موجز لخُطب الجمعة التي ألقاها سيدنا أمير المؤمنين مرزا طاهر احمد

موجز لخُطب الجمعة التي ألقاها سيدنا أمير المؤمنين مرزا طاهر احمد

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

حضرة مرزا طاهر أحمد (رحمه الله)

الخليفة الرابع للمسيح الموعود (عليه السلام)

موجز لخُطب الجمعة

التي ألقاها سيدنا أمير المؤمنين مرزا طاهر احمد – أيّده الله بنصره العزيز

في شهري شوال وذي القعدة 1414 ه الموافق لإبريل 94

كونوا جسدًا واحدًا

وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (سورة الأنفال: 64)

أعلن سيدنا المهدي في جريدة الحَكَم في ج6 عام 1902 أنَّ جماعتنا سوف تنمو وتزدهر تدريجيًا كبذرة غُرست في الأرض. والأهداف السامية التي يُريدنا الله أن نحققها لاتزال بعيدة المنال، ولا تُنالُ إلا إذا تميّزت جماعتنا بالخِصال والخلال الحميدة وتحلَّت بها. يجب أن يكون للجماعة لونٌ متميّز في التوحيد، وفي التبتُّل، في ذكر الله، وفي أداء حقوق الإخوان. أهدافٌ أربعة.. قدَّمها سيدنا المهدي.. لا بدَّ من تحقيقها ليتم الغرض من تأسيس الجماعة الإسلامية الأحمدية.

ولقد تحدَّثت إليكم في سلسلةٍ من الخطب عن الأهداف الثلاثة الأولى، واليوم أتحدَّث عن الهدف الرابع: حقوق الإخوة. إذا لم نؤدِ حقوق إخوتنا فكيف نؤدي حقوق الآخرين. رسولنا رحمة الله للعالمين، وتعاليمه أكَّدت أنّه رحمةٌ للعالمين، وعلَّمنا أولاً أنّ نؤدي حقوق بعضنا على بعض حتى نتمكن من أداء حقوق الآخرين.

تعلَّموا تعليم المصطفى فهو الأعظم والأفضل.. والأسرع إلى شِغاف القلوب.

قال : المؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا – وشبكَ بين أصابع يديه الكريمتين. فالمؤمنون يترابطون ويتماسكون هكذا كالبنيان المتكامل. والذين يقطعون هذه الصلات ينقطعون على المصطفى .

وقال

«مثل المؤمنين في تَوَادِّهم وتعاطُفِهِم كَمَثَلِ الجسدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى».

هذا أجمل مثال في الدعوة إلى توحيد المسلمين، ونفهم منه معنى الاتحاد والترابط والتراحم الحيّ الفعَّال. وهذا ما تتميز به جماعتنا بفضلِ الله، وهو دليلٌ على صدقنا عند أهل الذكاء والفراسة. ويجب أن نزداد عملاً بهذا التوجيه النبوي أكثر وأكثر لأنّه العلامة التي ذكرها سيدنا المصطفى عن أتباعه الصادقين، وهي لا توجد هذه الأيام إلا في جماعتنا.. فضلاً من الله ونعمة.

وقال

«الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

هذا ترتيب الحديث في البُخاري.. وهو ترتيبٌ منطقي. فالإنسان لا يُحبُّ أن يؤذي جسده ولا يستريح إلا إذا تخلَّص من الأذى. لا يؤذي المسلم أخاه لأنّه بذلك يؤذي نفسه وأحيانا يضطر المرء إلى بترِ جزءٍ من جسده إذا وجد أنّه يضرُّ باقي الجسد. وهذا لا يحدث في جماعتنا إلا نادرًا، ويكون خيرًا لنا التخلّص من العضو الفاسد.. ونتألّم حقًا لذلك، ولكنه ضرورة لسلامة الجماعة. والمؤمن لا يظلم أخاه ولا يخذله ولا يدعه في حاجةٍ إلى معونة. يجب أن نساعد المحتاج في الجماعة بالمال والخبرة. ابحثوا عن المحتاجين الذين لا يقترضون وساعدوهم على العمل والإنتاج. ولا تشاركوا الذين يقترضون للإنفاق والتبذير فإنّهم يضيِّعون أموالكم ولا يتحسَّنون. المالُ نعمةً ومسؤولية، يقول الله تعالى:

وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا .

ولا بأس من أن يجمع المرء ثواب الدنيا وثواب الآخرة. علَّمنا القرآن دعاء

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .

من الخير أن تقوموا بالمساعدات التي تضمن لكم ثمرة الدنيا وثمرة الآخرة. ساعدوا إخوانكم بما يحفظ احترامهم لأنفسهم نفسيًّا ويُقيمهم اقتصاديًا.

من كان في حاجةِ أخيه كان الله في حاجته. هناك من يسألونني الدعاء لإخوانهم ولأنفسهم. من يفكر في إسداء الخير لأخيه يساعده الله تعالى ويقضي له حاجاته. ما أربحَ هذه الصفقة. يستخدم طاقاته في خدمة الإنسانيّة، ويهتم بضرورات الدين والجماعة وينسى في سبيل ذلك مشاكله الخاصة والمادية.. أولئك لا ينساهم الله. إنّها صفقةٌ تضمن لكم سدَّ حاجاتكم. إنّكم جسدٌ واحد، فلا تتعرُّوا واستروا عيوب بعضكم، من ستر أخاه سترهُ الله يوم القيامة. ومن باب أولى يستركم في الدنيا. وقول الرسول يكشف عن قاعدتين.. لأنَّ من ستره الله يوم القيامة فلابدَّ أن يستره في الدنيا.

ولا تبحثوا عن عيوب إخوانكم كما يبحث الجاسوس. هذا العيب منتشرٌ في النسوة وفي كثيرٍ من الرجال. تعاليم الرسول قمةٌ في الروعة.. إنّه لا ينهانا عن ذكر العيوب، بل نهانا حتى عن البحث عنها، هذا هو الكمال. لا تنظر في رسالة غيرك، ولا تتطَّلع على أسراره؛ تعاليمٌ تلقيناها منذ 14 قرنًا، واليوم في البلاد التي تتباهى بالحريات لا يتمتعون بالحرية الشخصية. أرأيتم كيف تجسَّسوا على الأميرة ديانا وأفشوا أسرارها.

تعلَّموا الآداب المحمَّدية وتمسَّكوا بها تجدوا الراحة والطمأنينة. دعوا الملذات الخسيسة التي تفسد البيوت وتُضيع الثقة وتهدم العلاقات بين الأخ وأخيه والزوجة وزوجها. استظلوا بظل الحماية والطمأنينة من تعاليم المصطفى واعملوا بنصائِحه السامية. وفَّقكم الله لذلك، آمين. (من خطبة 8-4-94)

آداب الشورى

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (سورة آل عمران: 160)

سوف تُعقد هذا الأسبوع عدة مجالس للشورى في مختلف فروع الجماعة في العالم.. هذه الآية الكريمة تتعلَّق بالشورى، كما تتعلَّق أيضًا بتأليف القلوب ولِينِ الجانب، وسوف أتناول منها الجانب الذي يوجِّه المؤمنين ليكونوا جسدًا واحدًا. قبل الأمر بالشورى نوَّه الله تعالى بحُسنِ معاملة المصطفى لصحابته ولينِ جانبهِ معهم. وفي موضعٍ آخر قال الله تعالى وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ . وهناك علاقةٌ واضحةٌ بين الشورى وتأليف القلوب والاتحاد والحب. بدون المودَّة والوحدة لا تكون هناك ثقة متبادلة، وعندئذٍ تتلوَّن المشورة بالخيانة. الأسرة المتحابّة المتعاطفة يتحدَّث أفرادها ويتشاورون فيما بينهم بجديّة وإخلاص وصدق، ويتدبَّرون في الأمر بمحبة. ويجب أن تسود هذه الروح في جماعتنا ومجالس شورانا. إنّها موجودة بفضل الله، ولكن يجب أن تستمر وتتقوى. لا ينبغي أن تصدر في مجالس الشورى كلمات قاسية. لقد عَنَّفَني الخليفة الثالث مرةً لأني ذكرتُ اسم شخص منتقدًا في مجلس الشورى. يجب أن يكون جوُّ الأُلفةِ والمحبّة سائدًا في مجلس الشورى وخارجه.

إنَّ حياة الجماعة تقوم على أمرين: الخلافة والشورى. فاجعلوها فطرةً ثانية لكم أن تتمسكوا بنظام الخلافة والشورى بكل الآداب والمعاني المتعلِّقة بهما.. فإنَّ فيها بقاء جماعتنا. يجب أن تهتموا بإعداد قائمة العمل (الأجندا) للشورى متجنبين الأمور التي لا جدوى منها والتي تُقال لمجرد سدِّ الفراغ. المشورة الصادقة تخلو من التكلُّف، وتنبع من الضرورات التي تجدونها في قلوبكم. وأول هذه الضروريات الحاجةُ إلى تأليف القلوب التي تساعد على مزيد من التّحابِّ والتوادِّ فيما بينكم. لقد تسرَّبت أمورٌ إلى الجماعة تعوق تقدُّمها.. فابحثوا عن هذه العيوب، واعرضوها على مجالس الشورى، واعرفوها واعملوا على إزالتها، بالحذر والاحتياط.؟ لا تُثيروها بطريقةٍ تُشتِّتُ القلوب وتُفرِّق الجماعة لأنّها حسّاسة جدًا. تبادل الاتهامات والخصومات لا يفيد، ويتعارض مع أخلاقيات جماعة المهدي.

إنَّ الشورى ذريعةٌ لتأليف القلوب وتوحيدها، وتنظيم أمور الجماعة. العلاقة بين الجماعة والخليفة تشدُّ الجماعة بعضها إلى بعض، وتساعد على هذه الوحدة والرابطة. لقد بيَّنتُ لكم الآية الكريمة التي تتحدَّثُ عن الشورى وما تمتّع به الرسول من خُلقٍ كريم يجمع حوله القلوب ويوحدها. إنّه لِينُ الجانب ورِقَّةُ القلب وحُسنُ الكلام. وقال الله تعالى له: لو لم تكن هكذا، لو اتصفت بالفظاظة والخشونة والغِلظة -معاذَ الله- لتفرَّقوا من حولك وضاعوا.

لم يكن هناك احتمال أن يكون هكذا. ولكن هذا التعليم يُبيّن وسائل توحيد الجماعة وتماسك القلوب.. وهذه القلوب المتحدة المتماسكة هي التي سوف تقوم بالشورى الصادقة الجيدة. لن تجدوا في مجالس الشورى في العالم مثل هذه القلوب، قد تكون مجالس منضبطة ولكنها لا ترقى إلى مستوى مجالس شورانا. عندهم خصومات ومناورات وأقوال تجرح القلوب. إنَّ ما يضمن لشوراكم النقاء والصفاء هو حبُّكم لبعضكم. إذا تحاببتم وتعاملتم بهذا الحب وتجنَّبتم جرح القلوب ورأيتم ذلك كبيرةً من الكبائر فسوف يوسِّعُ الله تعالى دائرة حُبِّكم. إنَّ الحب لايبقى عند مستوىً واحد، بل يزداد وينقص. حافظوا على محركات الحب وأثره بينكم.

من مسؤوليات الخليفة مراقبة مجلس الشورى، والمسؤولون يتحمَّلون مسئولية ما يجري عندهم. وهناك تعليماتٌ مني بإرسال تقارير وشرائِط مسجَّلة لمجالس الشورى من كل العالم إلى المركز.. ففي ذلك ضبطُ نِعمة الحوار ومحافظةٌ على مستواه. إنَّ تشتًّت القلوب هو حفرةُ النار، وتجمُّع القلوب لا يتمُّ بإنفاق الملايين ولكنه برحمة الله أولاً، ثم المحافظة على حُسنِ الخُلُقِ ولِينِ الجانب في الحوار. إنَّ تأليف القلوب تمَّ بفضل الله تعالى عن طريق الرسول .. الذي كان وسيلةً لذلك. لقد جعله الله رحمةً للعالمين.. وقد تجلَّت رحمة الله في لِينِ جانب الرسول وهو الذي ألَّفَ القلوب. إنَّ القلوب التي تُجمع بالأموال يدفعها إلى الحرص والجشع والطمع ولا يكون بينها حب وتأليف. هؤلاء، كالذباب يحطُّ على الأقذار فإذا نال منها انتقل إلى غيرها. لقد كانت رحمة الرسول وحبه وعطفه نبعًا دائمًا من قلبه لا يتوقف، والقرآن يقول له لقد خُلقتَ هكذا.. خُلقتَ وجُبِلتَ برحمةٍ خاصة من الله، فجمعتَ المؤمنين حولك. فأحيوا السيرة النبوية العطِرة وسِيروا في مشواركم في الطريق الصحيح.

ويأمر القرآن في موضوع الشورى بالعفو والاستغفار. اعفُ عن زلّات من تحبهم ويحبونك. الحبُّ يدعو للعفو، والكراهية تدعو للفضح. لا يكون العفو إلا عن محبة. يخبر القرآن أنَّ الرسول كان يحب المؤمنين ولذلك كان يعفو عنهم. وبالعفو يُغمض المرء عينه عن العيوب الصغيرة والأخطاء البسيطة.

ولتعلموا أنَّ هناك مواقف لا يصحُّ فيها العفو. العفو يكون فيما يتعلَّق بالفرد، أما إذا كان الخطأ يمسُّ نظام الجماعة وسلامتها فلا بدَّ من العقاب. إنّه الله تعالى يتجلَّى بصفة العفوِّ الغفور، وأحيانًا يتجلّى بصفة سريع الحساب شديد العقاب. يجب فهم هذه المواقف والصفات الأساسية لرسول الله حتى تُصلحوا أعمالكم وتُصحِّحوا علاقتكم مع نظام الجماعة. كلُّ عملٍ في محلِّه جمالٌ وزينة، ويصير في غير موضعه عيبًا وقُبحًا. فإذا أردتم الحفاظ على روح الشورى فاعفوا كما كان المصطفى يعفو. كما يجب أن تكونوا أصحاب غيرةٍ على الدين ومن أجل الدين، ولا تُدخلوا العفو في مسائل نظام الجماعة وأمور الدين. وتحمَّلوا الأذى واعفوا في الأمور الشخصيّة.

ثم أمر الله تعالى نبيّه بعد العفو بالاستغفار لمن عفا عنهم. قد يعفو النبي ولا يعفو الله تعالى عن تعدٍّ في حقِّ نبيّه.. لأنَّ المحب لا يُطيق رؤية من يؤذي حبيبه. فالاستغفار من الله تعالى لهم وطلب التسامح معهم يُخفِّف من غضب الله تعالى وينزل رحمته. وهذا يحدث أيضًا في عالم البشر، فالرسول كان دائمًا مستعدًا للعفو عمَّن أساء إليه شخصيًا. وكان سيدنا المهدي يتلقَّى الإهانات من الناس، وكان صحابته يثورون فيُهدِّئهم ويطلب منهم عدم الثورة. كانوا يقولون له: إنَّك إذا رأيت أحدًا يُسيء إلى مقام النبي ثُرت وهاجمتَ بعنف، وأنت إمامنا فكيف نتحمَّل ذلك ممن يسبُّك أمامنا. هذا شعورٌ طبيعي من المحبِّ نحو حبيبه.

مجالس الشورى مجالسٌ حيّة.. تتصف بالأخذ والعطاء والحوار الجميل، ولذلك كان الخليفة الثاني لسيدنا المهدي يأمرنا بحضورها. وتربّينا فيها تربيةً أساسية وهامة. إنّها تفاعلاتٌ كتلك التي تحدث في المعامل بين العناصر والمواد.. وتتخلَّقُ منها منتجاتٌ مفيدة. الخلفاء دائمًا يُرحِّبون بالاقتراحات والمشورات التي يتقبَّلونها كما هي في معظم الأحيان، وأحيانًا يُخالفون ويشتدون في التعليق عليها ورفضها.. ولكن لم تحدث واقعةٌ واحدة تركت أثرًا سلبيًا في الجماعة. كانت قرارات الرفض من الخليفة في جانب الصواب دائمًا. هذا ما أثبته الزمن.. كانت الأغلبية مخطئة والخليفة على صواب. هذه هي روح مجالس الشورى. حافِظوا عليها بالثقة المتبادلة فيما بينكم. لولا هذه الروح لثارت الأغلبية إذا رفض الخليفة رأيها. لقد رأينا ذلك زمن الرسول يوم الحُديبية، كان المصطفى وحده في جانب.. والصحابة كلهم في جانب آخر.. لقد قرَّر النبيُّ العودة بلا عُمرة لأنَّ الطريق غير مأمون.. وفضَّل الصحابة أداء عُمرتهم. وأثبتت الأيام أنَّ رأي الرسول كان خيرًا وبركة، وكان صُلح الحُديبية خطوةً أساسية لفتح مكة، وسمَّاه القرآن فتحًا. كان قرار الحُديبية من رجلٍ واحد توكَّل على الله.. (والله يحبُّ المتوكلين).. وإذا أحبَّ الله تعالى أحدًا فلا يُضيّعه ولا يتركه فريسةً لمؤامرات أعدائه.

رأينا ذلك أيضًا في زمن الخلفاء.. إذا أصدر قرارًا مخالفًا للأغلبية قبِلوه بِطيبِ خاطر، دلالة على أنَّ الجماعة كانت قائمةً على التقوى، وتختار ممثليها على أساسٍ من التقوى. راعوا هذه الأمور في مجالس الشورى.. وإذا فعلتم فسوف تبقى جماعتنا حيّة. تكون الشورى من أسباب قوّة الخلافة، وتكون الخلافة تدعيمًا وترسيخًا للشورى.. وفي هذا ضمانٌ لبقاء جماعتنا. قدِّموا مقترحاتكم ومشورتكم بالتقوى، واتخذوا القرارات التي تقوّي محبّتكم، والمشورات التي تنبع من قلوبكم، هناك أمورٌ يوميّة، ومقتضياتٌ لتربية الإخوة الأحمديين الجدد، وأمورٌ كثيرة للإصلاح والإرشاد، وهناك آمالٌ منوطةٌ بكم.. كل هؤلاء يجب أن تفكِّروا فيها ليل نهار.. فكِّروا كيف ننجزها ونحقِّق أفضل النتائج في كل المجالات. المقترحات النابعة من القلوب هي التي تصلح لمجلس الشورى. تذكَّروا قول الله

فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ..

فتقدَّموا ولا تخشوا شيئًا وستكون قراراتكم صحيحة. وفَّقكم الله للعمل بهذه التعاليم التي يتوقف عليها بقاء الجماعة، آمين. (من خطبة 15/4/94)

يَسِّروا ولا تُعسِّروا

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الحُجرات: 11)

جماعة غانا أثَّرت في بلدها كثيرًا وتقارير الأمم المتحدة تُشيد بخدماتها وحُسنِ أعمالها. وتقوم بها قلّةٌ من الأفراد، ويجب أن يزداد العدد ويشتركوا في هذه الأعمال. السمعة الحقيقية هي ما تُكتب في السماء وتنزل من السماء.

مجلس شورى جماعة أمريكا وجماعة النرويج يبدأ غدًا، وقد تحدَّثتُ في الخطبة الماضية عن آداب الشورى ولا حاجة لتكرارها. النقطة المركزية في الخطبة أن الشورى بغير حب وبين قومٍ غير متحابين تؤدي إلى الشقاق والعداوة. تذكّروا مشورة أمريكا للعراق قبل حرب الخليج، حيث أعطته الضوء الأخضر للهجوم على الكويت.. كانت بدون حب، فنَجَمَ عنها فسادٌ وخرابٌ عظيم. جماعة أمريكا بحاجة إلى توثيق المحبة قبل الشورى.. لأنَّ الأخوة الأفارقة في أمريكا تعرَّضوا هناك لمعاملة تسبَّبت في إصابتهم بالدونيّة وهو أسوأ إحساس، وهناك حاجةٌ ماسّةٌ إلى تأكيد الأخوة والمحبة مع الأخوة الأفارقة، وأننا نحبهم كما يحبُّ المؤمن أخاه، وأننا جماعةٌ عالمية لا تأبه للونٍ أو جنس أو بلد.. لأنَّ هذا مخالفٌ لتعاليم الدين.

يشكو بعض الإخوة الأفارقة من أنَّ بعض الأخوة الباكستانيين ينظرون إليهم باستعلاء. وهذا غير صحيح.. فمعظم الأخوة متواضعون يحبّون إخوانهم من كل الشعوب والألوان، ويرحِّبون بهم وينظرون إليهم بعين المحبة. إنَّ الأغيار هم الذين ظلموا الإخوة الأفارقة فلا يجوز إلقاء جُرمِهم على إخوتهم الباكستانيين.. لأنهم موجودون في كل مكان من العالم.. وليست لهم مثل هذه السمعة.

وفي نفس الوقت لا يجوز لأحد من الإخوة الباكستانيين أن ينظر من علوّ إلى الأفارقة لأنَّهم أيضًا من الملونيين السود.. مهما كان لونهم فَهُم من السود. يجب أن نكونَ جميعًا من البيض روحانيًا.. وهذا اللون الناصع البياض نكتسبه من نور المصطفى .. النور الذي جمع العالَم كله يدًا واحدة.

أيها الأخوة الأفارقة في أمريكا.. لن تُباركَ أعمالكم مالم تتخلَّصوا من عقدة الدونيّة. إخوانكم في أفريقيا لا يُحسّون بهذا الإحساس، ويتعجبون لماذا نُعيّن منهم الأمير المسئول في حين أنّ الباكستاني أقدر على القيام بمسئوليته ولا يجدون في ذلك غضاضة. والحق أنّ من يتربّى تربيةً إسلاميةً أحمدية لا يبقى في عينيه أيُّ تمييز بين أسود وأبيض، بل ينظر إلى الروح.. وتكون الأرواح كلها محبوبة.

وعلى كل أحمدي باكستاني صدر منه ما يجرح مشاعر أحد من إخوانه أن يستغفر الله تعالى، لأنّ فعلته هذه تُسيء إلى الآلاف. وكما قال المسيح الناصري: خيرٌ لك أن تهلَكَ أو تغرق بدلاً من أن تُعثِرَ أحدًا. كما أنّ الذين يتعثرون بسبب كل صغيرةٍ وكبيرة يصعب إنقاذهم من العَثَار. الذين سَلِموا من عقدة الدونيّة لا يتعثرون. فَرِسالتي إلى الإخوة الأفارقة وسائر الجماعة أن يتخلّصوا من الإحساس بالدونيّة. أنتم جماعة الله.. وجماعة الله تعالى لا يَليقُ بها الإحساس بالدونيّة. لا تهمُّ نظرة الناس إليكم، فالله تعالى ينظر إليكم نظرةً ترفعكم إلى أعلى مقام..

الجماعة التي اصطفاها الله وكتب لها العزة، فلا يذلها أحد.. كيف يُصاب أحدٌ فيها بالدونيّة؟! ومن يتكلم منكم مثل هذا الكلام بعد نصيحتي هذه يكن من الظالمين. وَلِّدُوا فيما بينكم حبًّا صادقًا كالإخوة الأشقاء. اللون لا يفرِّق بيننا، ولا يكون مذلةً لأحد ولا عزّةً لأحد. التقوى هي ذريعة الاعتزاز والتكريم عند الله تعالى.. ولا يعرفها إلا هو تعالى:

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ .

التقيُّ لا يحتاج تكريمًا من أحد، فالتقوى وحدها تخلع عليه العزّة والشرف من لدن الله تعالى. المتّقون لا يتطلَّعون إلى حُبٍّ من الناس ولا يمدُّون أيديهم لهم.. لأنّ عيونهم تتطلع إلى الله وحده لأنّهم يُريدون وجهه بتقواهم.. ولذلك ضمن لهم الكرامة فقال:

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ .

وأُحذّر الإخوة في النرويج أيضًا لأنّ العنصريّة بدأت ترفع رأسها في أوروبا. والعنصريّة تنشأ من الإحساس بالدونيّة.. كما حدث من الألمان زمن هتلر.. عندما أحسّوا بالدونيّة تجاه اليهود الذين سيطروا على الاقتصاد الألماني.. فتعصَّبوا ضدهم وأعلنوا أفضليتهم وتفوُّقهم، وهو في الحقيقة إحساسٌ بالدونيّة.

الأحمديون في نظر البعض مُتعالون وفي نظرِ آخرين مُحتقرون. وأيًّا كان الاتجاه.. فيجب تصحيح ما ليس صحيحًا. وإزالة هذا العِوَج يقتضي أولاً إزالته من قلوبنا ومن أعمالنا. سلاحنا الوحيد هو الأمر بالمعروف والنهي عن المـُنكر.. الذي حمَّلنا القرآن إيّاه، وأمرنا أن نُصلح أنفسنا أولاً بأن نكون مُتحابّين، ونُصلح أخلاقنا وأعمالنا، ونعمل على شفاء الشعوب التي نعيش بينها من عيوبها وأمراضها. وهذا لا يتأتّى إلا إذا كنا أصحاء سالمين من هذه الناحية التي يعانون منها، نتواضع أمامهم بالعمل، ولا نردُّ على التكبُّر بمثله، ولا نذلُّ أمام أحد.. وإنّما نتواضع بثقةٍ ووقار، ويعرف المتكبر أننا لا نخافه. وعلامة عدم الخوف أن نُقدِّم النُّصح فنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر. هذه وصفةُ علاج القرآن التي أكد القرآن والرسول على نجاحها.

ومن نصائح النبي المتعلقة بالحب المتبادل أُقدِّم لكم هذه الأحاديث:

عن عبد الله بن عمرو بن العَاص أنَّ النبي قال: “المسلمُ من سَلِمَ المسلمون مِن لسانه ويده. والمـُهاجر مَن هجرَ ما نهى الله عنه” (البخاري).

هذا هو تعريف المسلم. وَضَعَ الصلاة والعبادة جانبًا وبيّنَ أنّ من لا يؤذي المسلمين ولا يعتدي عليهم فهو مسلم، ولا يحقُّ لأحدٍ أن يطرده من الإسلام. والذين يعتدون على المسلمين الأحمديين ويُسيئون إلى سمعتهم في باكستان.. بحسب هذا الحديث ليسوا مسلمين.

والمهاجر الحقيقي من هجر ما نهى الله عنه، ويمضي إلى ما أحبه الله وأمر به. ويجب أن تكونوا مسلمين حقيقيين.. لأنّ أمن العالم وسلامه يتوقف على المسلم الذي وصفه الرسول . لم يذكر صلاةً ولا صومًا.. وإنّما ذكر أحوال المرء الداخلية.. ومن هذه الأقوال والكيفيّات الباطنية تصدر الأفعال الظاهرية.

يأمرنا القرآن بقوله

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..

لا تنظر نظرة حرجٍ إلى أموال الناس بشراهةٍ وطمع، فذلك يجعل المرء شرًا على الناس. ومن تخلّص من هذا الطمع والشرّ كان عديم الشر. إذا أصلح المرء نيّته الداخلية كان مصدر خير. وهذا يتطلب جهودًا مستمرة. المرء يرى مفاسد الناس ولا يرى فساد نفسه من الداخل، ويعمى عن الأصنام التي أقامها في قلبه وتخدعه. يجب أن نراقب نوايانا وأُمنياتنا، وبدون ذلك لا يَسلمُ الغير من شرِّكم ولن تُصدر الدنيا قرارها بإسلامكم.

احذروا على سمعتكم التي تكوّنت ونمت وازدهرت في تاريخٍ طويل. فاعملوا على أن يُسهم الجميع في عمل الخيرات. تتولّد في النفس البشرية الأماني والرغبات وتتحول إلى أحلام في اللاشعور، وتقطع مسافات شاسعة عبر قنوات الجهاز العصبي، وتترك نقوشًا في النفس وقد تتحول إلى روحًا شريرة. لا تستهينوا بهذه القِوى والملكات التي أودعها الله فيكم. راقبوا نواياكم.

هناك من يتظاهرون بالسلام وهم ينوون الشر. إنهم أسوأ من الحيوان الذي قد يعمد إلى الخداع دفاعًا عن نفسه.. ولكن هؤلاء يخدعون ليسلبوا الناس حقوقهم ويؤذوهم. ولذلك بيَّن النبي أهمية الهجرة من الشر إلى الخير، وأشار إلى صمَّام الأمان الذي يُعرَف به المسلم الحق.. وهو أن يَسلَمَ المسلمون من لسانه ويده، وأن يهجر ما نهى الله عنه.

إنّ المرحلة التي نمرُّ بها تقتضي منا جلائل الأعمال. وإذا نصحتم الناس فسوف تمنعهم أنانيتهم من قبول النُصح.. ولكن يمكن إصلاح الناس باتباع هُدى النبي في قوله: “يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنَفِّروا”. ادعوا الناس بِرفقٍ ولا تنصحوهم بما يشقُّ عليهم. التضييق والتشدُّد يضرُّ الناصح والمنصوح.

فبَشِّروا ولا تُنَفِّروا.. استخدموا أسلوب المصطفى الذي كان أعظم داعٍ إلى الله.. كيف نجح مع قومٍ قال الله عنهم

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ..

كيف أنَّ هؤلاء الفاسدين يُقبِلون عليه ويستمعون إلى نُصحه. كان في تحذيره وإنذاره أيضًا مُبشِّرًا.. لأنّه كان يُحذّر الناس من أخطارٍ تُحدِق بهم، ويُنذرهم برفقٍ وحب.. فنجّاهم وأدخل الفرحة في قلوبهم. فلا تُحدِّثوا الناس بما يُنفِّرهم من الدِين ومنكم.

بهذا الأسلوب تُحدِثون الانقلاب، فتتغير أقدار العالَم. الجماعات الربَّانية تزدهر وتتقدَّم بطريق هذا النُصح، وهو سرُّ بقائِهم. لا خطر عليكم إذا اتبعتم سُنّة أعظم الناصحين.. الذي لم يتضرر منه أحد، لأنّه سهَّل الأمور ويسَّر الطريق، وبشَّر الناس وأنذرهم بما أدخل البشرى في قلوبهم وملأها سعادة فأحبوه. وفّق الله جماعتنا لذلك. آمين. (من خطبة ٢٢-٤-١٩٩٤)

تَزَوَّدوا لسفَرِ الآخرة

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ .

أشار أمير المؤمنين إلى تقدُّم جماعة كينيا وصحوتها بعد أن كانت في المؤخرة. ثم أشار إلى ضرورة اشتراك بسطاء الناس في الشورى، وقال: وكان الخليفة الثاني لسيدنا المهدي والمسيح يتبع هذا الأسلوب استكمالاً للشورى.

ثم قال: بعض الناس لا يتحملون الرأي المخالف، والبعض لا يعرف كيف يُقدِّم رأيًا مخالفًا بطريقة سليمة. إنَّ وجود الخليفة على رأس مجلس الشورى يُخفّف من حدة العواطف. والجماعة التقية تُسارع إلى سدِّ النقص في اقتراح الخليفة معتذرين، ولكنه يُشجّعهم ويطلب منهم الحديث بلا استحياء. والجميع جسدٌ واحد، ويُقدِّمون آراءهم بالتقوى ونيةٍ صالحة. ولا نجد معشار هذا النظام في مكان آخر.

في المجالس التي لا يترأسها الخليفة تظهر بعض الحماقات ويتصرّف البعض بطريقةٍ غير نظامية ويبدو ضيق الصدر في بعض الرؤساء. لقد كان الاقتراح بتسجيل مجالس الشورى تسديدًا من الله تعالى أدّى إلى انضباط هذه المجالس لأنّهم يعرفون أنَّ الخليفة سوف يستمع إليها. ولكن يجب أن نتقدّم خطوةً أبعد من ذلك.. ونعلم أنّ الله تعالى يشهد هذه المجالس.. ومن لا يراه موجودًا في الدنيا.. كيف يراه موجودًا في الآخرة؟ حافِظوا على نظام الشورى فهي هِبةٌ من الله لنا على يد سيدنا المهدي.. ولو ضحيتم في سبيله بالغالي والرخيص.

هذه الآيات القرآنية تُبيّن لنا أنّ البشر جميعًا يأتون من رجلٍ وامرأة، ولا فرق بين إنسان وآخر في هذه الناحية.. ومن الأفراد تكوّنت القبائل والشعوب الكبيرة.. والهدف من ذلك أن تتعارفوا فيما بينكم، ولذلك كان لكلِّ فردٍ اسمٌ، ولكل قبيلةٍ اسم، ولكل شعبٍ اسم، وبهذه الأسماء يُعرفَون. والناس سواسية، الأعزُّ منهم عند الله أتقاهم لله. والله تعالى الخبير العليم هو الذي يعلم من هو الأتقى حقًا.

الإنسان يعيش في الدنيا للمال والطعام والشراب، ويسعى للاتساع والذريّة.. فتكون له أسرة.. ويُريد لنفسه القوة والسلطان ليتفاخر بين الناس. الحيوانات كذلك فيما يتعلق بالدوافع الأولى، ولكنها لا تبحث عن العزّة والسلطان للتفاخر. نعم، فيها القوي وهذه قوةٌ لا شعورية. إنّها لا تتبارى للتفاخر، وإنّما تتصرَّف تلقائيًا. الإنسان وحده يبحث عن السلطة والقوة ويرى أنّها مصدر العزّة والكرامة. وكلمة (عزيز) في العربية تعني صاحب العزّ والشرف؛ وتعني الغالب. وفي الرحلة إلى الله لا معنى للقوة أمامه.. ولا فرق بين قوي وضعيف بالقياس إليه تعالى. قال آينشتاين أنّ الفرق بين الخالق والمخلوق كالفرق بين الشمس والأرض، وإذا وقف الإنسان على قمة جبل أو في قاع وادٍ فإنّ بعده عن الشمس لا يتغيّر. فالناس قويُّهم وضعيفهم يقفون في صفٍ واحد أمام الله تعالى.. وليس ثمة رابطة بين القوة والعزّة عنده. يخبرنا القرآن أنّ العزّة تجدها في التقوى. الأعظم في التقوى أعزُّ وأكرم عنده تعالى.

إنَّ زاد الدنيا يختلف عن زادِ الآخرة.. السفر إلى الله له زادٌ خاص.. يقول القرآن إنَّ خَيْرَ الزَّاد التَّقْوَى . العزّة الدنيوية لا ثباتَ لها.. الأقوام تعزُّ وتذل، ولكن التقوى تضمن لنا العزّة عند الله، كم ذلّت شعوبٌ لروسيا.. وقد تحرَّروا اليوم.. وحطَّم الله قوّتها. واليوم تسجد الشعوب لأمريكا وهي لا تعرف أنَّ الزمن لن يطول بها في قوّتها. بل إنَّ علامات انحطاطها قد ظهرت. الذين يسجدون لمثل هذه القوة حمقى.. لأنَّ الله تعالى يُغيِّرها وتتداولها الأمم.

السعيد الناجي هو الذي يتزوَّد بزادٍ ينفعه طول السفر ويصل به سالمـًا عزيزًا أمام الله تعالى. لدينا سفران.. سَفرٌ يتعلَّق بالناس، وسَفرٌ يتعلَّق بنظام الجماعة. ونريد أن يستمر هذا السفر. هناك قانونٌ إلهي أبدي.. ذلك أنَّ الجماعات الدينية تُصاب بالانحطاط.. ندعو الله تعالى ألا نكون من الأشقياء الذين يتسبَّبون في انحطاط هذه الجماعة. اسعوا جادّين كي تتزوَّد أجيالنا بزادِ التقوى.. وأُنبِّهكم يا جماعة المهدي أننا لسنا معصومين من هذه القوانين الإلهيّة. إذا نسيتم التقوى لابدَّ أن تنحطُّوا ولو كنتم في ذروة العزّ. والانحطاط ليس إكراهًا من الله تعالى، ولكنه يحدث لتغيُّر الأحوال. يقول الله تعالى

إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ .

فما دمتم لم تُغيِّروا أحوالكم وظروفكم فلن يُطبَّق عليكم قانون الانحطاط. حافِظوا على التقوى في أنفسكم وفي عائِلاتكم وفي أجيالكم.. بوعيٍ وإدراك. هذا واجبنا. أدعو الله تعالى أن يجعل جماعتنا أهل التقوى وأهل العزّة جيلاً بعد جيل لآلاف السنين!… وينزل قَدَر الله تعالى بالعزّة. تعلَّموا درس التقوى والعزّة من أتقى الناس وأعزَّهم.. سيدنا محمد المصطفى . إليكم بعض مظاهر الحُسن المحمَّدي أدخلوها في قلوبكم وتحلُّوا بها:

عن ابن عباس رشي الله عنه قال: قال رسول الله :

«ليس منّا مَنْ لم يَرحَم صغِيرَنا ويُوقِّر كَبيرنا ويأمر بالمعروف وينهَ عن المــُنكر».

يقول سيدنا المصطفى في حديثٍ آخر: «من رأى منكم مُنكراً فَلِيُغيِّرهُ بيده، فإنْ لم يستطِعْ فَبِلِسانِه، فإنْ لم يستطِعْ فَبِقَلبِه…» تغييرٌ باليد، أو نهيٌ باللِّسان، أو كراهَةٌ بالقلب. ولكن ذوي القلوب والعقول المعوَّجة قلبوا هذه النصيحة الطيِّبة، فيسارِعون إلى القتل والرجم في أمرِهم ونهيِهِم. لقد قتلوا في باكستان رجلاً قيلَ أنّه أحرقَ القرآن. تنادى المشائخ بقتله فرجموه وأحرقوه. ثم تبيَّن أنّه بريء. إنَّ هؤلاء المتشدِّدين ينسِبونَ إلى رسول الله أعمالهم الفظيعة التي تعَافُها النفس.. وليس في سيرته شيءٌ منها أبدًا..

لقد كان المصطفى قرآنًا حيًّا.. وقال ذات مرة عن الذين يتأخَّرون عن صلاة الصبح: لو جاز لي لأحرقت بيوتهم. إنّه تعبيرٌ عن أنَّ جزاء هؤلاء عند الله هو النار. لم يكن تعبيره عن ثورةٍ نفسيّة، وما كان الله ليسمح بهذا وقد قال له:

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ .

المشائخ المتعصِّبون يجهلون البيان القرآني ويتجاوزون حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لماذا لا تعاقب الحكومة الباكستانية هؤلاء الذين يأخذون القانون في يدهم ويقتلون الأبرياء.

يا جماعة المهدي مُروا بالمعروف وانهَوُا عن المنكر داخل الدائرة التي رسمها المصطفى .

وارفعوا أصواتكم ضد هذا الشر الذي يجري في باكستان. إن المشائخ يؤثرون في الناس من ناحية الشر. ولا يجدون من يطيعهم في الخير. إن خليفة الأحمديين إن أمر بخير قال الجميع “لبيك لبيك”. ذلك لأنهم يردون اسم المصطفى إمامهم الأكبر. ما دمتم تسلكون طريق المصطفى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسوف يعينكم الله تعالى من السماء، وينال أمركم ونهيكم القبول.

ذكر إحدى الإخوة العرب أن النساء في بلدهم يخشين المشائخ لأنهم يجبرون المرأة في الطريق على تغطية وجهها. قلت له: إنكم تهينون النساء في الطريق..من أعطاكم هذا الحق؟ هل هناك حديث يأمر بذلك؟ كيف تأخذون القانون في أيديكم؟ لا أثر لأمر بالمعروف أو نهي عن المنكر إلا باتباع سنة المصطفى وآدابه.

أسلوب الرسول في النصح يتلخص في الرحمة في الصغير وتوقير الكبير.. وبدون ذلك تفسد النصيحة. إذا رأيتم شابا يتبع بدعة العصر في الشَعْر والملابس.. فارحموه، وتحدثو إليه برفق وتجنبوا الغضب.

أسأل الله تعالى أن يوطد أقدامنا على سنة المصطفى .. فهي ضمان لِبقائنا. آمين! (من خطبة 29-4-1994)

Share via
تابعونا على الفايس بوك