الحضارة الإسلامية قيامها، انحطاطها، نهضتها

الحضارة الإسلامية قيامها، انحطاطها، نهضتها

كينيث موكان

وُضعت بذرة قيام الإسلام قبل بداية هذا الدين العظيم ضمن عدد من النبوءات في كل الكتب السابقة. فمن الثابت في أسفار الكتاب المقدس أن إبراهيم -وهو السلف الأعظم المعترف به لدى الديانات الكبرى الثلاث- دعا الله تعالى لأجل ابنه إسماعيل الذي كان نبي الإسلام من ذريته، فقال:

“لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ” (تكوين 18:17).

فتلقَّى إبراهيم من الله هذا الجواب: “وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًّا. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً” (تكوين 20:17)

ونجد هذه الواقعة مذكورة في القرآن الكريم بشكل أجمل حيث يقول:

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (البقرة: 128-130)

لقد اختفت وراء حجب الرفض الصورةُ الحقيقية التي جاء بها أنبياء بني إسرائيل الكبار في التوراة. ومما يشد انتباهنا مقالة النبي داود “الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ. مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا، وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا” (اَلْمَزَامِيرُ 118 : 22-23).

وإنه لمن الواضح تماما أن الحجر الذي أشار إليه داود هو إسماعيل وذريته لأنهم رُفضوا، وتجاهلهم كتَّاب الأسفار وعزلوهم تماما، فلم يذكروهم إلا فيما ندر. يصفهم سفر المزامير بأنهم كالبنَّائين.. لأنهم كانوا بصدد بناء العقيدة اليهودية.

وقد ردَّد عيسى بن مريم عبارة داود هذه.. وتنبأ عن نهضة هؤلاء المرفوضين فقال: “لذلك أقول لكم: “إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ. وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هذَا الْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ!(إِنْجِيلُ مَتَّى 21: 43-44)

ولعل السبب الأساسي لموقفهم هذا إزاء إسماعيل وذريته هو نبوءةُ موسى الواردة في سفر التثنية (18-18) عن بعثة نبي عظيم ذي شريعة مثل موسى يكون من بني إسماعيل إخوةِ بني إسرائيل وبالمناسبة فإن كلمة “تثنية” تعني القانون الثاني، ولما كان بنو إسرائيل لم ينالوا أي شريعة أخرى سوى شريعة موسى.. فإن سفر التثنية إذن هو كتاب موسى الذي بشر بني إسرائيل بشريعة ثانية يأتيهم بها نبي ٌّمن نسل إسماعيل.

ولقد أحدث نبأ انتقال أفضال الله تعالى إلى بني إسماعيل زلزلةً شديدة من النقمة والتهيُّج بين زعماء بني إسرائيل في المجالين: الديني والسياسي، وأدى ذلك إلى أن كُتاب الأسفار في العهد القديم شنوا حملة عظيمة تجاهلوا فيها ذِكر كل إنجازات وأفضال إسماعيل وبنيه.. رغم ما تأكد في سفر التكوين (17) من أن الله تعالى أقام عهده مع إبراهيم وذريته. وذكر هذا العهد في سفر التكوين بالنسبة لإسحاق بما يتعارض تماما مع ما جاء في سفر التثنية (15:21- 17) حيث بيَّن قوانين الميراث بالنسبة لأطفال كلٍ من الزوجتين.

ويتبين من هذا أن المؤامرة العظمى على الإسلام كانت لها جذور ممتدة في التاريخ القديم، وأن الله تعالى حذَّر بني إسرائيل على لسان داود وعيسى (عليهما السلام) بسبب موقفهم هذا. وقد ذكر القرآن ذلك فقال:

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (المائدة: 79)

وعلى الرغم من كل مهارتهم فقد ظهرت في مؤامرتهم صدوع، وأفلتت منهم بعض الحقائق، وملامح هذه المؤامرة الملوثة لا تزال حتى يومنا هذا كما كانت منذ أجيال مضت. فالمؤامرات المخططة التي يحيكها ويدأب على تدبيرها أعداء الإسلام العلنيون، وكتابات المستشرقين وتصريحات قادة العالم اليوم تكشف عن مقاصدهم الخبيثة، ومقاصد أسلافهم من قبلهم.. الذين كانوا أساتذة في ميدان الخداع وإخفاء الحق والتضليل.

ومع بعثة نبي الإسلام بدأ شكل الأحداث القادمة يتجسد، وأخذ مستقبل تاريخ البشرية يُصنع. وُعد الناس بأنهم سوف يُرفعون إلى قمم عالية باتباع هذا النبي ، وأن قدر دين الإسلام هو أن يكون قوة مسيطرة معترفا بها. يصرح القرآن الكريم:

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (الصف: 10)

وعندما ظهر نبي الإسلام .. كان العالم كافة، وجزيرة العرب خاصة.. ينحط إلى الدرك الأسفل من الانحلال. والتاريخ خير شاهد على هذا الحال. يقول الكاتب دينسن J.H.Denison في كتابه “العواطف كأساس للمدنية”:

” في القرنين الخامس والسادس وقف العالم المتمدن على شفا هاوية الانحلال، وبدا أن الحضارة العظيمة التي استغرق بناؤها أربعة آلاف من السنين قد أصبحت على وشك الضياع…. كانت المدنية كشجرة ضخمة قد غطت أوراقها العالم…. وقفت تهتز…. وتعفَّنَ قلبها…. فوُلِد بين العرب ذلك الرجل الذي قدّر له أن يوحّد كل العالم المعروف في الشرق والجنوب” (ص: 265-269)

من هذا الحال التعيس أنهض نبي الإسلام العرب والعالم عموما إلى حال رفيع المستوى من الأخلاقيات. ونتج عن هذه الثورة الأخلاقية حضارةٌ ذات طبيعة لم تسبق. كل دارس لتاريخ الإسلام يعلم جيدا أن المسلمين نشروا تلك العلوم التي جعلت أقرانهم يندهشون ويتحيرون. بعد أن تغذوا على التعاليم التي جاءهم بها النبي الأكرم .. علموا الدنيا معنى جديدا للإدراك، وكيف يدفعون بطاقاتهم لصالح وخير إخوانهم في الإنسانية. لقد نقَّبوا عن أعماق حكمة القرآن الكريم المتجددة دائما، وإشراقته التي لا تخفت. وكانت لهم من عقولهم الباحثة الفاحصة قُوىً قادتهم إلى عوالم جديدة في كل مجالات السعي.

ولقي المسلمون التشجيع على الاستخدام الأمثل للمواهب التي وهبها الله تعالى لهم، وأن يُبرِزوا تلك الصفات إلى حيّز العمل لصالح إخوتهم في الإنسانية. والقرآن المجيد مليء بهذه الأمثلة، وتاريخ الإسلام المبكر شاهد حي على هذه الحقيقة العالمية.

في الفنون والعلوم، في وسائل الاتصال والتشييد، نظريا وعمليا.. كان العرب أساتذة في كل ما أخذوا به. وبنظرة سريعة على التاريخ نلحظ بالإجلال والتقدير تلك الإنجازات وروعة الأمة المسلمة في الماضي. فمن قوم رُحَّلٍ متجولين.. لا قانون لهم ولا نظام.. أزهرَ نظامٌ متنوع ثري، نظَّم حياتهم في كل مناحيها. ومن قوم كانوا أشد الناس قسوة وعنفا.. يفزعون إلى السيوف لتحقيق العدالة وتسوية النزاعات.. أصبحوا نخبة الإنسانية. وموجز القول: لقد كانوا المثل الأعلى في أفكارهم وفي أفعالهم من كل نواحي الثقافة المتحضرة. وكانت كلمة الله تعالى القرآن المجيد، وسنة سيدهم المصطفى وسلوكه عاملاً فعّالاً في هذا التغير.

لاحظ “برنجل كيندي” Pringle Kennedy في كتابه “المجتمع العربي في عصر محمد” هذا التغير العجيب والمدنيّة التي انبعثت مع مجيء الإسلام فقال:

“كان محمد -بحسب هذا التعبير المدهش- رجل الساعة. ولكي نفهم نجاحه هذا العجيب لا بد لنا من دراسة الأحوال في زمنه…. فكيف -في سنوات قليلة- تغير كل هذا؟ وكيف بحلول عام 640 م أصبح جزء عظيم من هذا العالم عالَمًا مختلفًا عما كان عليه من قبل؟ كان هذا فصولا رائعة من تاريخ البشرية…. إن لم يكن قد حدث هذا التغير المدهش بسببه، فإنه قد جاء على أثر حياة رجل واحد هو نبي مكة…. ومهما كان رأي المرء عن هذا الرجل الخارق للعادة فلا يمكن الاختلاف حول الأثر الهائل الذي تركه في تاريخ العالم.” (ص 8-10، 18-21)

كانت هذه هي الرسالة التي أحدثت ثورة في حضارة العالم كلها، وتركت أثرا لا يزول على صفحات التاريخ وفي عقول البشر عبر القرون التي تَلَت. لقد بدَّلت رسالته أقدارَ الإنسان بما شرعته من مفاهيم. ومن خلال النبي الكريم توضَّح للعالم معنى جديد للحياة، وأصبحت المحبة المتسامحة، والإحساس بالرفاق، وغيرها من الفضائل المرافقة لها سِمَةً مميزة لمن يتبعون الإسلام.

ويعرف دارسو تاريخ الأديان جيدا أن حضارة الإسلام في أيامه المبكرة انتشرت بسرعة حتى أن البلاد المفتوحة مملكةً بعد مملكة ألحقت نفسها بالإمبراطورية القوية المسرعة في اتساعها. وفي الأيام الأولى لمجدها تفَّوق المسلمون وأخذوا القيادة في كل فرع من فروع العلم والمعرفة. وأتت إليهم أمم العالم طلبًا لحل مشاكلها. وتأسست معاهد من كل نوع في العالم الإسلامي، واكتسحت ديانة الإسلام نصف العالم المعروف في ذلك الوقت.

كانت إسبانيا زهرة الحضارة الإسلامية. وعندما كان أهل أوروبا إبان عصور الظلام يعتبرون الاستحمام عادة وثنية.. كان مسلمو قرطبة التي بلغ عدد سكانها ثمانمائة ألف نسمة- يتمتعون بماء جار وثلاثمائة حمام عام. وكان بها عشرة أميال من الطرقات الممهدة المضاءة.. وذلك مما لم يستمتع به أحد في لندن وباريس إلا بعد سبعة قرون.

وكانت الأبهة المعمارية التي طورها المسلمون تقف وحدها في المقدمة. لقد شيد المسلمون الأسبان -تأثرًا بتعاليم القرآن الجميلة- مباني فخمة، لا تزال حتى يومنا هذا وعصرنا هذا منقطعة النظير. ويقف المسجد الكبير في قرطبة مع قصر الحمراء في غرناطة شاهدين خالدين لهذه الفترة من التاريخ.

واجتذبت جامعة قرطبة الطلاب من كل أنحاء العالم المعروف وقتئذ، وكان من المسلَّم به أنها مركز العلم في العالم. إن الملخصات الوافية التي وقفت أساسا للتعلم والعلم الحديث أسسها المسلمون وقدموها للعالم من خلال دراستهم للقرآن الكريم.. الذي زوَّدهم بالنور الذي جعل مثل هذه الدراسات ممكنا. لقد أنشأ المسلمون مكتبات هائلة، وإبان المرحلة المخزية لمحاكم التفتيش الأسبانية أحرقوا ودمروا ما يربو على 400.000 مجلد من أفضل كتب المعرفة.. انتقاما من المسلمين. كما أبيد السكان المسلمون واليهود جميعا خلال فترة التفتيش الشنيعة إما بالموت أو بإجبارهم على الدخول في الكاثوليكية.. أو أسرِهم وترحيلهم بالقوة الجبرية للخدمة عند الإقطاعيين الأسبان في العالم الجديد.. مع الإعلان بأن الغرض من ذلك إكراههم على التخلي عن دينهم.

ومما يناسب المقام هنا ذكر أن أول شخص وضع قدمه في “العالم الجديد” كان “موريسكو” وهو مسلم أسباني سابق، عاد إلى أسبانيا فيما بعد، ثم فر إلى شمال أفريقيا حيث عاد إلى الإسلام”. (راجع الإسلام في العالم الجديد -بحث قدمه تشارلس تركسيللو- جامعة نيومكسيكو).

واستمر تركسيللو في بحثه يقول: “من خلال أسبانيا الإسلامية وجدت أوربا النصرانية حافزا ثقافيا نتيجة اتصالها مع المجتمع الأكثر حضارة.. فصان ورقَّى الحضارة اليونانية والرومانية في حوض البحر المتوسط.. بل وأيضا التراث القديم في مصر وبابليون. لقد وصلت أوربا من أسبانيا الإسلامية كثير من العبارات والمصطلحات الفنية والعلمية.. من الكحول إلى الجبر، فقدمت معارف الأوربيين بهذا الحافز. كما أن الحب الرومانسي التقليدي يرجع إلى اللقاءات الشعرية بين الشعراء الأسبان والعرب. (الإسلام في العالم الجديد، ص3)

ماكس ديمونت Max Dimont كاتب ومؤلف يهودي معتبر، ويعد مؤرخا مؤثرا من الدرجة الأولى، وكتب أعمالا تاريخية عن اليهود.. ذكر في عمله الكبير “اليهود: ربًّا وتاريخًا كثيرا عن الحضارة التي صنعها الإسلام على يد النبي الأكرم كتب في مقدمته يقول:

“إن قصة سائق الجمل عن إنشاء إمبراطورية عالمية باسم الله قصة حقيقية وإن كانت غير محتملة.. في حين أن اليهود لم يقوموا إلى العصر الذهبي لقوتهم الخلاقة إلا ليقعوا في عصر من الظلمة مع غروب الهلال وصعود الصليب”.

ومضى يؤكد قائلاً: “إن فترة العصر الذهبي لليهود في المدنية الإسلامية تنتمي إلى فترة حياة الإمبراطورية الإسلامية، وعندما انكسرت هذه انكسر العصر الذهبي اليهودي…. وبوسعنا فقط ملاحظة انقضائها ببساطة فيما يمثل ظلما عظيما لتكوينها المتسم بالنخوة”.

هذه هي المدنية التي قدَّرت الحكمة الإلهية جريانها.. المدنية التي استمتع فيها المواطنون بالحرية والتسامح، وحقق الناس العظمة الأخلاقية والفكرية، وأجهدوا كل عصب وكل عضلة فيهم كي يعطوا خيرها لتشييد مكانة لائقة لقومهم، ويتركوا أثرًا باقيًا لا يمحى في مسرح الحضارة العالمي. ومن الممكن قياس الدافع والسائق للحضارة الإسلامية من هذه الآيات القرآنية:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ (آل عمران: 191-192) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (الغاشية: 18-21)

هذه التصريحات القرآنية وكثير غيرها -إذ أن ثُمن القرآن الكريم مخصصٌ للحث على الدراسة والتفكر والتدبر وتكريس طاقات الإنسان وملكاته لما فيه مصلحة طلب العلم من أجل خير مخلوقات الله- كلُّ ذلك دَفَعَ المسلمين إلى استكشاف الظواهر العلمية الكامنة في هذا الكون. وفي مدى أقل من مائة عام بعد وفاة النبي حقق المسلمون خطوات واسعة سريعة في ميدان المعارف العلمية. وكانت تعاليم الإسلام عاملا وسيطا جعل الشعوب الإسلامية لا تترك وسيلة لاكتساب المعرفة إلا وسلكتها. فترجموا كل ما درسوه إلى العربية وإلى لغات أخرى. وبذلك استطاعوا أن يحافظوا على كثير من الأعمال للفلاسفة العظام ورجال العلم القدامى. ولولا نهمهم للمعرفة من أجل أنفسهم وأجيالهم لضاعت هذه الأعمال إلى الأبد.

ويؤكد القرآن الكريم على طلب العلم كما في قول الله تعالى:

يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (المجادلة: 12)

ولقد وصى النبي المسلمين بطلب العلم ولو ارتحلوا في طلبه إلى الصين.. مبينًا بذلك ضرورة أن يطلبوه من أي مصدر وحيثما كان. وهذا العلم المذكور يعني الفنون والعلوم الكونية. ومن أقواله أيضا:

“مَا مِنْ خَارِجٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إِلَّا وَضَعَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا بِمَا يَصْنَعُ”.”طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ”

“مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ”.

“مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا”

ولقد امتدت الفترة الخلاَّقة عند المسلمين قرونًا طويلة. ولقد استفاد العالم الغربي كثيرا من مساهماتهم العلمية، وكان العصر الذهبي للسيطرة الإسلامية هو أساس اليوم الذي بُنيت عليه المساعي الحديثة.. مع أن الغرب غير مستعد للاعتراف بذلك صراحة، أو أن الكثير منهم لا يعرفون ذلك.

وبالدراسة العميقة للمنجزات العلمية الإسلامية والحضارة التي أنشأوها وقّدموها للعالم.. ينكشف أن كثيرا من المبادئ التي تطرح على أنها من عبقريات الغرب كانت من توقعات المسلمين وبيانهم.

يقول “بريفو Briffault” في كتابه (صنع الإنسانية Making of Humanity): “إن ما نسميه العلم، والذي ظهر في أوروبا كان نتيجة روح جديدة للبحث، وطرق جديدة للاستقصاء وإجراء التجارب والملاحظات والقياس، وتقدم الرياضيات بشكل لم يكن معروفا عند اليونان. والعلم الحديث هو إسهام خطير من الحضارة الإسلامية”.

ويتفق “جورج سارتون George Sarton” تماما مع “بريفو” حول الروح التي أبداها المسلمون في تطوير العلم.. قال: “إن الإنجاز الرئيسي في العصور الوسطى -وإن كان أقلها وضوحا- هو خلق الروح التجريبية، وكان هذا في أساسه راجعًا إلى المسلمين حتى القرن الثاني عشر.

ولقد ذكر سارتون أيضا أزمنة العلم، وعَزا كلّ زمن إلى شخصية مركزية لها أعظم إنجاز. وفيما يلي نخبة من كتابات البروفسور عبد السلام -العلّامة المسلم الأحمدي- الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء: “استمر عصر هيمنة المسلمين في حقل المعرفة كسلسلة متصلة بأمثال جابر والخوارزمي والمسعودي وأبو الوفاء والبيروني وعمر الخيام وابن سينا وابن الهيثم.. من عام 750 حتى 1100م. كما أشار إلى ذلك “جورج سارتون” في كتابه “تاريخ العلم”، وهو كتاب يُعد مرحلة جديدة في كتابة التاريخ. لقد شارك المسلمون مع أقرانهم الغربيين -الذين دخلوا هذا المجال لأول مرة- في ذلك الشرف الفريد لفترة 250 عاما أخرى.. أما الأسماء التي ترد على الذهن من أهل هذا العصر فهي: ابن رشد ونصير الدين الطوسي وابن النفيس.”

ومضى يقول: هناك سمة فريدة تتميز بها مساعي المسلمين: تلك هي أن الدولة الإسلامية تخطت قيود العوائق الجغرافية والعنصرية. علماء الجبر والرياضيات، والجغرافيا والفلك والكيمياء؛ والأطباء والمثقفون وغيرهم.. جاءوا من شتى أنحاء الإمبراطورية الإسلامية. كانوا من العرب ومن الفرس والأتراك والأفغان والأسبان وغيرهم. إنهم بالإضافة إلى تخطي هذه العوائق من الداخل كانوا شديدي التسامح تجاه الأفكار القادمة من الخارج.” وحيثما ذهب المسلمون.. سواء في بغداد أو أسطنبول، في القاهرة أو أكرا.. فإنهم أدهشوا العالم بشكل جديد من الحضارة. إن الحضارة الإسلامية التي جاءت من طريق محمد رسول الإسلام لم تكن مجرد صدفة أو ضربة حظ.. وإنما كانت في التقدير الإلهي المعلن. ويتجه انتباهنا إلى هذا النبأ القرآني :

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (آل عمران: 111)

ونقرأ في الإنجيل:

“لأَنَّنَا نَعْلَمُ بَعْضَ الْعِلْمِ وَنَتَنَبَّأُ بَعْضَ التَّنَبُّؤِ. وَلكِنْ مَتَى جَاءَ الْكَامِلُ فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُوَ بَعْضٌ” (رِسَالَةُ بُولُسَ إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ 13: 9-10)

وفي هذا إشارة واضحة إلى أن الكمال الموعود سيكون كمالاً شاملا كل ناحية. ومن ثَمّ فإن الحضارة الإسلامية -وهي واحدة من ذُرى تحقق النبأ الإنجيلي- قد كسبت مكانتها بحق كأسمى الحضارات.

وكمقدمة لاستنتاجنا نعبر عن شكرنا ل “ماكس ديمون” على مساهمته المتألقة بشأن إبداع المسلمين عندما صرح قائلا: “كان العرب في القرن السادس بدوًا يهيمون في الصحراء، وفي القرن السابع كانوا غزاة يتقدمون، وفي القرن الثامن كانوا أصحاب إمبراطورية جعلت من البحر المتوسط بحيرة إسلامية، وفي القرن التاسع كانوا حَمَلة لواء حضارة مبهرة، وقادة في الفن والعمارة والعلوم.. بينما كانت أوروبا غارقة إلى الأعماق في مستنقع من الظلمات صنعوه بأنفسهم.” ويستطرد قائلا:

“إن الجدير حقًّا بالثناء والإعجاب.. هو ذلك الشعب العربي العظيم الذي اندفع من الصحراء ليصنع حضارة تنويرية مدهشة. ومع أن الإمبراطورية الإسلامية قد ماتت فإن العنصر الإنساني الذي شكّل جلالها وعظمتها لا يزال حيًّا. إن التراث العربي لم يُبْنَ على نهب أقطار أخرى وعقول أقوام آخرين.. وإنما انبثق من آبار عميقة من الإبداع في العرب أنفسهم. لقد عاش العرب واليهود سبعمائة من السنين جنبا إلى جنب في سلام واحترام متبادل. (اليهود: ربًّا وتاريخا، الفصل17)

لقد لوحظ أن المسلمين صنعوا حضارة مبهرة من أعلى طراز، ولكن المرء يتعجب من حال المسلمين اليوم.. فبعد أن استمتعوا بفخامة ماضيهم المجيد باتوا في سبات عميق، وأداروا ظهورهم بعيدا عن تعاليم الإسلام العظيمة – إذا جاز التعبير .. وهي التي مكنت أسلافهم من إنجاز كل هذا التقدم في الوصول إلى حضارة رائعة ونشر العلوم والمعارف. بعد أن بلغوا الذروة.. أخذ مجدهم يتآكل بسبب تحاسد حقير، ومؤامرات، وطمع للسلطان الشخصي، واكتساب المال والشهرة؛ فكانت العقبى طغيانا ومظالم. وحلّت الدكتاتورية والتعصب محل العدالة والحرية. وفي الواقع قام المسلمون بقفزة عميقة إلى ما دون مُثُلهم السامية. وكان سقوطهم سريعا ومشئوما بحيث لا يستطيع التاريخ أن يسجل احتمالا مماثلا. كان ذلك لنبذهم تعاليم الإسلام وراء ظهورهم.

ويوجه القرآن الكريم انتباهنا مُنبِئًا بهذه الحقيقة حيث يقول:

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان: 31)

لم يكن القرآن ليشير إلى المسلمين الأوائل في هذه الآية لأنهم لم يهجروا القرآن. لقد رأينا كيف أنهم بذلوا أقصى جهودهم، وخطوا خطوات واسعة سريعة في كل ميدان للسعي. إنما الإشارة هنا إلى حال المسلمين في المستقبل. وبنظرة خاطفة إلى مصير المسلمين في القرنين الأخيرين نرى أنهم تخلوا عن الريادة التي انطلقت إليها قُدما طلائع العلم والحضارة لقد قعد المسلمون -لو جاز التعبير- على المجد الغابر، وأوقفوا تقدم الحضارة والمعرفة إلى درجة أنهم -أمة بعد أمة- أصبحوا يعتمدون على نفس القوم الذين تعلموا منهم. أصبحوا يعتمدون على نفس القوم الذين تعلموا منهم. ولقد أدى هذا الحال المزري بالمستشرقين والدارسين الغربيين إلى الحكم على المسلمين بأنهم قوم لا يكافحون لبذل أي مجهود. كتب “ويليام إيتون” عن الإمبراطورية التركية يقول: “إنهم يحبون المتاجرة مع من يأتونهم بالأدوات القيّمة النافعة دون أن يسعوا بأنفسهم لصناعتها.”

وكما أشرنا آنفا ويعرف كل دارسي الأديان، أن الحضارة الإسلامية وصلت أوج مجدها، وكان ذلك بسبب استمساكهم بالقرآن الكريم وسنة المصطفى .. ولكنهم بعد أن تربعوا على القمة أخذت عظمة الحضارة الإسلامية في الانحطاط. ولقد بدأ هذا الانحدار بعد “البيروني” بقرن من الزمان. وهذا ما تضمنه قول “جورج سارتون” -وقد سقناه آنفا: إن الإنجاز الرئيسي في العصور الوسطى، وهو أقلها وضوحا- كان خلق الروح التجريبية، وكان هذا في أساسه راجعا إلى المسلمين حتى القرن الثاني عشر”.

ويبدي “ماكس ديون” هذه الملاحظة :  وبحلول عام 1500.. بلغت نهايتها أعظم إمبراطورية مهولة في العالم، المتسامحة المتنورة، الثرية المترفة، الحافلة بعلماء الرياضيات والشعراء، ورجال الحرب”

وكان هذا الاتجاه النزولي ملحوظا من الداخل.. حتى إن عالما جليلا مثل الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) صرح بأن البذرة قد أُلقيت حول عام 1100 م وقال:

“لقد ارتكبت جريمة مؤسفة حقا ضد الدين على يد رجل يتصور أن الدفاع عن الإسلام يكون بإنكار العلوم الرياضية.. وهو يرى أنه لا يوجد شيء في الحق الذي أوحي به يتعارض مع هذه العلوم.. لا نفيا ولا إثباتا، وما من شيء في هذه العلوم يتعارض مع حقيقة الدين.” (الفصل الأول)

لقد بدأت دورة الانحطاط القاسية هذه حول أوائل القرن الخامس عشر، ووصلت إلى تمام سرعتها في نهاية هذا القرن كما أشار إلى ذلك “ماكس ديمون”. وعلى عكس الآراء الظاهرة -من الداخل والخارج حول التناغم بين العلم والدين- أخذت اللامبالاة تزحف بينهما حتى أن أعظم مؤرخي علم الاجتماع -ابن خلدون (1332-1406)- كتب هذه العبارة المؤسفة في كتابه (المقدمة): “ولكنه من الواضح أن مسائل الفيزياء لا أهمية لها عندنا في أمورنا الدينية، ولذلك ينبغي علينا أن ندعها لحالها.” وباستطاعة المسلمين أن يخرجوا من هذا الظلام الدامس ويتخلصوا من هذا البؤس الكئيب، ويستردوا قيادتهم التي كانت لهم.. كي يهيمنوا ويقوموا بنهضة ذات أبعاد متألقة مثلما أسسوها من قبل. ألم نقرأ قول الله تعالى في كتابه المجيد:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران: 111).

وقوله تعالى:

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (النور: 56).

إن نهضة الإسلام قد بدأت فعلا كما وعد الله تعالى. لقد تنبأت أديان العالم كلها وأتباعها أن مجدّدًا موعودا.. عُرف بأسماء شتى.. يُنتظر ظهوره في الأيام الأخيرة. واستشهدوا بنبوءات تبرر موعد ظهور هذا الموعود. ولم تتخلف اليهودية والنصرانية والإسلام عن هذا الأمر. ولقد ظهر الموعود كما هو منتظر. لقد وُلد في قرية صغيرة نائية، طريقها إلى العالم الخارجي يبعد أميالا عديدة. تقع هذه القرية في إقليم البنجاب من بلاد الهند، واسمها قاديان. كان رجلا ناسكا متواضعا لا يكاد يعرفه أهل قريته. كان اسمه مرزا غلام أحمد، ولقد أنعم الله عليه باسم الإمام المهدي والمسيح الموعود. ولد عام 1835م وتوفي عام 1908.

عندما شهد حضرته الظروف المؤسفة الجديرة بالرثاء التي يمر بها مسلمو ذلك الوقت، والهجمات البذيئة تُشن من جميع الجبهات على اسم الإسلام الجميل، وعلى الأخص محاولات الحط من مقام سيده وهاديه.. النبي الأكرم ، وانتهاك قدسية القرآن الكريم.. كتاب الله الجليل، والنفايات التي تُلقى أكواما على عالم المسلمين.. أخذ حضرته على عاتقه مهمة الدفاع الشامل عن الإسلام من كل النواحي. وبنشر الجزء الأول من تحفته الرائعة.. الذي سُمِّي بحق: (البراهين الأحمدية).. هلّل المسلمون ونادوا به مخلّصا لهم. ولم يدم له ذلك إلا فترة قصيرة.. شأنه في ذلك شأن الأنبياء السابقين جميعا.. فقد كان المقدّر له أيضا أن يلقى مثلَهم مصير الرفض والمعارضة والاضطهاد. ولا يزال أتباعه المخلصون يلقون نفس المصير حتى اليوم.

ومضى سيدنا مرزا غلام أحمد، يوما بعد يوم في دفاعه عن الإسلام، وعُرض مثله العليا الجميلة وفاض قلمه بسرعة كبيرة، وخرجت كتاباته لتقدّم أقوم عرض لتعاليم الإسلام، لقد استخرج من لآليء وجواهر القرآن الكريم ما أثار هزة عنيفة في عالم الدين.

وموجز القول إن كتاباته تمثّل أثمن وأعظم تفسير للقرآن الكريم، وبذلك حرّك تيارا دفاقا ذا بُعد جديد لفهم القرآن الكريم، وأعطى العالم تفسيرا فريدا لبيان رسالته.

ولما كان حضرته مأمورا من الله تعالى لهذا العصر.. فقد وهبه جل جلاله علما بأعقد المسائل الدينية وألطفها .. فبيّنها بأعظم بيان.

إن الجماعة الإسلامية الأحمدية التي أسسها حضرته.. قد أرست أقدامها في 135 قطرا من العالم، وتعمل اليوم لتحقيق نهضة الإسلام وإقامة حضارة جديدة. ولقد اكتسبت قوة دافعة وشدة بخطى واسعة. وينفخ الخلفاء الذين جاءوا بعد وفاة المسيح الموعود روح النشاط في الجماعة .. فيعملون بحماس وشوق لإنجاز هذه الحضارة الجديدة المؤسسة على الحكم الإلهية. ومرة ثانية، بإذن الله تعالى وعونه.. سوف يزدهر الحق القائم على الحرية والعدالة والرحمة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك