في رحاب التفسير
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (97).

شرح الكلمات:

يوَدّ –يعني يحب. ولكن إذا أضيف إليها لو فيعني التمني (المنجد).

التفسير:

يمكن تفسير هذه الآية بطريقين: أولا-أن اليهود حريصون جدا على طول العمر حتى أنهم أكثر حبا للحياة من المشركين المنكرين للبعث بعد الموت الذين يحبون أن يعمروا حياة طويلة.

وثانيا- تجدهم أحرص الناس على الحياة، كما أن بعض المشركين أيضًا يحبون الحياة أكثر. وكأنه سبحانه وتعالى ذكر المشركين بعد الناس خاصة لإبراز شدة حبهم للحياة، وهذا كما يقال: جاء القوم وزيد وعمرو.. مع أنهما من القوم الذين جاءوا، وذُكرا بالاسم للتأكيد.

والمشركون صنفان: صنف يكفر بالبعث بعد الموت، ويعيش في الدنيا في رفاهية وراحة، وهم بالطبع يحرصون على طول الحياة الدنيوية. وصنف ثانٍ يُنكر البعث، ولكنه لا يجد معينًا هَنيًّا ذا رفاهة وراحة، فيتمنون انقضاء الحياة هروبا من مشاقها ومشاكلها..ظنا منهم أن في انقضائها راحة لهم، ومن أجل ذلك قال الله تعالى (ومن الذين أشركوا).. أي ليس كل المشركين كذلك.. وإنما بعضهم من يتمنى حياة ألف سنة.

ويستنبط من الآية-مجرد استنباط، لا كنص صريح أن فكرة عيش أحد من البشر ألف سنة مخالفة للقياس في رأي القرآن. وأذكر أن الإمام المهدي والمسيح الموعود أثناء تصنيف كتابه (جشمه معرفه-أي ينبوع المعرفة)كان أحيانا يذكر مضامينه لبعض الإخوة.. فقال مرة “إنني رددت على اعتراض الآريين على أن نوحا عاش 950 سنة، وقلت إن القرآن عندما يذكر عمر نبي فلا يراد به عمره نفسه، وإنما عمر أمته”. وبينما هو يذكر ذلك حضر جدنا المير ناصر نواب، وقال: صحيح ما تقولون، ولكن الناس بسبب هذه الآراء يتجهون إلى الدهرية. فقال: “فليتجهوا، ولكننا لن نتردد في عرض أي حقيقة تبين صدق الإسلام. وإن اتجه الناس بسببه إلى الدهرية”.

فالقرآن عندما يذكر طول عمر نبي من الأنبياء فليس المراد عمره وإنما عمر أمته.

وفي قوله تعالى”وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر” يرجع الضمير (هو) إلى (أحد) في قوله(يود أحدهم..)والتقدير: وما أحدهم بمزحزحه تعميره من العذاب.

يبين الله تعالى أن التمني بعمر طويل لن يجديهم شيئا،لأن الساعات الطويلة من الراحة لا تساوي شيئا أمام لحظة قصيرة من العذاب، فما الفائدة من العمر المديد الذي لن ينجيهم من العذاب؟ وتدل هذه الأماني على حمقهم وجهلهم، ولكنهم يرتكبون هذه الحماقة كما ارتكبوا الحماقة السابقة..حيث زعموا أن الله لن يتكرم على أحد سواهم بنعمة النبوة. فهؤلاء الحمقى لا يدعون بكشف العذاب، وإنما يتمنون تأجيله لبعض الوقت، مع أن تأجيله لن يجديهم شيئا. كان عليهم أن يقبلوا الإسلام الذي يفتح لهم باب النجاة، ولكنهم بدلا من طلب النجاة من العذاب والفوز برحمة الله بقبول الإسلام يسعون لتأجيله.

الترتيب والربط:

لقد كان الله تعالى قد نبه اليهود في الآية (رقم88) أنكم كنتم ولازلتم تعارضون الأنبياء من زمن موسى إلى عيسى.لا شك أن آباءكم هم الذين عارضوهم ولم يكن لكم ضلع مباشر في هذه المعارضة، ولكن لما كان سبب المعارض واحدا وهو كون تعاليم النبي مخالفة لأهوائكم.. لذا اعتبرتم من معارضيهم أيضًا؛ إذ لو أنكم عاصرتم أولئك الأنبياء لعاملتموهم بمعاملة آبائكم.

وفي الآية(89) قال لليهود ونبههم أنكم بمثل هذه الأقوال كنتم تستهزئون بأنبيائكم وتتكبرون عليهم.

وفي الآية (رقم90) بين أن حلول الغضب الإلهي بكم وعاداتكم المتوارثة القبيحة هي التي شجعتكم على الكفر بالنبي الموعود الذي كنتم تنتظرونه.

وفي الآية (رقم91) ذكر ما برروا به كفرهم.. ألا وهو قولهم: لماذا بعث هذا الموعود في أمة غير أمتنا؟

وفي الآية (رقم92) صور الله- عز وجل- استكبارهم وتمردهم الداعي إلى الإنكار.. حيث بين أنه عندما يعرض عليهم دعوى النبي صلى الله عليه وسلم يردون على الفور وبدون تردد: لن نؤمن إلا بما أنزل على أنبياء بني إسرائيل ونكفر بما وراءه..مع أن هذا النبي قد أتى بحسب ما تنبأ به أنبياء بني إسرائيل أنفسهم. ثم أخجلهم سبحانه بذكر معارضتهم لأنبيائهم من حين لآخر، وقال: إنكم عندئذ لم تؤمنوا بهم.

وفي الآية (رقم93) بين أنكم لم ترتدعوا حتى عن معارضة موسى فضلا عن غيره من الأنبياء.

وفي الآية(رقم94) ذكر أنكم قمتم بهذه المعارضة فور رجوعكم من الطور بعد أن آتاكم الله العهود.

وفي الآية(رقم95) صرح بأنهم كاذبون في قولهم بأننا نؤمن بما ينـزل على أنبياء بني إسرائيل، وإنما يرجع إنكارهم إلى أنهم يزعمون أن النجاة قاصرة عليهم. إذن، فليباهلوا المسلمين إن كانوا صادقين.

وفي الآية (رقم96)أعلن أنهم لن يتجاسروا على المباهلة، لأن قلوبهم تشهد أنهم كاذبون.

وفي الآية (رقم97) صرح أنهم أسوأ حالا من المشركين أيضًا، وبين أنهم يخافون الموت لأنهم يعلمون أن مصيرهم النار في الآخرة، ولكنهم لن يذوقوا في الدنيا طعم الراحة والهناء.. فما الفائدة من هذه المعاذير؟

 قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (98)

 شرح الكلمات:

جبريل –اسم مركب من “جبر” و”إيل”. و” جبر” في العبرية تعني:الخادم، الغلام. و”إيل” تعني: الإله. فمعنى جبريل: خادم الإله أو غلامه. و”الجبر” في العربية إصلاح الشيء من كسر، وإكراه الآخر على فعل شيء، والرجل الشجاع. قال ابن عمر الشاعر:”وأنعم صباحا أيها الجبرا”.

فمعنى الجبر بالعبرية مشابه لمعناه في العربية.

أما “إيل” فهناك بون شاسع بين اللغتين في صدد معناها. فهي في العبـرية تعني عموما الإله، ولكنها لا توجد في العربية لفظا ولا معنى. إلا أن هناك في العربية “آئل”.. اسم الفاعل من “آل” يقال- آل الملك رعيته: ساسهم ودبر أمورهم، وآل على القوم: ولي عليهم، وآل: رجع. فالآئل: المدبر؛ الحاكم؛ الملك؛ الراجع (الأقرب). وكل هذه المعاني تناسب الله تعالى.

فمعنى جبريل إذن: (1)خادم الملك الشجاع المدبر،(2) غلام شجاع مخلص لذات مدبرة،(3) غلام شجاع مخلص لله الذي يرجع على عباده برحمته مرة بعد أخرى.

وتعني “إيل” في العبرية معاني أخرى مشابهة لمعاني “آئل” في العربية. فيرى بعض كبار علماء العبرية أن “إيل” تعني القوي (دائرة المعارف التوراتية، ج3)، وهذا المعنى قريب من الحاكم والمدبر.

في حين يقول البعض الآخرون أن معناها الذات التي هي مرجع جميع الناس.

وهذا المعنى يشابه معنى الراجع أو التواب.. ولكن بفرق بسيط، وهو أن جبريل يعني بالعربية “خادم الإله التواب”.. أي الذي يرجع على عباده بوحيه مرة بعد أخرى، ويتوجه إليهم برحمته عند ندمهم كرة بعد أخرى. ولكن “إيل” العبرية تعني الذي يرجع إليه الناس جميعا. فكلتا اللغتين تذكر معنى الرجوع. العربية تقول: هو يرجع إلى عباده، والعبرية تقول: الناس يرجعون إليه. ويرجع هذا التغير في الحقيقة إلى أن اليهود لا يؤمنون بكون الله توابا. وكيف يؤمنون بذلك وهم يعتقدون أن النجاة حق مستحق لهم على الله عز وجل، إنما يؤمن بكونه- سبحانه- توابا من لا يرى نجاته حقا على الله تعالى، بل يراها متوقفة على رحمته وفضله. ومن أجل ذلك غير اليهود معنى “إيل”. وقالوا هو الذي يرجع إليه الخلق كلهم، وليس الذي يتوب عليهم رحمة بهم مرة بعد أخرى. ولذا لا نجد في اللغة العبرية أي اثر لصفة إلهية كالتواب. ولكن الأصح أن نأخذ المعنى الأصلي فنقول في جبريل: الخادم الشجاع المخلص لله، الذي يرجع إلى عباده مرة بعد أخرى، أو الخادم الشجاع المخلص للذات المدبرة.

التفسير:

يتفق القرآن والتوراة على أن جبريل هو سيد ملائكة الله المقربين، ومهمته تبليغ كلام الله إلى عباده. ولكن اليهود في زمن انحطاطهم اعتقدوا أن جبريل ملك حرب وعذاب(دائرة المعارف التوراتية، كلمة جبريل). واعتبروه عدوا لهم . فقد روى أحمد في مسنده وابن كثير في تفسيره أن المسلمين لما كانوا يفحمون اليهود بإثبات صدق النبي بالحجج والبراهين.. كانوا يسألونهم: حسنا، من ينـزل عليه بالوحي؟ قالوا: جبريل. قالوا:جبريل ذاك الذي ينـزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا(تفسير ابن كثير، تحت قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل). لقد تسرب هذا الاعتقاد الخاطئ في اليهود عن طريق الروايات التلمودية وتفاسير (تارجم).. وإلا فإن التوراة تعتبره مَلَكا ينـزل بوحي الله حيث قيل:

“وسمعت صوت إنسان بين أولادي فنادى وقال: يا جبرائيل، فهم هذا الرجل الرؤيا. فجاء إلى حيث وقفت، ولما جاء خفت وخررت على وجهي. فقال لي افهم يا ابن آدم. إن الرؤيا لوقت المنتهى”(دانيال 16:8، 17).

وورد أيضًا:

“وأنا متكلم يعد بالصلاة إذا بالرجل جبرائيل الذي رأيته في الرؤيا في الابتداء مُطارا واغِفا لَمَسَني عند وقت تقْدِمة المساء. وفهَّمني وتكلم معي..” (دانيال21:9، 22).

 وورد في الإنجيل ” فأجاب الملاك وقال له: أنا جبرائيل الواقف قدام الله وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا”(لوقا19:1).

وقال أيضًا: “وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينته ومن الجليل اسمها الناصرة إلى عذراء..”(لوقا26:1).

ولكن فيما بعد اعتبر اليهود جبريل ملك العذاب، واعتبروا ميكائيل ملك الوحي. كانوا إلى عهد النبي دانيال يؤمنون بأن جبريل ملك الوحي وأن ميكائيل ملك الرقي الدنيوي، لكنهم شيئا فشيئا خصوا الوحي بميكائيل والعذاب لجبريل.

لذلك بدءوا يكرهونه حتى زعموا في زمن النبي أنه ملك الرعد والعذاب (دائرة المعارف التوراتية، تحت كلمة جبريل).

ويبدو أنه لما كان اليهود قوما مغضوبا عليهم، وكان كل نبي ينذرهم بالعذاب والدمار عندما يكفرون به.. فظنوا – بسبب توالي نزول العذاب عليهم- أن جبريل عدو لهم، فهو الذي ينـزل بوحي الله المنذر لهم بالعذاب، فاعتبروه عدوا لهم، وقالوا لسنا بحاجة إلى الإيمان به؛ وإنما الملك الحقيقي الذي يجب قبول ما ينـزل به من وحي هو ميكائيل.

واليوم أيضًا..عندما يشهد الناس العذاب نازلا بحسب ما تنبأ به الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام يعترضون: ما هذا النبي الذي جاء ليهلك الخلق؟ وهذا مثلما كان اليهود يعترضون على جبريل. فهنا دحض الله اعتراضهم على جبريل. وقوله”فإنه نزله على قلبك “ورد هنا بمعنى أنهم يعادون جبريل لأنه أنزل عليك هذا الكتاب،مع أنه كتاب جامع لميزات عديدة جديرة أن يحبه الإنسان لا أن يبغضه.

لقد رد الله سبحانه على اعتراض اليهود بأربعة طرق:

أولا- أنه لا يمكن لملك أن ينـزل الكلام من عنده، إنما ينـزل بإذن الله. وأيا كان الملك النازل بالكلام..جبريل أو ميكائيل الذي تعتبرونه صديقا لكم.. فإن صاحب الكلام هو الله تعالى، لذا فإن كراهيتكم هي لكلام الله تعالى، وليست للملك.. لأن الكلام هو هو .. ولن يتغير بتغير الملك الذي يأتي به. فكيف ترفضون هذا الكلام بسبب بغضكم الذي تكنونه لجبريل تأثرا بروايات قومية، لأن الكلام كلام الله ولا بد من قبوله.

أما قولكم: لماذا نزل به جبريل، ولم لم ينـزل به ميكائيل، فهذا أيضًا مردود، لأن جبريل لم ينـزل به من نفسه، وإنما بأمر الله تعالى.. وما دام الله سبحانه قد أمر بذلك، فلماذا تعادونه مع أنه لا بد أن ينفذ ما يأمر به؟

وبرهن على أفضلية هذا التعليم بأنه تعالىأنزله على قلبه ، فصارت عواطفه متشربة هذا التعليم. وهنا بين الله الفرق بين أفكار الفلاسفة والكلام المنـزل على الأنبياء، ووضح أن هذا الكلام ينـزل على قلب النبي، ولكن أفكار الفيلسوف تنـزل على دماغه. لا شك أن الفيلسوف أيضًا يقول قولا جميلا، ولكن عواطفه لا تكون تابعة لأفكاره، ولا يعمل بما يقول. ولكن النبي يعمل بما ينـزل عليه من الكلام. لقد مضى العديد من الفلاسفة اللادينيين الكبار الذين تمتلئ كتبهم بأقوال جميلة في الأخلاق، ولكن الإنسان يصاب بصدمة حين يطلع على سيرتهم. ذلك لأن فلسفتهم إنما تنـزل على دماغهم، وكلام الله تعالى ينـزل على القلب، ولذلك يهب الإنسان حياة طهارة ونزاهة، ولكن فلسفة الفيلسوف لا يمكن أن تطهر قلبه. وإلى هذا يشير الله بقوله (فإنه نزله على قلبك) أي جعله يسري في كيانك وروحك حتى صرت قرآنا مجسما، كما روى أن السيدة عائشة رضي الله عنها سُئلت عن خلق النبي فقالت: “كان خلقه القرآن “.. أي اقرأ القرآن، وكل ما تجده فيه كان موجودا في شخصه .

فبقوله تعالى (فإنه نزله على قلبك بإذن الله) رد من ناحيته على اليهود أن جبريل قد نزل بهذا بأمرنا وليس من عنده، حتى لا يقال إنه لعداوته لكم نزله على رجل من بني إسماعيل وليس من بني إسرائيل. ومن ناحية أخرى أشار بذكر القلب المطهر للنبي إلى أن جبريل –بأمر الله تعالى – قد أدى الأمانة المطهرة إلى من كان أحق بها وأهلها، وليس الأمر كما تظنون أنه لعداوته لكم و بدون أي سبب آخر أنزل الكلام على رجل من بني إسماعيل.

وثانيا-بين بقوله (مصدقا لما بين يديه) أن الكلام المنـزل على هذا النبي مصدق للنبوءات الواردة في كتبكم. وهذا دليل صداقة لا عداوة. حيث نزل بكلام يبين صدق كتبكم،إذ لو لم ينـزل جبريل بهذا الكلام، ولم يبعث هذا النبي في هذا العصر، أو لم يأت من بني إسماعيل لوجب تكذيب التوراة واعتبار نبوءاتها باطلة. فجبريل لم يعادكم وإنما نصح لكم. لو كان حقا عدوا لكم ما صدق كتبكم. فاقبلوا هذا الكلام ولا تردوه، فهو خير لكم وفيه شرفكم.

وثالثا- إن هذا الكلام، بالإضافة إلى مزاياه الأخرى، يتسم بكونه هاديا،أي يهديكم إلى سبيل الحق، ويبين لهم طريق النجاة من الضلال. إذا كان القرآن لا يأمركم إلا بالتقوى والصلاح والعفاف.. فيجب أن تدركوا ضرورة قبوله لتصبحوا من المتقين الأطهار. أما إذا كان يؤدي إلى الباطل والضلال فلكم أن تكفروا به، ولكنكم تعلمون أنه لا يهدي إلى الباطل وإنما إلى الحق. وإنكار الشيء أو قبوله يتوقف على كونه حقا أو باطلا. وما دام هذا الكلام حقا ولا يأمر إلا بما فيه خير الإنسانية وفلاحها.. فيجب ألا ترفضوه لأي سبب آخر.

ورابعا- أنه كلام يبشر العاملين بحسب تعاليمه بجوائز كثيرة. وكأنه سبحانه وتعالى يقول: إذا كان أحد لا يقبل الحق لأنه في حد ذاته حق، بل يريد أيضًا المكافأة على قبوله.. فليعلم أن من عمل به بصدق النية نال جوائز كبيرة، ومن أعرض عنه فلن يضر إلا نفسه. فقوله تعالى(وبشرى للمؤمنين) أي يدحض قول اليهود إن جبريل ملك العذاب، إذ كيف يكون ملك العذاب من لا ينـزل عليهم إلا بكلام ملؤه البشارات.

يقول: لا منطق في قولكم. فما يتنـزل هو من الله تعالى، ولا فرق أن ينـزل به جبريل أو ميكائيل. فإذا كان الكلام هو مصدر العداوة، فعادوا الله وليس جبريل الذي هو فقط الوسيط بينكم وبين الله جلّ علاه. ولكن أمركم عجيب تزعمون أنكم أحباء الله وتسبون رسوله جبريل الذي يأتيكم بكلامه. ثم تناصبون العداء للرسول محمد وتقولون: لماذا نزل عليه جبريل بالوحي، ولا تفكرون أن كلامه يصدق كتبكم. فكيف يمكن أن يصدق كتبكم بكلام فيها هدى ورحمة من يكون عدوا لكم؟ يجب إذن ألا تضيعوا الفرصة قائلين: لماذا جاء به جبريل ولم يأت به ميكائيل، بل عليكم بقبول محمد رسول الله .

قد ذكرت هذا المعنى باعتبار كلمة ” فإنه” تعني “لأنه” أما إذا اعتبرنا “الفاء” بمعناها العام فلا بد من تقدير محذوف، وتكون العبارة هكذا: قل من كان عدوا لجبريل فلا وجه لعداوته، فإنه نـزله على قلبك.. الخ الآية. ولقد جاء جواب (قل من كان عدوا لجبريل) في قوله تعالى(فإن الله عدو للكافرين).. وكان قوله تعالى(فإنه نزله على قلبك.. هدى وبشرى للمؤمنين) جملة معترضة. ولما كانت الجملة الاعتراضية طويلة فقد أعيد مضمون قوله (قل من كان عدوا لجبريل) في الآية القادمة، فأضيف ذكر جبريل إلى ذكر الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فقيل: (من كان عدوا لله..) وجاء الجواب: (فإن الله عدو للكافرين).

وقد أضيف ذكر ميكال في الآية لأن عداوة جبريل تعتبر عداوة لميكائيل أيضًا. وتعني الآية أن العداوة لجبريل تعتبر عداوة لميكائيل أيضًا. فالذين يعادون جبريل يجب أن يعرفوا أن ما أنزل على قلب هذا الرسول إنما أنزله بأمر الله تعالى، فلا وجه لعداوته، ولا تعني عداوته إلا عداوة الله جل علاه.

ثم إن كلامه يصدق ما ورد في كتبكم من نبوءات، فلو كان عدوا لكم لما نزل بما يصدق كتبكم، مما يعني أنكم لا تعادون جبريل وإنما تعادون كتبكم. ثم نزل هذا الكلام حال كونه هاديا ومبشرا، ومن عادى هاديا فكأنما عادى نفسه، ومن عادى من يبشره فكأنه عادى أجياله المقبلة.. إذ إن الهدى يتعلق بالإنسان نفسه، أما البشارات فتختص بالأجيال المقبلة. وإن الهدى لا يورث، ولكن النعم الدنيوية يتوارثها الأجيال عموما.

فقد ذكر الله أن اليهود يعادون منبع الهدى- وهو الله تعالى. ثم يعادون وسائل الهدى- وهم الأنبياء الذين هم أظلاله في الدنيا. ثم إنهم يعادون أنفسهم وأجيالهم القادمة حيث يحرمونهم من الأفضال والنعم التي ينالها المؤمنون. فعداوة جبريل ليست بأمر هين، بل من عاداه فقد عادى الله تعالى ونفسه وأجياله. وإن عداوة أحد محمدًا ليست إلا عداوة لله تعالى، والكفر بما نزل على محمد هو في الحقيقة إنكارلموسى الذي بشر به.. ففكروا.. أمصيبون أنتم أم مخطئون في عداوتكم له ؟

Share via
تابعونا على الفايس بوك