نبوءات لسيدنا أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام

نبوءات لسيدنا أحمد الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام

محمد نعيم عثمان

نبوءات لسيدنا أحمد

الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام

“دراسة نقدية”

بقلم: محمد نعيم عثمان

الحلقة الأولى

(مقدمة)

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (الكهف 57)

من أسس العقيدة الإسلامية أنه بعد بعثة سيدنا ومولانا محمد المصطفى .. لا يمكن أن يبعث نبي آخر يكون مستقلاً أو خارجًا عن سلطان وسيادة نبي الإسلام . ولكن -في إطار هذا المبدأ- يمكن أن يبعث الله تعالى نبيًا تابعًا للمصطفى ليقوم بكل متطلبات النبوة.

ولقد ادعى سيدنا مرزا غلام أحمد القادياني مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية -في إطار شريعة الإسلام- بأنه المهدي والمسيح الموعود.. النبي التابع الخاضع خضوعًا كاملاً لنبي الإسلام الأعظم: سيدنا ومولانا محمد المصطفى . ولكن خصوم الأحمدية في محاولاتهم للحكم عليه بحسب ما استقر عندهم من شرائط النبوة.. أثاروا ضد حضرته اعتراضات كثيرة.. لم يكن بهم حاجة إليها لو أنهم أقروا بشروط النبوة بناء على ما جاء في القرآن الكريم وأحاديث الرسول .

ومع ذلك فإن من الظواهر التي لا نكران لها أنه عند اصطفاء أحد للنبوة فإن الله جل جلاله ينور من يختاره ويبلغه هذه الإرادة الإلهية بطريق الوحي. ولكن مما يؤسف له.. أن الناس طالما رفضوا هذه الإعلانات الإلهامية، ومن ثم جلبوا على أنفسهم الهلاك بإنكارهم آيات الله تعالى التي تجلت على يد هؤلاء الرسل. يقول الله تعالى:

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (الإسراء: 60)

ولما كان الإمام المهدي والمسيح الموعود رسولاً مكلفًا من لدن الله جل جلاله.. فقد تلقى حضرته كثيرًا من الوحي الإلهي. ومن العجيب أن خصومه – في تلهفهم على تكذيب دعواه للنبوة.. جادلوه بإصرار واستمرار.. منكرين كثيرًا من نبوءاته الإلهامية على أنها مجرد اختلاقات لم تتحقق أبدًا.

وشهدت الحقبة الحالية صحوة جديدة لهذه الاعتراضات ضد نبوءات سيدنا أحمد.. مع أن الجماعة الإسلامية الأحمدية قد فندت حجج الخصوم ودحضتها تمامًا في شتى المناسبات من قبل. وفي هذا الكتيب نقدم جواباً شاملاً -إن شاء الله تعالى- على جميع انتقادات خصوم سيدنا أحمد بصدد نبوءاته التي يزعمون أنها لم تتحقق.

 (الفصل الأول)

القواعد الأساسية التي تحكم تحقق النبوءات

قبل أن نشرع في بحث بعض من نبوءات سيدنا مرزا غلام أحمد التي يزعم خصومه أنها لم تتحقق.. قد تكون مناقشة القواعد الأساسية التي تحكم تحقق النبوءات الإلهية التي ينعم بها الله على رسله.. ذات صلة وثيقة بالموضوع.

لا يجادل المرء مع خصوم الجماعة الإسلامية الأحمدية عندما يقولون بأن “النبي لا يتنبأ من عند نفسه، بل يفعل ذلك بسلطان من الله تعالى وحده”. كما يعد من السذاجة أيضًا ما يفترضه ويؤكده ذوو الذكاء المحدود من أن “كل نبوءة للنبي لا بد من تحققها حرفيًّا”. يشير تاريخ الديانات المكتوب إلى أن رجالاً ممن يتبوؤون أعلى المنازل والمقامات قد خدعوا في بعض الأحيان إزاء رسالة سماوية. وطبقًا لشهادة القرآن الكريم.. حدث بالفعل أن فهم بعض رسل الله تعالى فهمًا يخالف حقيقة ما ترمي إليه المشيئة الإلهية فيما أوحي إليهم. ألسنا نعرف نبوءة سيدنا محمد المصطفى التي تتعلق بأداء العمرة والحج مع صحابته؟ تلك الحادثة المعروفة في تاريخ الإسلام باسم “صلح الحديبية”؟ ماذا حدث هناك؟ تقول الأحاديث أن النبي -بناءً على رؤيا إلهية رآها- طلب من أصحابه أن يتجهزوا لزيارة بيت الله الحرام بمكة المكرمة وأداء شعائر العمرة هناك. ولكن مشركي مكة أبوا عليهم دخول البقعة المقدسة. وانتهى الأمر إلى توقيع معاهدة بين المسلمين والمشركين عند الحديبية، وبناءً على شروطها قبل النبي بالعودة إلى المدينة بدون أداء شعائر العمرة التي فهم حضرته من الرؤيا أنها مقدرة لهم. (1)

ويشهد التراث الإسلامي أن صحابة النبي -مع احترامهم وتقديرهم الفائق لمقام النبي- كانوا راغبين بشدة عن الإحلال من إحرامهم بالعمرة وعن الرجوع إلى المدينة دون تحقيق النبوءة كما فهموها (2). وبعد سنوات ذكر سيدنا عمر عنه هذه الحادثة وصرح بأنه “لم يخالجه شك منذ أن دخل في الإسلام إلا يوم الحديبية” (3).

يا ترى.. بماذا يعلق أولئك المتعالمون المتحذلقون المتعجرفون.. الذين يجادلون في تحقق نبوءات سيدنا أحمد.. لو أنهم كانوا حاضرين توقيع صلح الحديبية والإياب إلى المدينة دون أداء شعائر العمرة التي أشارت إليها رؤيا النبي ؟

وهناك مثال آخر يبين كيف أن الرؤى الربانية لم يفهمها تمامًا في بعض الأحيان رجال من ذوي المكانة العالية.. ذلك هو وعد الله تعالى لسيدنا نوح . يقص القرآن الكريم أن الله جل جلاله وعد رسوله نوحًا بنجاة أهله جميعًا من كارثة الطوفان التي كانت وشيكة الحلول بقومه. وعندما شاهد سيدنا نوح ابنه كنعان على شفا الغرق.. نادى ربه بصيحات اليأس الشديد والحيرة الأليمة

رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ..

وكأنه يذكره بوعده السابق. ومع ذلك.. فإن الله تعالى -بدلاً من أن ينجي كنعان- أخبر الوالد المضطرب بأن ابنه ذاك من دمه ولحمه فعلاً.. ولكنه -بسبب فسوقه- لا يدخل ضمن أسرة النبي في نظر الله تعالى. فكأن سيدنا نوحاً قد أخطأ فهم الوعد الإلهي الذي ما كان يتعلق بأهل النبي وذريته إلا من الناحية الروحية فحسب.

وإني لأتساءل: ما قول أدعياء العلم – الذين يجزمون بلا دليل.. ما قولهم في وعد الله  لسيدنا نوح.. لو كانوا حاضرين المشهد، وينظرون من فوق الجبل ويرون الموجة العاتية تكتسح كنعان إلى مصيره الأخير؟ هذه الحقائق التاريخية الثابتة في كتب الوحي الإلهي.. ألا توحي للمرء بضرورة أن يتعرف جيدًا على الوسائل المتنوعة التي يحقق بها الحق جل جلاله كلماته.. ذلك قبل أن يغامر المرء فيناقش هذه المسألة الدقيقة بتحقق النبوءات والمشيئة الإلهية؟

إن القاعدة الذهبية المهيمنة في تعامل الله جل جلاله مع الإنسان ذكرها القرآن المجيد حيث يعلن رب المقادير وصاحبها:

عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ (الأَعراف: 157).

وبالنظر إلى هذه القاعدة السائدة دائمًا.. يكون من السذاجة بمكان أن يحتج بقول: لا بد من تحقق النبوءات كلها حرفيًا كما يفهمها العقل البشري المحدود.. لأن مثل هذا الرأي مضلل تمامًا، وصاحبه يغفل عن أن يأخذ في الاعتبار أمرين: أولاً، صفة الرحمة الإلهية الحنون التي لا يُسبر غورها. وثانيًا، العوامل الأخرى المتعلقة بالموضوع.. مثل سلوك القوم الذين صدرت بصددهم النبوءة الإلهية.

ولما كانت رحمة الله تعالى ترجح غضبه.. لا يجرؤ مسلم يستحق ذرة من نعم الله تعالى فيقيد حق الله في الاختيار والتفضل برحمته على من يشاء. هذا الحق -بشهادة القرآن العظيم وأحاديث النبي الكريم- هو ما أعلنه الله تعالى هكذا: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ .. يرحم من يشاء وإن كانوا ممن قدر عليهم الغضب من قبل.

لا مراء في أن ما يقرره الله تعالى حق مطلق.. لأنه لا يقول إلا ما هو حق. ولكن الله تعالى هو نفسه مالك مشيئته ورب الأقدار. قد ينبئ بهلاك قوم، ثم يبدل القوم سلوكهم في الحياة ويبدون الندم، ويطلبون التوبة ويتصرفون بحسب التقوى.. وعندئذ يصفح الله تعالى عنهم.. ويدع المبدأ الغالب -مبدأ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ – ليقوم بدوره طبق قاعدة

وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (الأَنْفال: 34)

ويندهش المرء عندما يجد هؤلاء الطاعنين في الجماعة الإسلامية الأحمدية وقد فشلوا في ملاحظة الظاهرة اليومية التي خبرها كل مؤمن. فكثيرًا ما يرى المؤمن في الحلم تحذيرًا يتعلق بأحداث غير مواتية ومآس وشيكة في حياة المرء. ويستطيع المرء الجزم أن مثل هذه الأحلام الصالحة -بناء على سنة النبي – هي في الواقع تحذيرات إلهية، يكشف الله تعالى عن طريقها لعباده أخطارًا تتهددهم. ولكن إذا تاب المنذَر، وابتهل إلى الله تعالى سائلاً الصفح، وأعطى الصدقات وبذل المال في سبيل الله.. فإنه كثيرًا ما يتفادى برحمة الله تعالى وغفرانه هذه الأخطار المحدقة.

ماذا يا ترى.. رأي المعترضين على نبوءات سيدنا أحمد.. بالنسبة لهذا الرب الذي يُخبر عبده بحادث وشيك، ثم إذا تاب عبده وتضرع وتصدق وضحى.. يبدل الرب قضاءه؟ ألا يكون صادقًا في كلمته؟

من تعاليم الإسلام الحقة، التي أرسلها نبي الإسلام فيما يتعلق بالعقاب الإلهي.. أن لله سبحانه مطلق الحرية في أن يعفو، وأن الصدقة ترفع عقاب السماء المقدر. وبصرف النظر عما يقوله العيابون على سيدنا أحمد بصدد نبوءاته.. تبقى الحقيقة الثابتة بأن تحقق النبوءات، وخصوصًا تلك المنذرة بالعقاب، موضوع مشروط بسلوك المنذَرين الذين صدر بشأنهم القرار، ومشروط أيضًا بمشيئة الله تعالى. وإن شاءت حكمته ألا يعفو تحققت كل كلمة في النبوءة.

ولكن إذا قدر الله تعالى أن يصفح عن الإنسان لأنه بدل سلوكه.. فإن النبوءة التي تنذر بالعقاب لا تتحقق. ومن الواضح عندئذ أن عدم تحققها لا يفسر بأنه بطلان كلمة الله تعالى.. لأنه جل جلاله محيط بكل شيء، وهو وحده المطلع على قلب المرء، ويعلم المغزى الحقيقي لكلمات نبوءته.. ومن ثم فإنه يحقق كلمته كما قدر وشاء، وليس كما يفهم أو يتوقع الإنسان.

ثم هناك دليل إيجابي في القرآن الكريم يشير إلى أن الوعود الإلهية عن بشارات سارة هي أيضًا قابلة للتبديل إذا بات القوم المبشرين غير أهل لتلقي العطف الإلهي الموعود. وللمرء أن يتساءل مثلاً.. ماذا جرى لسيدنا موسى وقومه بني إسرائيل بعد أن تحرروا من استعباد فرعون مصر؟ أنبأهم سيدنا موسى بأن الله تعالى سوف يهلك أعداء بني إسرائيل ويورث الإسرائيليين الأرض الموعودة.

قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (الأَعراف: 130).

وتحقيقًا لذلك أوصلهم الله تعالى إلى عتبات الأرض الموعودة التي كتبها لهم، ولكن تبين أن بني إسرائيل غير جديرين بهذا الوعد بعد، ولذلك قضى الله تعالى تأجيل تحقق وعده لهم أربعين سنة (المائدة: 22-27).

يروي لنا التاريخ أن سيدنا موسى.. ذلك الرسول الصالح الذي بعثه الله تعالى إلى بني إسرائيل.. عانى مع أمته الظالمة. ومع أنه كان بريئًا من أي جرم إلا أنه مات في “برية مؤاب” دون أن يدخل الأرض الموعودة التي وعده الله وقومه إياها. ولكنه كان عبدًا مؤمنًا مخلصًا لله تعالى.. لذلك لم يعترض ولم يتشكك في كلمة ربه.

والآن، هل يجرؤ أصحاب التأكيد الساذج بأن وعود الله تعالى لا بد من تحققها حرفيًا دون تحفظ أو تبديل.. بصرف النظر عن أي سلوك مقيت من جانب الموعودين.. أقول: هل يجرؤون على مساءلة الله تعالى نيابة عن سيدنا موسى؟

وإذن، عندما نقرأ أن كلمات الله “لا تتبدل”.. ينبغي فهمها فقط على أنها أسلوب مقرر لله تعالى، وأن تحقق أحكامها في الماضي منذ إعلان أن “كلمات الله لا تتبدل” يقوم على مثل هذه الآيات القرآنية:

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (فاطر: 44).

هل يتوقعون معاملة من الله تعالى غير معاملته للأقوام الماضية؟ كلا، لن تجد تغييرًا أو تبديلاً في سنة الله جل جلاله.

ومع ذلك.. إذا شاء الله تعالى، انسجامًا مع سنته الراسخة.. أن يرجئ أو يلغي قرار توقيع العقوبة على قوم بسبب عوامل معينة تستدعي رحمته، كما حدث مع سكان نينوى.. فإن هذا التغير أو التبدل الظاهري لا يجوز اعتباره تبديلاً أو تحويلاً في كلمة الله تعالى.

يحمل القرآن الكريم دليلاً قويًا في بيان عملي.. يوضح كيف أن الله يجعل رحمته تسبق غضبه، إذ يسحب قرار العقوبة الذي أصدره. والمثل النموذجي لهذا الأسلوب نجده في معاملة الله تعالى لأهل نينوى (يونس: 99). يقص علينا القرآن المجيد أن الله تعالى بعث سيدنا يونس رسولاً إلى بلدة نينوى، فرفضوا رسالة الله تعالى بادئ الأمر، ولذلك قدر الله موعدًا معينًا ويومًا محددًا لهلاكهم. وفهم سيدنا يونس أن هذا النبأ الإلهي الخاص بهلاك مائة ألف أو يزيدون من سكان نينوى سوف يتحقق حرفيًا، ولذلك هاجر من البلدة (الأنبياء: 88)، ووقف على مسافة منها يترقب أنباء تدميرها.

يقول القرآن المجيد أن أهل هذه البلدة ندموا ندمًا صادقًا، وتابوا إلى ربهم توبة نصوحًا، وتضرعوا إليه يستغفرونه ويلتمسون رحمته.. فألغى الله تعالى قراره السابق ونظر إليهم برحمته. يصرح القرآن المجيد فيما يتعلق بهذه النبوءة والمصير النهائي لقوم نينوى فيقول:

لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (يونس: 99).

فهل يتقدم أولئك العيابون الناقدون لنبوءات سيدنا أحمد.. ويحتجون ضد نبوة سيدنا يونس فينكرونها.. لأن نبوءته التي تلقاها بالوحي الإلهي لم تتحقق كما توقعها الإنسان.. فقد جاء قدر الله تعالى بخلافها، ونجى أهل نينوى من عذاب الخزي لما آمنوا؟

وبالمناسبة، فإن سيدنا يونس كان رجلاً شديد الإيمان عظيم التقوى. لما أدرك خطأة في فهم غاية المشيئة الإلهية.. طفق يستغفر ويسأل الله تعالى الصفح، ونتيجة لذلك نجاه الله تعالى من الغم. لو كان الناقدون العيابون لسيدنا أحمد هؤلاء في مكان سيدنا يونس.. للبثوا في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، فهم لا يتوقع منهم إدراك خطئهم والتماس المغفرة على سوء فهمهم لسنن الله تعالى.

هذه الأمثلة القليلة من التاريخ الديني المسجل المحفوظ.. تكفي لترسيخ الحقيقة حول مسألة تحقق النبوءات الإلهية، وتبين أنها موضوع يتطلب الدراسة بحرص عظيم. ومن المهازل المؤلمة عند مناقشة النبوءات التي ألهمن لسيدنا أحمد -وهي بالطبع خاضعة لنفس القواعد الإلهية السارية التي ذكرناها آنفًا- أن خصوم الأحمدية يعجزون عن التعامل مع الموضوع بحسب خلق الأمانة والاستقامة.. وهما من الصفات الواجبة -ليس من المؤمن فحسب- بل وتُتوقع أيضًا من الرجل العادي الصادق.

الهوامش

1.صحيح البخاري، كتاب المغازي.

2.المرجع السابق.

3.زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم الجوزي، المجلد الأول، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت.

(الفصل الثاني)

النبوءة المتعلقة بالسيدة محمدي بيجم وعائلتها

الواقع أن نبوءة سيدنا مرزا أحمد فيما يتعلق بعائلة محمدي بيجم.. هي التي يلجُّ ويلحُّ خصومه بشأنها، ويعترضون عليه مؤكدين أنها لم تتحقق.

كانت “محمدي بيجم” ابنة أحد أقرباء سيدنا أحمد الأبعدين من ناحية والده، يُدعى مرزا أحمد بك. كان هذا الرجل قد أعلن ارتداده عن الإسلام. ليس ذلك فحسب، بل شارك أيضًا مع بعض الأقارب الآخرين في “سب نبي الإسلام سيدنا محمد ، والتشكيك في صدق القرآن الكريم، وإنكار وجود الله تعالى” (1).

قلق سيدنا أحمد بالطبع من هذا الموقف الجريء الذي يقفه هؤلاء الأقارب الذين طالما نصحهم “أن يكفوا عن إنكار وجود الله تعالى، وشتم النبي الأكرم ، والطعن في القرآن الكريم كلمة الله المقدسة”. ولكنهم أعاروا نصحه آذانًا صمًّا. والحق أن استجابتهم الوحيدة كانت الإمعان في العدوان، واحتقار ما يبذله لهم سيدنا أحمد من نصح.

ولاحظ سيدنا أحمد أن هؤلاء القوم قد صاروا أشد جرأة في شجب كل مقدسات الإسلام فأعلن حضرته: “وكذلك سدروا في غلوائهم، وجمحوا في جهالاتهم، وسدلوا أثواب الخيلاء يومًا فيومًا، حتى بدا لهم أن يشيعوا خزعبلاتهم ويصطادوا السفهاء بتلبيساتهم، فكتبوا كتابًا فيه سب رسول الإسلام ، وسب كلام الله تعالى وإنكار وجود البارئ عز اسمه” (2)

هذه الوثيقة التي نشرها بعض المنشقين عن الإسلام في الأسرة.. وجدت ذيوعًا في الصحافة النصرانية (3). وطلب كاتبوها من المؤمنين بدين الإسلام أن يأتوا بآية تثبت صدق عقيدتهم. وعندما وصل الخبر إلى سيدنا أحمد أعلن حضرته:

“فإذا الكلمات تكاد السماوات يتفطرن منها. فغلقت الأبواب ودعوت الرب الوهاب، وطرحت بين يديه وخررت أمامه ساجدًا.. وقلت يا رب انصر عبدك واخذل أعداءك! استجبني يا رب استجبني! إلام يستهزأ بك وبرسولك؟ وحتام يكذبون كتابك ويسبون نبيك؟  برحمتك أستغيث يا حي يا قيوم يا معين” (4).

يتضح -بلا أدنى ريب- من هذا الدعاء أنه لم يكن هناك أي دافع شخصي للخلاف بين سيدنا أحمد وأسرة محمدي بيجم كما يزعم خصوم الأحمدية. بالعكس، لقد ابتهل إلى الله أن يسمع دعاءه ويخزي أعداء الإسلام الذين “أنكروا وجود الله وسبوا نبيه محمدًا المصطفى وعابوا كتابه القرآن الكريم” (5). “فرحم ربه تضرعاته وزفراته وعبراته وناداه قائلاً:

“إني رأيت عصيانهم وطغيانهم، فسوف أضربهم بأنواع الآفات، وأبيدهم من تحت السماوات، وستنظر ما أفعل بهم، وكنا على كل شيء قادرين” (6).

فعل ذلك سبحانه استجابة لابتهالات سيدنا أحمد التي تضرع فيها أن يصون الله تعالى -ليس كرامة سيدنا أحمد- وإنما كرامة الله جل جلاله، وكرامة نبيه محمد المصطفى ، وكرامة كتابه القرآن المجيد.

ومن ثم فإن الاحتجاج ضد هذه النبوءة -وهو ما يفعله خصوم سيدنا أحمد- يعادل القول بأن هذه العائلة التي ألحد كثير من أعضائها.. قد نجحت -معاذ الله- في إحباط مشيئة الله جل جلاله. ويستنتج هذا من واقع أن الوثيقة التي نشرها بعض كبار أسرة محمدي بيجم، والغرض الذي ابتهل سيدنا أحمد من أجله إلى الله تعالى.. يتعلقان أساسًا بوجود الله تعالى، وصلاح سيدنا محمد المصطفى ، وصدق القرآن الكريم” (7).

ثم إن سنة الله السارية أنه لا يعذب عباده قبل أن يرسل إليهم من ينذرهم (الأنعام: 132).. ذلك كي يتيح للمذنبين فرصة ليتوبوا ويصلحوا. فإن استمعوا واستجابوا للتحذير فتابوا وانصلحوا نظر إليهم ربهم الغفور الرحيم نظرة رحمة حسب وعده:

فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (المائدة: 40).

ولم تكن ذرية عائلة محمدي بيجم استثناء من هذه القاعدة المقررة. لذلك فإن الله تعالى مع تحذيره لهم بعقاب وشيك بسبب سوء فعلهم ما كان ليعذبهم قبل أن يمنحهم فرصة التوبة والإصلاح.. وهذا واضح في كثير من الأنباء السماوية التي تنزلت على سيدنا أحمد. فمثلاً حذر حضرته هذا الفرع من أسرة محمدي بيجم بأن الله تعالى أخبره:

“ولكن لا أهلكهم دفعة واحدة بل قليلاً قليلاً لعلهم يرجعون ويكونون من التوابين. إن لعنتي نازلة عليهم وعلى جدران بيوتهم، وعلى صغيرهم وكبيرهم، ونسائهم ورجالهم ونزيلهم الذي دخل أبوابهم، وكلهم كانوا ملعونين.. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقطعوا تعلقهم منهم وبعدوا من مجالسهم فأولئك من المرحومين” (8)

وفي إعلان آخر حذرهم سيدنا أحمد من أن الله تعالى قرر:

“كل فرع من أبناء عمومتك سوف يقطع وينتهي بلا ذرية. إذا لم يتوبوا فإن الله سوف يرسل عليه البلاء بعد البلاء حتى يهلكهم. سوف تمتلئ بيوتهم بالأرامل، وسوف ينزل غضبه على جدرانهم” (9).

وفي مناسبة أخرى حذر سيدنا أحمد أحد أعمام محمدي بيجم -مرزا إمام الدين- أن الله تعالى قدر معاقبته إذا لم يتب. ومع ذلك صرح سيدنا أحمد بأن الله تعالى أطلعه: “إذا تاب حسنت خاتمته ورغم التحذير يفوز بالراحة” (10).

وفيما يتعلق بوالدي محمدي بيجم -مرزا أحمد بك وأمير النساء- بصفة خاصة فقد تنبأ سيدنا أحمد فقال:

“فألهمت من الرحمن أنه معذبهم لو لم يكونوا تائبين. وقال لي ربي إن لم يتوبوا ولم يرجعوا فننزل عليهم رجسًا من السماوات ونجعل دارهم مملوءة من الأرامل والثيبات، ونتوفاهم أباتر مخذولين. وإن تابوا وأصلحوا فنتوب عليهم بالرحمة، ونغير ما أردنا من العقوبة فيظفرون بما يبتغون فرحين” (11).

ترسي إلهامات سيدنا أحمد حقيقة أن المصائب الوشيكة التي قدر نزولها على المرتدين من أعضاء هذا الفرع من الأسرة كانت كلها مشروطة، وتتوقف على موقف المنذرين في المستقبل. إذا أرادوا استطاعوا بالتوبة إنقاذ أنفسهم من العقاب المقرر لهم. أما إذا صدوا ولم ينفكوا عن عدوانهم ظلوا عرضة لما قدر لهم من نقمة الله ومقته. والواقع أن دراسة موضوع الخلاف كله بعقل متحرر أمين.. تكشف للباحث أنه طوال الفترة التي كانت فيها أسرة محمدي بيجم تحت مظلة الغضب الإلهي.. كان سيدنا أحمد دائمًا يلتمس منهم مرارًا وتكرارًا أن يتوبوا وينقذوا أنفسهم من العذاب المحتوم وينصحهم في تعاطف صادق. قال حضرته:

“فنصحت لهم إتمامًا للحجة وقلت: استغفروا ربكم ذا المغفرة” (12)

ثم في إعلان آخر صرّح سيدنا أحمد أنه في إحدى الرؤى رأى امرأة باكية من بين أسرة مرزا أحمد بك، فنصح جدة محمدي بيجم لأمها قائلاً: “أيتها المرأة توبي توبي فإن البلاء على عقبك” (13)

ولسوء حظ هذه الأسرة أنها اشتدت غطرستهم فأبوا قبول النصح، فغازلوا النصرانية لفترة من الزمن (14)، ثم ارتد عدد من أعضائها البارزين وانضموا إلى دين آريا سماج -وهي منظمة هندوكية وقفت نفسها لتخريب القيم الإسلامية في القارة الهندية (15). وبعد عدة سنوات تحول عدد كبير من أعضاء هذه الأسرة إلى الإلحاد معلنين على الملأ:

“لا حاجة لنا إلى الله ولا إلى كتابه ولا إلى رسوله خاتم النبيين. وقالوا لا نتقبل آية حتى يرينا الله آية في أنفسنا. وإنا لا نؤمن بالفرقان، ولا نعلم ما الرسالة وما الإيمان، وإنا من الكافرين” (16)

ولما كان تقدير الله تعالى “ألا يهلكهم بضربة واحدة وإنما شيئًا فشيئًا لعلهم يرجعون”.. شرع الله تعالى يحقق كلمته، وتعرضت أسرة محمدي بيجم لسلسلة من المصائب كما كان مقدرًا لهم من قبل. ففي مسلسل الفواجع التي بدأت في الشهر الحادي والثلاثين من يوم إعلان النبوءة الأولى ضد هذه الأسرة.. فُجع عم محمدي بيجم -مرزا نظام الدين- فجيعة هائلة في ابنته الشابة التي ماتت في سن الخامسة والعشرين.. تاركة وراءها طفلتها الرضيعة. (17)

كان المفروض أن يكون لهذه المأساة وقع ثقيل على أسرة محمدي بيجم، ولكن للأسف قست قلوبهم، ووجدهم سيدنا أحمد “يمعنون في تمردهم، ويستمرون في الهزء بالإسلام كأعداء الدين”. وعلى أثر ذلك مات مرزا نظام الدين تاركًا خلفه ابنه مرزا جول محمد وابنته، وكان هذان من الحكمة والتُقى بحيث دخلا في الإسلام على يد سيدنا أحمد. أما أخو مرزا نظام الدين مرزا إمام الدين فقد ترك ابنة واحدة هي خورشيد بيجم.. التي بايعت سيدنا أحمد كما فعل ابن عمها مرزا جول محمد وأخته. وبعد ذلك تزوجت خورشيد بيجم من ابن سيدنا أحمد وتزوجت حفيدتها أحد أحفاد سيدنا أحمد.

والأخ الثالث لمرزا نظام الدين هو مرزا كمال الدين.. بقي في قاديان ليتنسك ويقضي بقية أيامه في مقابر الهند. وبعدها خصى نفسه وتندم على أفعاله، وقاسى نهاية تعيسة ومات بلا ذرية.

وشاءت الأقدار أن يحتاج والدا محمدي بيجم مساعدة من سيدنا أحمد في بعض الأمور الخاصة بأملاك الأسرة. ولذلك ذهب أبوها مرزا أحمد بك إلى سيدنا أحمد.. يلتمس مساعدته في وداعة وتواضع شديدين. وكان سيدنا أحمد ميالاً لإسداء المعروف الذي طلبه الرجل، فأخبره أنه سيرد عليه بعد أن يستخير الله جل جلاله كما هي عادته في كل الأمور الهامة. قال سيدنا أحمد بعدها:

“وبسبب إلحاحه استخرت الله، فكانت مناسبة يُبدي الله تعالى فيها آيته” (18)

أخبر سيدنا أحمد مرزا أحمد بك أن الله تعالى أمره أن ينصح مرزا أحمد بك لينشئ علاقة مع سيدنا أحمد بأن يزوجه من ابنته الكبرى محمدي بيجم، فينور بنوره (19).

والعارفون بتقاليد العائلات في الهند يعلمون أن طلب الزواج علنًا من ابنة عدو، وخصوصًا في الأسر من أصل إقطاعي، ربما يعتبر أشد وسيلة لمضايقة الخصم وإذلاله. فكأن الله تعالى بحكمته الأزلية قرر أن يضرب هذا الفرع -وهو من أسرة كريمة المحتد أصلاً- بأسلوب أشد ما يكون إيلامًا. وإلا فلا يُتصور أن يرغب سيدنا أحمد في إقامة علاقة زواج مع أسرة بعيدة كل البعد عن الإسلام.

في ذلك الوقت كان سيدنا أحمد في الثالثة والخمسين من عمره، متزوجًا من سيدة تقية تنتمي إلى أُرُومة نبيلة: السيدة نصرت جيهان بيجم؛ من ذرية نواب مير درد أحد أولياء الله المعروفين من دلهي، الهند. وكانت حياة سيدنا أحمد قبل زواجه من هذه السيدة عام 1884 م تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه كان رجلاً لا يبالي بالمتع الدنيوية. ويتضح ذلك من واقع أن حضرته عند انفصاله عن زوجته الأولى: السيدة حُرمت بيبي.. لم يكن قد بلغ 21 عامًا بعد.. فمكث 28 عامًا بعدها دون أن يتزوج مرة ثانية. بل بالعكس من ذلك عاش أعزب مكرسًا سنين شبابه في خدمة الإسلام، وبقي مكتفيًا بجهوده ومساعيه الدينية والأدبية. ومن ثم لا يسع أحد يتمتع بحاسة الإنصاف والعدل أن ينسب إلى سيدنا أحمد أي رغبات دنيوية في تلك الحقبة من حياته. وبغض النظر عن مزاعم خصومه.. فإنه كان راغبًا عن الزواج من محمدي بيجم، وأعلن بوضوح غير مشروط أنه لا حاجة له في هذا الزواج لأن الله تعالى كفاه بكل احتياجاته (20).

والواقع أنه كتب إلى صديقه المخلص وموضع سره مولانا الحكيم نور الدين.. أنه “منذ تلقى الإلهام الرباني بالزواج، كان نافرًا بطبيعته؛ وتمنى لو ظل القدر الإلهي متوقفًا”. وصرح أيضًا:

“لقد حزمت أمري أنه مهما كانت خطورة الموقف فلسوف أتحاشاه إلا أن أضطر إليه بأمر صريح من الله تعالى، لأن أعباء الزواج المتعدد ومسؤولياته الغير ملائمة كثيرة للغاية. كما أن فيه شروطًا جمة لا يستطيع توفيتها إلا من كلفهم الله تعالى بحملها ويكون ذلك بتقدير خاص منه، ولغرض خاص، وأيضًا عن طريق اتصال ووحي خاص” (21)

فإذا كان خصوم سيدنا أحمد بعقولهم الفاجرة وخيالهم المريض.. رغم هذه الدلائل الثابتة يصرون على إهانة هذا العبد التقي النقي من عباد الله تعالى، ويسقطون شخصياتهم الفاسقة على دوافع مقاصده العفيفة الطاهرة التقية.. فلا يسع المرء إلا التعزي بأن أعظم الطاهرين المطهرين.. سيدنا محمد خاتم النبيين .. لم يسلم من مثل هذا النقد الداعر. أوَلا يدرون بأن الفجرة من أمثال “فرويد” في الغرب ما برحوا لقرون طويلة يسخرون ويتهكمون على نبينا الحبيب لزواجه من السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها.. مطلقة متبناه السابق سيدنا زيد ؟ أليس من مقتضيات الحكمة والضرورة البالغة عند من يخشون الله تعالى أن يتحروا الحرص فيما يتعلق بحياة هذه الشخصيات المقدسة.. الذين تخلو حياتهم من أي شائبة؟ أم يفضل هؤلاء العائبون على رسل الله تعالى أن يدخلوا أنفسهم فيمن قيل عنهم: الحمقى يندفعون في طريق تخشى دخوله الملائكة.

قلنا إن الله تعالى أمر سيدنا أحمد أن يخطر والد محمدي بيجم: مرزا أحمد بك أن ينشئ علاقة معه فيقتبس من قبسه، فكان على سيدنا أحمد أن يطيع أمر ربه ويعظ والد محمدي بيجم. وهذا ما فعله عندما أبلغه رسالة الله تعالى وفحواها:

“أن الله أخبرني أن إنكاحها رجلاً آخر لا يبارك لها ولا لك. فإن لم تزدجر فيصب عليك مصائب، وآخر المصائب موتك، فتموت بعد النكاح إلى ثلاث سنين. بل موتك قريب ويرد عليك وأنت من الغافلين. وكذلك يموت بعلها الذي يصير زوجها إلى حولين وستة أشهر. قضاء من الله فاصنع ما أنت صانعه، وإني لك من الناصحين” (22)

وللأسف ظل مرزا أحمد بك والد محمدي بيجم في تمرده. وعامل مشورة سيدنا أحمد بازدراء، وبذل كل ما في وسعه علانية للسخرية من سيدنا أحمد. وتآزر مرزا أحمد بك وأسرته مع دعاة النصرانية في نشر رسالة سيدنا أحمد في صحيفة نصرانية (23)، مما تسبب في انتقادات كثيرة لم تنل من سيدنا أحمد بقدر ما نالت من الإسلام نفسه (24).

وهكذا استثارت أسرة مرزا أحمد بك غضب الله عليها، وأخذت عجلات الغضب الإلهي تدور وتطحن. وفي أول سلسلة المآسي فقد والد محمد بيجم مرزا أحمد بك ابنه مرزا محمد بك في يوليو 1890. ولقد أرسل سيدنا أحمد تعازيه لهم، وأكد للوالد المحزون مشاعره الصادقة وتعاطفه قائلاً:

قد يكون قلبك متكدرًا من ناحيتي، ولكن الله العليم يعلم أن قلب عبده المتواضع هذا نقي تمامًا، وأرجو لك الخير في كل سبيل. (25)

وأثناء هذه الفترة المشؤومة، وقعت جدة محمدي بيجم وإحدى أخواتها أيضًا ضحية للنبوءة، ومع ذلك أصر مرزا أحمد بك على كبره، وزوج ابنته لمرزا سلطان محمد في أبريل 1892. وبعد ستة أشهر من زواج محمدي بيجم هلك مرزا أحمد بك والد محمدي بيجم بمرض التيفود في سبتمبر 1892 (26)، وبذلك تحققت نبوءة 10/7/1888:

“يموت في حدود ثلاث سنوات من زواج ابنته” (27).

وتسجل الوقائع التاريخية أن موت والد محمدي بيجم بعد زواجها بفترة قصيرة قد دمر الأسرة كلها، وكان له وقع عنيف على معنوياتهم بحيث اعترف أعضاء الأسرة علنًا بأن نبوءة سيدنا أحمد حق (28). ومما سجلته وقائع التاريخ أيضًا أن أسرة مرزا أحمد بك توقفت بعد ذلك عن أسلوب البذاءة نحو الله تعالى ورسوله الكريم محمد المصطفى وكتابه المجيد القرآن الكريم. والواقع أنه مع توالي الأحداث.. أخذت هذه الأسرة تتحول نحو الإسلام طلبًا للعزاء، وسعى أعضاؤها إلى طلب العفو والمغفرة عن سوء فعالهم. بل إنهم توسلوا إلى سيدنا أحمد كي يدعو الله كي يرفع عنهم برحمته اللعنة التي كتبت عليهم. وهي حقيقة اعترف بها المولوي ثناء الله الأمرتساري.. الذي لم يكن أقل عداء لسيدنا أحمد (29).

فإذا بذلك الجيل الذي كان ينكر وجود الله جل جلاله ويسب رسوله الكريم ويهين كتابه العظيم.. يعود ليدخل في الإسلام على يد سيدنا غلام أحمد. لقد فعلوا ذلك لأنهم أيقنوا من أن نبوءة سيدنا أحمد عن عائلتهم قد تحقق بجلاء، وأن الملاذ الوحيد أمامهم هو الندم والتوبة والتماس الغفران. ومن بين أولئك التائبين الذي دخلوا الإسلام على يد سيدنا أحمد: قمر النساء بيجم أرملة مرزا غلام أحمد بيك ووالدة محمدي بيجم، وعنايات بيجم ومحمودة بيجم وأخوهما مرزا محمد بيك، ومرزا أحمد حسن زوج ابنة مرزا أحمد بيك، ومرزا جول محمد وأخته.. وهما ابنا مرزا نظام الدين الباقيان، وحُرمت بيبي خالة محمدي بيجم وابنتها، وطائي صاحبة وخورشيد بيجم (30).

على ضوء سنة الله تعالى المقررة – كما تحدثنا عنها في الفصل الأول من هذا الكتاب.. يتوقع المرء عند هذه اللحظة -وقد شرعت أسرة محمدي بيجم المعارضة “تتوب وتسأل الله المغفرة– أن الله تعالى برحمته الواسعة يلغي قرار العقوبة الذي صدر ضدهم.. حيث لم يعد هناك سبب لاستمرار معاقبتهم. وها هو تماما ما فعله الله تعالى كما يتبين من الأحداث التالية:

“إن تابوا وأصلحوا أتوب عليهم برحمتي، وأرد عنهم ما أردنا من العقوبة، ولسوف ينزل بهم ما يختارون”. (31)

وإذا مارى أحد بعد ذلك وقال بأن أسرة محمدي بيجم كانت تستحق مزيدا من العقاب.. لكان هذا قمة التضليل.. لقد تبين بعدما نزل العقاب بالأسرة المعارضة أنهم توقفوا عن العدوان والتمسوا الغفران. وأثبتت أيضا حسن نواياها عندما بايع أفرادها بيعة الإخلاص على يد من بعثه الله تعالى إماما مهديا ومسيحيا موعودا.. سيدنا مرزا غلام أحمد القادياني عليه الصلاة والسلام. فكيف يعذب الله تعالى هؤلاء القوم وهو القائل:

عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ (الأعراف: 157)

ألم يبشر مالك يوم الدين ورب الرحمة والمغفرة.. بني الإنسان جميعا فال عز من قائل:

فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (المائدة: 40).

ومن العجيب أن الأسرة التي تأثرت بالنبوءة اعترفت بتحققها وعادت إلى سيدنا أحمد.. ومع ذلك لا يزال الخصوم يجادلون بعكس ذلك.. على أساس أن محمدي بيجم لم تتزوج من سيدنا أحمد. يتشبثون بهذا القول على الرغم من أن النبوءة لم تستبعد زواجها من رجل آخر في أي مرحلة كانت، ولم يكن زواجها من سيدنا أحمد هو الغرض الأساسي من النبوءة.. بل على العكس: كانت النبوءة وسيلة مقترحة لتحقيق الغرض النهائي كما بينته النبوءة، ألا وهو رجعة الجاحد الضال إلى الهداية.. وهذا ما ثبت ثبوتا كافيا من نصوص النبوءات ضد الأسرة المنشقة (32).

وما أن تحقق الغرض النهائي بتوبة الأسرة ودخولها الفوري في الإسلام بعد موت أحمد بك.. كان مقتضى العدل الإلهي أن يتحقق أيضا الشطر الثاني من النبوءة -أي الغفران- الذي كان معلقا بشرط أن تتوب الأسرة المشاكسة .. فيتوب الله عليهم بالرحمة والغفران. فمغفرة الله تعالى لميرزا سلطان محمد ومحمدي بيجم.. هو في الواقع دليل إضافي بتحقق النبوءة في مجموعها، ولا يتضمن أي تكذيب لها.

وقد لا يتوقف خصوم سيدنا أحمد عن إنكار تحقق نبوءته، ولكن السجلات التاريخية تبين أن نفس الأسرة التي كان مقدرا عليها أن تقاسي وطأة الغضب الإلهي قد اقتنعت تماما أن نبوءة سيدنا أحمد بصددهم قد تحققت إلى مداها بحسب مشيئة الله تعالى.. ولقد أقر مرزا إسحاق بك ابن محمدي بيجم بنهاية جده الذرية قال:

“لقد مات جدي مرزا أحمد بيك نتيجة للنبوءة، وأصيبت الأسرة كلها بالخوف فأصلحوا أنفسهم. والدليل القاطع على ذلك أن معظم الأسرة دخل في الأحمدية”.(32)

فهل يدعي خصوم سيدنا أحمد بأنهم يعرفون عن تحقق هذه النبوءة أكثر ممن تتصل بهذه الأسرة مباشرة، وشهدوا كل مراحل تحققها؟ لقد قدم مرزا سلطان محمد زوج محمدي بيجم دليلا حسناً على موقفه تجاه سيدنا أحمد القادياني في هذا الإعلان:

براردم سلمہ

السلام علیکم۔ نوازش نامہ آپکا پہنچا۔ یاد آوری کا مشکور ہوں۔ میں جانب مرزا جی صاحب مرحوم کو نیک بزرگ اسلام کا خدمتگزار شریف النفس خدایاد پھلے بھی اور اب بہی خیال کررۂا ۂوں۔ مجھے آپکے مریدوں سے کسی قسم کی مخالفت نہیں ہے۔ بلکہ افسوس کرتا ہوں کہ چند ایک امورات کی وجہ کر اونکے زندگی میی اوں شرف حاصل نہ کرسکا۔

نیز مند سلطان محمد از انبالہ

رسالہ نمبر ۱

وترجمة رسالته كالآتي:

“لقد كنت ولا زلت أعتقد بأن مرزا صاحب كان شخصا صالحا ومبجلا وخادما للإسلام، وكان ذا نفس شريفة، وكان في ذكر دائم لله تعالى. إني لا أضمر أي معارضة لأتباعه، ويؤسفني أني  -لأسباب معينة- لم أنل شرف لقائه في حياته” (34).

هذه الشهادة المسجلة المحفوظة لهي دليل على أن مرزا سلطان محمد كان على قناعة بأن نبوءة سيدنا أحمد قد تحققت بالقدر الذي شاءه الله تعالى. الواقع أن مرزا سلطان محمد صرح في حديث له نشرت تفاصيله في حياته قال:

“زمنَ النبوءة عرض علي الآريا هندوس – بسبب ليخ رام؛ والنصارى بسبب آثم (35).. مبلغ 100000 روبية لأقيم دعوى قضائية ضد مرزا صاحب. ولو أني قبلت المبلغ لأصبحت غنيا.. ولكن إيماني العظيم فيه منعني من الإقدام على ذلك”. (36).

­تصريح مرزا سلطان محمد المنشور في أعمدة جريدة “الفضل”.. يدل أيضا على أنه كان مقتنعًا تماما بصدق سيدنا أحمد في دعواه، وهي حقيقة يؤكدها إعلانه التالي:

“أعلن غير حانث أني على إيمان راسخ بسيدنا مرزا صاحب.. قد لا تستطيعون أن تدّعوه وأنتم أتباعه.” (37)

وعلى أي حال، فإن مرزا سلطان أحمد لم يكن الوحيد الذي اعتقد بأن نبوءة سيدنا أحمد بصدد أسرة محمدي بيجم قد تحققت بالروح التي قدرها الله تعالى. فهناك المولوي محمد حسين البطالوي.. شيخ جماعة أهل الحديث بالهند.. الذي يحترمه معظم أعداء الجماعة الإسلامية الأحمدية، والذي كان خصما لدودا لسيدنا غلام أحمد.. شهد بنفسه موضوع الخلاف بين سيدنا أحمد وأسرة محمدي بيجم، وكان يعلم جيدا الموضوع النبوءة التي قيلت ضد هذه الأسرة. ورغم أنه كان يعتبر تمريغ سمعة سيدنا أحمد في الوحل مهمته التي نذر نفسه لها.. لكن المولوي محمد حسين البطالوي شهد الميتة الذرية لمرزا أحمد بك وصرح قائلا:

“ومع أن النبوءة قد تحققت.. إلا أن ذلك كان رجعا لعلم التنجيم.” !! (38).

الهوامش

  1. 1. آثينة كمالات الإسلام (مرآة كمالات الإسلام)، الخزائن الروحانية ج 5 ص 566و567
  2. المرجع السابق 567
  3. جريدة “تتشمه نور، أمرتسار، بتاريخ 12/8/1885
  4. مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج5 ص 569
  5. المرجع السابق
  6. المرجع السابق 569
  7. 7. جريدة “تششمه نور” أمرتسار 13/8/1885
  8. مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحية ج 5 ص 569
  9. جريدة “رياض الهند”، بتاريخ 20/2/1886
  10. سرمه چشم آريا (كحل عيون الآريا) الخزائن الروحانية ج 2 ص191
  11. أنجام آثام، الخزائن الروحانية ج 11 ص 211 إلى 213
  12. المرجع السابق
  13. المرجع السابق
  14. تششمة نور، أغسطس 1885، وجريدة “نُور أفشان”، بتاريخ 10/5/1888
  15. جريدة “رياض الهند” المجلد الأول رقم 16
  16. كرامات الصادقين، الخزائن الروحانية
  17. تبليغ الرسالة، الخزائن الروحانية ح ؟؟ ص
  18. مجموعة الإعلانات ج 1 ص 120 و121، إعلان 10/7/1888
  19. مجموعة الإعلانات ج 1 ص 120و121، إعلان 15/7/1888
  20. مجموعة الإعلانات ج 1 ص 120 و121 إعلان 15/7/1888
  21. رسالة بتاريخ 20/6/1886
  22. مرآة كمالات الإسلام، الخزئان الروحانية ج 5 ص 573
  23. جريدة “نور أفشان”، لدهيانة 10/5/1888
  24. جريدة “آريا بتريكا”، لاهور 16/6/1888
  25. حياة أحمد للسيد عبد الرحيم درد، ص 245
  26. تاريخ الأحمدية، بقلم: دوست محمد شاهد ج 2
  27. مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج 5 ص 573
  28. أنجام أثم، الخزائن الروحانية ج 11 ص219
  29. إلهامات مرزا، للمولوي ثناء الله الأمر تسارى ص 69
  30. تاريخ الأحمدية ج 2
  31. أنجام آثم، الخزائن الروحانية ج11 ص211
  32. مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج 5 ص 566 و574
  33. جريدة “الفضل” 26/2/1923
  34. مجلة “تشحيذ الأذهان”، مايو 1913
  35. وكانا هلكا بسبب المباهلة مع سيدنا المهدي والمسيح الموعود ( ).
  36. جريدة “الفضل” بتاريخ 9/6/1921
  37. المرجع السابق
  38. مجلة “إشاعة السنة” المجلد الخامس.

من أقوال وأفعال السلف الصالح

روي أن رجلا دعاء أبا عثمان الحيرى الصوفي إلى ضيافته؛ فلما وافى باب داره قال: يا أستاذ، ليس لي وجه لدخولك، وقد ندمتُ! فانصرف أبو عثمان. فلما أتى منزله عاد إليه الرجل وقال: احضُر الساعة! فقام أبو عثمان ومشى معه. فلما وافى باب داره، قال له مثل ما قال في المرة الأولى؛ ثم فعل به كذلك ثالثًا ورابعًا، وأبو عثمان يحضر وينصرف. فلما كان بعد ذلك اعتذر إليه وقال: يا أستاذ! أنا أردتُ اختبارك. وأخذ يمدحه، ويثني عليه ويدعو له. فقال له أبو عثمان: “لا تمدحني على خُلق تجد مثله مع الكلاب. الكلب إذا دُعي حضر، وإذا زُجر انزجر. (طبقات الأولياء، لابن الملقّن، الناشر: مكتبة الخانجى، القاهرة، ص 241).

وكان معروف الكرخى الصوفي يعاتب نفسه، ويقول” يا مسكين، كم تبكي وتندب؟! أخلِصْ تَخلُص”.

Share via
تابعونا على الفايس بوك