نزل على سيدنا أحمد، فقط قررت النبوءة أن آثم سوف يرمى في الهاوية.. الدرك الأسفل من النار، وهذا ما حدث له تماما. وقد اعترف بهذه الحقيقة خصم سيدنا أحمد: المولوي ثناء الله وقال: “الحال التي كان فيها دائما تحت تأثير القلق والخوف والرعب من الموت.. كانت حقا هاوية، أو الدرك الأسفل من النار” (25)

ومن المؤسف أنه بالرغم من هذا الاعتراف بتحقق نبوءة سيدنا أحمد ضد القس آثم طبقًا لكلمات النبأ الإلهي كما تلقاه.. فإن خصوم سيدنا أحمد لا ينفكون يعتبرون هذه النبوءة لم تتحقق بعد، لأن آثم لم يمت خلال 15 شهرا. ولقد رد سيدنا أحمد على ذلك بإعلان أن إرجاء حكم الموت جاء بسبب توبة آثم وقت المناظرة وموقفه السلبي فيما بعد.. مما دل على أن قلب عبد الله آثم قد عاد إلى الحق.

وكذلك أعلن صراحة أن أساس هلاك آثم قد وُضع، ولا يتوهَّمَنَّ أحد أن أسوأ الشدائد قد انتهت بالنسبة للقس، وصرح سيدنا أحمد أنها مسألة وقت حتى يحيق العقاب النهائي بآثم بسبب سفاهته. (26)

وكذلك دعا سيدنا أحمد القس آثم ليحلف علانية وينكر أنه لم يكن بقلبه ميل للرجوع إلى الحق خلال فترة الخمسة عشر شهرا. وأنه على حاله قبل المناظرة: لا يزال يعتبر الإسلام ونبي الإسلام على خطأ.. محذرا إياه أنه لو قام بهذا الحلف فلا بد أن يهلك في خلال عام واحد من وقت الحلف.. وإلا دفع سيدنا أحمد للقس النصراني 1000 روبية هندية كجائزة له اعترافا منه بالهزيمة.

واختتمت الدعوة والتحذير بإعلان من سيدنا أحمد جاء فيه أنه إذا قبل آثم هذا التحدي وأقسم.. “فإن الإسلام سوف يخرج منتصرا والنصرانية مهزومة ولسوف تتجلى يد الله تعالى” (27)

فلو لم يكن عبد الله آثم قد تاب إلى الحق وتخلى عن آرائه ضد الإسلام ونبي الإسلام كما كان قبل النبوءة.. لتقبل هذا التحدي وأقدم على الحلف، ولكان له بعد ذلك -إذا كتبت له الحياة- أن يقبض جائزة قدرها 1000 روبية، ولأدّى للنصرانية خدمة جليلة؛ لأن سيدنا أحمد سيكون عندئذ مضطرا للاعتراف بهزيمة الإسلام.. وهو الملة التي كان حضرته ممثلا لها ومتحدثا باسمها في المناظرة.

ولكن آثم لزم الصمت التام، وتجاهل التحديَيْن الصادرين في 5 و9 سبتمبر عام 194. وبعد ذلك أرسل سيدنا أحمد رسالة مسجلة إلى القس كلارك والقس إمام الدين.. يطلب منهما حثّ زميلهما القس آثم ليقوم بالقسم، ولكن القس كلارك أرسل ردا قال فيه أن “آثم ليس مستعدا للحلف”. وهنا رفع أحمد قيم الجائزة إلى 2000 روبية هندية.

وفي عرض قدمه يوم 20/09/1894 أعلن سيدنا أحمد أن هذه حرب بين اثنين: “إله صادق وإله زائف، ولسوف يفوز الإله الحق، وصرح أيضا بأن آية صدقه؛ صدق إله أحمد؛ صدق إله الإسلام هي أن سيدنا أحمد نفسه لن يموت في ذلك العام الذي صدرت فيه النبوءة، أما آثم فإنه لو أقسم فلسوف يموت خلال هذا العام.. لأن الإله الزائف الذي يؤلِّهه لا يستطيع إنقاذه” (28)

كانت هذه دعوى خطيرة للغاية من جانب سيدنا أحمد.. لأنه لا يستطيع أي امرئ أن يتنبأ مؤكدا استمرار حياته لأي فترة زمنية، ولا للحظة واحدة.. ولكن سيدنا أحمد كان على ثقة تامة لا حدود لها في رب الإسلام، وكان على يقين من أنه تعالى سوف يؤيده وينصره في كل سبيل لإثبات صدق دينه الحق. لقد كان كتاب الله الكريم ورسوله العظيم محمد المصطفى هما موضوع النزاع في مناظرة أمرتسار.

ومن ثم وجد القس آثم نفسه في موقف شديد الحرج، إذا ظل صامتا أطول من ذلك فقَد ما تبقى له من احترام قليل، هذا إذا كان ثمة شيء تبقى له. وكان واثقا أنه إذا أقدم على الحلف فلن يعيش سنة أخرى، ولذلك اتخذ القس النصراني خطة يتجنب بها الموضوع الأساسي، فأعلن أنه لا يزال نصرانيا. (29)

لما فشل آثم في أن يجيب جوابا شافيا على طلب سيدنا أحمد، دعاء حضرته ليقسم علنا بأنه خلال الخمسة عشر شهرا التالية للمناظرة لم يغيِّر موقفه تجاه الإسلام، وعند هذه النقطة استفسر سيدنا أحمد عن سبب نكوص آثم عن الحلف وتساءل:

ألا يستطيع إله النصرانية الزائف أن يُنقذ آثم لمدة عام واحد.. على الرغم من أن آثم لم يتقدم كثيرا في العمر؟ إنه أسنّ مني ببضعة أعوام فحسب، ما هذا العجز الذي يستولي على إله خيالي فلا يستطيع إنقاذه لمدة سنة واحدة؟ إن توقع الخلاص على يد مثل هذا الإله الذي لا يقدر على كفالة الأمان لسنة واحدة.. لهُوَ أمر بالغ الخطورة، ألم نعلن بأن إلهنا سوف يحمينا من الموت هذا العام، وأنه سوف يهلك آثم؟ ذلك لأن إلهنا إله حق.. ومع ذلك ينكره هؤلاء النصارى التعساء الذين يؤلِّهون بشرا مثلهم. (30)

وتشجيعا للقس عبد الله آثم على أداء القسم رفع سيدنا أحمد قيمة الجائزة إلى 3000 روبية، وعند تقديم هذا العرض يوم 05/10/1894 استثار سيدنا أحمد عواطف آثم الدينية وقال:

إذا كان للمسيح بن مريم الصديقة ذرة من الاحترام في نظرك.. فإني ألتمس منك باسمه، وأناشدك باسم الله تعالى أن تؤدي القسم الذي تحديناك أن تقوم به في هذه الوريقة. (31)

ولكن آثم تجنب الموضوع مرة أخرى وأعلن أنه ليس مسموحا له أن يحلف على شيء إلا في إجراءات قضائية.. لأن دينه لا يبيح له القسم في أي مناسبة أخرى. (32)

وأجاب سيدنا أحمد على هذه المراءاة الزائفة، وصحح للقس آثم رأيه بأن دينه لا يسمح له بالحلف إلا في إجراءات قضائية، واستشهد بأسفار النصرانية وكتبها الأخرى التي تثبت أنه لا يوجد في النصرانية ما يمنعه من الحلف أمام جمع من الناس، وفي هذه المناسبة يوم 27/10/1894 رفع سيدنا أحمد قيمة الجائزة إلى 4000 روبية إذا حلف آثم على الإعلان المطلوب. ولكن آثم لم يكن ليقبل بالإغراء، لم يكن ليحلف كما تحداه سيدنا أحمد.. لا من أجل اعتبارات مالية لمبلغ 4000 روبية، ولا من أجل شرف المسيح بين مريم. (33)

بعد 12 شهرا من تحدي سيدنا أحمد للقس آثم ليحلف أنه لم يغير موقفه من الإسلام.. أخذت وسائل الإعلام النصرانية مرة أخرى تثير مسألة بقاء آثم حيا رغم أن القس نفسه قد تراجع عن الحلف بناء على زعم باطل أن دينه لا يسمح بمثل هذا التصرف.

وفي ديسمبر 1894 سرّب القس آثم.. عن طريق زميله القس فتح مسيح.. أنه لم يُقدِم على الحلف لأن أتباع سيدنا أحمد حفنة قليلة من الناس، وعلى الفور طلب سيدنا أحمد من آثم أن يخبره عن عدد الموقعين الذين يرضى آثم بهم كي يوقعوا على التماس يقدم إليه.

وفي هذا الإعلان صرح سيدنا أحمد أخيرا أنه لو اجتمع القساوسة النصارى جميعا لإغراء آثم على القسم ضد سيدنا أحمد فإنه سيبقى فاقد الشجاعة للحلف.. لأنه في قرارة قلبه يعلم أن النبوءة الأصلية ضده في أمرتسار قد تحققت بالفعل.

وصرح سيدنا أحمد أيضا أنه لدليل كاف على صدقه في قوله أن آثم لن يحلف أبدا ضده.. حتى لو مزقه العالَم النصراني إرَبًا إربا. ومن ناحية أخرى.. لو أقدم آثم على الحلف فإن النبوءة الثانية عن هلاكه سوف تتحقق حتما. (34)

وكما توقع سيدنا أحمد… لم يجسر عبد الله آثم على القسم رغم ما تعرّض له من تحقير مستمر حسبما وعد الله به. ولكن صمت عبد الله آثم كان في حد ذاته نوعا من الخداع.. لأنه كانت أمامه فرصة كافية لينقذ نفسه من غضب الله تعالى بقول الحق، ولكنه ظل صامتا متسترا وراء تظاهر ديني كاذب، ومن ثم.. وبعد سبعة أشهر من تحذير سيدنا أحمد الأخير لهذا القس النصراني في ديسمبر 1895… والذي سبق أن أَلْقَى بهذه الشخصية النصرانية الشهيرة إلى غياهب النسيان منذ مناظرة أمرتسار… نُشر نعيه في 27 يوليو 1896. تماما كما أعلنه سيدنا أحمد بأن آثم لا بد أن يهلك الآن لأنه يخفي الحق بالامتناع عن الحلف.

الهوامش

  1. جريدة “رياض الهند” بتاريخ 1/3/1886م
  2. رسالة بتاريخ 11/4/1893م
  3. “أندروته بايئبل، للقسيس عبد الله آثم ص 133 وما بعدها
  4. جريدة “نور أفشان” 19/3/1885. و 16/4/1885م
  5. المرجع السابق 7/6/1888م و 9/6/1888م
  6. المرجع السابق 2/5/1893م، ونشرة للبعثة الأمريكية.
  7. جنغ مقدس (الحرب المقدسة) الخزائن الروحانية ج 6
  8. المرجع السابق
  9. المرجع السابق
  10. المرجع السابق
  11. المرجع السابق
  12. المرجع السابق
  13. المرجع السابق
  14. تنقيح المباحثة للقس ثاكرداس ص 3
  15. المرجع السابق ص 6
  16. المرجع السابق ص 24
  17. MIRZA GHULAM AHMAD OF QADIAN, BY IAIN ADAMSON, ELITE INTERNATIONAL PUBLICATION LTD, 1989, PAGE 83
  18. المرجع السابق
  19. إلهامات مرزا، المولوي ثناء الله الأمرتساري ص 22
  20. المرجع السابق
  21. جنغ مقدس، الخزائن الروحانية ج6 ص210
  22. المرجع السابق ص 211
  23. سيرة مرزا غلام أحمد القادياني، لآدمسن ص 102
  24. إلهامات مرزا، للمولوي ثناء الله الأمرتساري ص 23
  25. المرجع السابق
  26. أنوار الإسلام، الخزائن الروحانية ج9 ص1 إلى 15
  27. المرجع السابق
  28. مجموعة الإعلانات ج2 ص63، إعلان رقم 122
  29. جريدة “نور أفشان” ليوم 21/7/1894م
  30. مجموعة الإعلانات ج2 ص63
  31. نفس المرجع ص 89
  32. “نور أفشان” 10/10/1894م
  33. أنوار الإسلام، الخزائن الروحانية ج9 ص10
  34. مجموعة الإعلانات ج2 ص204 إعلان 30/12/1894

(الفصل الخامس)

د. عبد الحكيم البطالوي ونبوءاته

بدأ سيدنا مرزا غلام أحمد القادياني في عام 1905، قبل وفاته بثلاثة أعوام يتلقى أنباء عن أجله الذي اقترب، وفي واحد من أول إلهاماته في ربيع 1905 أخبره الله تعالى: “قرب أجلك المقدر” (1)

وبعدها بقليل في خريف نفس العام، رأى سيدنا أحمد أن الله تعالى يخبره بأنه ما بقي إلا القليل من الأجل المقدر (2). وبعده بشهر واحد رأى أن الموت قد اقترب، ولكنه ابتهل أن يُعطى فسحة كي ينجز بعض المهام المطلوبة (3). وتكررت هذه الظاهرة دون توقف خلال ما تبقى من العام، ومنها هذه الإلهامات:

“قرب أجلك المقدر ولا نبقي لك من المخزيات ذكرا .. قل ميعاد ربك. ولا نبقي لك من المخزيات شيئا. تموت وأنا راضٍ منك. جاء وقتك ونبقي لك الآيات باهرات.. جاء وقتك ونبقي لك الآيات بينات. قرُب ما توعدون. (4)

وفي شهر ديسمبر تلقى مع هذه الإلهامات بشارة جاء فيها:

“قال ربك إنه نازل من السماء ما يرضيك رحمة منا.. وكان أمرًا مقضيا . قرب ما توعدون.” (5)

وقد كان تواتر هذه الأنباء عن قرب وفاته كي يكتب الوصية الأخيرة فقال:

“الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله سيدنا محمد وذريته وأصحابه أجمعين. أما بعد، فنظرا لأن الله عز وجل أبلغني بوحي متكرر من أن زمن وفاتي قد اقترب، ولما كانت الإلهامات في هذا الشأن قد جاءتني بتواتر وقوة تهز أساس كياني، وتجعل قلبي باردا نحو هذه الحياة.. رأيت من المناسب أن أحرر بعض النصائح لأحبابي وغيرهم.. ممن لديهم استعداد للانتفاع منها. (6)

وهذه الوصية التي تعجّلها سيدنا أحمد تتضمن إلهامات أخرى عديدة تفضل الله بها عليه.. تفيد أن أجله يقترب، وأنه لم يبق إلا أيام قليلة جدًا قبل حلول يوم ويستولي فيه اليأس على الجميع (7). وكتب فيها أيضا أنه رأى ملاكا يقيس الأرض ويصل إلى موضع قبره المعين له (8).

وفي هذه المناسبة التي كان أصحاب سيدنا أحمد يفزعون من اليوم المحتوم الذي يرحل فيه سيدهم من صحبتهم.. كان كثير من خصومه يترقبون النتيجة النهائية لهذه الإلهامات، مستعدين لاستغلال الموضوع لمصلحتهم. ومن بين هؤلاء طبيب من بلدة “بَطالا” اسمه الدكتور عبد الحكيم.. كان مطرودا من الجماعة الإسلامية الأحمدية بسبب اعتناقه معتقدات شاذة منحرفة. وكان د. عبد الحكيم بطبيعة الحال ناقما لطرده، ولكنه عجز عن الانتقام للمهانة التي لقيها بسبب هذا الفصل. فاتخذ موقفا شديد العداء نحو الجماعة الإسلامية الأحمدية، وتبعا لذلك أخذ يكتب ضد سيدنا أحمد. وفي إحدى المرات هدد بأنه سيمحو من كتبه كل ما كتبه قبل طرده من ثناء على سيدنا أحمد. ولما ضاق بموقف الجماعة الإسلامية الأحمدية المتسم باللامبالاة.. مضى في مسلكه حتى بلغ به الأمر إلى ادعاء الوحي الإلهي. وبعدما بقليل ادعى بالنبوة، مؤكدا أنه قيل له في أحد الإلهامات التي تلقاها “إنك لمن المرسلين”.

واعتبر د. عبد الحكيم الأنباء المتواترة المتعلقة بقرب وفاة سيدنا أحمد فرصة ممتازة يستغلها ليتنبأ بدوره عن وفاة سيدنا أحمد في نفس الوقت. وأوهم الجمهور البريء الذي أمّل في تضليله وخداعه.. أن نبوءاته عن وفاة سيدنا أحمد هي فعلا أنباء إلهامية.

في الثاني عشر من يوليو عام 1906، بعد حوالي ستة أشهر من نشر سيدنا أحمد للوصية دعا حضرته أبناء الجماعة الإسلامية الأحمدية في كلمات لا يعوزها التأكيد أن يعدوا أنفسهم للحدث المحتوم. فأخذ عبد الحكيم البطالوي إشارة الانطلاق من إلهامات سيدنا أحمد المنشورة هذه.. وأعلن أنه أوحي له أن سيدنا أحمد سيلقى الموت خلال ثلاثة أعوام من تاريخ هذه النبوءة (9).

الواقع أن ما تنبأ به الطبيب فيما يتعلق بوفاة سيدنا أحمد لم يكن إلهاما جديدا، بل على العكس.. كان يردد ببساطة ما سبق الوحي به من الله تعالى لسيدنا أحمد.. ليس مرة واحدة، وإنما في مناسبات عديدة كما أشرنا سابقا. والحقيقة أنه قبل إشاعة نبوءة عبد الحكيم الأولى عن وفاة سيدنا أحمد.. أعلن حضرته نفسه مرات كثيرة أن موته قد اقترب. فمثلا: صرح سيدنا أحمد زمن نشر وصيته -ديسمبر 1905- على صفحات مجلة نقد الأديان:

“قبل عدة أيام رأيت في المنام أن شخصا أعطاني بعض الماء في إناء من الفخار لم يتبق فيه ألا رشفتان أو ثلاث رشفات من الماء. كان الماء شديد الصفاء والنقاء. وصحب ذلك إلهام يقول: ماء الحياة”. (10)

ردًّا على نبوءة د. عبد الحكيم.. أكد سيدَنا أحمد لعبد الحكيم أن الله تعالى لن يسمح أبدا لمختلق أكاذيب أن يغلب بكذبه. وصرّح بأن المقبولين من الله يحملون آيات قبولهم. إنهم معروفون بأنهم أمراء السلام. لا يستطيع أحد أن يتغلب عليهم. ثم حذر حضرته د. عبد الحكيم من أن سيوف الملائكة مسلولة أمامه. وفي نهاية إعلانه ابتهل سيدنا أحمد إلى ربه أن “رب. فرِّق بين صادق وكاذب. أنت ترى كل مصلح وصادق” (11)

وكما هو مألوف في تجارب المؤمنين.. يعمل الله عمله بطرق متنوعة، ولا تصل حكمة أحد إلى معرفة الفخ الذي يوقع به الظالمين. لقد دفع قدُر الله د. عبد الحكيم البطالوي أولاً ليُنقص من نبوءته الملفقة عن موت سيدنا أحمد بقدر عشرة أشهر وأحد عشر يوما.  فأعلن عبد الحكيم أن الله قدَّر إنقاص أجل سيدنا أحمد الذي كان مقررا في 7 يوليو 1909 مدة عشرة شهور وأحد عشر يوما، وأنه أوحي إليه الآن في 1/7/1907 أن سيدنا أحمد سوف يموت في غضون 14 شهرا من هذا التاريخ. (12)

وجوابا على هذا النبأ المعدل. فإن الله تعالى واهب الحياة.. وجّه سيدنا أحمد ليخبر عدوه بأن الله سوف يضع يده عليه، بل وسيمد أيام سيدنا أحمد ويدحض نبوءة أعدائه عن موته في موعد حددوه. (13)

إن الله تعالى واهب الحياة، وهو الرحمن الرحيم.. يقدِر إن شاء أن يمدَّ في حياة خلقه ولا يملك أحد تقييده قدرته. وإذا قُرِئَ وعدُه تعالى بإطالة حياة سيدنا أحمد.. مرتبطا بقوله أعداؤه الذين تنبأوا بوفاته في موعد حددوه.. فإن ذلك يدل بوضوح على أن الغرض الصريح من هذا الوعد بإطالة الأجل إنما هو دحض لِقول أعداء سيدنا أحمد.

كانت حرفية نبوءة د. عبد الحكيم ضد سيدنا أحمد نسخة حرفية من نبوءة سيدنا أحمد نفسه عن موته الوشيك خلال سنتين أو ثلاثة من ديسمبر عام 1905. ولا حاجة بنا للقول أن د. عبد الحكيم كان مقتنعا بصدق إلهامات سيدنا أحمد، ولذلك لا غرابة في أنه أخذ الإشارة -ليذيع تنبؤه الملفق ضد سيدنا أحمد- من إلهامات حضرته التي سبقت إشاعتها بين الناس في مناسبات عديدة.

ومن ثَمّ على د. عبد الحكيم أن يكف عن تظاهره بأن تنبؤاته المنتحلة كانت نبوءات أوحيت له -كما أراد أن يوهم الجماهير الساذجة بذلك. ومن الواضح أن الحكمة الإلهية ارتأت أن تُعطى لعبد الحكيم فرصة ليُصدِر نبا مستقلاً وأكثر تحديدا. وقد تأثر بإعلان حضرته القائل ليدحض نبوءة أعدائه وأن الله سوف يمدُّ في أيام حياة سيدنا أحمد .. فألغى نبأه المعدل عن موت سيدنا أحمد في غصون 14 شهرا من يوليو 1907 -أي قبل سبتمبر 1908- ، وأصدر نبوءة جديدة صرّح فيها أنه بحسب آخر ما تلقاه من إلهام يوم 12 فبراير 1908 يموت المرزا أحمد قبل اليوم الواحد والعشرين من ساون 1965 بحسب التقويم الهندي أي قبل 4 أغسطس 1908 (14).

ومع أن هذه النبوءة لا تزال داخلة في حدود نبوءة سيدنا أحمد نفسه عن وفاته الوشيكة.. إلا أن سيدنا أحمد كان واثقا من أن الله تعالى سوف يطيل أيامه إذا كان ذلك لازما ليثبت خطأ أعدائه. ولذلك أعلن سيدنا أحمد مرة أخرى ردًّا على نبوءة د. عبد الحكيم الثالثة في سلسلة نبوءاته المعدلة.. وقال إن الله سوف يحميه من كل تنبؤات الدكتور (15).

وهكذا جرت المقادير. أصبح عبد الحكيم متغيظا من موقف سيدنا أحمد اللامبالي، وتجاهُلِ الجماعة الإسلامية الأحمدية لنوبات غضب ذلك المرتد. ففي انفجاراته الغاضبة المعتادة صرح قائلا إنه بالرغم من نبوءاته لم يزل المرزا أحمد بلا خوف، وظلت ثقته بلا نقص، وزادت قوة الأحمديين فوق كل الحدود. وفي إحدى حالات قنوطه دعا د. عبد الحكيم ربه ليعجل بهلاك سيدنا أحمد. ونتيجة لذلك أعلن أن الله قد أبطل نبوءته عن موت سيدنا أحمد قبل 4/8/1908. (16)

كان د. عبد الحكيم مشدودا إلى داخل الفخ الذي نصبه الله تعالى ليوقع أعداء سيدنا أحمد ويخزيهم.. فأصدر عبد الحكيم البطالوي نبوءته التالية بصدد موت سيدنا أحمد. أرسل خطابا مؤرخا 8/5/1908 إلى محرري الدوريات الهندية: “بيسه أخبار” في لاهور و”أهل الحديث” في أمرتسار صرح فيه: ..أكون شاكرا لو نشرتم إلهاماتي الأخيرة المتعلقة فيه:

1- سوف يموت هذا المرزا بمرض مهلك يوم 21 من ساون عام 1965 أي 4 أغسطس 1908

2- سوف تموت معه أيضا امرأة مهمة من أسرته. (17)

كانت هذه النبوءة النهائية التي ذكر فيها عبد الحكيم تاريخا محددّا لوفاة سيدنا أحمد في ذاتها شبكةَ صيدٍ منسوجةً بأصابع تجديف عبد الحكيم وزوره. والحمد لله تعالى الذي يربك أعداء الحق ويوقعهم في فخاخ من صنع أيديهم. يمكن الآن لسيدنا أحمد أن ينُهي مقامه في هذه الدنيا الزائلة .. موفور الكرامة .. في الموعد الذي أنبأه به الله تعالى، وكما نشره سيدنا أحمد بنفسه في ديسمبر 1905. (18)

الآن.. تنبأ د. عبد الحكيم البطالوي بتاريخ محدد لموت سيدنا أحمد، ومن ثم يتضح أنه لا حاجة هناك ليطيل الله تعالى من أجل سيدنا أحمد كما وعد لإخزاء أعدائه.. لأن الموعد الذي حدده لموت نبيه مختلف تماما عن الموعد الذي عينه عبد الحكيم في نبوءته المزيفة وهو 4/8/1908. وهذا بنفسه خزي كاف للأعداء.. لأن الأحداث التي وقعت أثبت أن عبد الحكيم كان كذابا ملفقا.

توفي سيدنا أحمد بحمد لله تعالى يوم 26/5/1908 قبل الموعد الذي حدده د. عبد الحكيم بأكثر من شهرين من نبوءته الأخيرة. ورغم ذلك وجد بعض المعادين لسيدنا أحمد في أنفسهم الصفاقة ليؤكدوا بأن عبد الحكيم قد انتصر بنبوءاته الباطلة ضد سيدنا أحمد!

ومع ذلك فإنه أثناء الخصومه بين سيدنا أحمد وعبد الحكيم البطالوي.. لم يكن معارضو سيدنا أحمد جائرين ومتحيرين بقدر المعارضين الشانئين في يومنا وعصرنا هذا .. لم يكونوا جميعا كذلك على الأقل. ولذلك نعى محرر جريدة “بيسه أخبار” اللاهورية على يد د. عبد الحكيم لجوءه إلى تغيير نبوءته السابقة عن موت سيدنا أحمد في مدى 14 شهرا من 1/7/1907 بحسب التقويم الهندي الموافق 4/8/1908. وقالت: لو ظل عبد الحكيم على نبوءته السابقة لأثبت صدقه، وهدم مصداقية سيدنا أحمد هدما لا صلاح له.

وشارك جريدة “بيسه أخبار” في رأيها هذا كثير من خصوم سيدنا أحمد.. بما فيهم المولوي ثناء الله الأمرتساري الذي سبق ذكره في فصل سابق. كان ثناء الله خصما لدودا لسيدنا أحمد، ولم يدع فرصة لشتم سيدنا أحمد تفوته، واستغل كل مناسبة أو موضوع ضد سيدنا أحمد القادياني، ومع ذلك كله، على العكس من خصوم سيدنا أحمد الحاليين والمعاصرين.. تحسر المولوي ثناء الله لأن د. عبد الحكيم البطالوي كان كذابا ومزورا. وبعد وفاة سيدنا أحمد أشار المولوي ثناء الله إلى نبوءات د. عبد الحكيم بصدد هذه الوفاة فقال:

“يا حسرتاه! نكتب هذه الأسطر بأعظم أسف وألم في القلب. ولكن ماذا يستطيع المرء إذا وجب الاعتراف بالحق؟ كنا حقا مهتمين عندما رأينا المزرا ينشر وصيته التي صرح فيها بأنه ألهم بدنو أجله. وسرعان ما أحس بعض الناس بالراحة لأن شخصا معينا أوشك أن يغادر الدنيا. نحن لم نرد أن يحدث ذلك بهذه السرعة، آملين أن يدعه الله متخبطا في عدوانه. ولكننا توقعنا أن يحدث ذلك بسرعة كما أعلن د. عبد الحكيم البطالوي. لقد صرح الدكتور قائلا: إن إلهامي بشأن المزرا القادياني.. الذي أرجو نشره هو: سوف يموت المرزا يوم الحادي والعشرون من ساون عام 1965 الموافق 4 أغسطس من مرض مهلك. وسوف تموت معه امرأة بارزة من أسرة المرزا. (19)

ومع ذلك لا نستطيع الامتناع عن قول ما هو حق. لو أن الدكتور توقف عند ما أعلنه من قبل.. أي عند نبوءته بموت المرزا في غضون 14 شهرا، ولم يحدد تاريخا معينا كما فعل.. ما نهضت هذه الاعتراضات أبدا كما أثارتها جريدة “بيسه أخبار” يوم 27 حين قالت: لو أن النبوءة تُركت كما كانت (حتى 21 ساون) لكان شيئا عجيبا. ولكن للأسف، لقد سبق أن نشرت جريدة أهل الحديث في عدد 15/5/1908 إلهام عبد الحكيم يقول بموت المرزا يوم 21 من ساون الموافق 4 أغسطس. كنا نتمنى لو أنه ترك نبوءاته السابقة دون تغيير وتحديد موعد معين.. فعندئذ لا يكون هناك أي عذر. (20)

(يتبـع)

الهوامش

  1. البراهين الأحمدية جزء 5، الخزائن الروحانية ج21 ص 90
  2. جريدة “الحَكَم” ج 9 عدد 39 ليوم 24/10/1905م
  3. نفس المرجع. عدد 41 ليوم 24/11/1905م
  4. نفس المرجع عدد 42 ليوم 30/11/1905 وعدد 43 ليوم 10/12/1905. ومكتوبات أحمدية جزء خامس ص 61 و62
  5. الحكم عدد 44 – ليوم 24/10/1905
  6. الوصية، الخزائن الروحانية ج 20 ص 301
  7. نفس المرجع ص 302
  8. نفس المرجع ص 316
  9. الحق وإتمام الحجة ص 4
  10. مجلة نقد الأديان عدد ديسمبر 1905م
  11. مجموعة الإعلانات ج 3 ص 559
  12. الحق وإتمام الحجة ص 6
  13. إعلان 5/11/1907م – والتذكرة (مجموعة إلهامات المرزا غلام أحمد)، الطبعة الإنجليزية 1976، الناشر مسجد لندن، ص 404
  14. الحق وإتمام الحجة ص 26
  15. تششمة معرفة (ينبوع المعرفة)، الخزائن الروحانية ج 23 ص 337
  16. الحق وإتمام الحجة ص 9
  17. جريدة “بيسه أخبار” وجريدة “أهل الحديث” ليوم 15/5/1908م
  18. مجلة “نقد الأديان” ديسمبر 1905م
  19. جريدة “أهل الحديث” 15/5/1908م
  20. المرجع السابق 12/6/1908/
Share via
تابعونا على الفايس بوك