خطاب علمي شيق

نقدم فيما يلي اقتباسًا من رسالة لأمير المؤمنين سيدنا مرزا طاهر أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز أجاب فيها على سؤال لأحد الإخوة حول تفسير قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وحول حادث غرق فرعون. (التقوى)

بالنسبة لما فسرتُ به قول الله تعالى عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى فقد وصلني تعليقكم. أنتم بفضل الله من أصحاب الفكر المتنور المتفتح، وتعجبت كيف لم تدركوا ما قلت وما قصدي من تفسيري هذا.

لقد قلتُ أن رد فعل الرسول و”عبوسه” أيضًا ينم عن حسن أخلاقه، إذ أن عبوس رجل صالح تقي ليس كمثل عبوس رجل غير تقي. ومسألة: من الذي عبس، ولماذا؟ فأرى أن الرسول هو الذي عبس، وأحاول أن أستدل بذلك على حسن أخلاقه حيث أنه بفعله هذا لم يُشعِرْ صحابيه الأعمى أنه متضايق من عمله، كما أنه في نفس الوقت قدّم بهذا الأسلوب اعتذارًا للحضور ليرضي مشاعرهم التي عكرها فعل الصحابي. ومعنى العبوس كما ورد في القواميس: العبوس: قطوب الوجه من ضيق الصدر. وعبس: قطبَ وجهه. (المفردات والأقرب)

أما المفسرون فقد قالوا كلامًا مخيفًا يثير العجب، ولا يملك المرء عند قراءة بعض عباراتهم إلا أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. ونرفق للرسالة ما قاله بعض هؤلاء من سخيف الكلام. ولكي يطمئنوا يكفي أن أقول أنني اخترتُ نفس المعنى الذي اختاره سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ، فقد كتب: “يقول الله تعالى في القرآن الشريف:

عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى

ومناسبة نزول هذه السُورة هي أنه بينما كان رسول الله جالسًا مع صناديد قريش ينصحهم جاءه رجل أعمى وقال له: علِّمني الدين. فقال له: اصبِرْ. فغضب الله من ذلك جدًا. فذهب الرسول إلى بيت الأعمى، وجاء به، وفرش له رداءه. وقال: اجلس عليه. فقال الأعمى: كيف أجلس على ردائك! لماذا فرش رداءه؟ ذلك ليُرضي ربَّه سبحانه وتعالى”. (الملفوظات، ج6 ص56 و57، نقلاً عن جريدة “بدر” مجلد 2 عدد 27، ص 210 و211 – 24 يوليو 1903)

أما مسألة زجر الله لرسوله فلا أراها كما يراها المفسرون أبدًا، بل أرى أن الإنسان أحيانًا يمنع حبيبه من فعلٍ بأسلوب يُشعر الآخرين بأنه إذا كان الأحباء يؤاخَذون هكذا.. فكيف بهم إذا ارتكبوا ما ارتكبوه؟ لا بد أن يعاقبوا بما هو أشد، وأرى أن هذا ما حدث، وهذه هي الحكمة في الحادث.

من أقوال المفسرين:

  1. أقبل ابن أمَ مكتوم والنبي مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى، وقد قويَ طمعه في إسلامهم، وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم. فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله، علِّمني مما علمك الله، وجعل يناديه ويكثر النداء، ولا يدري، أنه مشتغل بغيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء: إنما أتباعه العُميان والسَّفلة والعبيد: فعبس وأعرض عنه، فنزلت الآية. قال الثَّورى: فكان النبي بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول: “مرحبا بمن عاتبني فيه ربي”.

قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالمـًا بأن النبي مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصُّفَّة؛ أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الأمر الآخر، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضا نوعًا من المصلحة.

ونظير هذه الآية في العتاب قوله تعالى في سورة الأنعام: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ . وكذلك قوله في سورة الكهف: وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وما كان مثله، والله أعلم. (الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، تفسير سورة عَبَسَ).

  1. قوله : عَبَسَ وَتَوَلَّى أي كلح وقطب وجهه، وتولى أي أعرض بوجهه. أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى يعني ابن أم مكتوب واسمه عمرو وقيل عبد الله بن شريح… وذلك أنه أتى النبي وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأُبَيّ بن خلف وأخاه أمية بن خلف، ويدعوهم إلى الله يرجو إسلامهم. فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، أقرِئْني وعلِّمني مما علَّمك الله، وجعل يناديه ويكرر النداء، وهو لا يدري أنه مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه الصبيان والعبيد والسفلة، فعبس في وجهه وأعرض عنه، وأقبل على القوم الذي كان يكلمهم. فأنزل الله هذه الآيات معاتبة لرسول الله . فكان رسول الله بعد ذلك يكرمه إذا رآه ويقول: مرحبا بمن عاتبني الله فيه، ويقول له: هل لك من حاجة. واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين. وكان من المهاجرين الأولين. وقيل قتل شهيدا بالقادسية…

عن عائشة رضي الله عنها قالت: “أُنزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله ، فجعل يقول: يا رسول الله، أَرْشدني، وعند رسول الله عظماء قريش من المشركين. فجعل رسول الله يعرض عنه، ويقبل على الآخرين، ويقول: أترى بما أقول بأسا؟ فيقول لا. ففي هذا نزلت” (أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. (تفسير الخازن، تحت سورة عَبَسَ)

  1. أتى رسول الله ابن أم مكتوم -وأم مكتوم أم أبيه واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهرة من بني عامر بن لؤي- وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم، فقال للنبي : أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك. فكره رسول الله قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت هذه الآية. وكان رسول الله يكرمه، ويقول إذا رآه: “مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي”، ويقول هل لك من حاجة، واستخلفه على المدينة مرتين. وفي الموضع سؤالان:
  2. أن ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر، فكيف عاتب الله رسوله على أن أدَّب ابن أم مكتوم وزجره؟ وإنما قلنا إنه كان يستحق التأديب لوجوه: (أحدها) أنه وإن كان لفقد بصره لا يرى القوم لكنه لصحة سمعه كان يسمع مخاطبة الرسول أولئك الكفار، وكان يسمع أصواتهم أيضا، وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمام النبي بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلام النبي وإلقاء غرض نفسه في البين قبل تمام غرض النبي إيذاءً للنبي عليه الصلاة والسلام، وذلك معصية عظيمة.

2.أن الأهم مقدم على المهم. وهو كان قد أسلم وتعلم ما كان يحتاج إليه من أمر الدين، أما أولئك الكفار فما كانوا قد أسلموا، وكان إسلامهم سببًا لإسلام جمع عظيم، فإلقاء ابن أم مكتوم ذلك الكلام في البين كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم، لغرض قليل وذلك محرم.

3.أنه تعالى قال:

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ،

فنهاهم عن مجرد النداء إلا في الوقت، فههنا هذا النداء الذي صار كالصارف للكفار عن قبول الإيمان وكالقاطع على الرسول أعظم مهماته، وأولى أن يكون ذنبًا ومعصية. فثبت بهذا أن الذي فعله ابن أم مكتوم كان ذنبًا ومعصية، وأن الذي فعله الرسول كان هو الواجب. وعند هذا يتوجه السؤال في أنه كيف عاتبه الله تعالى على ذلك الفعل؟

السؤال الثاني: أنه تعالى لما عاتبه على مجرد أنه عبس في وجهه، كان تعظيما من الله سبحانه لابن أم مكتوم، وإذا كان كذلك فكيف يليق بمثل هذا التعظيم أن يذكره باسم الأعمى مع أن ذكر الإنسان بهذا الوصف يقتضي تحقير شأنه جدًا؟

السؤال الثالث: الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام كان مأذونا في أن يعامل أصحابه على حسب ما يراه مصلحة، وأنه عليه الصلاة والسلام كثيرا ما كان يؤدب أصحابه ويزجرهم عن أشياء. وكيف لا يكون كذلك وهو إنما بعث ليؤدبهم وليعلمهم محاسن الآداب، وإذا كان كذلك كان ذلك التعبيس داخلا في إذن الله تعالى إياه في تأديب أصحابه. وإذا كان ذلك مأذونًا فيه. فكيف وقعت المعاتبة عليه؟

فهذا جملة ما يتعلق بهذا الموضوع من الإشكالات.

والجواب عن السؤال الأول من وجهين: الأول: أن الأمر وإن كان على ما ذكرتم إلا أن ظاهر الواقعة يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وانكسار قلوب الفقراء. فلهذا السبب حصلت المعاتبة، ونظيره قوله تعالى:

وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ .

والوجه الثاني: لعل هذا العتاب لم يقع على ما صدر من الرسول من الفعل الظهر، بل ما كان منه في قلبه، وهو أن قلبه كان قد مال إليهم بسبب قرابتهم وشرفهم وعلو منصبهم، وكان ينفر طبعه عن الأعمى بسبب عماه ودم قرابته وقلة شرفه، فلما وقع التعبيس والتولي لهذه الداعية وقعت المعاتبة، لا على التأديب بل على التأديب لأجل هذه الداعية.

والجواب عن السؤال الثاني أن ذكره بلفظ الأعمى ليس لتحقير شأنه، بل كأنه قيل إنه بسبب عماه استحق مزيد الرفق والرأفة، فكيف يليق بك يا محمد أن تخصه بالغلظة.

والجواب عن السؤال الثالث أنه كان مأذونًا في تأديب أصحابه، لكن ههنا لما أوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وكان ذلك مما يوهم ترجيح الدنيا على الدين، فلهذا السبب جاءت هذه المعاتبة.

أجمع المفسرون على أن الذي عبس وتولى، هو الرسول ، وأجمعوا على أن الأعمى هو ابن أم مكتوم. (التفسير الكبير للرازي، سورة عبس)

غرق فرعون

أما مسألة غرق فرعون فلم أقل أنه لم يغرق: أي لم يدركه الغرق. هذا خطأ. ورد في “لسان العرب” وفي غيره من القواميس أن الغرق يطلق على من رسب في الماء ولمـّا يمت. وهذا الاستعمال قليل ولكنه موجود. ثم إن الآية تتحدث عن الإعجاز. فلو أن أحدًا أدركه الغرق بحيث أوشك على الموت فالله يستطيع بقدرته أن ينجيه وينقذه في اللحظة الأخيرة قبل الموت. وهذا هو المشهد الذي أراه في غرق فرعون. وبالنسبة لمعنى “نجاته” فكلا المعنيان واردان. الأول: سوف ننقذ جثتك أي بدنك الميت، ولن ننقذ روحك لأنك لم تؤمن من قبل. والثاني: ننقذ بدنك “الحي”، ولكنك لن توفَّق للإيمان، ولن تنال روحك النجاة في الآخرة. واستعمال كلا المعنيين أقرب للعقل.

وقد أخذ سيدنا المهدي والمسيح الموعود بالمعنى المشهور، ذلك لأن الشواهد الأثرية لم تكن واضحة عندئذ بحيث يتبين للإنسان حقيقة الحادث. وتثبت الشواهد التاريخية الأثرية أنه في فترة ما قبل موسى بمائتي سنة وبعده بمائتي سنة ليس هناك فرعون قد مات غرقًا. لقد درست هذا التاريخ الأثري بدقة وإمعان، وقمت ببحث عميق. الزمن الذي هاجر فيه يوسف إلى مصر يسمى زمن الملوك.. هؤلاء الملوك الذين ربما جاءوا من ناحية بلاد الفرس – طردوا الفراعنة من حكم مصر لفترة من الزمن. ثم جاء الفراعنة مرة أخرى. يمكن أن تدرسوا بعمقٍ تاريخي الفراعنة فلن تجدوا لا في زمن موسى ولا بعده أحدًا من هؤلاء الفراعنة مات غرقًا. لن تجدوا مثل هذه الشهادة في الآثار، وإنما على العكس ستجدون شهادات على الموت العادي. وهذه الشهادات تكثر يوما فيومًا. كل الفراعنة الذين يحتمل أنهم عاصروا موسى جُثثهم المحنطة محفوظة إلى الآن، ولم يكن أحدهم قد مات غرقًا، بل إن جثة فرعون موسى رمسيس الثاني تدل على أنه مات في سن التسعين، وأن عمره عند هجرة موسى من مصر كان حوالي 60سنة.

إن الذين يعترضون على موقفي هذا لا ينظرون ولا يفهمون أنني اتخذته وفاءً للقرآن. ولسوف أكون وفيًا بالقرآن مهما خَطَّأني المتشبثون بالعلوم التقليدية. الناظرون بنظرة المشائخ الملات. من مقتضى الوفاء بالقرآن أننا إذا استطعنا أن نجد معنيين للكلمة فلنأخذ بالمعنى الذي تثبته وتؤكده الشهادات الأثرية التاريخية، ولا أرى في ترك معنًى للقرآن مؤيَّد بشهادة التاريخ شيئًا من العلم ولا أراه وفاء بالقرآن المجيد. صحيح أنني ذكرت للآية معنى لم يذكره أحد من قبلي، ولكنهم لم يذكروه لأن الشهادات الأثرية التاريخية لم تكن ميسَّرة لديهم كما لم تلتفت أذهانهم إليها حتى يجعلهم حبُّهم للقرآن يقومون بالمزيد من البحث ليأتوا بمعنى يمكن به التوفيق بين آية القرآن وشهادة التاريخ والواقع.

وأخيرًا فلو ثبت في المستقبل أن فرعونًا مات غرقًا فهذا لن يمس قداسة القرآن ولن ينال من صدقه، وإنما غاية ما يحدث هو أن موقفي سوف يُعَدُّ خطأ، وسوف أقبل وأعترف بخطئي، وسوف أكون وفيا للقرآن في كل حال. إن شاء الله تعالى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك