أيتها الفروع الخضراء من شجرة وجودي..

أيتها الفروع الخضراء من شجرة وجودي..

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (آل عمران: 104)

أخطبُ من “ننسبيت في هولندا” بمناسبة الاجتماع التاسع لمجلس شباب الأحمدية الذي يستمر لثلاثة أيام. ثم هناك اجتماع لشباب وأطفال الأحمدية بأوريا بالهند وينتهي بعد يومين. وسوف أقدم بعض النصائح بمناسبة هذين الاجتماعين.. وهي لا تتعلق بالشباب والصغار وحدهم وإنما هي للجميع كبارا وصغارا، رجالا ونساء. وهو نفس الموضوع الذي بدأته منذ فترة في سلسلة من الخطب.. تدور حول الاعتصام بحبل الله بكل قوة وجميعا.. أي لا يكون الاعتصام بهذا الحبل كأفراد وإنما كجماعة. والآية التي تلوتها عليكم تتناول هذا الموضوع، وقد تكلمت عن جانب منه، والآن أركز على جانب آخر.. ذلك هو أن الله تعالى أمر بالاعتصام بحبله جميعا. وهذا الأمر يردُّ على وساوس أولئك الذين يقولون: إننا مسلمون متمسكون بكتاب الله تعالى ونعمل بكل تعاليمه، وننتهي عن كل نواهيه، وننفذ كل أوامره.. فما حاجتنا للتمسك بأي جماعة والالتحاق بها؟

في عبارة واحدة ترد هذه الآية الكريمة على السؤال وتقول: لا يكفي التمسك بكتاب الله تعالى كأفراد واحدا واحدا، بل يجب التمسك به جميعا.. حتى يظهر توحيد الله تعالى في هذه الدنيا. فكما أنه تعالى واحد كذلك يكون المؤمنون به جماعة واحدة ويدا واحدة.

لقد بدأت ببيان هذا الموضوع على ضوء أحاديث النبي وسنته. لا يمكن للإنسان أن يفسر القرآن مباشرة إلا إذا أطلعه الله بنفسه على معاني تعاليم القرآن. والعمل بالقرآن يتم بالفهم الصادق له. وإذا لم يتوفر للمرء هذه المعرفة الصادقة لا يستطيع أن يعرف ماذا يعمل وعمَّ ينتهي. ثم هناك روح للقرآن لا ينالها الإنسان مباشرة، وإنما ينالها عن طريق المصطفى .. لأن روح النبي قد أُشربت روح القرآن، وأصبح القرآن ومحمد اسمين لشيء واحد. وعندما سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خُلق الرسول نطقت بعبارة وجيزة وأجملت سيرته كلها في قولها “كان خُلقه القرآن”. لم تقل كان خلقه في القرآن وإنما قالت “كان خلقه القرآن”، العبارة الأولى تعني أن نبحث عن خلقه في القرآن، والعبارة التي قالتها تعني أن المصطفى كان قرآنا متجسدًا.. كأنه هو نفسه القرآن، وهذا يدل على ضرورة النبي المعلم. ولا يمكن لأحد أن يدعي باستطاعته العمل بالقرآن من دون النبي.

الإنسان يتصل بالنبي بدافع الحب له، وبسبب هذا الحب قد يضحي الإنسان بنفسه. وبعض الناس يقتلون الآخرين من أجله. وبعض الناس يُبدون هذه الغيرة لفترة وجيزة، ولكنهم لا يستطيعون الاستمرار في هذا الحال كل الوقت. هناك طرق للاتصال بالنبي، وإذا لم ننشئ صلة بالنبي لا يمكن أن نفهم القرآن فهما صادقا، أو نحبه حبا حقيقيا.. لأن حب الله تعالى يتطلب خُلُق محمد . هذا الخلق يشعل النور في قلوبكم ويجعلكم نورانيين. وبدون هذا العشق يكون الحديث عن القرآن جافا لا صله له بالحقيقة. إننا إذا فصلنا محمدًا عن القرآن فلا نستطيع أن نحب القرآن ولا أن نحب النبي نفسه. إنهما شيء واحد، ولا يمكن أن ينفصلا في أي جانب ولا في أي وقت. فأسهل طريق لعامة الناس كي يعملوا بالقرآن هو أن يحبوا كل خلق للرسول . وإذا أحب الإنسان خُلُقا فإنه يتحلى به. وهناك القول بأن نكون مثل محمد صعب التحقيق، ولكن إذا تحلينا بخلق له فإننا ننشئ بهذا الخُلق صلةً معه . وهذه الصلات والعلاقات تزداد معه باتباع كل خُلق محمدي جديد.

عندما يحب الإنسان أحدا فإنه يتحلى بصفاته وأخلاقه، ويحاول أن يطبق سيرته ومنهجه في نفسه.. ولذلك نرى المتشابهين في الأخلاق يتقاربون ويتحدون: فالصادقون يتآلفون مع الصادقين، والكاذبون يتصلون مع الكاذبين. المحبون للإنسانية يتكاتفون مع من يحبون الإنسانية، والفنانون يطوفون بالفنانين.. وهذا مصداق القول المأثور: الطيور على أشكالها تقع. فالاتحاد مع الرسول ليس أمرًا وهميا، وإنما يعني ذلك أن تتحلى بخلقه فتقترب منه. وبسبب هذا الحب لا بد أن يحبنا المصطفى ، ولسوف ينعكس هذا الحب علينا من الله جل علاه. فالحب المتبادل بين الأرواح يتجلى من الله تعالى، وهكذا تقوى وتتوطد صلتنا بالرسول . هذا هو معنى “واعتصموا بحبل الله جميعا”.. وبدون فهم هذه الحقيقة لا نعرف كيف نتمسك ونعتصم بحبل الله.. وإلا فإن هناك كثيرا ممن يقولون: يكفينا أن نتمسك بالقرآن ولا حاجة لنا في شيء بعد ذلك.

عندما كنت في جولتي بألمانيا كان هناك كثير من الأئمة البوسنة الذين يحبون الأحمدية والأحمديين.. وكان يوسوس لهم المعارضون للأحمدية، وقالوا لهم إن الاعتصام بحبل الله القرآن يكفينا.. فلا حاجة لكم لأن تنضموا لأي جماعة. انظروا إلى هؤلاء الأعداء.. كيف أنهم يستخدمون هذه الآية بعكس الهدف منها، ويفرقون بها الناس بدلا من أن يوحِّدوهم! وعندما أجبت على تساؤلات السائلين تأثروا كثيرا بلا استثناء.. لأن قول الله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعا” يتطلب مركزية. فالاتحاد والجماعة لا يمكن أن تعني التمسك بالقرآن فرادى.. فهذا معناه تفريق الأمة. وإنما المراد أن تكون عندك يدٌ واحدة تجمعنا. إنها يد الرسول ، والقرآن المجيد يجمعنا على هذه اليد. هذه هي الجمعية والوحدة التي يدعونا إليها القرآن في هذه الآية. يقول الله تعالى تمسكوا بحبل الله.. ولكن افعلوا ذلك جميعا.. وأنتم جماعة. وأريد أن أوضح لكم كيف يكون الاستمساك بحبل الله.. وهذا ما أنا بصدده الآن. وأقول لكم أن الاستمساك به يعني أن تنشئوا صِلاتكم مع الرسول ، فالصلة الواحدة لا تكفي. هناك صلة تتم بالإيمان، ولكن هناك صلات أخرى تأتي بعدها. كان الرسول أصدق الصادقين، وإذا كنا نحب هذا الإنسان الصادق ونحن مع ذلك نكذب.. كان حبنا له زعما باطلا، ولا يمكن أن نحصل على السكينة والطمأنينة بالكذب. مثل هؤلاء الناس لا يجدون توفيقا من الله تعالى ليكونوا من أتباع الرسول ومعه. المـَعِية لرسول الله لا تختص بالزمان أو المكان.. وإنما في كل زمان وفي كل مكان كان هناك أناس مع الرسول ، وهذا ممكن لمن تحلّوا بأخلاقه.

إذا رأينا أن المصطفى كان رفيقا بالصغار ويحترم الكبار وكان يتواضع في كل المواقف أشد التواضع، وإذا عرفنا أن هذه الأخلاق حِليته وزينته.. ومع ذلك تحاشيناها في سلوكنا.. كان ظنُّنا أننا على صلة بالرسول وهمًا وخيالا. الهتاف باسم المصطفى لا يقربنا منه إلا إذا كنا متحلِّين بأخلاقه. والتكبير والتهليل لا يقربنا إلى الله جل علاه إلا بالعمل الذي يرضيه. عندما تتجلى صفات الله تعالى في الناس فإنهم عندئذ يقتربون منه. ولقد تجلت هذه الصفات في الرسول أكثر من أي إنسان آخر. وعلينا أن نتحرى هذه الصفات ونحبها.. ليس حبًّا سطحيا.. وإنما حبًا عمليا. نحبها فلا نطمئن إلا إذا طبقنا هذه الصفات في أنفسنا. وإذا فعلنا ذلك ازددنا صلة بالرسول . ومن تكون له بالمصطفى صلة قائمة على التخلق بأخلاقه.. لا يمكن أن يبتعد عن أخيه، لأن أخلاق الرسول تقرب ما بين أولئك المتصلين به عن طريق أخلاقه وتؤاخي بينهم. هذه الأخوة هي التي يدعوكم إليها القرآن الكريم مرارا وتكرارا. ولن تنالوا هذه الأخوة إلا بتطبيق أخلاق المصطفى. ولذلك يؤكد القرآن والحديث على حب المصطفى ، وبعد ذلك يعلمنا القرآن والحديث أن نتحابَّ فيما بيننا. هذه الأمور ليست منفصلة عن بعضها البعض، وإنما هي ذات صلة وثيقة. وإذا تعمقتم فيها ظهرت أمامكم واجبات أخرى. ومثل ذلك كمثل شجرة أصلها في الأرض، وتخرج منها فروع كثيرة.. وهي وإن كانت مختلفة إلا أنها متصلة بالشجرة. هكذا تنبت شجرة أمة المصطفى وهكذا ترتفع الأمة وتزدهر وتثمر، وتصبح هذه الفروع من شجرة واحدة. وإلى هذا أشار سيدنا الإمام المهدي في قوله واعظا جماعته: “يا أيتها الفروع الخضراء من شجرة وجودي، إنني تلك الشجرة التي ارتوت بعشق المصطفى فازدهرت”.

يا أيها الناس اللذين ينتمون إليّ أنتم فروعٌ خضراء لشجرة وجودي، ولا تنتمي الفروع إلى بعضها البعض إلا إذا ظلت متصلة بالشجرة وجذعها. هذا هو مثل الأنبياء وأتباعهم. إنهم يجمعن أتباعهم بأنفسهم ثم يصِلون ما بينهم. لقد أنبأ الرسول عن إمام، وكان على هذا الإمام أن يجمع الناس المشتتين المتفرقين ويصلهم بالوجود المحمدي على يد واحدة.. حتى تعود تلك الوحدة الإسلامية التي كانت في أيام الإسلام الأولى.

لقد ذكرت هذا الموضوع مع ذكر الخُلق الحسن، ولو لم أربط بينهما لتمتعتم به ولكن لم تفهموه. أريد أن أشرح لكم هذا الموضوع وأبيّن أنه يتعلق بالأخلاق. وبدون الأخلاق لا يمكن أن تكون للإنسان صلة بالرسول ، ولا تكون له صلة جيدة مع إخوانه. وهناك اليوم حاجة لهذا أكثر من أي وقت مضى.. لأن جماعتنا تزدهر اليوم بسرعة كبيرة حيّرت الأعداء، ويحترقون في نار الحسد، ويكيدون دون أن ينجحوا في عمل شيء. هناك مؤامرات على صعيد الحكومات، وتصلنا هذه التقارير عن المؤامرات. إنهم يتلظون حسدا ويريدون لدغ جماعتنا، ويحاولون بث الفرقة في وحدتنا ولو بتحريف معاني آيات القرآن الكريم. ليست هناك آية في القرآن توافقهم على بث الفرقة إلا إذا حرفوها. الشيطان هو الذي يفرّق.. أما القرآن فيلُم الشمل. إن محاولتهم التشتيت ينطبق عليها القول الإنجليزي المعروف بأن الشيطان أحيانا يفسد في الأرض بذكر آيات من الكتب المقدسة. ومعنى ذلك أنه يستنتج من هذه الآيات استنتاجا شيطانيا. أما الصالحون فيفهمونها فهما صالحا. ويجب أن تعرفوا بأن الشجرة تعرف بأثمارها، ولذلك يجب أن تقبلوا دائما المعنى الذي يقربكم إلى الرسول ، ويوحِّد بينكم، ويفرض عليكم الاعتصام بما يرضي المصطفى .. لأن هذا هو الاعتصام الحقيقي بحبل الله.

يجب أن تفهموا أن الله تعالى واحد، وهذا يقتضي أن يكون عباده متوحدين. وهذا هو المعنى الإلهي الرحماني.. ولا علاقة له بالشيطان. وهذه عملية صعبة تتطلب جهودا كبيرة متواصلة. هذه الأمور لا تتم بمجرد فهم المعنى دون العمل. وأن تفكروا في كل خلق محمدي، وفي كل نصيحة مصطفوية، وتروا كيف تعملون بهذه النصائح وتتبعون تلك الأخلاق. وكل خطوة في هذا السبيل، وكل نصيحة تعملون بها تصل بينكم وبين المصطفى . إذا وجدتم أنه ثمة نصيحة له لم تعملوا بها بعد.. فذلك يعني أن هناك فراغا في هذا الجانب يجب أن تسدوه فورا بالعمل.

يوجد للعين البشرية عدسة في الخارج، وفي الداخل شبكية حساسة تتكون عليها صورة المرئيات وتوصلها إلى مركز البصر في المخ. وإذا تعرضت العين كثيرا للإشعاعات الضوئية الشديدة كالمعادن المنصهرة المتوهجة، وأشعة اللحام الكهربي، وأشعة قرص الشمس المباشرة -ولم تكن هناك الوقاية المناسبة- ضعُف الارتباط بين الشبكية والدار الباطني وانفصلت عنه، وتكون النتيجة هي الإصابة بالعمى. هذا الانفصال الشبكي والعمى يصيب من يعرض بصره للأشعة الضارة.. وكذلك النفس.. فإذا لم تراقبوا وتتجنبوا تلك الأماكن العارية عن الأخلاق المحمدية تعرضتم للخطر. في هذه الأماكن لا يكون لكم اتصال بالمصطفى .. ومن ثَم لا يكونون في مأمن.

هناك طريقان للسلوك.. فإما أن يزداد هذا الاتصال أو ينقص. فإذا لم تراقبوا أخلاقكم لا بد أن تضعف أواصر صلتكم بالمصطفى التي تظنون أنها قوية. ولا بد في النهاية أن تبتعدوا عن المصطفى لذلك يجب أن تتأكدوا من كل خطورة تسيرونها أنكم تتجهون إلى الرسول وإلى أخلاقه. وإذا كنتم ضعفاء وكانت سرعة خطوكم أيضا ضعيفة وبطيئة، إذا كنتم مرضى فيجب أن تجرُّوا أنفسكم إلى الصطفى . وإذا كنتم لا تستطيعون أن تقطعوا هذه المسافة بالأمتار فيجب أن تواصلوا وتتحركوا وتدأبوا على هذه الحركة.. فما دمتم في الحركة فلا خطر عليكم، ولن يعوق هذا الضعف سفركم. وقد شرح الرسول هذا المعنى في حديث له قال:

“كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَة؟ٍ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَال:َ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ” (صحيح مسلم، كتاب التوبة). ورُوي أن الله تعالى قصَّر هذه المسافة.

وهذا القول من الرسول مثال توضيحي، يبين أن من يريد التوبة فعليه أن يهجر الأفعال السيئة، ويترك أهل الفساد، ويتجه إلى أهل الخير. وبالطبع لم تقم الملائكة بقياس المسافة ولم تختصم.. وإنما يوضح الرسول بلسان الحال كيف أن من يتجه إلى الله تعالى يُعتبر عنده من الناجين المقبولين ما دام قد وافاه أجله وهو يسير في هذا الطريق ووجهه إلى الله تعالى. لو تركنا السيئات واتجهنا إلى الحسنات، واقتربنا من أخلاق محمد .. فإذا فاجأنا الموت ونحن في هذا السبيل، وإن كنا قد قطعنا مسافة قصيرة.. فإن الله تعالى يبارك سفرنا ويغفر لنا ما فرط منا قبل التوبة.. لأننا إذا سرنا في هذا السبيل وواصلنا السفر ولم نلق الموت فلا بد أن نصل إلى بلدة الخير والصلاح.. وهذا هو فضل الله تعالى. وبهذا الفضل الإلهي نحصل على مغفرة الله. والله تعالى يعطي فضله لسبب، ويغفر لحكمة. وأعمال الله تعالى دائما عادلة حكيمة. ومن عدل الله تعالى أنه يرى هذا العبد قد بدأ سفره بنية صالحة، ونيته هذه تستحق التقدير.. لأنه لو استمر في الحياة لوصل إلى بلد الخير. هذا هو الموضوع الذي يعلمنا إياه المصطفى في هذا الحديث.. فضعوه في اعتباركم ونُصب عيونكم، وتبدأوا سفركم في هذا الاتجاه لإصلاح الأخلاق، وتهاجروا إلى أخلاق المصطفى وكلما اقتربتم من المصطفى كلما تقاربتم فيما بينكم.. لأن المصطفى كان يحب أمته أكثر من أي أحد، وذكل القرآن عنه أنه (بالمؤمنين رؤوف رحيم).. كان (رحمة للعالمين)، كان يحب الإنسانية جمعاء، ولكنه كان بالنسبة للمؤمنين شديد الرأفة غزير الرحمة كما قال القرآن.. حتى إن الله تعالى نسب إليه صفاته.. كأنه كان يرأف ويرحم المؤمنين كما يفعل الله تعالى.

ومن اقترب من المصطفى لا بد أن يكون قريبا من أمته ورفيقا بها. فالذين يُوصَلون بالمصطفى ويقتربون من أخلاقه لا بد أن يقتربوا من إخوانهم ويتحدون معهم في حبل الله. فعليكم أن تأخذوا هذه النصائح النبوية بكل الاحترام والاهتمام، وتروا كل نصح للمصطفى يوصلكم بهذا الحبل ويوحدكم معه. وإذا تمسكتم بهذا الحبل ازداد اقترابكم من رسول الله، وإذا لم تهتموا ولم تبالوا بنصائحه فلا بد وأن تُقطعوا منه. أدعو الله تعالى أن يقربنا كل لحظة من المصطفى، وإذا اقتربنا منه فلا بد أن نتحد وتقترب فيما بيننا، ولا بد أن تتم تلك الوحدة التي توحد كل العالم وكل الأمة، ومن ثَم تنتشرون بدون أي خطر، ولا يتعرض البوسنة أو البنغال أو الأفارقة إلى خطر ثم نتساءل كيف نوحدهم. نوحدهم بهذه الوصفة التي وصفتها لكم.. وتتحدون اتحاد عجيبا. والأخلاق هي التي توحدكم، وهي التي توحد الأمم. إذا لم تكن الأخلاق لا تكون الأمم ولا يكون الاتحاد. يجب أن تهتموا بالأخلاق وتولوه الأهمية الكبرى، وتتعلموا هذه الأخلاق من المصطفى حتى يكتمل عملكم الديني.. وكلما ازددتم حبا للرسول ازددتم حبا وقربا من اخوانكم.

وهناك منفعة أخرى في ذلك: إذا تعلمنا الأخلاق من المصطفى فهي مقبولة عند الله تبارك وتعالى، وتصلي ملائكة الله على أهل هذه الأخلاق، وتدعو لهم بالرحمة من السماء. فهذه صفات أخلاقية يجب أن تربحوها. هناك أناس يتصفون بخلق يبدو حسنًا بسبب ضعف في الشخصية، وأناس ذوي أخلاق سيئة بسبب الطبع.. فلا أهمية لحسن أخلاقهم أو سوئها. وإنما هي أمراض وضعف نفساني. فمثلا، بعض الناس لا ينتقمون ويقولون نغفر لمن أساء إلينا.. ولكن ذلك في الواقع جبن وخور. وهكذا كان حال بني إسرائيل مع فرعون. كانوا يخافون ويغفرون لإساءات قومه إليهم. ولما جاء موساهم علّمهم الانتقام ليزيل منهم هذا الجبن. وعندما تشددوا وقست قلوبهم ونسوا المغفرة جاءهم المسيح ابن مريم وحضهم على العفو وقال لهم من ضربك على خدك فأدر له الخد الآخر. هذا كان علاجا لأمراض عارضة. ولكن هناك من الضعف النفسي ما يتحول إلى سوء الخلق، وإذا استمر هذا المرض يؤدي إلى الفساد. ولكن إذا تعلمتم الأخلاق من المصطفى فلن تقعوا في الإفراط ولا التفريط، لأن نوره لم يكن شرقيا ولا غربيا، وإنما كان نوره وسطيا. لن تجدوا فيه أي عوج أو ميل في وجوده أو نفسه. كانت أمته أمة وسطا، وهُدِيَ إلى الصراط المستقيم. فالأخلاق التي تؤسسونها وتشدونها على ضوء أخلاق المصطفى فلا بد أن يكون فيها العفو وفيها الانتقام.. ولكن يكون العفو في محله والانتقام في موضعه، ولن يكون العفو ضعفا ولا الانتقام سوء خلق. الواقع أن العفو إذا تجاوز الحد أدى إلى الفساد، وإن بدا في ظاهره خيرًا فهو في الحقيقة شر.

لن يتأتى لنا التعريف بالمصطفى إلا إذا تعلمنا الأخلاق منه.. فهو الإنسان والأخلاق المتوازنة.. هو صاحب الطريق الوسط المستقيم. إذا اتبعتم سبيله وخلقه، فلن تميلوا إلى شرق أو غرب، وتكون العلاقات التي تنشئونها فيما بينكم بناء على هذه الأخلاق مؤدية إلى اجتماع الناس يدا واحدة.

أقدم لكم هذا الموضوع على ضوء الأحاديث النبوية، عن أبي هريرة أن رسول الله قال:

“الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِه”.

عنا ذكر النبي ثلاثة أو أربعة أمور: أولها أن المؤمن يرى صورة نفسه في مرآة المؤمن الآخر.. وقد أوضحت لكم موضوع المرآة كثيرا، وبينت أن المرآة تكشف للناظر فيها محاسنه وعيوبه أيضا. والمرآة الصادقة لا تكذب في الصورة التي تقدمها. هناك بعض المرايا تشوه أجزاء الصورة بسبب عيوب في صناعتها، ولكن المؤمن يكون مرآة صافية صادقة للمؤمن الآخر، ويكشف له العيوب والحسنات دون تشويه أو مبالغة. الذي يبحثون عن الأخطاء يذكرون العيوب وحدها، والذين يبحثون عن الحسنات لا يهتمون بالخطايا ويركزون على ذكر المحاسن. والمرآة الصادقة غير ذلك.. لأنها تبدي الحسنات كما هي والعيوب كما هي.. لذلك أنتم لا تكرهون المرايا الجيدة الصافية الصادقة، وتقبلون ما تقدمه لكم من صور، وتصلحون عيوبكم على ضوء ما ترونه فيها. والمرآة لا تكشف العيوب بصوت عالٍ، وإنما تبدي لكم عيوبكم وحسناتكم في صمت. وإذا استخدمها شخص ثانٍ فإنها تؤدي له نفس الوظيفة.

إن الموضوع عميق، وإذا تدبرتم فيه وجدتم كثيرا من المعاني العميقة الدقيقة، وأختصرها لكم فأقول: يجب أن يكون كل منكم لإخوانه كالمرآة. إذا وجدتم في أخ لكم عيبا دلُّوه على عيبه في صمت وخفاء حتى لا يغضب، بل يشكركم، ويجب أن تنسوا خطأه بعدها. ويجب ألا تذكروا عيوب أخيكم لغيره. ثم يجب أن تدلوا إخوانكم على حسناتهم. الذي يذكر عيوب الناس فقط يضرهم، ولكن الذي يذكر العيوب والحسنات لا يُغضب الناس. لذلك يقبل الأبناء نصائح الأمهات لأنهم يعرفون أن الأم تمدحهم أيضا وتصف حسناتهم.. ويتحملون نقد الأم ونصحها ولا يغضبون. إذا تعلم الناصح أخلاق النصح من المصطفى فلا بد أن تغلب عليه الرحمة، ويرى السامع له رحمته في نصحه فلا يغضب من كلامه. كونوا مرآة كمرآة الرسول الذي كان إذا وعظ ونصح في الملأ لم يذكر اسم المخطئ، ولكن أصحاب هذه العيوب كانوا يعرفون أنفسهم ويصلحون عيوبهم. ولم يكن لازما أن يذهب الرسول إلى كل فرد ليحدثه عن عيوبه، بل كان يوجه النصائح للجميع وبصورة عامة، وكان كل امرئ يعرف أنه يتكلم عنه، ويعرف أنه يستر عيوبه.. ولذلك كان يهتم بإصلاح نفسه.

يقول النبي : المؤمن مرآة المؤمن. ليس معناها أن المؤمن يرى صورة نفسه في أخيه، فهذا تحديد للمعنى لا مبرر له؛ ولكن المعنى الصحيح أن المؤمن يرى نفسه في مرآة أخيه.. أي أن المؤمن يقوم بدور المرآة لأخيه المؤمن فيقدم له صورته كما هي. والحديث يؤكد على أن المؤمن يبحث عن عيوب نفسه دائما ليصلحها فيذهب إلى أخيه ويسأله: هل رأيتَ فيّ شيئا معيبا؟ هل ارتكبتُ عملا غير صالح؟ هكذا يبحث المؤمن عن عيوبه. وكان النبي يتحرى ذلك ويتجنب جرح الآخرين.

ثم يقول والمؤمن أخو المؤمن، يكفُّ عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه. هناك أسباب كثيرة لفساد دنيا اليوم، ومن أهمها أن الناس ينظرون بالطمع إلى أموال الآخرين، ويأكلون أموالهم ظلما، بل ويتآمرون على أكلها.. ولا يمتنعون عن سلبها منهم إلا إذا كان هناك من يراهم ويراقب أعمالهم. وإذا وجدوا غفلة لم يتورعوا عن أكل الأموال وسلبها. وقد وضح القرآن هذا الموضوع في قوله:

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ،

فالصلحاء في كل أمة إن تأمن أحدهم على أموال كثيرة يردها لك، ولكن من الأشقياء من إذا ائتمنته خانك ولو في مقدار قليل.

يقول الرسول المؤمن يكون أمينا مع أخيه في غيبته، ويحفظ له أشياءه. هكذا يجب أن تكونوا وتعلموه لأولادكم. أخبروهم أن سيئي الخلق أيضا يردون الأمانات ما دام أصحابها متمكنين منها، ولكنهم إذا وجدوا غفلة أو ضَعفًا أكلوا أموال الناس وخانوا الأمانات. ولكن الرسول يطالبنا ألا نكون أمناء في حضور الناس فقط، بل يجب أن نحافظ على أموال إخواننا في غيابهم، ونكون لهم أيدٍ وعيونا لحفظ أموالهم.. سواء طلبوا منا ذلك أم لا. يجب أن نهتم بالمحافظة على أموال إخواننا في كل حال. هذا خلق سامٍ نتعلمه من الرسول .. يزيل كلَّ فساد في معاملاتنا. إن الذي يحافظ على مال أخيه في غيبته.. كيف يمكن أن يفكر في سلب ماله أو خيانته.. فيشاركه في التجارة أو العمل ويأخذ الربح ويتهرب من الخسارة ويلقيها على أخيه؟ يجب أن تصقلوا معاملاتكم وتطهروها.. فلا يكون أحد أكثر أمانة منكم ولا أصدق تعاملا من الأحمديين. إن علاقاتكم واتصالاتكم تتسع وتدخل فيكم شعوب كثيرة، منهم الفقراء ومنهم الأثرياء، ومنهم من سيشاركونكم في الأعمال والتجارة.. وسيكون لهذا الخلق الحسن دور بارز في إصلاح أموالكم وأعمالكم. وإذا ضعف فيكم هذا الخلق كانت هناك الخسارة ونفور الناس منكم. فيجب أن تؤدوا هذه الحق فيما بينكم. يجب أن تكونوا أمناء مع إخوانكم في شدتهم. يموت الآباء فترفع القضايا رأسها وتستمر لسنين طويلة. لقد قضيت أخيرا في بعض هذه المسائل وأنذرت أصحابها بإنهاء النزاعات وإلا أخرجوا من هذه الجماعة. والحمد لله، لقد وهب الله جماعتنا حب الخلافة بحيث أني عندما هددت هؤلاء توقفت شجاراتهم وبوركت أموالهم وأعمالهم. هناك كثير من الجماعات في الهند مثلا.. كانوا لا يرون وجوه إخوانهم لسنين بسبب هذه الخصومات حول الحقوق والميراث. والحمد لله أنهم أصلحوا أمورهم ومن حولهم، وحصل انقلاب كبير في معاملاتهم. فالاتحاد يجذب الآخرين، والأخلاق السيئة تعوق مسيرة الدعوة وتطرد الآخرين. إن الأمانة في المعاملات تؤدي إلى جمع الشمل ولَمِّ الشتات. وكثير من الناس يهضمون حقوق غيرهم، داخل الأسر وخارجها. وهكذا إذا تفرقت الأسر فكيف تتحد الجماعة؟ يجب أن تفكروا في نصائح الرسول وتعطوها منزلة محبوبة في قلوبكم حتى لا تتركوا أخلاقه ومواعظه أبدا. إن أعظم مرآة لنا هي المصطفى . يجب أن تروا وجوهكم في وجه الرسول حتى تعرفوا من أنتم. كل هذا الجماعة والأخلاق الحسنة تجدونها في مرآة الرسول . إذا كان فيكم عيب ما فإن مرآة محمد سوف تكشفه لكم.. ولكن برحمة وشفقة. لسوف يخبركم عن خلاله ومحاسنه، ويقول: إذا أردتم أن تتبعوني فافعلوا كذا وكذا. هكذا يعلمنا الرسول أن نحافظ على أموال إخواننا في غيابهم وليس لهم أحد يحافظ عليها.

ثم إن الرسول يضرب هذا المثل على صورة قصة -رواها البخاري عن عبد الله بن عمر – فقال:

“انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ فَقَالُوا إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ (لا أقدم شرب المساء) قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْآخَرُ اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنْ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ فَتَحَرَّجْتُ مِنْ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا قَالَ النَّبِيُّ : وَقَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الْأَمْوَالُ فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي فَقُلْتُ لَهُ كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَسْتَهْزِئُ بِي فَقُلْتُ إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَانْفَرَجَتْ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ” (صحيح البخاري، كتاب الإجارة)

هذا مثال يعلم الله تعالى متى حدث ذلك، ولكن يمكن أن نقع في محن مشابهة وعندئذ تنفع الإنسان حسناته، بل وتنفع إخوانه الآخرين.. وعندئذ تصدق نصيحة رسول الله هذه.. من أن المسلم مرآة المسلم ويحافظ على أموال أخيه في غيابه. فانظروا إلى المثل الذي ضربه الرسول في هذا الحادث، وكيف أن أنفعهم كان خيرهم. ترون في نصائح الرسول بحرًا من الخير والحكمة.. فاسمعوها ورسِّخوها في قلوبكم، وعندئذ ستعرفون أنه ما من حسنة إلا وتنفعكم وتثمر لكم. وبهذه الحسنات سوف يبارك الله تعالى أموالكم وأنفسكم، بل وتفيض هذه البركات على من حولكم. فالذين يخونون في معاملاتكهم ويهضمون حقوق الآخرين، والذين يشاركون في الربح ويتهربون من الخسارة ويلحقون الضرر بشركائهم ويخدعونهم ويخذلونهم.. مثل هؤلاء لا علاقة لهم بجماعة المؤمنين. إنهم يتوهمون أنهم خُدام المصطفى .. وهم في الحقيقة قد قطعوا صلتهم به. ومن قطع صلته بالرسول فلا علاقة له بالمؤمنين، ولا بد أن يقطعوا من جماعة المؤمنين.

يقول سيدنا المهدي: أيتها الفروع الخضراء من شجرة وجودي.. قد أصبح البعض فروعًا جافة.. وهم متصلون بشجرة وجودي ولكنهم في الحقيقة لا علاقة لهم بوجودي. لأن من له علاقة صادقة لا بد أن يكون فرعا أخضر. لا يمكن أن تكونوا محبين صادقين للمصطفى ثم تَجِفُّون.

اليوم قدّر الله تعالى أن يُحييَ أخلاق المصطفى مرة أخرى.. ولذلك فطر الإمام المهدي على أخلاق المصطفى .. حتى إن الإمام المهدي استخدم نفس الأمثال التي استخدمها الرسول .. وقال لهذه الفروع الجافة أنكم لن تستمروا في شجرة وجودي لأن البستاني يقطع دائما الفروع الجافة التي تستنزف عصير الحياة ولا تنفع غيرها. فتسلب حقوق الفروع الأخرى الخضراء. يقول الإمام المهدي إن هذا البستان موجود ورقيب ويرى كل هذه الفروع. ولا يحب أن تبقى هذه الفروع الجافة متصلة بشجرة وجودي، ولا بد أن تقطع هذه الفروع. والفروع التي تقطع لا بد أن تحرق وتصبح حطبا لجهنم.

فيجب أن تصلحوا علاقاتكم مع بعضكم البعض على ضوء أخلاق المصطفى ..وإذا صلحت أخلاقكم وعلاقاتكم أوصلتكم بالمصطفى وبإخوانكم وعندئذ تتحقق تلك الوحدة التي تحدث عنها القرآن في قوله تعالى:

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ،

وفقنا الله تعالى لتحقيق هذه الوحدة التي بدونها لا يمكن أن نحدث أي انقلاب في العالم. الحمد لله أنني أرى هذه الوحدة تتحقق وأرى آثارا لهذه الوحدة في ألمانيا. إن الله قد وفق جماعة ألمانيا لهذه الوحدة وإن جماعتنا تنتشر في كل شعب وتنشئ صلتها بكل شعب. ورأيت عشاقا كثيرين من شعوب أخرى. لقد تعجبت من حبهم ونظرات الود في عيونهم التي لم أكن أرى فيها ذلك من قبل.. اليوم وجدتها مستعدة للفداء. عندما كنت أقدم نصحي في أحد المجالس جاء إمام من المعارضين يقول نفس الاعتراضات التي يثيرها نفس المشائخ. وكان واضحا أنه حفظ الدرس منهم. وعندما طرح هذه الأسئلة ثار أحد الأحمديين من مقدونيا غيرة ونهض ليرد على اعتراضه. وكنت أهدئه وأرد على الاعتراضات بهدوء. هؤلاء العشاق الذين تجدون ذكرهم بين عشاق وخدام المصطفى والأنبياء السابقين.. إن لم يأت الإمام المهدي ما استطعنا أن نشهد مرة أخرى تلك الأحداث التي جرت من الصحابة وأتباع المصطفى فيجب أن تحافظوا على هذه الأخلاق إنها هي التي سوف تحدث انقلابا عظيما في حياة الناس وقلوبهم. وفقنا الله تعالى لذلك! آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك