خطبة عيد الأضحية

ألقاها حضرة مرزا طاهر أحمد (أيدَّه الله) الخليفة الرابع

 لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام) بتاريخ 8/4/ 1998م

في إسلام آباد، مقاطعة سري، المملكة المتحدة.

نقلها إلى العربية: عبد المجيد عامر[1]

«تنشر أسرة التقوى ترجمة هذه الخطبة على مسؤوليتها»

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ (آمين)

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (الحج: 37-38)

تتناول هاتان الآيتان بعض الجوانب الهامة للحج ولاسيما بعض الأمور المتعلِّقة بالأُضحية والتي يجب شرحها لكم إلى حدٍّ ما. التضحيات التي نقدِّمها، كثيرٌ منا ينسون عند تقديمهم إيّاها أنّ كلّ ضحيَّةٍ تتضمن رسالة. والرسالة الأساسيّة هي أنّه لا ينال الله لحومُ القرابين ولا دماؤها بل سوف تتقاسمونها فيما بينكم، أو تستمدُّون منها الخير بإعطائكم إيّاها لفقير على أكثر تقدير وهكذا تحصلون على أكثر تقدير وهكذا تحصلون على رضا الله تعالى، أو توزِّعوها على أقاربكم فيتحقَّق موضوع إِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى نوعًا ما. ولكن كلّ هذه الأمور إنما هي لصالحكم أنتم. وما يصل الله تعالى هو تقوى المضحِّي فقط. ولو كانت هذه الأضاحي خاليةً من التقوى لكانت تقاليد محضة ولا أهميّة لها أكثر من ذلك.

لقد أحسستُ أنّ الأغلبيّة من المضحيِّن تقتصر عنايتهم على الذبح فحسب، ويزعمون أنّ ذروةَ العيد تكمن في أن يذبحوا القرابين في سبيل الله في ذلك اليوم وينتفعوا بها. أما روح التضحية التي تبعث على الذبح فتكون القلوب فارغةً منها. في حين إنّ في ذلك رسالة تُشير إلى تضحيةِ سيدنا إبراهيم . إنّه أظهر استعداده لوضع السكين على عُنقِ ابنه كما أبدى هو وابنه عليهما السلام استعدادَهما التّام لتقديم هذه التضحية وأسلمَ كل واحدٍ منهما عنقَه لله تعالى. فهذه القرابين إنّما هي تذكرة لتلك التضحية. فإذا كانت هذه الذبائح لا تتحلَّى بتلك الروح من التضحية فلا طائِلَ من ورائِها إطلاقًا، وليست إلا التقاليد المحضة المقتصرة على الأكل والشرب والتمتُّعِ بما لذَّ وطاب من اللحوم المشويَّة والكباب، ولا أهمية لها أكثر من ذلك.

لقد اقتبست لكم اليوم بعضًا من أقوال سيدنا المسيح الموعود التي تُشير إلى روح التضحية. إنني واثق من أنّكم سوف تُعيرونَ لها آذانًا صاغية، وعندما تضعون السكين على عنق الذبيحة -اليوم وفي المستقبل أيضًا- وترونَها تضطرب وترتمي، سوف تفكِّرون في أنّ روحكم يجب أن تُذبح هكذا في حضرةِ الله تعالى. وما لم ترتمِ جنوبُها وتنبسط على الأرض هادئِةً باردةً بعد الاضطراب، أي ما لم تستسلِم لله استسلامًا كاملاً لن تُقْبَلَ روحُ تضحياتكم. والفوائِد التي سوف تجلبها هذه الروح لبني البشر عند ذلك فإنّها تكون شبيهةً نوعًا ما للفوائِد الظاهريّة التي يستفيد منها الناس عقبَ توزيع اللحوم. إنّ تسليم النفس عُنقَها إلى الله تعالى بالاستسلام الكامل، ثم وضعُكم السكين عليها ومشاهدتكم أنفسكم تضطرب تحت السكين حتى تهدأ وكأن جنوبها وجَبَتْ على الأرض، هذه هي التضحية التي تقدِّمها الروح إلى الله تعالى. وحين تحظى الروح بالسكون، فهذا السكون والاطمئِنان الناتج عن رِضا الله الذي تحصل عليه الروح. ثم بعد ذلك تُستخدم هذه الروح لصالح بني البشر قاطبةً وسوف تجلب لكم الفوائِد من كل نوع. هذه هي النقطة المركزيّة التي يجب أن نتذكرها دائِمًا، ولكن كثيرًا ما ننسى هذه الأمور التي لها أهميّة أساسيّة.

أولاً اٌقدِّم لكم في هذا الصدد حديثين للرسول الكريم .

 “عَنْ جَابِرِ بِنْ عَبْدِ الله قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ الأَضْحَى بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا قَضَى خُطْبَتَهُ نَزَلَ مِنْ مِنْبَرِهِ وأُتِيَ بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ رَسُولُ اللهِ ، وَقَالَ: «بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي”. (سنن أبي داؤد، كتاب الضحايا، باب الشاة يُضحّى عن جماعته)

إذاً فهذه سنّةٌ عظيمة يجب إحياؤها، أي يجب أن تُشرِكوا في تضحياتكم جميعَ أفراد أمّة النبيّ الذين لم يتمكَّنوا من تقديمها لفقرهم أو لأسباب أخرى. وهكذا فإنّكم أيضًا سوف تشتركون في تضحية النبيّ الذي قام بها حضرته عن أمّته كلها، وكأنّكم في هذا الزمن تؤدُّون هذا الواجب عن جميع المحرومين من أمّة النبي نيابةً عنه . إنّ معظم الناس لا يعرفون أنّ النبيّ قد ضحّى هكذا عن أمته بأسرها. إنني أرى أنّ تلك الأُضحية لا تزال إلى يومنا هذا تنفع هؤلاء المحرومين من الأمة المحمّدية الذين يكنّون في قلوبهم أمنية ولكن لا يستطيعون تقديم التضحية.

وجاء في حديثٍ آخر:

“عَنْ حنشٍ قالَ: رَأَيتُ عليًّا رضي الله عنه يُضحِّي بِكبشَين فقلتُ له: ما هذا؟ فقال: إِنَّ رَسُولَ الله أَوصَاني أنْ أُضَحِّي عَنهُ فأنا أُضَحِّى عَنْهُ”.  (سنن أبي داؤد، كتاب الضحايا، باب ضحيّة الميت)

فكما أنّ النبيّ ضحَّى عن الأمة بأسرِها، كذلك  أوصى حضرةَ عليٍّ أن يُضحِّي عنه . لذلك كان سيدنا عليّ يُضحِّي بكبشين. فإنّها هي الأخرى أيضًا سُنّة في منتهى الروعة يمكننا بإحيائِنا إيَّاها أن نكسب رضوان الله تعالى إلى حدٍّ ما. والاستجابة المثلى أيضًا للحديث الأول إنّما هي: بما أنّ النبيّ ضحّى عن الأمة كلّها لذا يجب على الأمة كلها أيضًا أن يحاولوا قدر المستطاع لكسب رضوان الله تعالى بتقديم التضحية عن النبيّ ، ذلك الرضوان الذي نزل على محمد ثم وُزِّع على سائر أفراد الأمة بيديه. فهذان أمران جديدان لا يعرفهما الناس عادةً، لذا رأيت من المناسب أن أشرحهما لكم اليوم.

يقول سيدنا المسيح الموعود مُبيِّنًا حقيقة عيد الأُضحية:

“الحقيقة أنّ السرّ الكامِن في هذا اليوم هو أنَّ التضحية التي بَذرَ سيدُنا إبراهيم بِذرتَها -وكان قدْ بَذرها خفيَةً- جعلها سيدُنا محمد حُقولاً وارِفةً خضراء”.

إنّ جملة ” كان قدْ بَذرها خفيَةً” هنا جديرةٌ بالانتباه، لأنّ ذكر تضحية سيدنا إبراهيم وارِدٌ في كتب المسيحييّن وكتب اليهود أيضًا، والجميع يعلمون أن سيدنا إبراهيم كان قد هَمَّ بذبحِ ابنه. ولكن البذرة التي بُذِرتْ خفيةً لم تكن بذرة ذبحٍ ظاهريّ وإنما بذرة التضحية الباطنيّة للنفس التي كان من المقدَّر لها أن تنمو وتزدهر في زمن النبي ، لذلك قال سيدنا المسيح الموعود إنّها كانت قد بُذِرت خفيةً. ولقد نَسيَ الناس هذه الحقيقة ولم يبقَ أمامهم سوى ذبحِ كبشٍ ظاهريّ فحسب وهبوط الكَبش من السماء أو انصراف أنظار إبراهيم إلى كبشٍ مأخوذ في الغابة. ليس إلا. أما البِذرة التي كان من المقدَّرِ لها أن تنمو وتزدهر فيما بعد في زمنِ النبي كانت بذرة تضرُّعاته في حضرة الله تعالى التي كانت تقول بلسانِ حالها: إنّ أُمنياتي يا ربِّ لا تنتهي على تضحيةٍ واحدة وإنّما أمانيَّ هي أن تبعث فيهم يا ربِّ، من أولادِ هذا الابن، ذلك النبيُّ الذي سوف يحوِّل هذه البذرة إلى حدائِقَ غنَّاء. إذًا فهذه البذرة الخفيَّة التي قال سيدنا المسيح الموعود عنها: “جعلها سيدُنا محمد حُقولاً وارِفةً خضراء”. ثم يقول حضرته : “إنّ إبراهيم لم يتردَّد في ذبح ابنه تنفيذًا لأمرِ الله تعالى. ففي ذلك إشارةٌ خفيّة إلى أنّه ينبغي على الإنسان أن يكون كلّه للهِ تعالى وألا يكتَرِثَ بتضحية نفسه وأولاده وأقاربه أمام أمرِ الله تعالى. كم كانت رائِعةً تلك التضحيات التي قُدِّمت في زمن الرسول الذي كان أسوةَ كاملة في كل نوعٍ من الهداية الطيِّبة. بحيث مُلِئَت الغابات بالدماء وكأنّ الأنهار جَرَتْ دمًا. قَتَلَ الآباءُ أولادَهم وكذلك قَتَلَ الأبناءُ آباءهم. والجميع كانوا يفرحون لو أنّهم قُتِلوا إربًا إربًا في سبيل الله والإسلام لكانت فيه سعادتهم”.

فالفقرة الأخيرة من المقتبس ترسمُ مشهدًا مرعبًا في بادي الرأي إذ تقول: إنّ الآباء قتلوا أبناءَهم وكذلك قتلَ الأبناءُ آباءَهم وكانوا يفرحون. فما نوعُ هذا الفرح؟ أَيقتلُ الأبُ ولدَهُ ويفرح بذلك، أو هل يقتل الولدُ أباه وبذلك يتمُّ سرورُه؟ إنّ هذه الفرحَة توحي بمُنتهى تضحياتهم. إنّ هذه الفرَحة المتناهية تُشير إلى ذروةِ تضحيتهم. كانوا يفرحون فقط أنّ الله تعالى يرضى بذلك، وأنّ رضى الله جل جلاله يقتضي أنّه لو رأى الابنُ قَتْلَ أبيه ضروريًّا أثناء الجهاد لَقَتَلَهُ، كذلك إذا رأى الوالدُ قتلَ ولدِهِ ضروريًّا فليَقتله. هذا هو تسليمُ العُنقِ لرضوان الله تعالى، وإلا فلا يفرحُ الوالدُ بذبح ولده كما لا يسعَدُ الولدُ بقتلِ أبيه إطلاقًا. ولكن إذا كان رضوان الله تعالى يحظى بالتفوّق على كلِّ شيء وكان غالبًا على غيره عندها تغمرُ هذه السعادةُ صاحِبَ التضّحية بسبب حصوله على رضوان الله رغم كون مثل هذه التضحيات مكروهةً ظاهريًّا. إنّ إِهراقَ الدماء أمرٌ كريهٌ للغاية بشكل عام، وإنّ قتلَ الولدِ والدَهُ أسوأُ من ذلك، وإِهراقُ الوالدِ دمَ ولدِه كذلك، أمّا إّذا كان ذلك بمقتضى مشيئة الله تعالى فلا بأسَ فيه. هذه هي السعادة -الناتجة عن تنفيذ أمرِ الله تعالى- التي يقول عنها سيدنا المسيح الموعود ما معناه: ” كانوا يفرحون لو أنّهم قُتِلوا إربًا إربًا في سبيل الله والإسلام لكانت فيه سعادتهم. كانوا على استعدادٍ تام لِتُقطَّعَ اجسامُهم إربًا إربًا، بل كانوا يحِبُّون أن تُقطَعَ أجسادُهم جُزءًا جُزءًا في سبيل الله تعالى. وبناءً على ذلك فإنّ تضحياتهم الأخرى كلّها أيضًا لا بدَّ أن تُعتبر لله تعالى. لم تكن تلك التضحيات لأنفُسِهم ولا لإرضاءِ أنانيَّتهم.

يمضي سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود قائلاً: “أمّا اليوم فانظروا جيدًا، هل بقيَ من الروحانيّةِ شيءٌ إلا الفرحُ والمـَرحُ واللهو واللعِب؟ إنّ عيد الأُضحية هذا أفضلُ من العيد الأول ويسمِّيه العامّةُ أيضًا بـــــ “العيد الكبير”*، ولكن أخبروني بعد التأمُّل، كم هم الذين ينتبهون بسبب العيد إلى تزكيةِ نفُوسِهِم وتصفيةِ قلوبِهِم، ويحصلونَ على حظٍّ من الروحانيّة ويَسعونَ للاقتباس من ذلك النور الذي وُضِعَ في هذا الضُحَى”؟

إنّ هذه الفقرةٌ كتبها إنسانٌ عارِفٌ بالله مُدرِكًا حقيقةَ الأمر. وكل كلمةٍ منها أبدَتْ تأثيرها الكامل، وكل كلمةٍ منها تنطبقُ تمامًا على حالة الزمن الراهن. يقول حضرته ما معناه: “أخبِروني بعد إمعان النظر، كم هم الذين ينتبهون إلى تزكيةِ نفُوسِهِم وتصفيةِ قلوبِهِم بسبب العيد”. لقد جاءَ العيد وسوف ينتهي، وسوف تُذبح القرابينُ وتُؤكَلُ لحومُها وتُوزَّع، ولكن يجب على كلِّ مَنْ يُضحّي أن يُفكِّر، إلى أية درجةٍ زادت قدرته على تضحية نفسه إثرَ هذا العيد. إنّ عدد الذين يستطيعون تضحيةَ أنفُسِهم مائة بالمائة ضئيلٌ جدًا، ولكن الأهمَّ في الموضوع هو الاتصاف بِقُدرةٍ أكبر من ذي قبل لتضحيةِ النفس. وهذا هو الجانب الذي يجب أن تتأمَّلوا فيه بالمعرفة والوعيِ الكامل، لأنّ المسلم الأحمدي إذا قام بأداءِ هذه الشعائِر المقدَّسة التي هي شعائِرُ إبراهيميّة، بالوعي الكامل فلن تبقى طقوس بحتة بل سوف تجلِبُ لنا الفوائد التي تبقى إلى الأبد بفضل الله تعالى.

وقوله “عيد الأُضحية هذا أفضلُ من العيد الأول”. العيد الأول كان عيد الصيام وعيد المجاهدة بالنفس وعيد التضحية بالنفس أيضًا، فلماذا رُغمَ ذلك قال سيدنا الإمام المهدي إنَّ هذا العيد أفضل من الأعياد الأخرى؟ ما هو سببُ أفضليَّتِه؟ يردُّ سيدنا المسيح الموعود على هذا السؤال في الجملة التالية إذ يقول: “…. يَسعونَ للاقتباس من ذلك النور الذي وُضِعَ في هذا الضُحَى”؟ فموضوع عيد الأُضحية يُسلِّطُ ضوءًا على موضوع “الضُحَى” أيضًا. “الضُحَى” هو الوقت الذي تكون فيه الشمس مرتفعة قليلاً بعد طلوعها وينتشر ضوؤها ويُبدِّدُ الظلام. إذًا فهذا العيد إنّما هو نقطةٌ نهائيّةٌ للاستعداد للتضحية التي أعدَّ لها العيدُ الأول النفوسَ. ويؤكِّد على أنَّ المؤمنين كانوا قد سلَّموا أنفسهم لربِّهم حقًّا عند العيد الأول، واليوم قد تأهَّلوا لينتفعوا من هذا العيد. فالمراد من “الضُحَى” هو الوقت الذي ينتشر فيه الضوء انتشارًا كاملاً في كل مكان ولا يبقى جانبٌ مظلم مُختفٍ عن الأعيُن. فالذين يُضحون بنفوسهم يَهَبُ اللهُ لهم نورًا يُحاسِبونَ أنفسهم في ضوئِه مُحاسبةً دقيقة ويختبرونها فيجدونها مليئَةً بالنور.

يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود :

“الحق أنّ عيد رمضان مُجاهدةٌ ذاتيَّة واسمُها “بَذل الروح”. لكن هذا العيد الذي يُسمَّى بالعيدِ الكبير يحملُ في طيَّاته حقيقةً عظيمة، للأسف الشديد لم يُهْتَمَّ بها كما يجب. إنّ الله الذي تتجلّى رحمتُهُ بشتّى الطُرق قد مَنَّ على أمة محمد مِنَّةً عظيمة حيث إنّ الأمور التي كانت كالقِشر في الأمم الأخرى أظهرت هذه الأمة حقيقتها”.

أي إنّ الأمم السابقة ظلَّت متمسِّكةً بالتقاليد والعادات فقط، غيرَ أنَّ الروح التي أظهرت هذه الأمة من خلال التضحية فإنّها ليست مَبنيَّةً على التقاليد الظاهريَّة فقط وإنّما هي حقيقة التضحية أي تضحية النفس.

ثم يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود :

“لقد جعل الله تعالى في شرع الإسلام رموزًا ونماذج لكثيرٍ من الأحكام الهامة. فقد أُمِرَ الإنسانُ أن يفدي نفسه في سبيل الله تعالى بكلِّ قواه وبسائِرِ وجوده. فالقرابينُ الظاهريّة جُعِلت نموذجًا لهذه الحالة، لكن المقصود الحقيقي هو هذه التضحية، كما يقول الله تعالى: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ … أي اتَّقوا الله لدرجة وكأنّكم تموتون في سبيله، وكما أنّكم تذبحونَ القرابين بأيديكم كذلك ضحُّوا بنفوسكم أيضًا في سبيل الله. فإذا كانت هناك تقوى أدنى من هذه الدرجة فإنّها لا زالت ناقصة”.

لقد سهَّلت الجملةُ الأخيرة هنا السبيل على كثيرٍ من الأحمديين الذين سوف يخافون من البيان الأول. فإننا لا نرى حائزًا على المستوى المذكور في البيان الأول إلا ما شذَّ وندر من الناس. فيبيِّنُ سيدُنا المسيح الموعود المرتبة العُليا ثم يرشد الضعفاء قائلاً، ليس ضروريًا أن يكون فَلَاحُكُم مرتبطًا ببلوغكم هذه المكانة السامية فقط، بل ثمة درجاتٍ عدّة قبل الوصول إلى هذه المكانة السامية. فلو حاولتم إنجاز هذه الدرجات الدُنيا أيضًا لأمكنكم أن تنالوا القُبول لدى الله تعالى. فهذه البشارة التي كانت ضرورية لإنقاذ بعض الناس من الخوف ولزيادة تقوى الله لديهم، يقدِّمها سيدُنا المسيح الموعود في الجملة الأخيرة هذه إذ يقول:

“فإذا كانت هناك تقوى أدنى من هذه الدرجة فإنها لا تزال ناقصة”. ولكنه سمَّى حالته أيضًا بالتقوى، ولم يقل إنّ صاحبها محرومٌ من التقوى. هذا هو الأمر الجدير بالانتباه بشكلٍ خاص. تسمَّى هذه الحالة أيضًا بالتقوى ولكن التقوى أيضًا تبقى في الازدياد. ومستوى التقوى لدى كلّ سالك يكون مختلفًا عن غيره. ولا بدَّ أن تكون الحالة الأولى للتقوى لدى كل متقدِّم على سبيل التقوى مختلفةً عن حالتها الأخيرة وتكون أفضل من الحالة الأولى. هذا هو السبب الذي من أجله سُمِّيت الحالة الأدنى والبدائية أيضًا بالتقوى. فلو لم تكن كيفيَّاتنا خالية من التقوى بل طرقتْ تقوى الله تعالى أذهانَنا -ولو إلى حدٍّ ما- عند تقديمنا التضحيات وانتقلت أذهاننا أننا نقدِّمها بسبب تقوى الله أو خشيةَ أن نُحرم من رضاه جل جلاله، فهذه الحالة أيضًا جديرةٌ بالقبول. وإنني آملُ أنّ الأحمديين سوف يتشجَّعون من هذا البيان وسوف يوفَّقون للتقدُّم على هذا الطريق الصعب.

ثم يقول سيدنا الإمام المهدي :

“نحن بحاجة إلى تضحيةٍ واحدة وهي تضحية النفس التي تشعر بضرورتها فِطْرتُنا والتي تُسمَّى بــ “الإسلام” بكلماتٍ أخرى. والإسلام يعني تسليمَ العُنقِ للذبح”.

هذا كان إسلام سيدنا إبراهيم الذي ذُكِر في القصة المذكورة أعلاه. وروح هذا الإسلام هي تسليم العُنق للذبح. ففي الحادث المذكور آنفًا لم يُسلَّم عنقُ سيدنا إسماعيل وحده، بل عنقُ سيدنا إبراهيم سُلِّمَ إلى الله تعالى بالدرجة الأولى، وإلا ما كان من الممكن أن يُسلَّم عنقُ سيدنا اسماعيل بشكلٍ من الأشكال. فهذا هو الموضوع الذي يشرحه سيدُنا المسيح الموعود قائلاً:

“التضحيةُ تُسمَّى إسلامًا بكلماتٍ أخرى. الإسلام يعني تسليمَ العُنق للذبح، أي تسليمَ الروح على عتبةِ باب الله تعالى بكاملِ الرضا. وهذا الاسم الجميل هو روح الشريعة كلها ومغزى لجميع الأحكام. إن تسليم العُنق للذبح بِطِيبِ الخاطرِ والرضا يقتضي حُبًّا وعشقًا كاملين، والحبُّ الكامل يتطلب معرفةً كاملة”.

فهذا الكلام المحتوي على حلقاتٍ متصلة بعضها ببعض، والذي يدفع الإنسان من مرحلةٍ إلى أخرى إنّما هو كلامُ شخصٍ عارفٍ بالله، ولا يمكن أن يحظى به غيره، الأمر الأول هو أنّ تسليم العُنق للذبح يقتضي حُبًّا كاملاً وعشقًا كاملاً، وهذا أمرٌ بسيط ومفهوم بشكلٍ عام. كلّ شخصٍ يعرف مِن خلال تجربته أنّ العُشّاق يعيشون في عالَمٍ آخر. يفضَّلون أن يُقتَلوا في سبيل الحبيب على أن يبقوا بعيدين من أزقة دياره سالمين غانمين، بل يتسابق بعضهم بعضًا ليقدِّموا أنفسهم ولا يُبالون بأيّة صعوبةٍ في هذا السبيل، بل يُحبُّون أن يُقتَلوا بيدِ الحبيب في كل الأحوال. توجد مثل هذه الأمور في كلام الشعراء، لا ندري هل سيثبتون ويصمدون في الحقيقة عند تَعرُّضِهم للقتل، إن صحَّ التعبير، أم سَيَلوذون بالفِرار؟ هذا أمرٌ آخر غير أنّهم يُعبِّرون عن صوت الروح جيدًا لأنّه عندما يُبتلى أحدٌ بالعشق تغزو مثلُ هذه الأفكار قلبه. فهذه هي النقطة المركزية التي شرحها سيدُنا المسيح الموعود إذ قال ما معناه: إن تسليم العُنق للذبح بِطِيبِ الخاطرِ والانقياد الكامل أمرٌ يقتضي حُبًّا وعشقًا كاملين، والحبُّ الكامل بدوره يتطلب معرفةً كاملة. أما في حالة العشق المجازي فإنّ معرفة الشاعر أو معرفة العاشق توحي إليه أنّ حبيبه غايةٌ في الروعة، إلا أنّ هذه المعرفة لا تكون كاملة بل تكون مؤقتة وتَبلى وتَفنَى شيئًا فشيئًا، سواءً حَظِيَ المحبُّ بِوَصْلِ حبيبه أم لا. لذا من الخطأ تسميتها باسم المعرفة أصلاً. ولكن بما أنّ حبَّ الله تعالى يُنالُ عن طريق المعرفة الكاملة، والمراد منه الاطلاعُ على جميع جوانبِ معرفة الله تعالى واليقينُ الكاملُ أنّه ليس هناك أحدٌ إلا هو جل جلاله، وأنّ كل جمال ينبع منه ، وهو مصدر كل كمال ومرجعُه، فإذا تحقَّق ذلك فَعِشقُ الإنسان ربَّه يصبح أمرًا طبيعيًا جدًا. إنّ كلمة “الإسلام” تُشير إلى أنّ التضحية الحقيقيّة تتطلب المعرفة الكاملة والحُبَّ الكامل، وبقدرِ ما ينحطُّ مستواهما بقدرِ ما يتدنَّى مستوى تضحياتنا.

هذا ما تَبيَّنَ بوضوحٍ تام إلى هنا. والآن تعالوا نقرأ ما قاله حضرته بعد ذلك:

“إلى هذا الأمرِ يُشيرُ الله تعالى في القرآن الكريم حيث يقول: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ “. فالخوف الذي يستولي على القلب لدى مشاهدة الذبائِح المـُضطرِبة يجب أنْ نُحوِّله إلى تقوى الله تعالى. وإذا فعلتم ذلك عندها سوف تَحظونَ بمعرفة الله الحقيقيّة. وكل إنسان يقلق لا محالة عند مُشاهدة ذبيحةٍ مُضطربة حتى إنّ بعض الأطفال يسقطون مغميًّا عليهم أيضًا من جرَّاءِ ذلك، ولكن كم هم الذين تنتقل أفكارُهم إلى الله تعالى؟ ولو انتقلت إلى الله جل جلاله لتسبَّب ذلك في كمالِ التقوى وفي التفكير أنّه كيف يمكننا نحن أنْ نُقدِّم في حضرةِ الله تعالى روحَنا وهي تَضطرب. عندها تتبيَّنُ للإنسان سبلٌ وآفاقٌ جديدة للحصول على حُبِّ الله تعالى أكثر من ذي قبل. ولقد جرَّبَ أهلُ المعرفةِ جميعهم أنّه إذا نشأتْ في القلب أُمنيةٌ للحصول على حُبِّ الله فالله تعالى بنفسه يُري صاحِبَها سُبلَ هذا الحبّ ويُسهِّلها عليه. لذا يجب أن تقدِّموا تضحياتكم سائِلينَ الله تعالى ألا تذهب سُدىً كما ذهبت في الماضي. مما يعني أنّه يجب ألا تبقى عنايتنا مُقتصرةً على أنفسنا فحسب بل ينبغي أن تتجه إلى الله تعالى.

وفي النهاية أقرأ عليكم مقتبسًا آخر لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ، يقول حضرته:

“والمسلم من أسْلَمَ وجْهَهُ للهِ ربِّ العلمين، ولهُ نَحَرَ ناقةَ نفسهِ وتَلَّها للجبينْ، وما نَسِيَ الحَيْنَ في حِيْنٍ. فحاصِلُ الكلَام، إنّ النُّسْكَ والضَحايَا في الإسلام هي تَذكِرةٌ لهذا المرَامْ وحثٌّ على تحصيلِ هذا الـمَقام، وإِرْهَاصٌ لِحقيقةٍ تحصلُ بعد السلوك التَّام. فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَّمُؤْمِنَةٍ كَانَ يَبْتَغِي رِضَاءَ اللهِ الْوَدُودِ، أَنْ يَفْهَمَ هذِهِ الْحَقِيقَةَ وَيَجْعَلَهَا عَيْنَ الْمَقْصُودِ، وَيُدْخِلَهَا في نَفْسِهِ حَتَّى تَسْرِيَ في كُلِّ ذَرَّةِ الْوُجُودِ، وَلا يَهْدَأ وَلا يَسْكُن قَبْلَ أَدَاءِ هذِهِ الضَّحِيَّةِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَلا يَقْنَع بِنَمُوذَجٍ وَقِشْرٍ كَالْجُهَلاءِ وَالْعُمْيَانِ، بَلْ يُؤَدِّي حَقِيقَةَ أَضْحَاتِهِ وَيَقْضِي بِجَمِيعِ حَصَاتِهِ وَرُوحِ تُقَاتِهِ رُوحَ الْقُرْبَانِ. هذا هُوَ مُنْتَهَى سُلُوكِ السَّالِكِينَ”. (الخطبة الإلهاميّة، الخزائن الروحانيّة ج16 ص 35-37)

إنّ حضرته استخدم هنا كلمة “الوجه” هنا بدلاً من العُنق إذ قال: “… من أسْلَمَ وجْهَهُ للهِ ربِّ العالمين”، والمراد هو أنّه يعرف أنّ الله تعالى يراه، وهكذا يصوِّر مشهدًا مؤلِمًا لتسليمِه نفسه لله ، وكأنّه يقول: لقد انبطحتُ أمامك يا ربِّ، أُريدُ وجهَكَ وأُسلِّمُ عُنقي للسكِّين. إنّ تسليمَ الوجه أوسعُ معنىً من تسليم العُنق. إنّ سيدنا إبراهيم تَلَّ ابنَهُ اسماعيل للجَبينْ، أما وجهَهُ فقد أسلَمَهُ للهِ جل جلاله. وكان الله تعالى يرى تضحيةَ قلبه كما كان إبراهيمُ يرى مشهدَ ذبحِ ابنه. فهذا هو السبب الذي من أجله استخدم سيدُنا المسيح الموعود كلمةَ الوجه بدلاً من العُنق.

ثم يقول حضرته: “ولهُ نَحَرَ ناقةَ نفسهِ”. وفيما يتعلَّق بناقةِ النفس فقال عنها: “وتَلَّها للجبينْ”. هناك شخصان اثنان (في عمليّة الذبح) وهما سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل عليهما السلام. إنّ إبراهيم رافعٌ وجهَهُ لله تعالى، أمّا إسماعيلَ فقد تَلَّهُ للجَبِينْ كي يهُونَ عليه الألم. لذلك شبَّه سيدُنا المسيح الموعود الذبيحةَ بتضحيةِ سيدنا إسماعيل وشبَّهَ الــمُضحِّي بسيدنا إبراهيم إذا قال:

“… ولهُ نَحَرَ ناقةَ نفسهِ وتَلَّها للجبينْ، وما نَسِيَ الحَيْنَ في حِيْنٍ. فحاصِلُ الكلَام، إنّ النُّسْكَ والضَحايَا في الإسلام هي تَذكِرةٌ لهذا المرَامْ وحثٌّ على تحصيلِ هذا المـَقام وإِرْهَاصٌ لِحقيقةٍ تحصلُ بعد السلوك التَّام. فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَّمُؤْمِنَةٍ كَانَ يَبْتَغِي رِضَاءَ اللهِ الْوَدُودِ أَنْ يَفْهَمَ هذِهِ الْحَقِيقَةَ وَيَجْعَلَهَا عَيْنَ الْمَقْصُودِ، وَيُدْخِلَهَا في نَفْسِهِ حَتَّى تَسْرِيَ في كُلِّ ذَرَّةِ الْوُجُودِ، وَلا يَهْدَأ وَلا يَسْكُن قَبْلَ أَدَاءِ هذِهِ الضَّحِيَّةِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَلا يَقْنَع بِنَمُوذَجٍ وَقِشْرٍ كَالْجُهَلاءِ وَالْعُمْيَانِ، بَلْ يُؤَدِّي حَقِيقَةَ أَضْحَاتِهِ وَيَقْضِي بِجَمِيعِ حَصَاتِهِ وَرُوحِ تُقَاتِهِ رُوحَ الْقُرْبَانِ. هذا هُوَ مُنْتَهَى سُلُوكِ السَّالِكِينَ”.

المراد من السلوك التَّام هو أنّ الحقيقة التي يصلُ إليها قلبُ العارِفِ بالله يتوصَّلُ إليها العارِفُ بعد عبورِ جميع مراحل السلوك واجتياز جميع سُبلِ التقدُّمِ إلى الله تعالى. والإرهَاصُ هو الذريعةُ والمطيَّةُ التي يتَّخِذها السالك وسيلةً للتقدُّم.

هذه الفقرة مأخوذةٌ من “الخُطبة الإلهاميّة”، لذا فإنّها دقيقةٌ للغاية، الخُطبة الإلهاميّة كلها دقيقةُ المعارِف وعميقةُ المعاني للغاية، لذا فقد تركتُ فقراتٍ كثيرةً منها جانبًا لأنني لو قرأتُ جميع الفقرات المتعلِّقة بفلسفةِ التضحية لأدركَنا الوقتُ قبل أن يتمَّ شرحُ فقرةٍ واحدةٍ منها.

وفي بعض الأحيان يستولي الرُعبُ على القلبِ عند قراءةِ هذه الفقرات لأنّ الدرجات والمراتب المذكورة فيها أرفعُ وأسمَى كثيرًا من قدرتنا نحن. ولكن يجب ألا ينسى الإنسانُ أمرًا وهو أنّ النبي قد سهَّل الطريقَ على كلِّ مؤمنٍ بقوله فيما يروي عن ربِّه: أنا عندَ ظَنِّ عَبدِي بِي”. مما يعني أنّه ليس بوسعِ عبدي أنْ يَصِلَ إليَّ ولا يستطيع أنْ ينالَ هذه المراتب، إنّه لا يقدر على أن يحصل ولو على درجةٍ واحدة من درجاتِ قُربي، غيرَ أنني أستطيع أنْ أَنزل عليه وأسكن في قلبه. لذا ينبغي أنْ يَخُصَّ لي في قلبه مكانًا ما ويطِّرَ لي بُقعةً من قلبه حُبَّاً وعِشقاً، فإنني سأَنزِلُ بها، وعندها سوف أُسهِّلُ عليه الطُرق كلّها. وفي شرحِ هذا الموضوع يقول النبيُّ : “يقول الله : إذا تقرَّبَ عَبْدِي مِني شِبرًا تَقرَّبتُ إليهِ باعًا أو بُوعًا، وإذا أَتَاني يَمشِي أَتيتُهُ هَروَلَةً” (صحيح المسلم، كتاب الذكر والدُعاء والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء والتقرُّب إلى الله تعالى وحُسن الظنِّ به)

ففي ذلك بِشارةٌ لنا جميعًا. فالأمور التي بيَّنتُها كانت تبدو صَعبَةً ومُخيفةً باديَ الرأي، ولكن أقوال النبيِّ هذه تُسهِّلها. يجب أن تُطهِّروا لله جانبًا أو مكانًا ما في القلب الذي هو مركز الأماني، ولتكن الأماني صادقةً وخالصةً لله، عندها سوف ترونَ أنّ الله سيَنزِلُ بذلك المكان، فيُسهِّلُ سُبلَ سلوككم كلها أكثرَ فأكثر. وستُسافِرون إلى الله جل جلاله بسرعةٍ هائلة، ذلك السفر الذي كان يبدو مستحيلاً من قبل. فإنني لآملُ أنَّ عيد الأضحى هذا سوف يسبِّبُ لنا الأفراحَ الكثيرة والتقرُّبَ إلى الله جل جلاله.

وفي النهاية أُذكِّركم جميعًا بأنْ تَذَكَّروا إخوانكم الفقراء والضُعفاء والمـَعُوزين عند تضحيَاتِكم. لا ضيرَ في أنْ تجعلوا ثُلثًا من لحوم أضاحِيكم لأنفسكم وأقارِبكم، واستعمِلوها كما يحلو لكم، ولكن ينبغي أن تُعطُوا لِنظام الجماعة أيضًا جزءًا منها حتى تُوزَّع على الفقراء والمساكين. كذلك يجب أن توزِّعوا جزءًا من اللحم على من وقَعتْ نظرتُكم عليه من الفقراء، سواءً كانت لهم علاقةٌ بكم أو لا. وإذا وقَعَتْ نظرتُكم المتفحِّصَة على الفقراء لإزالة فقرهم وبؤسِهم فإنني أؤكِّدُ لكم أنّ نظرةَ الله تعالى سوف تَقعُ عليكم، ولسوفَ يُزيلُ الله عنكم ظلال البؤس والفقر. فهذه صفقةٌ عظيمة. إنَّ بحثكم عن الفقراء والوصول إليهم يتسبَّبُ في أن يبحثَ الله عنكم ويصلَ إليكم، وهذا ما سيحدث لا محالة.

فأُنهي خُطبة العيد هذه بتقديم هذه الموعظة. والآن سوف أقرأُ الخطبة المسنونة قبل الدعاء. ثم إنّكم بطبيعة الحال سوف تتبادلون مع الإخوة والأقارب تَهانيَ العيد وأفراحه وتحتفلون العيد كالمعتاد بما فيه الاستمتاع بلحوم الأضاحي. ولكن يجب أن تتذكروا عند أكلها -وإن لم يخطر ببالكم من قبل- أنّكم كل ما تقومون به إنّما تفعلونه لرِضى الله تعالى، وإنّما هو نموذج لإحياء تضحية سيدنا إبراهيم . ففي هذه الحالة لن تتلذَّذوا من اللحوم لذَّةً ماديّةً فحسب بل سوف تُرافقكم لذةٌ روحيّةٌ أيضًا. وفَّقنا الله جميعًا لذلك.

ثم قال حضرة أمير المؤمنين نصره الله: ثمّة بُشرى نسيتُ أنْ أزُفَّها إليكم أثناء الخُطبة وتذكرتُها الآن، وهي أنَّ كتابي الجديد الذي طالما حدَّثتكم عنه قد أصبحَ جاهزًا اليوم للنشر. لقد انتهيتُ من تأليفه منذ مدّةٍ يسيرة إلا أنّه كان يحتاج إلى المراجعة ووضعِ الفهارس وإضفاء اللّمسات الأخيرة عليه. واستغرقَ ذلك وقتًا وجهدًا أكثر بكثير مقارنةً بالكتب الأخرى وذلك بسبب سعة الموضوع وعمقه.

وإنني أُحيطكم عِلمًا بأنني كتبته بتأييدٍ من الله الذي أَفهَمَني نقاطًا دقيقة وكشفَ عليَّ جوانبَ لطيفةً لم تكن في حُسباني عند الشروع في تأليفه. وأُبشِّركم بأنّ هذا الكتاب سيلعب دورًا رياديًّا لشجِّ رأسِ الدهريَّة، ليس في القرن القادم فقط بل في القرون المقبلة أيضًا. كلُّ فصلٍ من هذا الكتاب دليلٌ بيِّنٌ على صدق القرآن من جهة، ومن جهةٍ أخرى ضربةٌ قاضيةٌ على رأسِ الإلحاد. إنّه ليس مجرّد كلام بل أقول ذلك من خلال خبرتي الواسعة مع العلماء وكبار المفكِّرين الذينَ كانوا متمسكين بالدهريّة بل كانوا يعتزُّون بها قائِلين إنّ الدهريّة وحدها تحملُ “رسالةً” للإنسانيّة جمعاء، ولكنهم نَكَّسوا رؤوسهم عندما طرحتُ عليهم مضمونَ فصلٍ أو فصلين من الكتاب، واعترفوا بأنّهم لا يملِكون حُجَّةً ولا دليلاً إزاء هذه البراهين القويّة. فإنّ كل فصلٍ منه يتضمنُ أدلةً تشجُّ رأسَ الدهريَّة وتكسِرُ ظهر الإلحاد. فاقرؤوه بإمعان ووزِّعوه على العلماء والمفكِّرين، واعلموا يقينًا بأنّه كُتِبَ بتأييدٍ من الله تعالى وأنّ نصرتَهُ ظلّتْ ترافقني إلى آخر لحظة.

ولقد ساهم في هذا العمل الأخير السيد منيرُ الدين شمس وبِنتاهُ وابنةُ السيد محمد عُثمان الصيني. فإنّهم سَهِروا البارحة على وضع اللمسات الأخيرة، ثم أخبروني صباحًا بأنّ الكتاب جاهز للطباعة من جميع النواحي. فجزاهم الله تعالى خيرًا، وباركَ لنا بهذا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

( * تعبير شائع في القارة الهنديّة عن عيد الأُضحية – من المترجم)

[1]  داعية إسلامي أحمدي

Share via
تابعونا على الفايس بوك