البر هو الغاية المطلوبة من العبادات
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (175)

التفسير:

يقول الله تعالى إن الذين يخفون ما أنزلنا من تعليم عظيم في هذا الكتاب لهداية الناس ويكسبون بذلك منافع مادية فليدركوا أنهم إنما يُفرغون في بطونهم النار. بإيراد هذه الآية بعد بيان مسائل الحل والحرمة فورا.. أشار الله إلى أنه كما كان حراما وإثما أكلُ الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح من الحيوانات لغير الله.. كذلك تذكروا أن إخفاء ما أمر الله به ورسوله واعتبار الأموال والجاه والمناصب الدنيوية هدفا للحياة، والاعراض عن الله أيضا ليس بأقل شناعة وحرمة من أكل تلك المحرمات. فكما أنَّ أكل هذه حرام كذلك فإنّ تردّد الإنسان وخوفه من قول كلمة الحق مع وقوفه على مسائل الدين حرام، وإذا أدّى إظهار العقيدة وتبيان ما قاله الله ورسوله والعِمل به علنا إلى حرمانه من الوظيفة أو إلى كساد تجارته أو إلى قلة احترامه بين أصدقائه، فحرام عليه أن يخشى ذلك. إن الذين ينافقون رغم العلم، ويؤثرون المنافع الدنيوية على مصالح الدين.. فليتذكروا أنهم يُفرغون في بطونهم النار.

جاءت هنا كلمة (بطون) للتأكيد. وفي جملة (في بطونهم إلا النار) إشارة إلى أن الله سوف يخلق عذابا من النار في بطونهم.. أي أنهم يُعذبون بعذاب الباطن الذي هو أشد من عذاب الظاهر. وقد عبر عن هذا المعنى أحد الشعراء بقوله:

دخول النار للمهجور خيرٌ

من الهَجر الذي هو يتَّقيه

.

لأن دخوله في النار أدنى

عذابا من دخول النار فيه

لقد استخدم القرآن الكريم في هذه الآية نفس الأسلوب، ولم يقل إنهم يدخلون في النار، بل إن النار تدخل في بطونهم.. بمعنى أنهم بأنفسهم يعِدُّون جهنم باطنية، فاستخدم السبب هنا بدلا من المسبب.

وفي قوله تعالى (ولا يكلمهم الله يوم القيامة) نكتة عظيمة الشأن.. قد نسيها للأسف المسلمون في هذا الزمن. إن كلام الله مع الكفار يوم القيامة ثابت، وقد ورد في القرآن الكريم في موضع آخر(ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) (القصص: 66)، فإذن إعراض الله عنهم وعدم حديثه معهم دليل على أنه ساخط وغاضب عليهم أشد الغضب لدرجة أنه لن يحدثهم حتى للزجر. وهذا يعني أن عدم كلام الله مع أحد علامةٌ لسخطه عليه. ولكن مسلمي اليوم يقولون إن عدم كلام الله مع عباده نعمة عظيمة –والعياذ بالله!‍-نالتها الأمة المحمدية.. بفيض المصطفى وبركته!! الحق أنه كان يجب أن يفتح الله باب هذه النعمة عليهم إلى أوسع نطاق كدليل وعلامة على كونهم خير الأمم، فيتشرفوا بكلام الله وحديثه أكثر من الأمم السابقة، ولكنهم تمسكوا بأن هذه النقمة نعمة، وهذا البعد إنعام‍‍‍‍!!

وقد تعني هذه الآية أن الله تعالى لا يكلمهم كلام محبة، وهذا أسلوب عام في اللغات، وفي لغتنا أيضا يقال (لن أحدثك).. والمراد (لن أحدثك كما يتحدث الأصدقاء). فالمعنى أن الله لن يحدثهم حديث مودة، وإنما يكلمهم كما يتكلم القاضي مع المذنب عند إصدار الحكم بعقوبته. وأيا كان المعنى.. فعدم كلام الله دليل على سخطه، ولكن المسلمين –بكل فخر ‍-يقولون إن الله أنعم على أمة محمد المصطفى بترك الكلام معهم –والعياذ بالله.. وقطع سلسلة الوحي والإلهام عنهم.

قوله تعالى (ولا يزكّيهم). لما كان الغرض من إلقاء الكفار في جهنم هو تزكيتهم وتطهيرهم بحسب تعليم الإسلام.. فإن قوله (ولا يزكيهم) لا يعني أنه لا يطهرهم.. وإنما يعني أن لن يبرئ ساحتهم ولن يعتبرهم أطهارا.

الترتيب والربط:

الخطاب في هذه الآيات موجه إلى المسلمين، وكذلك إلى اليهود. فقوله تعالى (إنما حرم عليكم الميتة) دحض لاعتراض اليهود: لماذا يُحَرِّم هذا النبي ما لم يحرَّم في شريعة موسى إذا كان حقا مصداقا لهذه الأنباء التوراتية؟ فيرد الله أن اعتراضهم هذا ناشئ عن قلة تدبرهم وجهلهم بلا شك. إن الأوامر والأحكام المختصة بوقت معين لا يمكن أن تدوم، ومثاله كمثال تحريم البعير على اليهود.. ولكنه كان حلالا بالنسبة لإبراهيم. وكما أن بعض الأشياء كانت حلالا قبل موسى، وكان العديد من الأنبياء يتناولونها، ولكنها حرمت في زمنه.. كذلك بعد الشريعة الموسوية أيضا يملك الله كل الخيار بأن يُحل ما كان يُعتبر من قبل حراما.

 

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (176)

التفسير:

تبين الآية أن الله تعالى لم يمارس أيّ جبْر على الإنسان، وإنما خيّره تماما بين الخير والشر. ثم إنه ببعث الأنبياء قد أخبر الإنسان ما هي الهداية وما الضلالة، فالإنسان مخيّر أن يستخدم عقله ويستفيد من كلام الله ويسلك طريق الهدى، أو يتبع الشيطان ويختار سبيل الضلال. وإذا فضل الإنسان طريق الضلالة فلا بد أن يتحمل النتائج الطبيعية لذلك في صورة عذاب الله تعالى.

وهنا يبدي الله عَجَبَه على جسارتهم وعماهم فيقول: (فما أصْبَرَهم على النار). ما داموا قد فضلوا العذاب على المغفرة فما أغرَبَ جرأتهم على تحمل العذاب!

وهنا ينشأ سؤال: هل الله أيضا يبدي العجب؟ والجواب أن العجب في بعض الأحيان ليس بمعناه العام وإنما يستهدف إبراز شدة غبائهم.. كأنه قال: هل هذا الشيء يليق بأن يصبروا عليه؟ فلا يعني قوله هذا أنهم صابرون فعلا على النار، وأن الله يُثني على صبرهم أو يتعجب منه.. وإنما هذا تعريض بهم، وبيان أنهم أغبياء وأنهم سوف يصبرون على العذاب كثيرا؛ وليس أنهم في الحقيقة يصبرون عليه.. لأن أتفه قدر من العذاب يفوق تحمل الإنسان. هذا إذا كانت “ما” تعجّبية.

أما إذا كانت “ما” استفهامية فالمعنى: ما الذي جعلهم يصبرون على النار؟

وإذا كانت “ما ” نافية فالمعنى: لا وفَّقهم الله للصبر على النار، بل عاقَبهم وجعلهم يشعرون بحرقتها اللاذعة.

 

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (177)

شرح الكلمات:

شِقاق –شاقّة: خالفه وعاداه. وحقيقته أن كلاًّ منها في شِقٍّ غير شق صاحبه (الأقرب).

التفسير:

يقول الله إن سبب وقوع العذاب بهم أنه جل وعلا قد أحسن إليهم بإحسان عظيم.. إذ وهبهم شرعا يقوم كل حرف منه على الصدق والحق، ولكنهم لشدة عنادهم وعداوتهم رفضوه وأصبحوا كافرين برسالة الله.

وقوله تعالى (في شقاق بعيد) يعني أنهم في العداوة البالغة التي لا تزول بسرعة وتبقى لمدة طويلة.

 

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (178)

شرح الكلمات:

البِر– الصلة؛ والطاعة؛ والصدق (الأقرب). والبِر التوسع في فعل الخير. بَرّ العبدُ ربه: توسع في طاعته. فالبر من الله ثواب، ومن العبد الطاعة (المفردات).

البأساء – الشدة؛ اسم للحرب؛ المشقة؛ الضرب (الأقرب).

الضرّاء –الزمانة أي القحط؛ الشدة؛ النقص في الأموال والأنفس؛ نقيض السراء والرخاء (الأقرب).

البأس-الفقر؛ العذاب؛ الشدة في الحرب؛ القوة. وفي القرآن الكريم (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد).. أي قوة شديدة (الأقرب).

التفسير:

في هذه الآية ذكر الله الوجهة الإسلامية للبر والتقوى، وبيّن البر الحقيقي، إذا تدبرنا بعمق وجدنا اختلافا كبيرا بين الناس فيما يتعلق بالبر والتقوى. لقد اختلف تعريف البر باختلاف الشعوب والأزمان والبلاد. الفقراء لهم تعريفهم للبر، وللأثرياء تعريف آخر. أما من ناحية اختلاف البلاد.. فهم في الهند مثلا يعتبرون الحاج رجلا صالحا بارا، حتى إنهم يؤثرون الحاجّ على شخص مواظب على الصلاة والصوم وسائر الأحكام الشرعية الأخرى.. وإن كان هذا الحاجّ يقضي أوقاته أثناء رحلة الحج في الفضول ولغو الكلام، ولم يحدث أي تغير إيماني في نفسه بعد الحج؛ وإن لم يكن يبالي بالصوم والصلاة.

لقد كان سيدنا المهدي والمسيح الموعود يحكي أن امرأة عجوزا عمياء كانت جالسة قرب محطة للقطار، فانتزع أحدهم رداءها، فلما انتبهت نادت: أيها الأخ الحاج، لماذا سرقت ردائي؟ ليس عندي غيره، ولسوف أموت في هذا البرد القارص. فرجع الرجل وردّ لها رداءها وسألها: كيف عرفت أني حاج؟ قالت: لا يقوم بمثل هذه الأعمال إلا الحجاج! فهذه المرأة الكفيفة لم تكن تراه، ولكن عرفت أن هذه القسوة لا يقوم بها إلا الحجاج. ومع ذلك فإن الناس في بلادنا يعتبرون الحجاج أبرار صلحاء. ولكن في البلاد العربية لا يعتبرون الحج من أعمال البر الكبيرة.. بل يعتبرون الجود والسخاء هو البر الحقيقي. ولو مدحوا أحدا لقالوا إنه رجل صالح لأنه كريم جواد. ولو انتشر الإسلام في أوروبا فسوف يعتبرون الصوم بِرّا عظيما.. لأن هؤلاء يهتمون بالطعام ويأكلون بكثرة.. وعندما يضطرون للإمساك عن الطعام صائمين فسوف يعتبرون الصوم برا كبيرا يفضُل عندهم الحج والزكاة والصلاة وغيرها من الأحكام الشرعية.

كذلك في بلادنا يعتبرون من الصلاح الكبير مواظبة الإنسان على الصلاة. يقولون إنه بار صالح لأنه يواظب على الصلاة، ولكن لم يكن أداء الصلاة والمواظبة عليها وحدها معيارا عند الصحابة لمعرفة بِرِّ أحد.. لأنهم كانوا حائزين على درجة عالية من البر. كان اعتبار المحافظة على الصلاة وحدها برا كبيرا في نظر الصحابة كقول أحدهم أن فلانا شجاع لأنه ثابت على قدميه، أو أن فلانا حديد النظر لأنه تعرّف على أمه الجالسة بجنبه؛ أو أن فلانا قوي المعدة لأنه هضم حبة من الحمص!! فكما أن هذه المعايير مهزلة ومضحكة بالنسبة لقياس الشجاعة وِحدّة النظر وقوة المعدة.. كذلك كان من المضحك عند الصحابة أن يقاس صلاح أحد بمجرد أدائه للصلاة ومواظبته عليها، لأنهم كانوا يرون أن تقديم التضحيات الجسام والثبات في الاختبارات الشديدة في سبيل الدين هو البرّ الحقيقي، ومن يتحلّى بهذه الصفات أكثر كان بارا. فتعريف البرّ يختلف زمنا وشعبا وبلدا. وفي هذه الآية بين الله أن توجّه أحد إلى الشرق أو إلى الغرب ليس بِبِر. فلو توجه المرء إلى القبلة في الصلاة، ولكن لم تكن صلاته مفعمة برحيق الإخلاص والتضرع والخشوع كما تتطلب الصلاة الحقيقية.. فلن ينتفع شيئا بالصلاة والتوجه إلى القبلة، لأن التوجه إلى جهة معينة ليس هو البر.. وإنما البر اسم لتلك الكيفية التي تتولد في القلب. وما الحركات الظاهرية إلا علامة لتلك الكيفية القلبية. وإذا لم يكن في هذه الحركات الظاهرية ذلك الشيء الذي له علاقة بالقلب فلا معنى لهذه الحركات. فالتوجه إلى القبلة أو أداء الصلاة أو الصوم أو الحج إذا خلا من الكيفية القلبية فإنه عبث لا جدوى منه.. لأنه بدون تلك الكيفية يكون بمثابة سلاح عتيق غير مجد لا يعمل. ومثال ذلك أن يكون لدى شخص سيف، ولكنه قديم لا يقطع، أو أكله الصدأ فلا ينفع. فكما أن الأسلحة تقدَّر قيمتها بحدتها وصقلها وصفائها، كذلك الأعمال إنما تعرف قيمتها في نظر الله إذا كان صاحبها يبغي بها وجه الله ورضوانه.

فقد بيّن الله هنا علامات البر وأخبر ما هو البر الحقيقي عنده، فقال إن التوجه إلى الشرق أو الغرب ليس ببر، بل لا بد أن يصحبه إخلاص وحرقة وخشوع. إذا لم يتعود الإنسان بهذا العمل على الابتهال والدعاء إلى الله وذِكره، وإذا لم يخلق هذا فيه شفقة على خلقه جل وعلا، وإذا لم يزِده حبّا ورحمة باليتامى والفقراء والمساكين.. فلا حقيقة ولا معنى لهذا العمل.

لقد تناول الله ذكر التوجه إلى الشرق والغرب هنا لأنه قبل هذه الآية بآيات عديدة طمأن المسلمين بقوله: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثَمّ وجه الله) (116).. لا شك أنكم مستضعفون في الأرض الآن.. ولكن تذكّروا أن الشرق والغرب كله لله. سوف ننتزع الحكم من أيدي هؤلاء في يوم من الأيام ونوليكم حكم الشرق والغرب، وأينما خرجتم بجنودكم فسوف ترون تجليات من الله تعالى، وسوف تحققون نصرا بعد نصر في كل خطوة، وسوف يظهر الله آيات بعد آيات. وهكذا نبّأ أن المسلمين سوف يحققون انتصارات دنيوية فيكونون بحسبها حكاما للشرق والغرب. وعندما تتم الانتصارات المادية لقوم يكون هناك خطر شديد أن يميلوا إلى الدنيا ويهملوا المسألة المركزية في انتصاراتهم.. ألا وهي العلاقة الخاصة مع الله تعالى. لذلك نصح الله هنا المسلمين لإصلاح أنفسهم عقيدة وعملا، وقال: ليس البر أن تولوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب.. أي ليس من البر الكامل أن تستولوا على المشرق والمغرب وتحققوا انتصارات متتالية. صحيح أن هذا أيضا من نعم الله الكبيرة، ولكن البر الكامل لا يعني الفتوحات الدنيوية فقط، وإنما البر الكامل يعني أن يؤمن الإنسان إيمانا صادقا بالله جل علاه واليوم الآخر والملائكة والقرآن الكريم وجميع الأنبياء، ويعني البر الكامل أن ينفق الإنسان على أقاربه واليتامى والمساكين والمسافرين والسائلين، وفي تحرير رقاب العبيد. ويعني البر الكامل أن يقيم الإنسان الصلوات ويؤدي الزكاة ويفي بوعوده، ويتمسك بالصبر في الضائقات المالية وحال المرض ويثبت في وقت الحرب. حقِّقوا الفتوحات المادية والانتصارات الدنيوية أيضا.. ولكن لا تنسوا أن هدفكم ليس هو الاستيلاء على البلاد، بل أن تنشئوا علاقة كاملة مع الله تعالى، وأن تقوموا بخدمة خلْقِه خدمة صادقة. يجب أن تكون هذه الغاية نُصب أعينكم دائما.

التوجه إلى جهة معينة ليس هو البر.. وإنما البر اسم لتلك الكيفية التي تتولد في القلب. وما الحركات الظاهرية إلا علامة لتلك الكيفية القلبية. وإذا لم يكن في هذه الحركات الظاهرية ذلك الشيء الذي له علاقة بالقلب فلا معنى لهذه الحركات. فالتوجه إلى القبلة أو أداء الصلاة أو الصوم أو الحج إذا خلا من الكيفية القلبية فإنه عبث لا جدوى منه.. لأنه بدون تلك الكيفية يكون بمثابة سلاح عتيق غير مجد لا يعمل.

وفي قوله تعالى (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر.. ) إشكال عن خبر “لكن”، لأن (من آمن بالله واليوم الآخر) لا يطابقه في الظاهر، ولا بد من تقدير محذوف هنا. وقد قال النحويون بتقديرات ثلاثة:

أولها: ولكن البر برُّ من آمن. أي أن المحذوف هو كلمة برّ قبل (مَن آمَن). وفي اللغة العربية عموما يُحذف المضاف كما في قوله تعالى (واسأل القرية) (يوسف: 83) والتقدير: واسأل أهل القرية (كتاب سيبويه مج1ص108)

وثانيها: اعتبار (البر) مصدرا بمعنى اسم فاعل والتقدير هو: ولكن البار مَن آمن.

وثالثها: اعتبار حذف كلمة (ذو) قبل البر، والتقدير: ولكن ذا البر من آمن.

ويتبين من الجزء التالي من الآية أن هذه التقديرات الثلاثة صحيحة ومطابقة للمشيئة الإلهية.. لأن الآية بعد ذلك تقول (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء).. والموفون مرفوع والصابرين منصوب. فإذا أخذنا بالتقديرين الثاني والثالث.. أي ولكن البار من آمن “.. أو “ولكن ذا البر من آمن”.. فلا يصح أن يُرفع (الموفون) مع أنه مرفوع، إذا أخذنا بالتقدير الأول.. أي: ولكن البر برّ من آمن. فلا يصح نصب الصابرين مع أنه منصوب. ووجود هاتين الكلمتين: الموفون، والصابرين، بهذه الصورة المختلفة بيّن أن التقديرات الثلاثة صحيحة في الحقيقة، وأن المعاني الثلاثة مطابقة لمشيئة الله.

على أية حال.. يقول الله إن أول شرط للبِر والذي لا يمكن أن يتغير أو يتبدل.. هو أن يكون المرء مؤمنا بالله تعالى. لا يمكن أن يأتي على الإنسان زمن يقول فيه: لا حاجة لي للإيمان بالله. والشرط الثاني أن يؤمن باليوم الآخر، وهذا الحكم أيضا غير قابل للتغير. والشرط الثالث هو الإيمان بالملائكة، وهذه الحقيقة أيضا قائمة منذ الأزل، وسوف تستمر إلى الأبد. والشرط الرابع هو الإيمان بالكتاب.. أي الوحي الإلهي. ولقد استخدم الله كلمة الكتاب بصيغة المفرد، ولكن ينبغي ألا يساء الفهم فيُظن أن الإيمان بكتاب واحد يكفي، لأن المراد من الكتاب هنا كل الوحي الإلهي، وسواء نزل في الماضي أو سينزل في المستقبل. فالإيمان بكل وحي الله ضروري وشرط لازم. والشرط الخامس هو الإيمان بالأنبياء. وهذه الحسنات من الأهمية بمكان، ولا يمكن بدونها أن يحصل الإنسان على أدنى مقام من الروحانية.

ثم ذكر الأعمال، وذكر في البداية إنفاق المال، ولم يقل فقط (آتى المال) بل أضاف (على حبه) لأن الإنسان يمكن أن ينفق المال على ما لا يجوز الإنفاق عليه، وهذا ليس برا وإنما هو معصية. والضمير في (حبّه) يمكن أن يرجع إلى المال أو إلى إيتاء المال أو إلى من ينفق عليه المال أو إلى الله أيضا.

وفي الصورة الأولى يكون المعنى: أنه ينفق المال في سبيل الله رغم حبه للمال.

وفي الصورة الثانية يكون المعنى أنه ينفق المال حبّا في إيتاء المال، أو أنه لا ينفق هذا المال باعتباره غُرما ولكنه راغب ومتشوق إلى فعل الخير والصدقة. ويتلذذ بهذه الحسنة.

وفي الصورة الثالثة يكون المعنى أنه لا ينفق المال على هؤلاء باعتبارهم أذلة صغارا مهانين.. كلا، وإنما باعتبارهم أخوة له يحبهم. كما لا ينفق المال لإفسادهم وإنما ينفق عليهم ليستعينوا به في عمل حسن نافع فيرتقوا ويزدهروا.

وفي الصورة الرابعة يكون المعنى أنه ينفق على هؤلاء ابتغاء مرضاة الله ومحبته وليس لمصلحة دنيوية أو سمعة بين الناس.

وإذا أُنفق المال بهذه الشروط الأربعة لم يكن إنفاقا منكرا أبدا. ويمكن اعتبار هذه مدارج أربعة للإنفاق. أدناها هي الدرجة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الدرجة الرابعة وهي أعلاها. فالدرجة الأولى أن الإنسان رغم حب المال ينفقه في سبيل الله. والدرجة الثانية أن يكون قد تعوّد على إنفاق المال وعمل الخير ويتلذذ بذلك حتى أنه يبحث عن فرص الإنفاق في الخيرات برغبة قلبية وتوق شديد. والدرجة الثالثة أن يعتبر من ينفق عليه أخا فقيرا حبيبا إليه لينفق أخوه هذا المال في مشروعات مفيدة ويزدهر. ولكن أعلى هذه الدرجات هي أن يكون هذا الإنفاق خالصا لابتغاء محبة الله ورضوانه، ويحسن إليهم وينفق عليهم لأنه قد تعود على الإنفاق، أو لأنه يحب إخوانه الفقراء، بل يحسن إليهم حُبا لله وابتغاء لمرضاته.

ولقد ركز الصوفية على هذا الأمر الأخير حتى قال بعضهم: لسنا بحاجة إلى جنة، ولكننا بحاجة إلى الله تعالى. فلو نلنا الله ورضوانه بدخولنا في النار فنحن مستعدون لذلك. وهذا مقامٌ سامٍ جدا لأنه في هذا المقام لا يبقى أمام أنظار الإنسان إلا الله، ويستولي عليه جماله سبحانه وتعالى لدرجة أنه لا يبصر إلاّ إياه.

أما السؤال: علامَ ينفق حبّا لله؟ فقد تناوله الله بالشرح والتفصيل فقال:

أولاً: ينفق على ذوي القربى، لأن لهم حقا كبيرا على الإنسان.. كالآباء والأمهات، فهم في تربية الأولاد ورعايتهم يقدمون تضحيات لا نجد لها نظيرا في مجال آخر. كذلك الأقارب الآخرون فهم أيضا يستحقون المساندة إذا كانوا من ذوي الحاجة.

ثانيا: وينفق على اليتامى ويؤدي حقوقهم، لأنه ليس هناك من يرعاهم ويتفقد أحوالهم

وثالثا: ذكر المساكين، وهم الذين ليس عندهم مال لسد حاجاتهم، ولا يمدون أيديهم للسؤال أمام الآخرين.. كأنهم مصداق قول الله (لا يسألون الناس إلحافا) (البقرة: 274). إنهم رغم فقرهم يحافظون على سمو أخلاقهم، ولا يستجدون الآخرين حمايةً لماء وجههم.

رابعا: ذكر المسافرين، ولم يشترط هنا فقرهم، مما يعني أنه كما يجب مساعدة المسافرين الفقراء كذلك إذا تتطلب الأمر فيجب ألا يتردد الإنسان في إعانة مسافر غير فقير، فقد يكون ذا مال ولكنه فقد ماله في الطريق. وفي هذه الحالة يأخذ المعونة كحقّ له، أو يسدّ حاجته بترك رهن عند الآخرين. كذلك من واجب الحكومة تقديم كل التسهيلات لحل مشاكل المسافرين سواء كانوا من رعاياها أو من الأجانب أو من السواح.

وخامسا: ذكر السائل. ويمكن أن يتساءل أحد: إذا كان هذا السائل فقيرا مفلسا فلماذا ذكره بعد ابن السبيل؟ فلنعرف أن الإسلام لا يحبذ السؤال، وقال رسول الله إن من لديه طعاما يكفيه لوجبة واحدة ومع ذلك يسأل فإنما يستكثر من النار (أبو داود، كتاب الزكاة). وكذلك رأى سيدنا عمر رضي الله عنه رجلا يسأل الناس مع أن جرابه كان ممتلئا بالدقيق، فغضب عمر وأخذ الدقيق ونبذه أمام البعير (سيرة عمر لابن الجوزي، باب60، ص170). كان عمر يريد بذلك ألا يكون عبئا على الآخرين، بل يعمل بيده ويحمي نفسه من خزي الأكل بالسؤال.. فالإسلام لا يحبذ الأكل بالسؤال، بل يريد أن يتحلى المسلم بالأخلاق العالية، وبدلا من أن يتسول يجب أن يبحث هو عن ذوي الحاجة ويسد حاجاتهم فلا يضطروا للسؤال.

وسادسا: ذكر (وفي الرقاب) أي مَن هُم في الأسر. وهناك محذوف تقديره: وفي فك الرقاب. لقد أخَّر هؤلاء لأنهم يكونون في معظم الأحيان من أهل الأديان الأخرى.

والقاعدة أن حق القريب أولى من حق البعيد. ابن السبيل يُعتبر ضيفا سواء كان مسلما أو كافرًا، ولذلك ينبغي أن يُعطي، أما الأسرى فلا بد أن يكونوا من غير المسلمين الذين جاءوا لحرب المسلمين لذلك ذكرهم في آخر القائمة. ومع ذلك ما أعظم هذا المعروف من قِبل الإسلام.. إذ يأمر الله المسلمين أن ينفقوا المال لفكّ رقاب من جاءوا لقتالهم.

ويندرج مع (في الرقاب) أيضا المدين والكفيل الذي أدّى الكفالة لأحد.

كان سيدنا الخليفة الأول لسيدنا المهدي يقول: إنني قد تصدقت بكل أنواع الصدقات ولكن لم تتح لي فرصة تحرير العبيد. وعندما ذهبتُ للحج قال لي الخليفة الأول: لو وجدتَ هناك عبدًا يُباع بمائة أو مائتي روبية فاشترِه وحرِّره باسمي؛ ولكننا لم نعثر على أحد هناك. إلا أن الله وفقه لتحرير العبيد أيضا، فيروي مرزا محمد أشرف-محاسب هيئة صدر أنجمان أحمدية أن الخليفة الأول عثر فيما بعد على اثنين من العبيد فحررهما.

قوله تعالى (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) الصلاة والزكاة لهما معانٍ واسعة في اللغة، ولكنهما اصطلاح خاص في الشريعة الإسلامية، وقد وردتا هنا بالمعنى الشرعي. إحداهما تقوم بإصلاح العلاقات بين الإنسان وربه، والثانية تقوم بتحسين العلاقات بين الإنسان وإخوته من جنسه. وكأن الله بذكرهما نبّه على أن إنفاق المال وحده لا يُكسبكم رضوان الله، بل لا بد لكم من إقامة الصلاة وأداء الزكاة.. وكأن حقوق الله وحقوق العباد ما لم تؤدَّ تحت نظام أو بصورة منظمة فلا ينال الإنسان مقاما رفيعا في البر.

وقوله تعالى (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس).. أي من علامات الحائزين على مقام عالٍ في البر والصلاح والتقوى أنهم يراعون عهودهم، ويصبرون على ما يصيبهم من الناس من أذىً وظلم. كأنهم من ناحية يسعون جاهدين للعمل على تأسيس المدنية الإسلامية، فلا يخلفون العهد ولا يخدعون أبدا؛ ومن ناحية ثانية إذا تطلبت المصالح الدينية والقومية والبلدية تحمّل المشاق والشدائد فإنهم يتحملونها بهمة وثبات، ويقدمون أسوة حسنة للاستقامة والصبر.

ليس المراد بالعهد هنا ما يُبْرم بين الناس من عهود شفوية، وإنما تتضمن كلمة العهد كل المسائل الهامة المتعلقة بالمدنية والاجتماع. ففي المجتمعات المتحضرة يُتوقع من كل شخص ألا يتجاوز دائرة حقوقه فيسلب حقوق الآخرين، وهكذا يتم الحفاظ على الحقوق. إذا عملوا بهذا المبدأ يُعدّون متحضرين، وإذا خالفوه يُعدون مثيرين للفتن والفساد. ولما كان الإسلام يريد خلق جو من السلم والأمان والمحبة.. ذكر من علامة المؤمنين الكمَّل أنهم يوفون عهودهم بدقة وحرص، وكذلك وصفهم: (الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس) أي أنهم يبدون صبرا وجَلَدا وقت الفقر والضيق، وكذلك عند حلول المصاعب والشدائد البدنية. فالبأساء هنا تشير إلى المشاكل المالية، والضراء إلى الأمراض والمشاكل البدنية، والبأس إلى شدة الحرب. وكأنه تناول ذكر الابتلاءات من الأدنى إلى الأعلى، وبيّن أنهم لا يخلعون رداء الصبر في حال من الأحوال.

والنـزاعات والحروب المذكورة هنا على نوعين: الأول: ما يكون بين الإخوان، والثاني: ما يكون بين المسلمين والأعداء. فإذا كان النـزاع بينهم يصبحون الصابرين في البأساء والضراء، ويستعدون للتنازل عن حقوقهم لإخوانهم، ورغم كونهم صادقين فإنهم يتواضعون ويتذللون كأنهم كاذبون. أما إذا كان الصدام بينهم وبين أعداء الإسلام فلا يفرّون من ساحة القتال وإنما يواجهونهم بشجاعة، ويهريقون آخر قطرة من دمائهم توطيدا للأمن والسلام.

الصلاة والزكاة لهما معانٍ واسعة في اللغة، ولكنهما اصطلاح خاص في الشريعة الإسلامية، وقد وردتا هنا بالمعنى الشرعي. إحداهما تقوم بإصلاح العلاقات بين الإنسان وربه، والثانية تقوم بتحسين العلاقات بين الإنسان وإخوته من جنسه. وكأن الله بذكرهما نبّه على أن إنفاق المال وحده لا يُكسبكم رضوان الله، بل لا بد لكم من إقامة الصلاة وأداء الزكاة.. وكأن حقوق الله وحقوق العباد ما لم تؤدَّ تحت نظام أو بصورة منظمة فلا ينال الإنسان مقاما رفيعا في البر.

وقوله تعالى (أولئك الذين صدقوا).. أي أنهم هم الذين قدموا أسوة من الصدق والوفاء، (وأولئك هم المتقون).. أي هم الذين سوف ينجون من المصاعب والآلام. لقد ذكر هذه الميزة لهم خاصة، لأن أشد ما يؤذي الإنسان أن يرى حقوقه تُسلب أمام عينيه. إنه يستعد لأن يعامل غيره معاملة حسنة كمعروف منه إليه، أما إذا آذاه أحد فإنه يعتبره إهانة له. وما دام هؤلاء قد قدموا تضحية غير عادية إذ تحملوا الأذى والاضطهاد من الآخرين فقال الله تعالى: إنني أخصهم بالذكر، فهم الصلحاء الصادقون في إيمانهم.. قد أثبتوا صدقهم في الإيمان عمليا. وهؤلاء هم الناجون من المصاعب. لأن المصاعب إذا كانت سماوية فعلاجها الإيمان بالله وعبادته، وإذا كانت اجتماعية فعلاجها مراعاة قوانين الحضارة. فهؤلاء يعملون بأوامر الله، وأيضا يبتعدون عن المفاسد المدنية، فلا يمكن أن يذلوا ويهلكوا، وإنما يذل ويهلك فقط أولئك الذين يهجرون الله تعالى ولا يطيعونه، أو يلقون بأيديهم إلى التهلكة بالإغماض والتساهل عن القوانين المدينة.

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك