موجز لخُطب الجمعة  التي ألقاها سيدنا أمير المؤمنين مرزا طاهر احمد رحمه الله تعالى

موجز لخُطب الجمعة  التي ألقاها سيدنا أمير المؤمنين مرزا طاهر احمد رحمه الله تعالى

حضرة مرزا غلام أحمد القادياني عليه السلام

حضرة مرزا غلام أحمد القادياني عليه السلام

المسيح الموعود والإمام المهدي (عليه السلام)

موجز لخُطب الجمعة

 التي ألقاها سيدنا أمير المؤمنين مرزا طاهر احمد،

الإمام الحالي للجماعة الإسلامية الأحمدية

حارِبوا العنصرية بالأخلاق الحسنة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (الحجرات: 12-13)

ذكر أمير المؤمنين أنَّ هناك اجتماعات كثيرة تُعقد في هذا الأسبوع في مختلف فروع العالم منها مجلس الشورى لجماعتنا بألمانيا، ثم قال:

بمناسبة مجلس الشورى في ألمانيا سوف أُقدِّم لهم نُصحي خلال الخطبة، ذلك لأنَّ أمير ألمانيا أخبرني أنَّ الجماعة تنمو وتزدهر بسرعة، وهناك مسائل ومجالات كثيرة للتربية.. وقد قلتُ أشياء عن مجلس الشورى وألقيت الضوء على نواحي الشورى في الخطبة قبل الماضية، وهذه نصائح للجميع، ولا حاجة لإعادتها، ولكن هناك مسائل في ألمانيا سوف أتحدَّث عنها. إنَّ جماعة ألمانيا في أوروبا، وتنتشر دعوتنا بها في شعوبٍ كثيرة، لأنَّ الآلاف من الأوربيين يدخلون في الجماعة بألمانيا. ثم هناك أفارقة وعرب وبنغاليون وغيرهم دخلوا في الجماعة ويدخلون كل سنة بعدد لا بأس به ويزداد ميلهم إلى الجماعة. واجتماع هذه الشعوب المتعددة يترتب عليه مسائل ولا بد أن أضع حلها أمامكم. ولذلك قرأت عليكم الآيات القرآنية من سورة الحجرات.

وبهذه المناسبة أنصح أن يُشرِكوا في مجلس الشورى ممثلي هذه الشعوب وأن يوسِّعوا مجلسهم حتى يستفيدوا من التربية ويتعلَّموا أساليب الشورى في الإسلام: كيف تُقدَّم المشورة، وما الشروط والآداب التي يتمسَّك بها المشير، وكيف تُقبل المشورة.

يقول الله تعالى في هذه الآية: لا يصحُّ أن يسخر قومٌ من قومٍ غيرهم لأنه من الممكن أن يكون هؤلاء أفضل من أولئك الساخرين. فقوله عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ يعني أنه ليس من المستبعد أن يكونوا خيرًا منهم، لأنّهم على الأقل لا ينظرون إلى الساخرين بمنظار العنصرية والاحتقار. ويعني أيضًا أنَّ هؤلاء الذين ترونهم أدنى منكم اليوم ربما يكونون خيرًا منكم بالأمس.. لأنَّ الدنيا لا تبقى على حالٍ واحد دائمًا.. فلا تحتقروا الآخرين على ظنِّ أفضليتكم عليهم.

إنَّ فكرة التفوُّق في الأمم الغربيّة بسيطة ولكنها شديدة. فهم يرون أنَّ الأبيض أفضل من الأسود، أو أنَّ الألماني مثلاً أفضل من غيره. وللأسف أنَّ في بلدنا باكستان أيضًا تمييزًا شديدًا بين الشعوب والأُسَر. وقد تركتْ هذه الأمور انطباعًا سيئًا في الهند عندما كانت هناك حركة تأسيس باكستان. كان المسلمون الباكستانيون يسخرون من الهندوس أنَهم لا يعرفون القتال، ثم هُزِموا على أيديهم فيما بعد هزيمةً نكراء يخجل لها كل مسلم. وحدث نفس الحال في بنغلاديش عندما هزمت الجنود الهندوس قوات باكستان التي لم تكن لها شعبية في بنغلاديش. وقد نالت هذه القوات هزيمة شديدة على أيدي البنغال والهندوس حتى طردوهم. وصار اسم باكستان وصمة عندهم، ولم يكن هناك من يؤيدون باكستان بل كَرهِهم البنغال.. ذلك لأنّ الكراهية تولّد الكراهية. والأمة التي تتعرَّض للسخرية تتفوَّق في وقتٍ ما. وتتولَّد الكراهية في قلوبهم. فسواء كان التفاخر بين الشعوب أو الأُسَر فإنَّ عاقبته مؤذية.

السخرية على زعم التفوُّق أمرٌ باطل. وقد بدأت هذه الأفكار ترفع رأسها في أوروبا، وأخذت العنصرية تشتدُّ مرةً أخرى. وعلى المسلمين الأحمديين في ألمانيا أن يُجاهدوا ضدَّ هذه العنصرية جهادًا كبيرًا.. الجهاد الذي سلاحه الأخلاق السامية العالية. بسيف مكارم الأخلاق سوف تفتحون القلوب. أما إذا تصدَّيتم للعنصرية بالسلاح الماديَ فسوف تتضرَّرون.. لأنّها بذلك تشتد.

إنَّ العنصرية تتعلَّق بالتفوُّق. عندما يشعر العنصريون أنَّ في يدهم الغلبة ويستطيعون القضاء على الأقليّة.. ثم يشهدون أنَّ الأقليّة حازت شيئًا من الانتصار فإنَّ العنصرية ترفع رأسها بقوة حتى تصير حربًا تُغطّي المنطقة كلها. فلا تَدَعوها ترفع رأسها لأنّها مرصد مُهلكٌ مُدمِّر، وعائقٌ شيطاني ضدّ تقدُّم الإسلام. في جوّ العنصرية لا تستطيع الأخلاق السامية أن تزدهر وإنّما يفسح المجال لأشياء أخرى، وتتركّز القوى في قطبين مختلفين، ولا تدع مجالاً للمُثل الدينيّة لتؤدي دورها. فالعنصرية مرض مُهلكٌ من كل النواحي.

والألمان يدخلون في الإسلام – وهذا فضلٌ مِنَ الله كبيرٌ نحمده عليه.. وكنت أخشى أن يكون هناك قطبان أحدهما ألماني والآخر باكستاني في جماعتنا، ولكن الحمد لله تعالى أنَّ مثل هذا الخطر قد زال. ففي الاجتماع الماضي أخبرني الأمير أنَّ عددًا قد دخل الجماعة من الأفارقة العرب، وأنَّ خطر الأقطاب قد زال.. فلا يقول أحدٌ أنَّ فلانًا باكستاني وفلانًا أفريقي. بدخول شعوب متعددة في الجماعة زال خطر قطبين.

لكن هذا التغيُّر قد حدث بسبب تغيُّر الظروف، أما أنا فأُقدِّم لكم تعليمًا قرآنيًّا يُعلِّمنا أنه مهما كانت الظروف لا تَدَعُوا للعنصريّةِ مجالاً لترفع رأسها، وأن يكون الأساس لذلك هو تعليم القرآن، والنصائح التي وردت في القرآن بكل عظمة وشأن. تمسَّكوا بهذه النصيحة في كل الظروف، سواء أكانت العنصرية من جانبكم أو من جانب الآخرين. إذا كنتم عاملين لتحقيق السلام فلا تتركوا العنصرية تقترب منكم، فهي سُمُّ مضادٌّ للروحانية.. ولا يمكن أن تنمو الروحانية أبدًا في جوٍّ من العنصرية.. إذا دخلت العنصرية خرجت الروحانية، وإذا تمكنت الروحانية خرجت العنصرية. فلا تسمحوا مطلقًا للعنصرية أن تدنو منكم.

ولذلك أنتم بحاجة إلى بعض المـُثل الأخلاقية، ولستم بحاجة إلى تقديم الأدلة.. لأنَّ هذا المرض لا يُعالج بالحجج والأدلة وإنّما يزول بالخُلق الكريم. مهما بذلتم من جهد ومحاولة فلن تُفلحوا إلا بهذا الأسلوب. كانت هناك أفكار عنصرية ضد اليهود في ألمانيا.. وأخذت تنمو حتى تحوَّلت إلى النازية. هذه العنصرية استمرت ثم ماتت وبقيت لها بعض الآثار، ولقد حاولت الحكومة الألمانية أن تقضي عليها بالأدلة والحجج، وأخذت تُعلِّم الشعب الألماني نبذ العنصرية، ولكن رغم كل ذلك بعد هدم سور برلين عادت العنصرية مرةً أخرى.

لذلك أقول أنَّ العنصرية لا يُقضى عليها بالأدلة وإنَّما بالأخلاق. فازدادوا تمسُّكًا بمكارم الأخلاق، وقاوموا العنصرية بحُسنِ الخُلق. من ميزات جماعتنا أنَّها بفضل الله تعالى تمتلك هذه النعمة كفطرةٍ ثانية.. فالأحمديون السابقون يُحبّون من جاء إليهم من الشعوب الجديدة حبًّا شديدًا، وهذا ما يجعلهم أقوياء أمام سموم العنصرية. أَظهِروا للإخوة الجدد محبتكم القوية هذه، وحافظوا عليها ونمُّوها حتى يزدادوا محبةً لكم، وحتى تتقوَّى أواصر الحبّ والأخوة بينكم. وما دامت هذه الأواصر قوية لن تجد العنصرية لها فرصة لترفع رأسها بينكم.

إنَّ لي تجارب شخصية كثيرة.. فقد دخل الأحمديةَ الكثير من أبناء الشعوب المختلفة، وعندما أحسُّوا بمحبتي لهم زالت منهم هذه الآثار العنصرية كأنّما استُؤصِلت تمامًا واجتُثَّت من جذورها. وكانت وجوههم تنبئ بهذا التغيُّر الذي تمَّ في قلوبهم. زال ذلك التوتر الذي كان يبدو في وجوههم من قبل، وتحوَّل على محبةٍ وابتسام من وجوههم. ترى ذلك التوتر في ملامح المصاب بالعنصرية. عندما تقابله وتروي له قصةً مضحكة فإنَّه يضحك ومع ذلك لا يزول التوتر من وجهه. ولو وقع نظره على خطأٍ صغير من جانبكم لازداد توتّره وتحوَّل إلى غضب. يتطلَّعُ إليكم بعينٍ ناقدة شديدة. ويُناديكم بالقول اللاذع القاسي. آثار العنصرية ترونها في الوجوه. لا يمكن إخفاء العنصرية. المحبة لا تخفى أماراتها، وكذلك الكراهية لا تُستر علاماتها. إنّهما حالتان لا يمكن أن يُخفيهما الإنسان عن العيون مهما حاول. إذا تمكن من سترها مؤقتًا فلا بدَّ أن تُفلت منه ما يدلُّ عليها فيما بعد.

ففي مجالس الشورى.. فكِّروا ما هي الأخلاق السامية التي ينبغي أن تتحلُّوا وتتمسَّكوا بها، وما هي الخدمات التي يجب أن تُقدِّموها وتُعطوها الأولوية، وما هي الوسائل التي تقوّي الروابط بينكم.. حتى تسدُّوا كل منفذ يمكن أن تتسرَّب منه العنصريّة إلى جماعتنا.

وفي صدد المؤاخاة أُذكِّركم بأنَّ مؤاخاة الإخوة الأحمديين في ألمانيا لإخوانهم البوسنيين تُعطي آثارًا طيبة. وليس هناك أي خطورة عنصرية من جانب الأخوة البوسنيين. وأنتم تقومون بهذه المؤاخاة تأسِّيًا بما قام به المسلمون الأوائل.. عندما تآخى الأنصار والمهاجرون في المدينة. إنَّ هذه المؤاخاة التي بدأت في ذلك الوقت بين المسلمين هي التي أزالت آثار العنصرية من قلوب المكيّين.. إذ كانوا من قبل يحتقرون أهل المدينة، ويَصِفونهم بأنَّهم قرويون يزرعون الخضروات. ولكنكم رأيتم كيف أنَّ هؤلاء الفلاحين أعطوا كل شيء لمن كانوا يُحقِّرونهم.

إذا أردتم القضاء على العنصرية فتآخوا مع الأحمديين الجُدد.. دون أي تمييز بين لونٍ أو جنس. يجب أن يستفيد الأفارقة من علاقة المؤاخاة كما يستفيد منها الأحمديون الألمان والألبان وغيرهم من الأوربيين الشرقيين. يجب أن تُوسِّعوا دائرة هذه المؤاخاة.

وأقيموا المؤاخاة بحسب ما تسمح به الظروف. لقد تفرَّقت هذه المجتمعات الأوربية وتباعدت فيما بينهما وقلَّت المبادئ الإنسانيّة، وانقطعت الروابط التي كانت بين الناس. وعندما تُحبّون أحدًا منهم وأنتم لستم من أهله، فهذا وحده يُعتبر مؤاخاةً له. هناك كثيرٌ من الأحمديين يوسِّعون دائرة نفوذهم بهذا الحب القليل أيضًا. يدعونهم مثلاً لتناول الشاي في بيتهم، وهذا المدعوّ ليس بحاجة إلى الشاي ولكنه يُلبِّي الدعوة مُتعجّبًا كيف يدعوني ونحن عندما نتناول الشاي مع إخواننا الآخرين يدفع كل واحد ثمن ما شرب من جيبه. وكذلك عندما تدعوهم إلى الطعام، يقبلون الدعوة عمومًا. هذه الدعوات تُعتبر مؤاخاة. إذا دخلوا بيوتكم ورأوا منكم حبًّا فإنّهم يفتحون لكم قلوبهم. وهكذا إنّكم بعطاءٍ صغير سوف تجنون ثمارًا كثيرة من المؤاخاة.

والأمر الثاني الذي أُريد توضيحه هنا أنَّ الناس عندما ينظرون إلى أهل أوروبا ينظرون إليهم باحتقار، ويبحثون عن عيبٍ فيهم، وينشرون الكراهية بسبب معايبهم هذه. وفي قوله تعالى عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ نصحٌ لنا أن نحاول إزالة العيوب التي في نفوسنا. وعلى وجه الخصوص القارة الهندية بها أمراضٌ موجودة في كل شعوبها. فإذا حاول إخواننا الباكستانيون الموجودون في ألمانيا التخلُّص من هذه العيوب فهو خيرٌ لهم، وإن لم يفعلوا ذلك فسوف يجد الأوربيون فرصةً لنشر العنصرية بينكم، ولسوف يسلُّون هذا السيف عليكم دائمًا. فعلى الإخوة الباكستانيين في ألمانيا أن يبحثوا عن عيوبهم ويعملوا على إزالتها. وعلى مجلس شورى ألمانيا أن يُعِدُّوا برنامجًا واسعًا بهذا الصدد. إنّهم يعرفون ما هي العيوب الموجودة بينهم. لقد عيَّنتُ لجنةً للإصلاح والإرشاد في ألمانيا، وطلبتُ من كل البلاد أن يُشكِّلوا مثل هذه اللجنة.. لتبحث هذه العيوب قبل أن تصبح سرطانًا، ويحاولوا ويعملوا على شفاء المرضى. لقد اهتمت بعض الجماعات بنصيحتي هذه، ومن تقاريرهم عرفت أنّهم يهتمُّون بهذا الأمر، ولكن كثيرًا منهم لم يهتموا به. واللجنة في ألمانيا تعمل.. ولكنها لا تعمل كما أُريد. عليهم في مجلس الشورى أن يرفعوا اهتمامهم بهذا الأمر أكثر ويفكِّروا فيه بعمق.

لقد طلبت منهم أن يُشكِّلوا اللجنة من أفرادٍ عندهم فراسةٌ وشعورٌ قوي يشتمُّ هذه العيوب حتى وإن كانت خفيةً لا تُرى، وينتبهون لخطرها. ولكنهم ينتظرون حتى ترفع رأسها. إذا انتظرتم هكذا ووقعت أحداث فلن تكون اللجنة للإصلاح وإنّما إدارة شرطة. وإنَّ مكتب الأمور العامة في جماعتنا ليس شرطة.

ألا ترون أنّ الفجر عندما يلوح لايراه كل الناس، ويختلفون في ظهوره، ولكن أهل الخبرة يفصِلون في الأمر. كذلك في حياة الأُمم قد تلوح الأمراض في الأفق وتحتاج إلى العين الخبيرة لتتعرَّف عليها. لا تنتظروا حتى تحلّ بكم الأمراض، ولكن خطِّطوا لملاقاتها. وهذا الواجب ليس من عمل اللجنة ولكن واجبها أن تحذر وتنبّه من الخطر وتضع الأمور أمام اللجنة المركزية. فربما تكونون في حاجة إلى المال أو ترتيب بعض الجولات ودعوة بعض المربين لمقاومة هذه الأخطار.

إنَّ الذين هاجروا من باكستان قد أتوا معهم بكثير من الأمراض الاجتماعية والأخلاقية التي تضرُّ أفراد الجماعة فضلاً عن الإضرار بسمعة الجماعة. إنَّ غير الأحمديين يفعلون أي شيء. ولكن إذا فعل أحدٌ من جماعتنا شيئًا فإنَّ غير الأحمديين هؤلاء يطعنوننا ويقولون: هل هذا هو الخُلق الأحمدي؟ عندما يرون آلاف العيوب في أنفسهم لا يهتمون، ولكن إذا رأوا أي هفوة في الأحمدي صاحوا: أهذا هو تعليم الأحمدية؟ وهنا ينطبق عليهم قول سيدنا المهدي: إنَّ قلوبهم معنا وتؤيِّدنا وإن كانت ألسنتهم تسبُّنا، إنهم يعرفون أنَّ هذه الجماعة هي جماعة الأخيار ويجب أن تكون أعمالهم حسنة وتقواهم أكثر.

فعندما تقعون في مثل هذه الأمور فإنَّ الأغيار يطعنونني، وعندما يصلني الخبر يزداد ألمي لأنَّ أهل الجماعة لم يخبرونني. إنني أتصل بمكتب الأمور العامة وأستفسر هل وقع هذا الحادث أم لا؟ وإذا كان الخبر صادقًا، فأسألهم: لماذا لم تهتموا به وانتظرتم حتى يطعنني الأغيار؟ إنَّ هذا يؤذيني أكثر.

ثم يقول الله تعالى:

وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ..

لا يطعن بعضكم بعضًا، ولا تتبادلوا بينكم ألقاب الهزء والسخرية ولا يُسمِّي بعضكم بعضًا بأسماء تحمل معنى الاحتقار. هناك شعوبٌ تطلق على الشعوب الأخرى أسماء التحقير، وأهل الهند أكثرهم طعنًا بأسماء سخيفة.

وقوله تعالى وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ يدلُّ على أنَّ القرآن يرى المسلمين جميعًا إخوة بحيث لو آذى مسلمٌ أخاه فكأنّما آذى نفسه. وإذا أضررتم أحدًا منكم فقد أضررتم أنفسكم ومجتمعكم. بكلمة (أنفسكم) أيقظ الله تعالى الإحساس بالإخوة. أتظنون أنّكم تطعنون الآخرين.. لا بل تطعنون أنفسكم. ولذا ألحقتم ضررًا ببعض إخوانكم فلا بدَّ أن تتضرر كل الجماعة، ومثل هذه الجماعة التي يشيع فيها ذلك لا يمكن أن ترتقي وتزدهر بل تُضار وتُعاني.

(خطبة الجمعة 6-5-94)

العبادة الخالصة تؤدي إلى خدمة الخلق

قال الله تعالى:

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (النساء: 37-38)

 تحدَّث أمير المؤمنين عن مجالس ودورات تربوية تُعقد في الأسبوع في مختلف فروع الجماعة في العالم. وقال عند حديثه عن مجلس الشورى في جماعة اليابان المنعقد في هذا الأسبوع:

إنّها جماعةٌ قليلة العدد ولكنها من ناحية الهمّة والعمل جماعةٌ كبيرة، وتتمسَّك بالحسنات بفضل الله بهمّةٍ وصبر. وهذه صفةٌ ظاهرةٌ فيهم، مع أنَّ معظمهم من اللاجئين والباحثين عن العمل، وعاد بعضهم إلى باكستان وقلَّ عددهم، ولكن لم تنقص جهودهم، أدعو الله تعالى أن يحفظهم ويرعاهم ويوفِّقهم للتقدّم المستمر، ويعوِّضهم بالقادمين الجدد عمن غادروهم.. ينضمون إليهم بالتبليغ.

والجماعة في اليابان لا تكتفي بالتضحيات المالية فقط، ولكنها تقوم بالأعمال التربوية والدعوة، وقد أخبروني أول أمس أنهم اجتنوا ثمرتين من ثمار الدعوة، وأدعوا الله أن يستفيدوا من هذه الرياح الجارية بأمره. المشكلة في اليابان أنَّ الجماعة هناك من حيث العدد والنفوذ كأنها غير موجودة، وقام العمل الآن فجأة. كان لنا هناك في البداية دعاية، ولكن المجتمع الياباني لا قيمة لديه بالمثل الروحانية ولذلك لم تُثمر جهودهم.

وأُريد أن أُخبر اليابان عن رؤية لسيدنا الخليفة الثاني، أخبره الله فيها كيف تتم الدعوة في اليابان. رأى في الرؤيا أنّه أخذ طائرًا ضعيفًا صغيرًا، وأرادت زوجته أن تُطعمه، فطلب منها ألا تُطعمه إلا قليلاً لأنَّ معدته ضعيفة ولا يستطيع أن يهضم. وهذه الرؤيا موجودة في صُحفنا القديمة، ولا أتذكر تفاصيلها تماما.. ولكن مفهومها الرئيسي أنَّ اليابان لا يستطيعون هضم الدين.. فيجب أن يُقدَّم لهم ما يستطيعون هضمه. ومن هذه الناحية ينبغي على الجماعة أن تتمسَّك بالصبر هناك، ويُقدِّموا لهم الغذاء بالحكمة والتدريج والتمهُّل.

الآيات التي تلوتها تأمر بعبادة الله تعالى وحده بدون شرك، وبمعاملة الوالدين بالحسنى، وكذلك الأقارب واليتامى والمساكين والجيران القريبين مكانًا أو صلة، والجيران الأباعد والأصحاب الذين يرافقونكم والمسافر والرفيق.. والله تعالى لا يحب المتكبِّر المتفاخر بما أنجزه. ويصف الله هؤلاء المتكبرين بأنهم يبخلون ويأمرون غيرهم بالبخل، ويُخفون ما أنعم الله به عليهم حتى لا يسألوهم منها. لا يفعلون ذلك تواضعًا وإنّما خوفًا من السؤال. وقد أعدّ الله للكافرين عذابًا يُلحق بهم الهوان.

توجّهنا الآية أن نعبد الله عبادةً خاليةً من الشِرك، خالصةً له وحده. وهي عبادةٌ لا تؤدي إلى قطع الصِلات مع الناس وإنّما تؤدّي إلى توطيد هذه العلاقة كنتيجةٍ لحب الله تعالى. والعبادات التي تقطع الصلات بالناس ليست عبادةً لله تعالى وإنّما يعبد أصحابها ما سوى الله. الذي يعبد الله تعالى منزهًا عن الشِرك نجد صفاته مذكورةً في هذه الآية، وبهذه الصفات يُعرف مدى إخلاصه في العبادة.. لأنّ الدنيا لا تعرف إخلاص من يعبد الله، ومدى تنزُّهِهِ عن الشِرك بالله، فالله تعالى هو الذي يعلم. ولكن لهؤلاء العِباد علاماتٍ يعرفها الناس.

فمن صفاتهم أنّهم يُعامِلون الآباء بالإحسان. الآباء من ناحية يُعدُّون أربابًا لأنَّ الإنسان يأتي إلى الدنيا عن طريقهم، ولذلك كان لابدَّ أن يذكر الله الآباء. وقد جعلهم في درجةٍ عالية وأمر بالإحسان إليهم.

يُنبِّه الله تعالى أنه إذا لم تُقدِّروا تضحياتهم فأحسِنوا إليهم على الأقل فقد تحمَّلوا منكم كثيرًا. يقول تعالى عن الأم أنّها حملت جنينها وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ .. مشقةً فوق مشقة. فالله تعالى لا يُنكر إحسان الآباء للأولاد.. ولكنه يُشير إلى نُكتةٍ في الفطرة الإنسانية.. فبدلاً من أن يأمر الولد أن عليك بالإحسان إلى أبيك.. يقول: إذا لم ترَ فيما مضى إحسانًا منهم فَأَحسِنْ أنت إليهم، ذلك خيرٌ لك.. وما هذه الإحسانات إلا اعترافًا وشكرًا على الإحسانات الإلهية.. فإحساناته عليك لا تنتهي ولا تستطيع أن تؤدي حقها جميعًا. فعليك أن تُحسن إلى عبادي.. وفي هذا شكرٌ لي على إحساني.

وما أقوله لكم ليس مجرد كلمات بل هو حقيقة. وقد وضع رسول الله هذا المعنى في كلماته حيث قال إنَّ الله تعالى سوف يسألُ بعض عباده ويقول له: كنتُ جائعًا فلم تُطعمني، وعطشانًا فلم تسقني، وعاريًا فلم تُكْسِني، وبلا ملجأ فلم تُؤوِني.. وعندما يسمع العبد هذا يقول: يا رب أنت غنيٌّ عن كل ذلك فأنت ربُّ العالمين. متى حدث هذا؟ فيردُّ عليه الله أنَّ عبدًا من عبادي كان جائعًا أو عطشانا.. فلم تسدَّ حاجته.. فكأنك لم تُطعمني ولم تسقني.

يوجِّه أنظارنا إلى أنَّ الإحسان الحقيقي من الله تعالى.. فأنت لا تستطيع مكافأته على إحسانه، ولكن تَحدُّثًا بهذا الإحسان ومحاولة لشكره أَحْسِنْ إلى عبادي، وأول المستحقين لهذا الإحسان من عباد الله هم الآباء.. فجعلهم على رأس القائمة.

وبالنسبة للآباء لا توجد لسوء الحظ رغبة في خدمتهم.. وقد وقعت أحداث في الشرق أيضًا حيث لا تعامل الأجيال الجديدة الآباء بالإحسان. وتقع بعض هذه الأحداث في جماعتنا أيضًا. وهذه الأمور لا تتعلق بالأبناء وحدهم ولكنها تتعلق بالآباء أيضًا، وسوف أوضح لكم هذه المسألة.

يجب أن نكون متزنين في المعاملة، لأن بعض الأبناء يميلون إلى الآباء فلا يُنصفون زوجاتهم، وينسون أنَّ الله تعالى أمرهم بالإحسان إلى الآباء ولم يأمرهم بعدم العدل. الإحسان إلى الآباء لا يعني أن نظلم أحدًا. ليس هناك إحسان يؤدي إلى عدم الإنصاف. إذا أحسنتم إلى الآباء بظُلم الزوجات فقد خالفتم وعارضتم موضوع هذه الآية. يجب فهم هذا الموضوع جيدا. فالإحسان مرتبطٌ بالعدل، وكل تعاليم القرآن توضح ذلك:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ ..

فالله يأمرنا أولاً بالعدل ثم الإحسان. الذي لم يعدل لا يُحسِن. وبعد الإحسان تحدَّث عن إيتاء ذي القربى.. أي أعطوا الآخرين كأنهم من الأقارب.

أذكر هذه الامور لأنني أتلقى رسائل من السيدات ومن الآباء والأزواج ومن الأبناء.. يسألون ما هي حقوق الآباء؟ جاءتني رسالة من أحمدية جديدة قالت: لقد ركَّز القرآن على الإحسان للآباء وإعطاء حقوقهم، وإنَّ دخولي في الأحمدية شاقٌّ عليهم حتى ظننتُ أني لا أودي حقَّ أبوي وأرتكب ذنبًا؟!. أفهمتُ هذه السيدة في تاريخ الإسلام وذكرت لها حادثة الصحابي الذي كرهت أمه إسلامه وقالت له لن أغفر لك يا بني، وسأموت بحسرتي، تحمل أثما طول حياتك لأنك لم تعامل أمك بالحسنة فقال لها الابن كلمات الحكمة والإيمان أنت أمي وحبيبتي ولكني أحب الله أكثر من الدنيا كلها..

‏وربي أحب إلي من كل الوجود.  فإذا طلبت مني أن أضحي بالله ورسوله من أجلك وخوفتني من أنك ستموتين دون أن تغفري لي فوالله لو كان لك مائة روح وخرجت واحدة واحدة ما كنت لأتخلى عن ربي ورسوله.

‏هذا هو حفظ المراتب. يقول الله تعالى وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أمام عبادة الله تعالى تتضائل بل تنعدم كل علاقة دنيوية.

‏ثم يقول وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا كل معاملة لكم للوالدين يجب أن تكون إحسانا لوجهه الله تعالى. وتذكر أنه يأمركم بالإحسان إلى الآباء. -ويجب كما قلت آنفا- أن يتم الإحسان مع أداء حقوق الآخرين ويجب أن تتمسكوا بالتوازن الدقيق. وإذا أصرت الأم على ظلم الآخرين فليس من المهم في هذه الحال أن تكون راضيه عنكم لأن التضحية بالعدل تعني في الواقع التضحية بالله تعالى.

‏لقد امر القرآن الكريم الا تتأففوا من الآباء إذا حدث منهم شي في حقكم. أو لو اشتدوا عليكم فلا تتفجروا. تحملوا ذلك لوجه الله تعالى.. ولا تهضموا حقوقهم أبدًا. ولكن هناك أبناء لا يهتمون بالآباء ويتمتعون بالزوجات والأولاد.. وهذه جريمة كبيرة.

‏فهذه القضية والحال هذه تتطلب إصلاحا بتوازن دقيق. المشكلة صعبه ولكن لو فكرتم فيها لو وجدتم أن الأمر يتوقف على الأخلاق: حُسنا أو سوء. ذوو الأخلاق الحسنة لا تحدث عندهم هذه المشاكل. صاحب الخلق المتين لا يتوقع أن يكون واقعا في حرب بين حقوق الأم وحقوق الزوجة.

‏لذلك أحاول معكم من زمن طويل كيف تعملوا على تصحيح أخلاقكم وتحسينها لو حسنت الأخلاق حسنت المعاملات وحلت المشاكل. إن حسن الخلق هو الأساس للاستحواذ على الأمم. لا يستطيع الإنسان أن يتغلب على الناس بالدليل والحجة والنقاش. بل إن هذه قد تؤدي إلى الفساد. بحسن الأخلاق يمكن أن تغزو الناس والبيوت الطرقات والمدن والبلاد. بحسن الخلق يمكن التغلب على الدنيا كلها. لقد تسلح الرسول بعد الدعاء بهذا السلاح.. سلاح الخلق الحسن فسواء كانت المشاكل أسرية أو اجتماعية أو حضارية.. يجب أن تتمسك جماعتنا لحلها بالأخلاق الحسنة.. وعندئذ لن تكون هناك أية مصاعب ولن تنشأ مشاكل… لأنها سوف تنحل تلقائيا أمام إنسان يتحلى بحسن الخلق.. وكما يقول الشاعر: يذوب الندى أمام أشعة الشمس تلقائيا..  وهكذا تزول المشاكل أمام الأخلاق الكريمة تلقائيا.

‏الآن أعرض أمامكم بعض أقوال النبي

عن ابن عمر عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول قال: “مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ” (صحيح البخاري، كتاب الأدب)،

لقد أكثر جبريل في الوصية بالجار حتى ظنّ النبي أنه سيجعل له نصيبا من الميراث ويقول القرآن: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ . فالمعاملة بالحسنى حق للجار سواء أكان من الأقارب أو من غيرهم. وهذا تعليم لا يفهمه أهل الغرب إلا قليلا. فقد يعيش الجيران سنين طويلة، ولا يعرف الجار من إلى جانبه، ولا يحسن بعضهم إلى بعض. ولكن النبي  رسم علاقة الجار بجاره أنها تقوم على الإحسان، وبهذه الطريقة يمكن أن نفتح قلوب الناس للإسلام حتى نصح النبي أن تزيد السيدة شيئا من الماء في طعامها كي تهدي إلى جارتها شيئا مما صنعته.

‏‏هنا لو أن الجار تحدث مع جاره الإنجليزي مثلا وتدخل في بعض مشاكله لتنفر منه الجار.  ولكن إذا أهداه شيئا من الطعام في مناسبة كالعيد مثلا..  فلن يكون رد  فعله هكذا.  لقد أرسلت لي إحدى السيدات رسالة من ألمانيا وقالت أن لها علاقة طيبة مع الجيران، تأسست لأنها أهدت إليهم طعاما وقالت لهم هذا طعام باكستاني أردت أن تذوقوه. فتأثرت الجارة، وجاءت إليها وزارتها معها ثم قرأت عن الإسلام. هكذا -كما قلت لكم- يمكن أن تفتح البيوت بالأخلاق الحسنة، ولسوف تُفتح الدنيا أيضا بهذه الاخلاق إن شاء الله. إن التعاليم والوسائل التي قدمها المصطفى   لابد أن تفتح القلوب.

‏هناك رواية عن أبي هريرة أن الرسول قال: “وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ” (صحيح البخاري، كتاب الأدب) ‏أي لا يعد مؤمنا من لا يسلم جاره شره و مضايقاته.

ولقد انتشر هذا المرض في هذه الأيام. وهو في الشرق أكثر منه في الغرب هنا مشاكل من الجيران وإن كانت قليلة، ولكن وراءها تعصبات أخرى. في الحياة اليومية لا يتشاجر الجيران في بريطانيا، فكل منهم في دنياه، ولكن التشاجر يكون بسبب العنصرية. أما في بلادنا فهناك اتجاه للمشاجرات مع الجيران. وأحيانا يشتد الشجار ويستمر. وقد رأيت في لاهور الشجار بين الجيران.. يتبادلون السباب والشتائم،  وتتواعد النسوة على اللقاء في معارك البذاء. كنت عندئد أدرس في لاهور ورأيت هذا يحدث لشهور في جوار أحد الإخوة هناك. وقد تحيرت وسألت عنه، فقالوا هذا يحدث كل يوم.. والحي كله على هذا الحال.

هذه السيئات موجودة في مجتمعاتنا إذا لم يحسن الإنسان إلى غيره تأسست علاقاته على الشر والأمم التي لا تحافظ على حسناتها تتحول حسناتها إلى سيئات إذا لم تحسنوا إلى الجيران فسوف تقعون في ما حذر منه الرسول في هذا الحديث ولم يسلم الجيران من بوائق بعضهم.

‏وعن أنس أن النبي قال: “لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ” (صحيح البخاري، كتاب الإيمان)..

‏كما يتسع موضوع الإحسان في القرآن الكريم كذلك يتسع في حديث المصطفى . فقد نصحنا بالإحسان إلى الآباء ثم الأقارب ثم الجيران ثم الأخوة الآخرين. إن هذه نصيحة صغيرة في كلماتها ولكن لا يمكن أن يقدم الإنسان في هذا الصدد نصيحة أفضل منها لإصلاح العلاقات الإنسانية ولحل المشاكل بين البشر. هذا تعليم رائع يؤثر في كل العلاقات الاجتماعية الدولية، إنها نصيحة لحل كل المشاكل. ترون السياسة في هذا العالم خالية من هذا التعليم تماما، إنهم يحبون لأنفسهم ما لا يحبون لغيرهم ‏وهذا يحدث أيضا بين الأقارب. إذا طلب المرء مشورة من أحد لا يكون المشير أمينا، ويقدم مشورة من منظار العداء وليس من الحب. يجب أن تفهموا هذه النصيحة وتطبقوها. إذا عملتم بها لأصبح مجتمعنا جنة ولكنها تقتضي تخلقنا بالأخلاق الحسنة.

عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: كان النبي لا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما حاجتهما. (مسند الدارمي. باب تواضع النبي). ‏يحكي هذا الصحابي كيف كان النبي يعامل الناس. هناك من يأنف أن يمشي معه رجل فقير فيبتعد عنه.  وقد رأيت هذا في الحياة اليومية كثيرا.. فمثلا يسير الرجل في السوق.. فإذا اقترب منه رجل فقير بدت في حركاته الأنفة، ويلاحظ الناس أنه يريد الابتعاد عنه، وينهي الحديث معه ويتركه سريعا. ولكن انظروا إلى مقام الرسول وانظروا إلى هذا الصحابي الذي يرى حسن معاملة الرسول وسيرته، ويحكي كيف كان يتعامل مع الأرملة والمسكين دون أن يشعر الناس منه بأي أنفة او استنكاف؟ يمشي معهم حتى يقضي لهم حاجتهم. كان يرحب بمثل هذا العمل. ‏ويقبل عليه وهذا الجزء الأخير من الحديث على درجة عالية من الأهمية.

‏وعن أبي هريرة أن الرسول كان يقول: “شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ” (صحيح البخاري, كتاب النكاح)

ولقد رأيت في بلدنا باكستان – وفي البلاد الشرقية الأخرى وفي الغرب أيضا أنهم لا يدعون الى الوليمة إلا من هم على صلة بهم. وقد أخذت هذه الظاهرة تزداد في بلادنا فيقيمون الولائم ولا يدخلها فقير. ولا يدعون الأقارب إذا كانوا من الفقراء حتى لا يوجدوا بهم معرة أمام الاصحاب الغرباء وولائم الفقراء تختلف عن ولائم الأغنياء. فهم لا يدعون الفقراء والفقراء لا يدعونهم. ‏وقد وصف الرسول هذا فقال: شر الطعام طعام الوليمة إذا دعي لها الأغنياء وترك الفقراء. مثل هذه الولائم تقام عند الزواج.

ثم قال بعدها قولا عجيبا (ومن لم يجيب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) فمن يرفض الحضور في الوليمة فقد عصى الله ورسوله. وهذا موضوع واسع لا يفهم الا بربطه مع المواضيع السابقة التي ذكرتها. فأي الولائم هذه التي يتحدث عنها الرسول ؟ في هذا الجزء الأخير من الحديث يشير المصطفى إلى ولائم الفقراء. ‏انه يقول أولا أن الولائم التي يقيمها الأغنياء لا يدعون إليها الفقراء هي شر الولائم. ثم يتحدث عن الولائم التي يقيمها الفقراء ويدعون إليهم الأغنياء ويقول أنهم إذا لم يلبوا دعوتهم فقد عصوا الله ورسوله.

‏ولذلك نصحت لكم في السنوات الماضية أن تساعدوا الفقراء في زواجهم وتحضروا ولائم الفقراء. اذهبوا إلى بيوتهم وساعدوهم في إعداد الطعام والترتيب والنظافة وشراء ما يلزمهم ولا يستطيعون شراءه. وهذا لا يمكن تحقيقه الا إذا زاروهم في منازلهم ورأوا فقرهم، إن القلب لا يذوب بالسماع ولكن إذا رأت العين تأثر القلب وذاب.

‏ترون كيف أن نصائح الرسول عميقة ذات أثر بعيد المدى والحقيقة أن الفقير إذا حضر ولائمكم ورأيتم ثيابه الرثة العتيقة فلا بد أن تتأثروا إذا كان بكم مشاعر الإنسانية لتأثرتم وندمتم على إهمالكم لهم.

عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ. فَقَالَ النَّبِيُّ إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُحِبُّهُ وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا فَأَتَاهُ النَّبِيُّ يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ حِينَ عَرَفَهُ وَجَعَلَ النَّبِيُّ يَقُولُ: مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا فَقَالَ النَّبِيُّ : لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ أَوْ قَالَ لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْتَ غَالٍ” (مسند أحمد، كتاب باقي مسند المكثرين)

‏كان البدوي يبدي حركات المحبة نحو الرسول كما يفعل الطفل مع أمه أو الهرة مع صاحبها.. وكان النبي يتقبل ذلك منه ولما مازحة الرسول وقال من يشتري هذا العبد.. قال بتواضع مؤثر إذا تجدني والله كاسدا.. ولكن الرسول يرد عليه أن ثمنك غالي عند الله تعالى وأنه سوف يشتريك. الناس لا يعرفون قيمتك ولكن الله يقدرك حق قدرك. هكذا يظهر من اختارهم الله لتجلياته حب الله تعالى ويوصلونه إلى العباد. فإذا أردتم وحاولتم أن تكونوا مثل ذلك، وتعلمتم الأخلاق من رسول ‏الله فإن الله يشتريكم، بل ويشتري عبيدكم بأغلى الأثمان. وسوف تتغلب قلوبكم على قلوب العالم لتوطيد حكومة المصطفى . هذا هو الطريق الوحيد لإصلاح بيوتكم وطرقاتكم ومجتمعاتكم وبلادكم. إن الدنيا كلها بحاجة إلى هذا العلاج.. ليصبح غلمان الرسول حقا غلمانه، ويسحروا الناس بسحر أخلاق محمد . وفقنا الله تعالى لذلك (خطبة الجمعة 13 \5\1994)

وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (الإِنْسان: 9-10).

حض القرآن الكريم -بعد عبادة الله تعالى- على خدمة الخلق. والحقيقة أن هذين الجانبين: -عبادة الله ومعاملة الخلق بالحسنى- لهما المقام الأول في القرآن الكريم. وقد شرحت هذا الموضوع للجماعة مرارا وبينت أنهما ليسا منفصلين..  ولكنهما فرعان لشجرة واحدة. وكلما فهمتم موضوع العبادة وأديتم حقها كلما نما فيكم فرع المعاملة الحسنة مع الخلق. وينمو الفرعان معا.

‏قد يكون فرع العبادة سليما ناميا ولا ينال فرع المعاملة الحسنة مع المخلوق نفس النمو. وإذا حدث ذلك فإنه موضوع العبادة يختل ويكون المرء غير قادر على فهم معنى العبادة، ومخدوعا في ظنه أنه يعبد الله تعالى. ذلك لأن العابد الحقيقي لله لابد أن يحب خلق الله تعالى. ‏وهكذا فإن العبادة الصحيحة لها دخل كبير في حساب معاملتنا وتوطيدها مع الخلق. فيجب أن تخلصوا في عبادتكم ويمكن التعرف على إخلاص العبادة بحسن المعاملة مع الناس. عليكم أن تحسنوا إلى المقهورين والفقراء. كلما ازداد إحسان المرء للخلق كانت عبادته مقبولة.

‏ولقد اخترت لكم بعض أقوال الرسول في هذا الصدد. والأحاديث كثيرة ولا يمكن الإحاطة بها إحاطة تامة، وكلها تبين أهمية الصلاة بين الإنسان وسائر الخلق. لقد تحدث الرسول عن حسن الخلق في المرء لأن الأخلاق تنشأ وتنمو في البيت ثم تتسع هذه الدائرة وتصل إلى الجيران ثم تخرج درجة فدرجة، فمن الأقارب تنتقل إلى الأغيار ويؤدي هذا السفر بكم إلى معرفة الإنسانية بمفهوم جديد.. ومن كان (غيرًا) بالنسبة لكم يصبح (قريبًا) لكم. ومن يفهم هذا الموضوع فإنه يرى الأغيار ذوي قربى، ويحافظ على مصالح الآخرين ويؤثرهم على نفسه. إذا كانت علاقتكم مع الأهل قد تحسنت بسبب الرفق.. فيجب ألا تبقى في البيت فقط، بل يجب أن تتسع وتشمل الجيران والآخرين من أهل الحي والبلد بحيث تتسع هذه العلاقة ولا تقف دونها حدود. إنها علاقة تتجاوز المناطق والأماكن والأجناس والألوان حتى إنها لتتخذ صورة عالمية، وكأن العالم كله من الأهل والأسرة. وثمرة ذلك أن يتولد العدل الحقيقي. أما إذا كان الإنسان يفرق بين الأقارب والأباعد فإنه لا يستطيع أن يؤدي حق العدل، ولذلك وسع القرآن هذا الموضوع وأوصله إلى “إيتاء ذي القربى”.. وهذا يعني أن المؤمن يبدأ في تعامله مع الناس بالعدل، ثم يرقى إلى الإحسان، وبعد اجتياز مراحل الإحسان يدخل في حدود معاملة ذوي القربى، ويرى الجميع على أنهم من أهله وذوي قرباه.

لقد شرح الرسول هذاالموضوع فقال: “إن الخلق عيال الله” أو أن “الناس عيال الله” .. وكلمة “العيال” ترادف “ذي القربى”. إذا كان الخلق عيال فلا بد من معاملة الجميع معاملة أهله وعياله.

هذا ما أريد شرحه للجماعة، على ضوء أحاديث الرسول . وهو مرتبط بالدعوة إلى الله تعالى وتوحيد العالم على يد واحدة. ولكن عندما أنظر إلى بيوتكم فإن قلبي يدمى، وأشعر أن كثيرًا منكم لم يبدأوا هذا السفر بعد. هناك كثير من الأسر الأحمدية تسوء فيها المعاملات: فالأب لا يؤدي حقوق الأولاد، والزوجة لا تؤدي حقوق الزوج، والأولاد لا يبرون الآباء.. وليس عندهم من الأدب ما يعرفون به كيف يتكلمون مع الآباء.. وتصبح مثل هذه الأسر نموذجًا لجهنم. الأولاد يبتعدون عن الأسرة بطريقة يحتار المرء في فهمها، بل إن كلمة التحير لا تكفي.. تصلني الرسائل فأرتعش من قراءتها. إحدى الفتيات تقول: أمي سيئة الأخلاق، وتؤذي أبي كثيرا طول حياتها معه. ومهما نصحتموني فلا أستطيع أن أدعو لأمي هذه. وفتاة أخرى تقول: لقد ظلم أبي أمي وظلمنا حتى أنه كان يسبنا في كل حديث له، ويقول: أنتم لستم أولادي.

إذا كانت هناك مثل هذه العلاقة في أسر أحمدية.. فكيف يمكن لنا أن نُحدث انقلابا عالميا. مثل هذه الأفكار في مثل هذه الأحوال تعد جنَّة من الأوهام، إذا كنتم فروعا من شجرة سيدنا المهدي فلا بد من قطع مثل هذه الفروع كما قال: لا بد أن تنمو تلك الشجرة وتخضر لتحيط بالعالم كله، وتأوي إليها الطيور الروحانية، وتجد فيها راحتها، وتتمتع بأزهارها وأثمارها، ولكن ثمة فروعا قد يبست، قال سيدنا المهدي عنها أنه يجب قطعها من شجرة وجوده.. ومأواهم جهنم.. لأن مصير الفروع اليابسة النار.

وعندما أرى هذه المشاهد يهولني مرآها وأرتعد. ولكني أعرف أن الأكثرية الكبرى من جماعتنا خالية من هذه المفاسد والشقاوة، ولكن كثيرًا ممن ينتمون إلى جماعتنا تنتشر عفونتهم فيما حولهم، ويطّلع الناس على سوء معاملتهم هذه وينسبونها إلى الجماعة.

يجب أن نهتم بهؤلاء أيضا.. ليس لأنهم يشهّرون بجماعتنا وإنما لأنهم أيضًا يستحقون الشفقة. كيف نرضى أن يكونوا حطب النار ونقول: دعوهم يحترقوا؟! لو كانت هذه أسوة الرسول لاحترق العالم كله. فقد أذاب قلبه وأمطر رحمته على كل واحد من مثل هؤلاء. وكلما رأى ذلك أطفأ نيرانهم، بل إن هدايته إلى اليوم تزيل هذه الشقاوة وتصلح المفاسد، وثمرةً لدعواته نشأت الأحمدية، وما ينزل عليها من أمطار الرحمات إنما ينزل بسبب دعواته وتطهرنا. لذلك لا بد أن نهتم بأسوة الرسول.

لا بد أن نراقبهم بأنفسنا ونضع عيوننا عليهم. وعلى اللجان التي عينتها لهذه المهمات أن تنشط، ويهتموا بهذه البيوت التي تطرق إليها الفساد، ويقدموا لهم النصح برفق.. لتعود الجنة إلى بيوتهم. وأعني بذلك أن تدخل أسوة المصطفى إلى هذه البيوت. إذا كانت هذه الجنة هي أسوة المصطفى فلا بد أن تتسع هذه الجنة وتعم الجميع. إنها رسالة هامة. لا تكتفوا بكلمة النصح وبالحماس المؤقت.. بل عليكم أن تجاهدوا بالأخلاق. والجهاد بالأخلاق هو الجهاد الكبير. عليكم أن تحاولوا إنقاذ هؤلاء. وإذا لم تتمكنوا من إنقاذذهم، أي لم يقبلوا جهودكم، ويحكم قدر الله تعالى ألا يُقبلوا .. فاذكروا قول سيدنا المهدي بضرورة قطع هذه الفروع. لا تتحملوا هذه الفروع اليابسة، بل أقلعوها كي تسرعوا في هذا السفر. ولكن قبل أن تصلوا إلى مرحلة قطع الفروع اليابسة ينبغي عليكم أن تصبروا وتتريثوا .. وتبذلوا الجهود برفق لا خشونة فيه، ولين لا شدة فيه، بل ادعوهم بالحب حتى يصلح الله أعمالهم. ونسأله تعالى أن يصلحهم. أما إذا لم يتم ذلك فلا بد من قطع الفروع اليابسة.. إنها عضو مفلوج يجب بتره وإلا أضر بالأعضاء الأخرى الصحيحة.

نستطيع أن نتعرف على نوعية المجتمع الذي أنشأه الرسول وأقامه.. بالنظر في أقواله ونصائحه.. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ يَقُولُ: “يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ” (صحيح البخاري، كتاب الأدب)، ينصح النبي المرأة المسلمة أن تهدي لجارتها أي شيء.. ولا تستقل شيئا حتى لو كان مرقًا من كارع شاة.

الأصل في الهدية عمومًا أن المرء يقدم شيئا لنظرائه ومن هم أعلى منه. ولكن القرآن قدم نصيحة هامة في هذا الصدد.. أن تذهب الهدايا أيضا إلى من هم أدنى منكم درجة. إذا اقتصرت هداياكم على من كان في درجتكم كانت هذه الهدايا لأنفسكم وليست لوجه الله. تقول الآية التي تلوتها عليكم:

وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا

فالذين يطعمون الآخرين الطعام لوجه الله تعالى فيهم صفتان: أنهم يطعمون الطعام وهم محتاجون إليه. وهذان المعنيان هما في الحقيقة معنى واحد.. لأن الإنسان يؤثر على نفسه أحدا إذا كان يحبه وإلا فلا معنى للإيثار. لا تصور للإيثار بدون الحب. لماذا تؤثر الأم ابنها على نفسها؟ لأنها تحبه. المحب يؤثر حبيبه بسبب حبه. فالإيثار لها علاقة لا تنقطع بالحب: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ .. لحبنا له.. لا نريد من أحد غيره جزاء أو شكورا. لقد أخذنا المكافأة ممن أنفقنا لأجله.. فلا مجال لشكركم أو التفكير فيه.

هذا الموضوع دقيق، ويفتح مجالا آخر للتفكير: ذلك أنكم إذا خدمتم الإنسانية رغم احتياجكم إلى المال، فذلك لوجه الله تعالى ولحبه. تخبرون الناس أنكم لا تحسنون إليهم، وإنما الإحسان من الله إليكم وإلينا.. فلا نريد منكم جزاء ولا شكورا. فالمحسن الحقيقي هو الله تعالى. هو المحسن إليكم وإلينا. إنه على درجة كبيرة من الأهمية أن يدرك الإنسان ذلك.. ومثله كمثل الخادم الذي يحسن إلى فقير فيشكره.. فيقول له: لا تشكرني، إنما الشكر لسيدي الذي أمرني بذلك. ما أنفقت عليك إلا بأمر منه، وما أنفقت عليك إلا من ماله.

بذلك يتوجه التفكير إلى السيد بدلا من الخادم. وهكذا ترتبط هذه الآية بكون الله “رب العالمين”. وقد قدم الرسول نفس هذا النصح، وكان ذلك عرفانا منه للقرآن المجيد. هذه الأحاديث النبوية التي هي نصائح رائعة تحدث هذا الانقلاب. لا تكفي قراءة القرآن وحدها إلا إذا كان الإنسان يقرأ القرآن بعين عارف بالله. والرسول هو أكثر الناس عرفانا لله تعالى وإدراكا لمعاني القرآن. وسوف تتلقون العلم والمعرفة من الأحاديث إذا ربطتم بينها وبين آيات القرآن المجيد.. وعندئذ ترون عالما جديدا من المعاني. يقول : أقيموا علاقاتكم بالجيران ولو بإرسال كارع شاة إليهم. وكأنه يقول: ألا تستطيعون أن تهدوا إلى الجارة ولو فرسن شاة. لا يعني ذلك الاكتفاء بإرسال فرسن، ولكنه يقول: إذا لم تستطيعوا أكثر من ذلك فأرسلوا فرسنًا على الأقل. وإذا لم تفعلوا دل ذلك على أنه لا إنسانية فيكم.

هذا هو التعليم الذي يجب أن نعممه ونوسعه، وأن تتحسن العلاقات بين الأب وابنته، والزوج وزوجته وبين الأقارب بعضهم بعضا بفيض الرسول .. ذلك الفيض الذي لا يُحد، لأنه كان رحمة للعالمين، ولا بد أن يخرج الفيض من جدران البيت ويصل إلى الجيران. لقد أخبرتكم في الخطبة السابقة أن أداء حقوق الجيران هام جدًا، وبينت لكم أنكم إذا أردتم الدعوة في أوروبا فيجب أن تؤدوا حقوق الجيران. لا تكتفوا بإلقاء السلام أو رده على الجار أو النصح فقط.. بل يجب أن ترسلوا لهم الهدية حتى تجعلوهم يفكرون في أمركم ويخرجون في البحث عنكم. وهكذا تتحول النعمة الظاهرة إلى نعمة باطنة، ولن يقتصر الأمر على الهدايا الظاهرية بل تُعدون قلوبهم لتلقي الهدايا الروحانية.. ألا وهي الإسلام.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ” (صحيح البخاري، كتاب الأدب)

ثلاثة نصائح يقدمها الرسول .. يذكر فيها الإيمان بالله واليوم الآخر، ولم يذكر أركان الإيمان الأخرى من رسل وكتب وملائكة.. واكتفى بذكر أولها وآخرها، ذلك أن الذي يؤمن بالله تعالى ويفكر في اليوم الآخر لا يمكن أن يتغافل عن نعمه، بل يعرف أن الذي يعطي لابد أن يحاسب على كل شيء. لن يسأل: ماذا أعطيتموني، ولكنه يسأل ماذا أعطيتم لعبادي وخلقي.

ثم يقول: ومن كان يؤمن بالله الآخر فليكرم ضيفه. هذه نصيحة أيضًا عجيبة، لأن الإنسان عادة لا يحتاج إلى نصح إكرام الضيف. المضياف يكرم ضيفه والبخيل لا يستضيف أحدا. ومعظم الناس يكرمون الضيوف، ولكن الرسول يتحدث عن إكرام آخر.. وليس عن الضيافة العامة. وهذا الموضوع مرتبط بقوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا .. يفعلون ذلك لوجه الله تعالى رغم ضيق ذات اليد، ويطعمون اليتامى والمساكين والأسارى.

قد يأتي الضيوف من البسطاء إلى بيوتكم، وهنا اختبار لكم. إذا نظرتم إليهم باحتقار، ورأيتم أن تتخلصوا منهم بأسرع وقت.. كان ذلك الخلق السيء إثمًا، ولا يكون طعامكم ضيافة. إن الرسول يدعوكم إلى ضيافة هي من الخُلق العظيم، الذي لا يعتمد على علاقتنا بالله تعالى. إذا اتسعت دائرة معاملاتكم لحبكم لله فإن موضوع الآية ينطبق على حالكم.

ولقد وضح الرسول هذا الموضوع في حديث طويل.. فقد جاءه صحابي ذات صباح فسأله النبي : ماذا فعلت البارحة حتى فرح الله تعالى بعملك وضحك حتى أنزل عليّ قرآنا

وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ .

وعندما سمع الصحابي ذلك تحير لأن هذا نفسُ ما جرى في بيته الليلة السابقة. فقد جاء ضيف إلى الرسول ، وكان ذلك زمن شدة وفقر على المسلمين، وكان النبي أحيانا لا يجد في بيته ما يقدمه ويطعمه الضيف، فكان يوزع ضيوفه على الصحابة، ويعلن ذلك في المسجد ويسأل من يستضيف هذا الرجل. ويبدو أن الضيق كان شديدا في تلك الفترة، ولذلك لم يتقدم لاستضافة هذا الرجل إلا صحابي واحد. فذهب به إلى البيت وكان يعلم أنه يملك طعاما يكفي الأولاد فقط. فألهمه الله تعالى حيلة، وأخبر زوجته أن الرسول وهبنا نعمة عظيمة وأرسل معي ضيفا لله تعالى، وأعرف أن الطعام قليل، فنَوّمِي الأولاد، وعندما يحضر الضيف أطفىء السراج حتى لا يرى كمية الطعام، وحضر الضيف، وفعلت الزوجة بوصية زوجها، وأخذ الضيف يأكل، وهما يتظاهران بالأكل، ويحدثان صوتًا يشبه الأكل. وأكل الضيف ولم يتناولا هُما شيئا. لقد أُلهم الرسول بتفاصيل هذا الحادث وسُجّل في القرآن.

يقول القرآن: ويطعمون الطعام على حبه.. مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله.. إنهم لا يفعلون ذلك بسبب علاقاتهم الاجتماعية بالناس، وإنما يستضيفونهم لوجه الله تعالى، ولا ينظرون هل الضيف خطير أو صغير.. ولكنهم يرونه ضيف الله وضيف الرسول وضيف الإسلام. فإذا قمتم على خدمة الضيوف من هذا المنطلق فسوف يربطكم الله بمفهوم هذا الحادث. إن اسم الصحابي لم يذكر في هذا الحادث، ويمكن أن يطبق على أي إنسان، فيشارك في هذه البركة الذين لهم مثل هذه الأخلاق.

فإذا تأملتم بحب واهتمام في نصح الرسول الذي قدم لنا فسوف تتحيرون. لو فكرتم في أحوال الأنبياء جميعا لوجدتم أنهم لم يصلحوا أخلاق أممهم بالقدر الذي أصلح به المصطفى أخلاق أمته. لو جمعتم تعاليم الأنبياء كلهم ووضعتموها في كفة، وفي الكفة الأخرى نصائح الرسول لرجحت كفته رجحانا عظيما. ويجب على من يسمع هذه النصائح أن يصلحوا أخلاقهم بحب الله تعالى وبحب الرسول .. ويصلحوا أخلاق بيوتهم وأزواجهم وبناتهم وأبنائهم وجيرانهم.. بحسن الأخلاق وليس بالكلمات الفارغة.

(خطبة الجمعة ليوم 20/05/1994، الموافق لـ 9 ذي الحجة 1414 هـ يوم عرفة)

Share via
تابعونا على الفايس بوك